تاريخ المدينة المنوّرة

أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن فرحون المالكي [ ابن فرحون ]

تاريخ المدينة المنوّرة

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن فرحون المالكي [ ابن فرحون ]


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣

وكان من المجاورين من يركن إلى الأمراء ويجتمع بهم في منازلهم ، ويطلعهم على أحوال الخدام والمجاورين ، فأقسم فيهم أن من طلع القلعة منهم لم يكن له وظيفة ألبتة ، فانكف الناس ، وأخرج جماعة من الأسباع واستبدل بهم.

وأخرج جماعة من الفراشين وقطع معلومهم ، حتى غابوا في الهند سنين عديدة ، مثل ياقوت الصالحي ، وبردة الحريري ، وسعيد التاجي ، وغيرهم من أهل الأخبار ، وكان يجلس قريبا من الأسباع ، فأيّ من غاب عن وظيفته ، أخذ قسط ذلك اليوم في حينه ، وبذلك انضبطت الوظائف ، وصار ليس له مخالف ، وعمرت الأوقاف في أيامه ، وكان له منه نصيب وافر ، ولما توفي والدي رحمه‌الله في أيامه حفظ علينا وظائفه ، ورفق بإخوتي رحمه‌الله. توفي سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة.

ثم خلفه في المشيخة ناصر الدين نصر (١) عطا الله ، وكان قبل ذلك من إخوان المجاورين وأحبابهم ، مواخيا لجمال الدين المطري لا يخرج عن رأيه ولا مشورته ، وإن كان الشيوخ كلهم بهذه المنزلة معه ، فكان هذا له أعظم وبه أبر ، وكان من أحسن الناس صورة وأكملهم معنى ، وكان يحفظ القرآن ، كثير الصيام ، مهيبا في جماعته من غير ضرر (٢) ولا تهديد ، ولا وعد ولا وعيد ، وجد الأحوال (٣) بعد الظهير (٤) متمهدة فزادها تمهيدا ، ومع ذلك فإذا قام في أمر تمّمه ، لا يرجع عن رأيه فيه لأحد ، ولو قام في ذلك وقعد ، وكانت مدة ولايته أربع سنين. توفي سنة سبع وعشرين وسبعمائة.

ثم خلفه في المشيخة عز الدين دينار (٥) ، فكان رحمه‌الله ذا حشمة

__________________

(١) ذكره في : «الدرر الكامنة» ٤ / ٣٩٣ (١٠٧٨) ، «التحفة اللطيفة» ٢ / ٢٦١ (٢٩٧١) نقلا عن ابن فرحون.

(٢) في (ب) ، (ج): «ضرب» ، وما أثبته كما في (أ) ، و «التحفة اللطيفة».

(٣) في : «التحفة اللطيفة» لفظة : «الأموال» بدلا من «الأحوال».

(٤) يقصد ظهير الدين مختار الأشرفي المتولي المشيخة عوضا عن سعد الدين الزاهري ، وقد مر ذكره.

(٥) واسمه : دينار الشهابي المرشدي الشافعي ، ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٣٣٢ (١١٩٢) ، «الدرر الكامنة» ٢ / ١٠٣ (١٧٠٤) ، نقلا عن ابن فرحون ؛ «المغانم المطابة» الورقة ٢٤١ / ب.

٤١

ودين ، وعزة وحسن يقين ، صحب المشايخ الكبار من المجاورين ، فتأدب بآدابهم ، واكتسب من أخلاقهم ، فلزم قراءة القرآن ، وجاهد نفسه بالصيام والقيام والصدقة والإحسان ، وأوقف أملاكا ما بين نخيل ودور ، وأعتق خداما وعبيدا وإماءا يزيد عددهم على الثلاثين ، وعلّق من خدامه في الحرم سبعة ، وكفل أيتاما وحرما ، ونعّمهم بالمأكل والملبس والمسكن حتى كانوا يعدّون من عياله ، وله مناقب جليلة ، ومحاسن عديدة.

منها : أنه لما سافر إلى الديار المصرية استخلف على بيته وأمواله بعض أصدقائه من المجاورين ، وكان في البيت إماء وعبيد وخدام ، فاستأمنهم الوكيل ، وظن أنهم لا يتفقون على الخيانة ، فخربوا البيت وضيعوا أكثر ما فيه ، فلما قدم الشيخ عزّ الدين من مصر ، فقد ما خلفه في بيته فسأله عنه. فقال : لا علم لي بشيء ، غير أني كنت أخرج لهم نفقتهم ، وأصرف عليهم ما يحتاجون إليه ، ولا أعلم من حالهم شيئا ، ولم أظن فيهم أنهم يتواطؤون على الخيانة ، فحاسبه على ما خلّفه في بيته ، فوجدوه قد نقص مقدار أربعة وعشرين ألف درهم.

فقال له : هذه لازمة لك بحكم الشرع ، لأنك فرطت فيما وكلتك فيه.

فقال : نعم. ألتزم بها وأقوم بأدائها ، فتقوّم من أملاكي ونخيلي ما شئت ، فخلا الشيخ بأصحابه وشاورهم في ذلك. فقالوا له : المفرّط أولى بالخسارة.

فقال لهم الشيخ : لم يصب رأيكم ، رجل صحبته في الله ، وأقرأني القرآن ، أغرمه شيئا أفسده عبيدي ولم يتدنس منه بشيء ، معاذ الله من ذلك ، وأبرأ ذمته. ولم يزل له صديقا إلى أن فرق الموت بينهما. رحمهما‌الله تعالى.

له بالحرم الشريف آثار حسنة ، وكان فيه من الشدة في الدين على الأشراف ما كان في ظهير الدين وزيادة ، مع الانقياد إلى الشرع والموافقة على الخير ، وكان حين ولايته في القاهرة سعى في المشيخة صفي الدين جوهر (١) خادم اللالا فأعطيها ، وكان بينه وبين جمال الدين المطري شيء

__________________

(١) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٢٥٢ (٨١٠) ، نقلا عن ابن فرحون ؛ «الدرر الكامنة» ١ / ٥٤٤ (١٤٧١).

٤٢

ألقاه بينهما بعض الناس ، فلما شاع في المدينة خبر ولايته ، تسلط أهل الشر على جمال الدين ، وشغبوا عليه بكثرة القال والقيل وتوعّدوه ، وكانوا عصبة شر عفا الله عنا وعنهم ، فلحقه من كلامهم همّ وغمّ.

وقال لي رحمه‌الله : رأيت ليلة في منامي ، وقد همّني ما أسمع منهم من الأذى ، كأنّ باب جبريل حوّل إلى باب الرحمة ، وأنا أقول : كيف يزال باب ثابت إلى غيره ، ويبقى هذا الباب ماله باب؟

فلم يكن إلا قليلا ، إذ جاء الخبر بأنهم رجعوا عن خادم اللالا ، وولوا عزّ الدين. وكان عزّ الدين في باب الرحمة كما هو اليوم ، وبيت جوهر اللالا كما هو اليوم مجاور رباط صفي الدين السلامي رحمه‌الله ، فتفسر المنام ، فزال عن جمال الدين ما كان يجد ، ورجع كل من أهل الشر إلى ورائه ، وكان بين عزّ الدين دينار وبين جمال الدين من الاتحاد والمحبة ، وسماع الكلمة ، مثل ما كان بينه وبين ناصر الدين نصر عطا الله وأكثر ، وكان الشيخ عزّ الدين ـ رحمه‌الله ـ لأولاد المجاورين كالأب الشفيق ، إذا رأى أحدهم سأله عن حاله وحال أهل بيته وأولاده.

يقول : كيف أولادنا؟ كيف إخواننا؟

ويقضي الحوائج بطيب نفس لا يتنكر ولا يحرد ، فإذا انزعج أو غضب ، رجع عن قريب لم يئس من خيره ، ولو آيس بقوله ، وصرّح بعذره ، وطالت مدته أكثر من غيره. وسأذكر وفاته رحمه‌الله في ولاية الشيخ افتخار الدين ياقوت.

ثم سعي عليه فعزل ، وولي شرف الدين مختص الديري (١) ، فجاء الناس بأخلاق تركية لم تتهذب برياضة ، ولا بحجّ وزيارة ، وقام بهيبة وعزّة ، ولقد جلس يوما في المجلس الذي كان غيره يجلس فيه ، فجاء شهاب الدين العاوي ليجلس في صفّه لا في جنبه ، فأقامه بنهرة ، وعزّ عليه أن يستوي معه في صفّه ، وكذلك فعل بغيره حتى كان لا يجلس إليه ، إلا من يدلّ عليه ، لكنه كان له رغبة عظيمة في العمارة ، فانعمرت الأوقاف في أيامه ، ولو استمر فيها لكثر خيرها.

__________________

(١) ترجمته في : «الدرر الكامنة» ٤ / ٣٤٤ (٩٣٦).

٤٣

كان يخرج كل يوم غالبا فيباشر الغرس والعمارة ، ويخرج معه بعيش رغيد ، وخير كثير ، وكان جماعة الخدام في أيامه وقبلها ، يباشرون الأوقاف بأنفسهم ، ويحضرون الجداد بأعوانهم ، وخدامهم ، وعبيدهم ، ولا يتناولون على ذلك أجرة ألبتة ، ويخرجون معهم بالأطعمة الكثيرة الفاخرة المليحة ، ولهذا كانت الأوقاف مباركة وغلاتها متزايدة ، والبركة عليها لائحة ، حتى خلفهم من لا يتحرك في وقف إلا بأجرة ، وليته يعمل فيها بنية صالحة حتى يثاب عليها في الآخرة ، وكانت أيضا تعمر ببركة نيته ، ولو أخذ أجرته. لكن اليوم أكثر الأوقاف دامرة ؛ لأن غلتها لا تردّ في عمارتها كما أوجبه الشرع لها ، فلذلك خربت وقلّ خيرها.

ولقد شاهدت منذ زمان كان الناس فيه ناس ، يعطى الزائر فوق الصاع من التمر البرني ، حتى إن العصبة إذا أخذوا التمر يكومونه على أنطاعهم كوما ، يتعسل بعضه فوق بعض ، ومع ذلك يبقى التمر السنتين والثلاث حتى يسودّ ، ولا يجدون من يأخذه.

ولقد كنت في حال صغري ، إذا رآني خزنة التمر ينظرون من يحمل لي منه ، فيذهب به إلى بيتنا ، حتى أنكر ذلك والدي ووالدتي ، فهددني والدي. وقال : لئن رجعت تأتي إلينا من تمر الفقراء بشيء ، فعلنا بك وفعلنا ، وكان لا بدّ لي من المرور عليهم ؛ لأن التمر كان يخزن في دار الخدام المجاورة للتربة التي عمرتها زوجة ابن علم ، وفي المدرسة الشهابية ، ولمّا لم يكن بدّ أنهم يعطوني ، ترصد لي حمّال يقال له : ناشي ، يأخذ ما يعطونني.

فأقول له من خوف أهلي : خذه ولا تأتيهم به ، فيأخذه ، فعل معي ذلك مرارا. كلّ ذلك منهم محبة في أولاد المجاورين ورفقا بأهاليهم.

وكان النخل من الغابة والعمرية إذا استجد ، لا يخلص منه في شهر ليلا ونهارا.

ولقد رأيت الحمالين يضعون أحمالهم من باب رباط الفاضل ، إلى باب التربة التي نزلها الشيخ افتخار الدين ، ومن رباط دكالة أيضا إليه إذا جاؤوا مع المغرب ، لا يفرغون عن حمله وتفريغ غرائره إلا قريب الصبح.

٤٤

هذا كله من التمر البرني ، وأما ألوان النخيل فلم تكن في حساب ، فأين تلك البركات ذهبت؟! والله مع نيات القوم ، والله المستعان.

ثم سعي على الشيخ فعزل ، وولي شرف الدين الخزنداري ، وكان وصوله بالمشيخة في أواخر سنة اثنين وأربعين وسبعمائة ، كان فحلا حذقا صلبا ، عارفا بأمور الدنيا وتصاريفها ، طالت مدته فولي الولاية في القاهرة على أخباز الخدام نقاده وغيرها ، فثوّر الفلاحين بدهائه ، وأتعبهم بأمره ونهيه وتعنّتاته ، وكان إذا حقد شديدا ، إذا استرضي لا يرضى مع طلاقة الوجه ولين الكلمة ، وممن كان من أحبابه وأخلائه الشيخ عبد الرحمن بن ياقوت (١) المؤذن الكبير القدر في القراءة ، مع حسن الصوت وسلامه الصدر ، وحسن الخلق والكرم العظيم في الحضر والسفر ، سافر معه إلى القاهرة وبات معه ذات ليلة في دار واحدة ، فكأن الشيخ عبد الرحمن قام من نومه بدهشة اختل فيها عقله ، فأخذ السيف وضرب به شرف الدين ضربة أخطأته ، فمسك وقيد ، حتى زال عنه ذلك ، فغضب عليه وسعى به عند الولاة والحكام حتى سجن ، ثم جعل في رجليه قيد ، وأدخل في الذين يخدمون في أعمال السلطان من أهل الجرائم الكبار ، وهو مسكين ضعيف البنية ، كثير الصوم والعبادة وتلاوة القرآن ، فاستمر على ذلك مدة والناس يدخلون على شرف الدين ليغفر له فلم يفعل ، حتى سخر الله له من أطلقه من ذلك وأرسله إلى الحجاز.

فلما وصل الخزندار إلى المدينة أتبعه في وظائفه ، وفي نفسه وعياله ، وسعى عليه عند الأمراء ليخرجوه من المدينة ، فلم يطيعوه في ذلك ، ومنعوه من الدخول إلى القاهرة والسفر إليها ، والإقامة بها بسبب ما يكتب فيه لأصحابه ، ولم يزل معه كذلك إلى أن طالت المدة ونسيت القضية ، وعاش بعده الشيخ عبد الرحمن إلى الآن ، نفعنا الله به.

وكانت مدة ولاية شرف الدين الخزنداري سنتين ، ثم سعى عليه شرف الديري (٢) فتولى المشيخة ، فلم يكمل له سنة ، حتى جاء الخبر بعزله ،

__________________

(١) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ١٥٧ (٢٥٦٧) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٢) يقصد شرف الدين مختص الديري ، وقد تقدم ذكره.

٤٥

وتولية عزّ الدين (١) واستنابة شمس الدين الجمداري (٢) عنه ، ثم جاء عزّ الدين مع الحاج ، وسافر الديري إلى مصر وأقام بها إلى أن توفي ، وأقام شرف الدين الخزنداري في المدينة مع الشيخ عزّ الدين معظما محترما مسموع الكلمة ، وكان له من الخدام جماعة ، وحفدة لا يخرجون عن رأيه ، ولم يكن ما بينه وبين عزّ الدين حسنا ، وكان عزّ الدين يعامله بالحلم والصبر والمداراة ، وكان شرف الدين قد سافر إلى مصر في ولاية عزّ الدين الأخيرة ، وسعى في المشيخة فلم تحصل له ، وولي النيابة بمرسوم سلطاني ، وكان نائبا لعز الدين.

ثم إنّ الشيخ افتخار الدين توفي فجأة وأصبح في فراشه ميتا ، وذلك ليلة الأحد التاسع من شهر ربيع الآخر أحد شهور سنة تسع وخمسين وسبعمائة ، واستمرّ عزّ الدين في الولاية على الطريقة الأولى من فعل الخيرات وعتق المماليك ، ووقف النخيل على الفقراء ، رحمه‌الله ونفع به.

فلما ضعف في بدنه وقوته لكبر سنّه ، لزم العزلة والإقبال على الخير ، ثم سعي عليه لأجل ذلك ، فولي الشيخ افتخار الدين ياقوت بن عبد الله الخزنداري (٣) ، وذلك في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة ، وهو من المشايخ الرؤساء ، لم يقم أحد بحرمة المنصب مثله ، من أكمل الناس عقلا ، وأعظمهم حرمة ، مع التدين والعبادة والورع.

ذكر أنّه خدم الملوك بالديار المصرية مدة خمسة وعشرين سنة ، لا يتناول جامكية إلا من الجزية المأخوذة من أهل الكتاب تورعا من أموال السلطان ، وكان يشهد عند القضاة فيقبلون شهادته ، وله اجتهاد عظيم ، ومثابرة على سماع الحديث ، وكتب العلم والرقائق ، مع ملازمته للصلوات في الصف الأول والناس لا ينكرون عليه إلا قوة نفسه ، وذهابه في رأيه قدما لا يرجع لأحد فيه ، وفيه من شرف النفس ما إنه لا يتناول ما شرط له في الأوقاف على النظر ، بخلاف غيره من الشيوخ ، وفيه من الهيبة على أصحابه

__________________

(١) يقصد عز الدين دينار ، وقد تقدم ذكره.

(٢) هو : شمس الدين صواب الجمداري ، وستأتي ترجمته.

(٣) ترجمته في : «الدرر الكامنة» ٤ / ٤٠٨ (١١٢٨).

٤٦

ما انصلح به كثير من شأنهم ، وتأدّب به كثير من شبابهم ، وصبيانهم ، وصار له هيبة في الناس وخفارة ، وحفظ الحرم حفظا حسنا ، وصادف وقتا سيئا جرى فيه على الشدّ ، وزاد على الحد ، حتى ضاقت عليه الأنفس من غير جماعته ، وسعوا في حل ولايته ، وإنما أتى عليه لوثوقه برأيه ، وعدم قبوله نصح أصحابه ، وكأنه لم يسمع قول القائل :

ولن يهلك الإنسان إلا إذا أتى

من الأمر ما لم يرضه نصحاؤه

والله تعالى يقضي لنا وله بالخير.

وكان يتأدب مع الشيخ عزّ الدين لما كان عزّ الدين معزولا ، ويأتيه إلى مجلسه ، ويعرفه الشهر يتقرب إليه حتى أحبه عزّ الدين.

وكان يقول : هذا خادم محتشم رئيس. ولقد صدق فيما قال ، وتوفي عزّ الدين في أيامه ، وذلك في سنة إحدى وستين وسبعمائة.

٤٧

فصل

ثم إني أدركت من الخدام الصّلحاء الخدام المتخلّلين أيام هؤلاء الشيوخ أقواما لهم جلالة ، وعليهم من الله مهابة ، منهم طواشي شبل الدولة كافور بن عبد الله الخضري (١) ، كان فيه ـ رحمه‌الله ـ من الدين والخير والبر ، ما لا عليه من مزيد.

وأخبرني من أثق به أنه كان يضع معلومه في غلف أباليج السكر ويضعها في بيته من غير غلق زهدا في الدنيا ، وقلة حرص عليها ، وفي كل يوم يملأ منها كيسه ، ويجعلها في جيبه يعدّ ذلك لمن يقف عليه من السؤال أو من الحرم والأيتام ، وكذلك رأيته لا تزال يده تنفق سرا وعلانية.

كان شيخا في الرواية ، سمع على جماعة لهم ذكر في طبقات المحدثين ، ربّى أيتاما كثيرين ، وأعتق جماعة مباركين ، كان منهم خيار الفراشين الشيخ عبد الله الخضري ، ولد لعبد الله أولاد قراء ومتصوفة ، ولهم اليوم عقب ، رحمهم‌الله ، وكان الخضري والعادلي متجاورين في المسكن متعاونين على البر والخير ، تغمدهم الله برحمته أجمعين.

ومنهم شهاب الدين رشيد بن عبد الله السعدي (٢) رحمه‌الله ، كان متفقها متدينا متعبدا ، يصحب العلماء ويشتغل عليهم ، ويشتري كتب العلم ويوقفها عليهم ، له خزانة جيدة كان فيها كتب غريبة أعرفها في دار الزيات ، وله رباط ودور وقفها بعد أن تعب في عمارتها وانشائها ، وله من اسمه نصيب وافر رحمه‌الله.

__________________

(١) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٣٨٩ (٣٥٠٤) ، نقلا عن ابن فرحون والمجد اللغوي ؛ وقد ذكره الذهبي في «معجم الشيوخ» ٢ / ١٢٠ فيمن أجازه بالمدينة.

(٢) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٣٤٧ (١٢٦٣) ، نقلا عن ابن فرحون.

٤٨

ومنهم شمس الدين صواب الحموي الناصري (١) ، كان من شيوخهم ورؤسائهم قليل الكلام ، لا تراه إلا مشتغلا بنفسه ، إذا جلس إلى الشيخ أمر بمعروف ونهى عن منكر ، وكان صاحب رأي صائب ، وله حسنات خفيات.

ثم ظهر بعده على طريقته أو أزيد خادمه أمين الدين مفيد ، وحفظ القرآن وربع «التنبيه» وصحب أهل الخير واشتهر بالدين والأمانة ، فاعتمد عليه ، وسلم إليه ما يعدّ من الحاصل ، للصرف على الفقراء والأوقاف وغيرها ، وهو الأمين على ما في القبة التي وسط الحرم ، وبيده مفاتيح حاصلها ، وهو أهل لذلك فنعم الحسنة خلفها شمس الدين بعده ، توفي سنة تسع عشرة وسبعمائة ، وتوفي أمين الدين مفيد في سنة أربع وسبعين وسبعمائة.

ومنهم سعد الدين نجيب الفاخري ، له اعتقاد في الصالحين وحسن ظن فيه ، مع سلامة باطن ، فيخدع لمن تزيا بزي الفقراء ، وكان سليم القلب ، حسن الخلق ، كثير الخير والصلة ، عليه خفارة وحشمة.

واتفق أن جاء إلى المدينة في أيامه رجل من اليمن ادّعى أنه شريف ، كان له شكالة حسنة ، مع طول قامة وسكون وحشمة ، وكان معه جماعة في طوله يتبعونه ويعظمونه ، فأظهر أنه صاحب الزمان ، وسكن مع أصحابه في دار النفيس شامي المسجد الشريف ، فانعطف عليهم الناس وهادوهم ، وتمكنوا من خاطر الفاخري تمكينا جيدا ، ووعدوه أنه يكون عنده من المقربين إذا خرج ، فأقام على ذلك مدة تهدى إليه البذلات الرفيعة ، والموائد الفاخرة تجري عليه من عنده ، ومن عند إخوانه جماعة من الشرفاء ، وكان في حفظ نفسه ومراعاة رئاسته عجبا ، فلما طال مقامه وأبطأت عداته تكعكع عنه الناس قليلا ، فلما أحسّ بذلك سافر إلى العراق ، فلم يطلع بعد ذلك خبره.

ثم ظهر بعد ذلك رجل من أهل تونس. وكان والدي رحمه‌الله يعرفه في تونس هو وأبوه ، يقال له : ابن حماس ، ظهر بهذه الطريقة ،

__________________

(١) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٤٥٩ (١٨٢٣) ، نقلا عن ابن فرحون ؛ «الدرر الكامنة» ٢ / ٢٠٨ (١٩٨٢).

٤٩

واتّسم بأنه من أرباب الحقيقة ، وانعطف عليه هذا الطواشي وغيره ، فأسكنوه وقربوه ، وأتحفوه بأنواع الملابس وفاخر الأطعمة ، وكان قد تبدن وسمن من كثرة ما يأكل.

وكان يقول : الآن قام من عندي الخضر عليه‌السلام. وقال لي : كذا وكذا ، إلى أن قال : لي ملك كذا وكذا.

ثمّ ترقّى حتى قال : كلمني القلم ، ورأيت الملكوت ، وأنواعها من هذه الترهات والخزعبلات ، وقام عليه جماعة من أهل الخير ، وبلّغوا الحاكم مقالته ونصب خيالاته ، فأدعي في مجلس كبير وحضره شيخ الخدام ، وجماعة من لفيف العوام ، فسألوا عما نقلوا عنه ، فكان يقول مقالة غير مقالة الآخر ، لم يجتمع على الشهادة اثنان فخلّي سبيله ، ثم سافر إلى القاهرة واشتهر بها ذكره وكثر أتباعه ، ثم انتقل إلى العراق فقيل : إنه قتل بها.

قال لي والدي رحمه‌الله : إن هذا الرجل كان له مال كثير ورثه من والده ، فأخرجه على الفقراء وتصدق به كله ، وخرج فقيرا ، لكنه لم يقف عند حده ، بل طمع في الولاية ، وهي لا تحصل إلا بالموهبة الإلهية ، والعناية الربانية ، وإنما ذكرت حال هذين الرجلين تنبيها على حسن اعتقاد الخدام في المجاورين ، وجميل ظنهم فيهم رحمهم‌الله تعالى.

ومنهم عزّ الدين مختار الحلبي ، كان من كبار الخدام ، وممن اتصف بأحوال الصالحين ومحبة العلماء ، أثنى عليه الشيخ عبد الواحد الجزولي (١) رحمه‌الله ، وذكر له مناقب كثيرة ، وكان مسكننا مع والدنا في داره التي أوقفها على جمال الدين المطري مجاورة لرباط الشيرازي ، وهي اليوم وقف على أولاده رحمهم‌الله تعالى.

ومنهم شفيع الكرموني (٢) ، كان ـ رحمه‌الله ـ من أحسن الخدام شكالة وطولا ، وأعدلهم بنية ، وكان من أقدرهم على مخالطة الناس ،

__________________

(١) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٢٢٠ (٢٧٦٥) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٢) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٤٤٤ (١٧٤٠) ، نقلا عن ابن فرحون.

٥٠

وكان له صولة عظيمة في المسجد على من رأى منه أدنى مخالفة ، خصوصا من رأى منه أدنى مخالطة لأهل الشر ، وقد بنى هو والشيخ ناصر الدين نصر عطا الله (١) دارين عظيمتين غرما عليهما مالا عظيما ، وتعبا فيهما تعبا كثيرا ، فلم يسكنا فيهما ، ولم يتمتعا بهما حتى توفيا ، عوضهما الله خيرا ورحمهما.

ولشفيع اليوم خادم صالح عاقل ، لم أر أحسن من سكونه وقلّة فضوله وعزلته عن الناس ، جزاه الله من نفسه خيرا ، فقد سلم الناس من يده ولسانه.

ومنهم شمس الدين صواب (٢) المغيثي رحمه‌الله ، ما كان أدينه وأورعه ، كان أول من يأخذ من محط خدمة المسجد الشريف وتعليق قناديله ، وأول من يسبق إلى المسجد من المصلين ، لزم إسطوانة المهاجرين حتى عرف بها ، وهي الأسطوانة الثالثة من أسطوانة التوبة عند المحققين ، وكان إذا جاءت نوبته في الخدمة يضع الأطعمة الكثيرة ، والألوان الفاخرة ، ويدعو لطعامه من عرف ومن لم يعرف ، وكذلك كان يفعل جميعهم سوى أنهم يتفاضلون في السخاء والكرم وطيب النفس ، يريدون بذلك وجه الله تعالى.

وكان ـ رحمه‌الله ـ على أهل الدولة له عقدة لا تنحلّ ، وشفرة لا تنكل ، نفعنا الله به بعد وفاة والدنا في سبع سيده ، وذلك أن بعض أهل الشر بذل للأمير منصور في وظائف والدي مبلغا جيدا ، حتى تكون كلها له ويخرجنا منها ، فأرسل الأمير إلى شيخ الخدام ظهير الدين يعرفه بأنه قد حصل له في هذه الوظائف كذا وكذا ، فإن دفع أولاد المتوفى هذا المبلغ ، وألا أخذتها منهم للذي بذل لي ذلك ، فعرض علينا الشيخ ذلك ، وقال : هل في حالكم شيء ولو ألف درهم؟

فقلت له : والله لم يخلّف لنا والدنا دينارا ولا درهما واحدا ، غير نفقة

__________________

(١) تقدم ذكره.

(٢) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٤٦٠ (١٨٢٥) ، نقلا عن ابن فرحون والمجد اللغوي.

٥١

من الحب ، أوصى بثلثها ، ودارا نسكنها وكتب نقرأ فيها ، فإن كتب الله قسمته ، وإلا فهي رزية وبلية ، نرجو من الله العظيم كشفها والعوض عنها.

فقام حينئذ شمس الدين المغيثي وصاح على الشيخ ، وقال : في مثل هذا تتهاون ، والله لا يصل هذا اللعين إلى وظيفتنا ، ولا يقرأ فيها أبدا إلا أن يفعل بي كذا وكذا. فبلغ ذلك الأمير ، فلم يسمع من الذي سعى عليها بعد ذلك في حقنا كلمة ، ورد الله كيد ذلك الرجل في نحره ببركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وببركة والدنا ، ثم دارت الدائرة على ذلك الرجل ، فأخرج من جميع وظائفه التي تتعلق بالحرم الشريف ، والله تعالى مع الضعيف.

توفي شمس الدين في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة فيما يغلب على الظن رحمه‌الله ، ودفن أمام باب قبّة سيدي إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومنهم عزّ الدين دينار البدري (١) ، رحمه‌الله من خادم ، إذ قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خادم ، كان مسكنه دار الشرابي بزقاق الخدام ، قد جعلها موئلا للإخوان ، ومرفقا لكل مرتاد ، يعد فيها للمرضى أنواعا من الأمواه والأشربة والأغذية ، لا يمرض فقير أو مجاور أو خادم إلا جاءه في الحين ، وحمل إليه من كل ما يحتاجه ، وكان عطاؤه عطاء السلاطين وإن أعطى ماء لسان الثور ، أو ماء خلّاف ، وما أشبه ذلك ملأ الإناء ، وكذا يفعل في الشراب والسكر وغير ذلك ، ومتى وصف لمريض فقير دواء سعى في تحصيله حتى يأتيه به ، ثم إنه لا يزال يطبخ في بيته الأشياء اللطيفة المناسبة ، ويحملها بنفسه على يده ، لا يستعين بعبده ولا بغلامه.

ولا أقول إنه يفعل ذلك مع أصحابه ومن يعرفه من عناياه (٢) وأحبابه ، بل يجري خيره على جميع الناس ، ويأتيهم في الربط والمدارس ، ويترقق لهم ويشفق عليهم ، ويشهيهم رحمه‌الله ، هذه حاله فيما ملكت يمينه.

وأما غير ذلك من مساعدة الضعيف والقيام مع المنكسر بدين أو فقر ، فالعجب العجاب ، ويخرج من ماله ويتضمّن في ذمته ، ويدخل على الغريم

__________________

(١) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٣٣٤ (١١٩٣) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٢) يعني : من يعتني به من أقاربه.

٥٢

في بيته ، ولقد ضمن مرة نحو خمسين ألف درهم طولب بها ، وضيق عليه فيها ، ففرج عنه ببركة نيته. ولو تتبعت آثاره الحسنة ، ومناقبة الجميلة ، لكان سيرة مدوّنة.

وأما سعيه في التئام الكلمة ، وإصلاحه بين الناس ، وجمع الشمل بين الإخوان ، والتأليف بين الأقران ، فمن عجائب الزمان رحمه‌الله تعالى رحمة تنزله الجنان ، وتبعده عن النيران ، توفي رحمه‌الله في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة.

ومنهم شمس الدين رشيد الدورخاني (١) رحمه‌الله ، كان فيه من مكارم الأخلاق ، ومن محبة الإخوان والشفقة على طلبة العلم وسذاجته ، وقلة حذاقته في الدنيا ما لا مزيد عليه ، يعطي العطايا الجزيلة ، بيته بيت الملوك ، ونوبته إقرأ من كتاب الله ما بعد يأتك ، كان سيده يحبه فيتحفه في كل سنة بما يحتاج إليه من السّكّر والشراب وأنواع الحبوب ، وحبّب الله إليه الإنفاق ، فاتسع الناس في خيره حتى مات مستورا رحمه‌الله تعالى في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة.

ومنهم شمس الدين صواب الجمداري (٢) ـ رحمه‌الله تعالى ـ كان من أجاويدهم وذوي الرأي منهم ، ممن يعظم الشرع وأهله ، عليه سكينة ووقار وحسن أخلاق ، وبشاشة عند التلاق ، كانت له رئاسة وحشمة ، وإطعام للكسرة ، وكان نائبا للشيخ عزّ الدين ، وله عتقاء حسنة وبنى دارا وأوقفها ، واشترى في آخر عمره نخلا جيدا وأوقفه ، وله غير ذلك من الأوقاف. كان ذا حياء لا تكاد تراه يمزح ولا يضحك ، ولا يجلس إلا في وقت ضرورة في أيام نوبته ، وله خادم رئيس قليل الخلطة بالناس ، توفي الجمداري رحمه‌الله تعالى في سنة ثمان وخمسين وسبعمائة.

ومنهم جمال الدين محسن الإخميمي (٣) ، ومنهم ظهير الدين مختار

__________________

(١) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٣٤٧ (١٢٦٥) ، «المغانم المطابة» الورقة ٢٤١ / ب.

(٢) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٤٥٩ (١٨٢١) ، نقلا عن ابن فرحون ؛ «المغانم المطابة» الورقة ٢٤٥ / ب.

(٣) ترجمته في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٤٠٣ (٣٥٧٥).

٥٣

الزمردي (١) ، كانا على نسق واحد من حسن الهيئة والمهابة والرّجلة والحذاقة ، مع المحافظة على المروءة ، والسلامة من الناس في مخالطتهم ، توفي الزمردي بمكة سنة خمسين وسبعمائة. وأما جمال الدين الإخميمي رحمه‌الله تعالى ، فإنه رأس الخدام حتى عين لمشيخة الحرم لكن أدركته المنية.

وكان ـ رحمه‌الله ـ فإنه رأس الخدام في وقته ، وأكثرهم حشما ، وأبعدهم من الشر وأهله ، لين الجانب كثير الأدب ، حسن الخلق رحمة الله عليه ، وبنى دارا حسنة وأوقفها ، فلما كملت مات قبل أن يسكنها عوضه الله خيرا.

وكان لي من ودّه وموالاته نصيب وافر ، وكان له نخل أوقفه ، وغلام أعتقه وجعله مع الفراشين هو من خيارهم ، جزاه الله خيرا ورحمه رحمة واسعة. توفي سنة خمس وخمسين وسبعمائة.

ومنهم شهاب الدين (٢) مرشد الفادي (٣) رحمه‌الله ، كان قريبا من الناس ، سريع الميل إلى من يؤانسه ويجالسه ، وكان يتعانى الأشياء الحسنة اللطيفة من الأشربة والأمواه والمعاجين والفاكهة ، ولا يزال بيته معمورا بالضيفان ، مبذولا للإخوان ، يعمل الأشياء الفاخرة من الحلوى العزيزة الوجود في الحجاز ، ويهديها لأصحابه ، ويتحف بها من يرغب في بركته ودعائه من صالحي المجاورين.

وكان ـ رحمه‌الله ـ قلّ أن تطلب منه حاجة فيقول : لا أجدها ، بل يحرص على تحصيلها ويطلبها من مظانها حتى يقضي حاجة صاحبها ، سجيّة صالحة ، وتجارة رابحة.

ومنهم الطواشي نصر ، رحمه‌الله ، كان من عباد الله الصالحين ، كان من الخدام القدماء الصلحاء ، المتمرنين على العبادة ، المتصفين بصفات أهل السعادة ، كان يجاور سنة بالمدينة وسنة بمكة ، وكان يختار سكنى رباط

__________________

(١) ترجمته في : «المغانم المطابة» ، الورقة ٢٥٤ / ب.

(٢) ترجمته في : «المغانم المطابة» ، الورقة ٢٥٩ / أ.

(٣) في «المغانم المطابة» : القاري.

٥٤

دكالة (١) ، لم يزل فيه ليقرب من صحبة المشايخ الصلاح الساكنين به ، وكان يصوم الثلاثة الأشهر متوالية ، وكان لا يصحب إلا المجاورين الذين لهم في العبادة قدم ، وهم في الناس كنار على علم ، له اليوم خادم صالح من أهل القرآن ، عاش بين الإخوان بعقله ، وساس وقته بفعله ، وكانت وفاة سيده فيما يغلب على الظن سنة ست وثلاثين وسبعمائة.

ومنهم مختار المعروف (٢) ـ بالمولّه ـ ، كان من إخوان نصر في خلقه ، صحب المشايخ الكبار ، مثل الشيخ أبي محمد البسكري وغيره ، فتأدّب بآدابهم ، واكتسب من أخلاقهم ، وكان له كرم واعتقاد حسن ، وكان من الخدام الذين لهم أخباز ، وكان الشيخ عمر (٣) الخراز من إخوانه ، وكان عمر يأخذ الدين الكثير لأجل عياله ، فيأتي الموسم وعليه فوق الثلاثة الآلاف درهم فيقضيها الطّواشي مختار ، وربما يقول له : خذ من خبزي (٤) بغير ميزان ، فيحفن له حفنات تقضي دينه ، ويعينه على وقته.

وبلغني أنه يجمع الفقراء ويعطيهم ثوبه يفلّونه ، يريد بذلك المؤانسة ، ثم يعطيهم التمر والخبز يرون أنه أجرة ، وما هو إلا ليحصل الثواب والأجر بلا منّة عليهم ، رحمة الله عليه. توفي سنة إحدى وأربعين وسبعمائة.

ومنهم عزّ الدين ريحان الطباخي (٥) رحمه‌الله ، كان حنفيا متفقها ملازما للعلماء ، محبا في الفضلاء ، مساعدا عند الشيوخ على تسديد الأمور المعضلات ، وترقيع الخصومات ، كثير الحجّ إلى بيت الله الحرام. توفي رحمه‌الله في سنة ست وأربعين وسبعمائة.

ومنهم ريحان الهندي (٦) ، من الخدّام الذين طالت إقامتهم في الخدمة الشريفة ، له مآثر حسنة ، ووقف رباطين حسنين ، عمّ النفع بهما ، ونخيلا

__________________

(١) وهو رباط سيدنا عثمان ، ودكالة قبيلة من قبائل البربر بالمغرب ، وسيأتي مزيد كلام عليه.

(٢) ترجمته في : «المغانم المطابة» ، الورقة ٢٥٩ / ب.

(٣) وهو : عمر بن عياذ الأنصاري الخراز ، وستأتي ترجمته.

(٤) في هامش النسخ عبارة : «أي معلومي من الدراهم ، والله أعلم».

(٥) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٣٥١ (١٢٨٧) ، «المغانم المطابة» ، الورقة ٢٣٨ / أ.

(٦) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٣٥٢ (١٢٩٤) ، نقلا عن ابن فرحون ؛ «المغانم المطابة» الورقة ٢٣٨ / أ.

٥٥

جيدة وسقاية للماء ، ودارين ، وكان كثير المعروف ، محبا للخير وأهله ، مؤثر الباقي على الفاني ، رحمه‌الله.

ومنهم أمين الله خالص البهادي ، كان فيه من السكون والخير المكنون ، ما لا مزيد عليه ، وكان يتعانى الفلاحة ، فيخالط الناس فيسلم منهم ويسلمون منه ، متواضعا متأدبا يرحم المسكين ، ويعين من به يستعين.

طالت أيامه وكثر ماله ، حتى أوقف الأوقاف ، وله رباط بباب البقيع ، وله عتقاء من عبيد وإماء ، وغرس في الحرم خادمه سرورا لقراءة القرآن ، وألزمه حضور الأسباع ، فجادت قراءته وحسن صوته ، فظهر بين أقرانه برجلة وشجاعة.

ومنهم عنبر الموصلي (١) ، وهو من قدمائهم ، كان خادما للشيخ محمد الأعمى ، خدمه محبة لله وموالاة ، فاكتسب من أخلاقه الحسنة ورياضته مدة حياته ، ما حصّل به خيري الدنيا والآخرة ، بنى دارا قبالة دار العشرة وأوقفها.

ومنهم مفتاح الهندي (٢) ، كان من الكبار ، عاش مئة سنة على عبادة ومجاهدة من أرباب الكمالات الكرامات ، وقف نخلا جيدا بالحشان ، ونخلا آخر ببئر عزّ العرب ، كان يعمل كل سنة في شهر ربيع الأول مولدا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينفق فيه نفقة جليلة ، وكان يقول : إنه يعرف يوم وفاته ، وإنه يموت في شهر رجب ـ أظنه السادس أو الرابع منه ـ فكان كذلك ، وكان غالبا يعمل مولده في بيتي ، ويحضر كأنه واحد من الجماعة.

وحضر يوما مع الجماعة ، فلما خرجوا قدمت له طعاما فيه لحم ، فوقفت في حلقه لحمة ، شهق منها شهقة ما شككت أنه مات ، ثم إنه أفاق بعد ذلك. وقال لي عند إفاقته : خفت عليّ أن أموت ، لا أموت اليوم ، بل بقي لي كذا وكذا ثم أموت ، فكان كما قال ، رحمه‌الله ونفع به.

ومنهم الطواشي صندل (٣) ، كان من أكابر القدماء الرؤساء المتعففين

__________________

(١) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٣٦١ (٣٣٦٤) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٢) ترجمته في : «المغانم المطابة» ، الورقة ٢٥٩ / ب.

(٣) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٤٥٨ (١٨١٥) ، نقلا عن ابن فرحون.

٥٦

الدّينين ، كثير الصّدقة بالبر والخير ، وأوقف وأعتق وأثّر أثارا حسنة ، وكان من أحسن الناس خلقا وخلقا ، محبا في المجاورين شفوقا على أولادهم ، قد سلم الناس من يده ولسانه.

ومنهم نجيب النظامي ، توفي وهو ساجد في صلاة التراويح ، رحمة الله عليه عند باب الرحمة.

واعلم أنه كان قبل هؤلاء ومعهم وبعدهم جماعة كثيرون ، ينوفون على المئة لو عددتهم كلهم متصفون بالخير الكثير ، والدين المتين ، والأوقاف من الدور والنخيل ، وعتق الأرقاء من الخدام ، الذين كثير منهم اليوم في الحرم الشريف ، والعبيد والإماء مع الاجتهاد في قراءة القرآن والإكثار من سماع الحديث ، ولو تتبعتهم وذكرت صفاتهم وما علمت من أحوالهم ، لطال الكلام واتسع المقال.

منهم كافور المحسني (١) نائب المشيخة ، والتاجي (٢) ، والناصحي (٣) ، وصواب الأبكي (٤)(٥) ، ومختار البغدادي (٥) الحلّي ، وكافور التكريتي (٦) ، وعنبر المخلصي (٧) ، وعنبر الفارقي (٨) ، وشبل الدولة كافور الجلدكي (٩) ، ونصر الصالحي (١٠) ، ودينار القرطبي (١١) ،

__________________

(١) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٣٩٠ (٣٥١١) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٢) هو : سعيد التاجي.

(٣) لم أعثر له على ترجمة.١ وقع خلاف في الكنية ، ففي (أ): «الأبكي» ، وفي (ب): «الأزبكي» ، وفي (ج) : «الأبكر» ، أما في «التحفة» : «الأيبكي».

(٤) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٤٥٩ (١٨٢٠) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٥) لم أعثر له على ترجمة.

(٦) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٣٩٠ (٣٥٠٩) ، نقلا عن ابن فرحون ؛ «المغانم المطابة» الورقة ٢٥٥ / أ.

(٧) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٣٦١ (٣٣٦٣) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٨) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٣٦١ (٣٣٦١) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٩) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٣٦١ (٣٥٠٥) ، نقلا عن ابن فرحون.

(١٠) ترجمته في «المغانم المطابة» ، الورقة ٢٦٧ / ب.

(١١) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٣٣٥ (١١٩٦) ، وقد وقع : «القرظي» بدل : «القرطبي» ، نقلا عن ابن فرحون.

٥٧

والجواجاني (١) ، وصندل البغدادي (٢) ، والفخري (٣) ، ومختار خادم اللالا (٤) ، وغيرهم طبقات عديدة يطول ذكرهم ، تغمدهم الله برحمته.

ثم إن في الحرم الشريف اليوم جماعة كثيرة من نمط هؤلاء المتقدم ذكرهم ، متصفون بما اتصف به إخوانهم من الديانة ، وصحبة الصالحين ، مع الحسنات الكثيرة الظاهرة والخفية ، والأوقاف العظيمة من النخيل والدور والعتقاء مع قراءة القرآن ، والمواظبة لاستماع الحديث ، والمثابرة على الصلاة في الصفّ الأول دائما ، وفيهم جماعة متبتلون للعبادة على طريقة السلف الصالح نفع الله بهم ، ولم أترك ذكرهم إلا أن الغرض في هذا تنبيه الشاهد بأحوال الغائب ، وتحريض الخلف ، على اتباع السلف ، وقد ذكرت منهم جماعة مع ذكر معتقيهم.

وسيأتي ذكر بعضهم في أثناء الكتاب إن شاء الله تعالى ، ولم أقصد الترتيب فيما وضعت ، وإنما وجه الله العظيم أردت ، فيما سأذكره وفيما قد ذكرت ، وجمع الكلمة قصدت ، (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) [هود : ٨٨].

__________________

(١) لم أعثر له على ترجمة.

(٢) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٤٥٨ (١٨١٢) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٣) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ١ / ٢٢٢ (٦٦٧).

(٤) لم أعثر له على ترجمة.

٥٨

فصل

في ذكر جماعة من المجاورين القدماء والمشايخ الصلحاء والتعريف بكشف أحوالهم ومناقبهم وأصف لفروعهم طيب أصولهم ، ليتخلقوا بأخلاقهم ، ويتأدبوا بآدابهم ، ويكتسبوا من محاسنهم في الأقوال والأفعال.

وفي مثل ذلك يقال :

أرى كل عود نابت في أرومة

أبى صالح العيدان أن يتغيّرا

بنو الصالحين الصالحون ومن يكن

لآباء صدق فهو بالخير أجدرا

فمن أولهم وأولاهم بالذكر ذو الولاية العلية ، والمقامات السنية ، الشيخ الصالح الولي الرباني ، أبو محمد عبد الله البسكري (١) ، كان في بلاده من أكابرها في النسب ، ومن أعيانها في المال والحسب ، خرج عن ذلك كله ، وانقطع إلى الله تعالى ورسوله ، وخرج مجردا فقيرا ، صحب مشايخ وقته شرق البلاد وغربها. ومنهم الشيخ أبو محمد المرجاني (٢) وغيره ، ثم أوى إلى المدينة في وقت شديد ، على قدم التجريد ، فأقام أولا بالمدرسة الشهابية مدة ، ثم انتقل إلى رباط دكالة ومعه جماعة من أهل المجاهدة والصبر ، فمكث به سنين لا يعلم حاله أحد ، ولم يتعرض لزوجة ولا ولد ، كان وأصحابه يطوون الأيام على غير شيء من الطعام.

__________________

(١) هو : عبد الله بن عمر بن موسى ، أبو محمد البسكري المغراوي. ترجمته في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٦٦ (٢١٨١) ، نقلا عن ابن فرحون ، ووقع في الترجمة المذكورة :«اليشكري» ، وهو خطأ.

(٢) هو : عبد الله بن عبد الملك القرشي البكري المرجاني ، صاحب كتاب «بهجة النفوس والأسرار في تأريخ دار هجرة المختار». ترجمته في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٥٦ (٢١٣٥).

٥٩

أخبرني بعض خدام الشيخ رحمه‌الله : أنه كان له أصحاب مغاربة مثل يوسف الخولي ، وحسن الخولي ، ومحمد المكناسي ، إذا جاؤوا من عملهم من الحدائق حملوا معهم شيئا من رمام البقول الذي لا يصلح إلا للدواب ، كالسلق ، وبقايا اللفت ، ومن هذا الجنس ، فيأتونهم به فيأخذه خادمهم ويسلقه ، ويضعه في قصعة إلى أن يأتوا من صلاة العشاء ، فيقدمه لهم وهم صائمون ، فيأخذ كل منهم كفايته ، وما فضل عنهم أخذه الخادم ورماه في خارج باب البلدة ، تأكله البهائم.

استمروا على ذلك سنين لا يعملون غير ذلك إلا في النادر ، حتى فطن بهم بعض الناس ، وكان يأتيهم بشيء من الأعشار كعشر الشعير والتمر ، منهم تركي الأمير جماز يقال له : سنجر (١) ، وأبو شميلة الدارنجي فترفّع حالهم وكثر أتباعهم ، ومال الناس إليهم لما رأوا من خيرهم واعتزالهم ، ثم قصدهم الخدام وصحبوهم ، واشتهر في البلاد ذكرهم ، وذكر الشيخ أبي محمد ، فكان يقصد من البلاد البعيدة كاليمن وغيرها.

وكان الشيخ مبسوط اليد لا يدخر شيئا ، ولا يرد فقيرا ، ولا يبيت على معلوم ، كان إذا جاء قادم من مكة أضافه ووانسه. ثم يقول له : ارفع طرف الحصير ، فيرفعه فما وجده تحته فهو له ، سواء كان درهما أو مئة ، وإذا أطعم الفقير لم يدع في بيته قمحا ولا سمنا ولا عسلا ، بل يعمل له الجميع حتى إنه عمل يوما للفقراء طعاما ولم يجد له إداما غير برنية شراب أهديت له لمرض كان به ، فأمر بصبها وإيدام الجماعة بها ، وظهر في الناس بالكرامات والإخبار بالمغيبات ، حتى انعطف عليه النّاس لعلمه وعمله ، وكرمه وحسن خلقه ، وكان مع ذلك مهيبا في جماعته ، بل في الحرم الشريف.

قال لي من أثق به : إنه كان إذا دخل المسجد خضع له كل من فيه ، من كبير وصغير ؛ ومتى رأى منكرا غيّره بلسانه أو بيده ، وكان أعظم أصحابه الشيخ عبد الواحد الجزولي (٢) رحمه‌الله من العلماء الزهاد ، ومنقطعا

__________________

(١) ذكره السخاوي في «التحفة اللطيفة» ١ / ٤٢٩ (١٦٧٢).

(٢) ذكره في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٢٢٠ (٢٧٦٥) ، نقلا عن ابن فرحون ؛ «المغانم المطابة».

٦٠