تاريخ المدينة المنوّرة

أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن فرحون المالكي [ ابن فرحون ]

تاريخ المدينة المنوّرة

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن فرحون المالكي [ ابن فرحون ]


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣

الإمام أحمد بن حنبل مع الديانة العظيمة والورع والتصوف ، وكل نسائهم ومن توالد منهم على خير وصلاح وسذاجة نفع الله بهم. وتوفي الشيخ علي الحجار في سنة أربعين وسبعمائة.

ومنهم الشيخ عبد الله الخضري تقدم ذكره.

ومنهم أحمد الأميني (١) كان من عقلائهم ورؤوسائهم وجامع شملهم.

ومنهم علي بن ميمون (٢) والد يوسف العجيلي ، وولده على طريقته وسلامة باطنه وقلة شره.

ومنهم سعيد الهندي (٣) ، كان شيخا حسنا على طريقة عظيمة في الديانة وملازمة الروضة.

ومنهم عمير السوارقي (٤) من قدماء الفراشين رغبة في التقرب بالخدمة لا أن يحصّل منها دنيا ، له حسنات كثيرة وأوقاف عديدة وعتقاء ، وصحبته إلى مكة في طريق المشيان ، فكان محافظا على دينه ، وله أولاد مباركون.

توفي سنة ست وستين وسبعمائة.

ومنهم الحاج بردة عتيق الحريري (٥) ، كان رجلا صالحا مباركا مشغولا بنفسه ، لا يعرف الفضول ولا أهله ، انقرضت ذريته.

ومنهم سعيد الباجي (٦) ، ليس له ذرية.

ومنهم عنبر الصرخدي (٧) ، كان من أتباع الشيخ عز الدين شيخ الحرم ، وكان يظن أنه من عتقائه لمخالطته عياله ، وترك أولادا صغارا كفلهم الشيخ عز الدين وأقرأهم القرآن وكفل أولادهم من بعدهم حتى انقرضوا.

__________________

(١) ذكره في «التحفة اللطيفة» ١ / ١٦٣ (٣٥٤) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٢) ذكره في «التحفة اللطيفة» ٢ / ٣٠٣ (٣٠٩٥) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٣) ذكره في «التحفة اللطيفة» ١ / ٤٠٩ (١٥٦٧) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٤) ذكره في «التحفة اللطيفة» ٢ / ٣٦٠ (٣٣٥٢) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٥) ذكره في «التحفة اللطيفة» ١ / ٢١٢ (٦١١) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٦) ذكره في «التحفة اللطيفة» ١ / ٤٠٩ (١٥٦١) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٧) ترجمته في «التحفة اللطيفة» ٢ / ٣٦١ (٣٣٥٩).

١٨١

ومن قدمائهم اليوم إقبال الحريري (١) ، أسن وكبر وهو على طريقة حسنة من السكون والاشتغال بنفسه.

وكان من الذين أدركتهم من أعيانهم اثنا عشر فراشا كان منهم الشيخ عمر الفراش (٢) ، كان يقرأ القرآن وكان من ألطف الناس بنية وحديثا وخدمة.

وممن دخل معهم في أواخر الوقت رغبة في التماس بركة الخدمة ، الشيخ يوسف الصعيدي الشهير بصبي الخطيب ، كان من قدماء المجاورين ، على طريقة حسنة قرأ القرآن على الشيخ عبد الحميد وغيره ، وكان ملازما للسراج قاضي المدينة فعرف به ، وكان نقيبا على الفقهاء ، وكان يلبس القضاة جميعهم ثياب الخطابة ، وصحب خلقا من الصالحين ، وخدم كثيرا من الشيوخ المتقدم ذكرهم ، له عليّ خدمة وموالاة عظيمة ، وفقدت دعاه ومحبته. توفي سنة ست وستين وسبعمائة ، وقد ناف على الثمانين ، رحمة الله عليه.

وكان ممن أدركته من السقائين بالحرم الشريف الشيخ محمد السقا ، المعروف بأبي حسين ، هو جد أولاد الشيخ محمد الكازروني لأمهم ، كان حسن الوجه طويل السبلة ، تصل لحيته إلى سرّته ، وربما عثر بها ، حسن الصوت ، كانت له بالمدينة إقامة طويلة ومجاورة جميلة ، كان ـ رحمه‌الله ـ يملأ المسجد الشريف بالدوارق يصفّها من باب الرحمة إلى باب النساء ، ويجعل في أعناق الدوارق مقطعا يقيدها به حتى لا تسرق ولا تغيّر من مكانها ، وما علمته يأخذ على ذلك أجرة.

حكى لي رحمه‌الله أنه ربى من شاربه سبلتين حتى طالتا ، وجعلهما منعطفتين على فمه كالقرنين.

قال : وكان مشايخ المجاورين والعلماء منهم يقولون لي : السنّة قص الشارب ، فأنقص ما طال من هذين القرنين الذين شوّها وجهك وغيّرا جمالك!

__________________

(١) ذكره في «التحفة اللطيفة» ١ / ١٩٤ (٥٢٦) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٢) ذكره في «التحفة اللطيفة» ٢ / ٣٥٨ (٣٣٣٥) ، نقلا عن ابن فرحون.

١٨٢

فأقول لهم : هذه سنّة شيخي ، لا أتركها لقولكم.

قال : فبينما أنا ذات ليلة نائم ، إذ رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد الشريف والناس حوله ، وأنا من وراء الشباك الحديد الذي في القبلة في دار آل عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه. قال : فكلما هممت بالدخول من الشباك يدخل رأسي ، فإذا بلغ إلى أحد القرنين منعاني من الدخول ، ورأيتهما قد صارا من حديد ، فعجزت عن إدخالهما ، فاحترق قلبي من شدة الألم على عدم وصولي إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم انتبهت وتناولت المقص وقصصتهما من ساعتي قبل قص الرؤيا ، فلما أصبحت شكرني الجماعة على ذلك ، فقلت : والله ما فعلته إلا لأجل كذا ، وعلمت أن الخير كله في اتباع السنّة.

ثم خلفه في سقي الماء بالحرم الشريف ، وفي السقاية التي كانت في المسجد المتقدم ذكرها ، الشيخ حسين بن علي بن رستم الشيرازي (١) ، كان من الشيوخ القدماء على طريقة حسنة ، وتسبّب في الحلال بتعفف وصيانة ، وخلف ولدين.

أحدهما : الفقيه الفاضل شمس الدين محمد (٢) بن حسين اشتغل بالطب ورحل إلى الشام ، وخالط الصوفية ورأس فيهم ، وتخلق بأخلاق أهل زمانه وتأدب بآدابهم.

والآخر : حسن (٣) ، فيه مكارم الأخلاق وخدمة للفقراء وموالاة حسنة ، أعانه الله تعالى وسدده وأصلحه.

واعلم أنا لم نقصد إلا ذكر من اشتهر بالعلم والعمل ، أو بالمناقب الحسنة ، والطريق المستحسنة ، فإن تخلل أولئك ذكر من هو أنزل منه درجة ، فما ذكرته إلا استطرادا أو لمقصد ينبني على ذكره ، ولو تتبعت ذكر من أدركته في المدينة من الأخيار وذكر مناقبهم لملأت الأوراق بما يحمّل النجيبات العتاق ، لكن اقتصرت على من حضر في فكري ، وفي ذلك ذكرى لمن كان له قلب ، والله الموفق.

__________________

(١) ذكره في «التحفة اللطيفة» ١ / ٢٩٥ (٩١١) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٢) ترجمته في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٤٧١ (٣٧٣٧) ، «الدرر الكامنة» ٢ / ٤٢٨ (١١٤٦)

(٣) ذكره في «التحفة اللطيفة» ١ / ٢٧٥ (٩١٨) ، نقلا عن ابن فرحون.

١٨٣

وكان رؤوساء المدينة يوالون المجاورين ويخدمونهم ، ويتقربون إلى خواطرهم بقضاء الحوائج والهدايا والطرف ، مع حسن الاعتقاد فيهم والتماس بركتهم وأدعيتهم.

منهم : نور الدين علي بن الصيفي (١) ، كان من رؤساء المدينة وخيارهم ، وكان يوالي المجاورين ويخدمهم في قضاء حوائجهم ، مع جلالة قدره وعلو كلمته ومحبّة الأمراء له ، وقد تقدم أن الشيخ العالم العلامة أبا محمد عبد الله بن حجاج (٢) الشهير بمكشوف الرأس لما توفي أسند وصيته إليه لما كان بينهما من المودة ، وفي هذا دليل على ما ذكرناه ، وله في هذا الباب مناقب كثيرة.

ومنهم نور الدين علي بن يحيى (٣) ، صاحب الرباط المشهور والسقاية ، وكان يتحبب بالمجاورين والخدام ، ويخدمهم ويقضي حوائجهم.

حكى لي الشيخ جمال الدين المطري رحمه‌الله ، أن الشرفاء في سنة فتنة اقتسموا المدينة في زعمهم لينهبوها ، وكانت المدينة محشوة بالأشراف منهم المداعبة في حارة الخدام ساكنين معهم مخالطين لهم ، وكذلك البدور في حوش الحسن وما حوله ، والو حاحدة في السويقة وما حولها ، والمنايفة عند المدرسة الشهابية ، وآل منصور في البلاط. فأرجفوا بالناس وأشاعوا أنهم يغلقون أبواب الحرم بعد صلاة الصبح على الناس ، ويعقبونهم على بيوتهم فينهبونها ، وأنهم يقتلون من في الحرم من الناس ، وكان لذلك أسباب وترتيبات من أهل الشر ، فاستعدّ المجاورون والخدام لذلك ، واستصحبوا أسلحتهم عند خروجهم وعند دخولهم.

فقام نور الدين علي بن يحيى في بعض الأيام بعد صلاة الصبح ، وصاح بأعلى صوته : أيها الناس ، الفتنة خامدة ، لعن الله مثيرها ، وكرر ذلك مرارا.

__________________

(١) ذكره في «التحفة اللطيفة» ٢ / ٢٧٩ (٣٠٣٦) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٢) تقدم ذكره.

(٣) ذكره في «التحفة اللطيفة» ٢ / ٣٠٤ (٣١٠١) ، نقلا عن ابن فرحون.

١٨٤

فقام الناس إليه وكثر الكلام واللغط ، ولم يزل ابن يحيى يسكن ما عند الناس ، وساعده أشياخ مثله في حلمه وعقله.

قال الشيخ جمال الدين (١) : فسكنت الفتنة وتركوا حمل الأسلحة ، ولم تزل كلمة المجاورين والخدام واحدة يهمّ كبيرهم ما يهمّ صغيرهم ، ويقومون لقيام أضعفهم ، وهم اليوم في خلف نرجو من الله صلاحه ، تستعين إحدى الطائفتين على الأخرى بغير جنسهم ليهينوهم ويذلوهم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، أعاذنا الله من شرور أنفسنا ومن الشيطان الرجيم.

وكان علي بن يحيى وزيرا للأمير منصور لا يخرج عن رأيه ، وربما كان يستخلفه على المدينة في بعض الأحيان لوثوقه بعقله ، وحسن رأيه وسياسته للأمور. توفي رحمه‌الله في سنة سبع وعشرين وسبعمائة.

ثم ولي الوزارة يوسف بن مقدم ، وكان من بيتها وأهلها ، إلا أنه شدد وأخذ الناس بالهيبة والقوة حتى استغاث الناس منه ، فعزل وبعده أقام ابن يحيى من السوقة الذين ليس لهم قدم في الرئاسة حسنة ، فصارت سيئة ، فوليها ابن النجار وعلى يديهما انتشر ، وسبب محاولتها خرّج أهلها من المدينة وتمكن منها عدوهم.

وكان مثل ابن يحيى المتقدم في العقل والسياسة والرئاسة نجم الدين يوسف الرومي ، وكان وزيرا للأمير طفيل ، رحمه‌الله توفي سنة خمس وثلاثين وسبعمائة ، وهو الذي أنشأ الدرجة الموجودة اليوم لبئر أريس بقباء ، عمرها في سنة أربع عشر وسبعمائة.

وكان الجماعة الخرازون قد ابتدؤا في عمارتها ، فسألهم أن يتركوا ذلك له ليفوز بحسنتها ، وكان الحامل لهم على ذلك أنهم كانوا إذا جاؤوا إلى مسجد قباء لا يجدون ما يتوضؤن به إلا من الحديقة الجعفرية ، فكانوا يتحرجون من دخولها لما سمعوا أنها مغصوبة من ملاكها.

وكان هؤلاء الجماعة ـ رحمهم‌الله ـ قد خرجوا لعمارة بئرين بذي الحليفة ، كانتا مردومتين ، غير البئرين اللتين عند المسجد اليوم ، وخرج

__________________

(١) هو : المطري ، وقد تقدم.

١٨٥

معهم جماعة كثيرة من الخدام والمجاورين ، وتبعهم من الناس خلق كثير ، فكانوا ينيفون على المئة ، وأقام الناس على حفرها وبنائها نحوا من شهر ، وفي كل يوم يأتيهم من المدينة ما يكفيهم من الطعام ، وكان أكثر ذلك من عند الخدام.

وكان الشيوخ يحفرون بأنفسهم حتى إن الشيخ محمد الخراز وقع عليه وهو في البئر حجر فشج وجهه ورأسه ، وأيقنوا بوفاته فنزلوا به على أعواد كالميت وتركوه في بيته ، ولم يقطعهم ذلك من العمل ، وما ظنّ أحد أنه يعيش منها ، فسلمه الله تعالى بحسن نيته.

وعاش إلى أن توفي في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ، وانتفع الحاج بهاتين البئرين نفعا عظيما ، واليوم أكثر العرب يستقون منها ، وكانوا يفعلون في المساجد الدامرة والأوقاف الخربة كذلك.

واليوم نحن في حال غير ذلك الحال ، كان الخدام ذلك الزمان يثابرون على فعل المعروف ، ويزدحمون على مواساة الفقير ، ويرحمون الشيخ الكبير ، ويقيلون عثرة الصغير ، ويسترون عورات الناس.

وكان كبار الخدام يجلسون مع شيوخهم بعد صلاة العصر على الدكة التي بين باب جبريل وباب النساء ، فلا يمر صغير إلا أغاثوه ورحموه ، ولا يمر بائع حطب أو حشيش قد كسدت بضاعته ، إلا شروها بأوفى ثمن ليفرجوا عنه من غير حاجة منهم إليه ، ولا يمر بهم صغير من أولاد المجاورين إلا فرحوا به وقبّلوه ولطفوا به ، يشركون فقراءهم في معلومهم.

إذا غضب أمير المدينة على أحد من المجاورين طلع أكابرهم إلى القلعة ، ودخلوا على الأمير وخلصوه ، وربما طيبوا نفس الأمير بشيء من مالهم.

وكذلك إن وقع أحد في غرامة ، أو جناية ، أو دين ثقيل ، أغاثوه وساعدوه ، ولم يزل المجاورون يعرفون لهم حقهم ، ويصبرون على جفوتهم وعلى عزتهم عليهم ، وعلى ما عساه يصدر منهم ، لأجل ما يصدر منهم من الإحسان واللطف والحمية ، ونرجو من الله أن يعيد تلك المؤاخاة ، ويلم شعث المصافاة.

١٨٦

فإن قلت : أين أولئك الناس الذين هم الناس؟

قلت : نرجو أن يعود ذلك قريبا ؛ لأن الجامع باق لا يبيد ولا يفنى ، وهو السنّة المحمدية ، والشريعة السنية العلية ، فتجمعنا إن شاء الله السنّة التي تخلصنا من أهل البدعة ، فنكون إن شاء الله تعالى أخوة متناصرين ، وعلى الخير متعاونين ، لا يأتينا الشيطان من طريق ولا باب ، ولا يكلمنا عدو بظفر ولا ناب.

(أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة : ٢٢].

واتفق في بعض السنين تضييق على القاضي سراج الدين (١) من الأمير ، وطلب منه عشرة آلاف درهم ، فتنكد من ذلك وجاء إلى الخدام ، وشكى إليهم فأدخلوه الحجرة ومنعوا أحد يصل إليه ، ثم إنه خدع فخرج فطلبه الأمير إلى القلعة ، ومنعه من النزول للصلاة ثم خلوا سبيله ، واحتالوا عليه حتى أخذوا منه ما طلبوا.

فعزّ ذلك على الخدام وأشاعوا القضية ، فوصل الخبر إلى السلطان ، فاحتاط على خبز الأمير ، وعزل عنه غلمانه ونوابه ، فاعتذروا بأن الأمير ما أخذها إلا قرضا ، ودفعوا المال لوكيل القاضي ، وجاءته الدراهم محمولة إلى المدينة.

وكم أعدد من محاسنهم ، وأذكر من مآثرهم ، وكلما ذكرت القوم وصفاتهم ازدادت الحرقة وثارت اللوعة لفقدهم ، تغمدهم الله برحمته ، وأسكنهم فسيح جنته.

صاحت بهم حادثات الدّهر فانقلبوا

مستبدلين عن الأوطان أوطانا

أخلوا مدائن كان العزّ مفرشها

واستفرشوا حفرا غبرا وقيعانا

وكان على طريقة الوزيرين المتقدمين في العقل والرئاسة ، وجمع الكلمة وتسديد الأمور ؛ عز الدين حسن بن علي سنجر (٢) المسكي ، كان

__________________

(١) هو : سراج الدين عمر بن أحمد الدمنهوري. وقد تقدمت ترجمته.

(٢) ذكره في «التحفة اللطيفة» ١ / ٢٧٩ (٩٣٢) ، نقلا عن ابن فرحون ، «الدرر الكامنة» ٢ / ٢٤ (١٥٣٢).

١٨٧

وزيرا للأمير طفيل رحمه‌الله ، وكان عاقلا حليما سايسا للأمور ، لم ينخرم نظام دولة الأمير طفيل إلا بعد وفاته.

وسأذكر من قضاياه الحسنة قضية واحدة تدل على غيرها.

وهي : أن الأمير طفيل كان في سنة ست وأربعين قد نفد ما في خزانته من التمر ، فوفد عليه جماعة من العرب يطلبون الكيل من عنده ، وكان التمر في المارستان فاضلا عما يحتاجه الفقراء ، فأخبره بعض الناس بذلك وزيّن له طلب ذلك التمر من القاضي والشيخ على سبيل القرض إلى أيام الصيف ، وكان القاضي يومئذ تقي الدين الهوريني (١) ، فأرسل إليهما الأمير طفيل في ذلك ، وطلب منهما نحو خمسمائة صاع ، فلم يمنعاه ، وألانا القول لرسوله ، فطمع الأمير طفيل في قضاء حاجته ، وأخبر وزيره المذكور بذلك ، فنزل من عنده واجتمع بالقاضي نور الدين الزرندي (٢) ، وقال له : قد علمت أن الأمراء كالأسود ، إذا لاحت لهم فريسة وثبوا عليها من غير نظر في العواقب ، وقد بلغني ما أجاب به القاضي رسول الأمير في قضية كذا ولم يرضني ذلك ، وأنا أسأل من إحسانك أن تجتمع بالقاضي وتأمره بالتصميم على المنع في هذه القضية.

فقال له القاضي نور الدين : هذا يدل على كمال عقلك وحسن نظرك ، ولكن ينبغي أن تخبرني بوجه المفسدة التي نخشاها؟

فقال له : اعلم أن الأعداء كثير ، والضد قائم ، وأخذ تمر المارستان فيه شناعة ، وربما أشاع الأعداء عند السلطنة أن الأمير طفيل أخذ تمر المارستان قهرا ، فيترتب على ذلك ما لا يخفى عليك.

فشكره القاضي نور الدين الزرندي على ذلك ، واجتمع بالقاضي وأخبره بذلك فسرّ القاضي بذلك ، فلما جاءه رسول الأمير يستنجز وعده قال له : لا سبيل إلى ذلك ، وأغلظ له في القول ، فأخبر الأمير وزيره بذلك ، فقال له : لا تتكلم في ذلك ، وخوفه من العواقب ، فرجع الأمير إلى قوله وسكت عن القضية.

__________________

(١) هو : عبد الرحمن بن عبد المؤمن الهوريني.

(٢) هو : علي بن يوسف بن الحسن الزرندي.

١٨٨

فانظر إلى عقل هذا الوزير وحسن تدبيره وسياسته!! توفي رحمه‌الله في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة.

وكان من أعظم الناس موالاة للمجاورين واختلاطا بهم القاضي نجم الدين مهنا (١) بن سنان ، كان هو القاضي في الحقيقة من بين سائر قرابته ، وبه يناط الحل والعقد ، وإليه ترجع محاكمات الشيعة وأنكحتهم وعقودهم وغير ذلك.

وكان مع هذا يتحبب إلى المجاورين ويمدحهم بالفضائل الحسنة ويستقضيهم الحوائج ، ويحضر مواعيدهم ومجالس الحديث ، ولا يصلي قط إلا في الروضة المشرفة ، وكان يستعمل التقية كثيرا.

وكان إذا نسخ كتابا ومرّ به ذكر أبي بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما ، يترضى عليهم بالخط تقيّة ، وكان يحط على أصحابه من الفقهاء الإمامية ويتبرأ منهم ، وله فيهم هجو ظريف فمن ذلك قوله :

أرى الدنيا تميل عن الكرام

وترغب في مصاحبة اللئام

فيزداد اللئيم بذاك لؤما

ويصبح ساحبا ذيل احتشام

وينسب نفسه للعلم حمقا

وعند الله فهو من الطّغام

ويفتي المسلمين بغير علم

ويخبط خبط عشوى في الظلام

فكم أفتى بتحريم لحلّ

وكم أفتى بتحليل الحرام

فمن حفظ الزيارة فهو مفت

يدرّس في الفروع وفي الكلام

كذاك من اشترى كرّا وصلى

عليه فإنه رأس السنام

تشدّ إليه أكوار (٢) المطايا

ويقصد في المهمات العظام

ولو قد جاءه شخص كبير

وباحثه لكان من العوام

وما صلى وصام وقام إلا

ليحفظ ما حواه من الحطام

__________________

(١) هو : قاضي المدينة ، مهنا بن سنان بن عبد الوهاب بن نميلة الحسيني الإمامي ، كان حسن الفهم جيد النظم ، يترضى عن الصحابة إذا ذكروا ، ويتبرأ من فقهاء الإمامية ، توفي سنة ٧٥٤. ترجمته في : «الدرر الكامنة» ٤ / ٣٦٨ (١٠٠٣) ، «المغانم المطابة» الورقة ٢٦٧ / أ.

(٢) في (أ): «أطوار».

١٨٩

ولو تلف الذي هو في يديه

إذا ترك الصلاة مع الصيام

فقد ترك الزكاة لأن فيها

خروج المال وهو إليه ظامي

وأما الخمس فهو به بخيل

ويبخل بالبشاشة والكلام

ألم تسمع كلام الله حقّا

وقول الله أحسن في النظام

بأنا لا نمهلهم لخير

ولكن كي يزيدوا في الأثام

فمهلا سوف ترتجع الليالي

عطاياها ويجذب بالخطام

ويطلب أن يقال ولات حين

وقد خلص المخف عن الزحام

وكان لديه فضيلة وعربية وآداب ، وحسن محاضرة. توفي سنة أربع وخمسين وسبعمائة.

وكان مثله خلائق متصفون بهذه الأخلاق ، ولم أعده منهم وأذكره فقد كادوا يكونون على الفكر لبدا ، وفي قصص من ذكرنا للألباء رشدا ، وإنما أردت أن يقف ذو العقل الوافر ، والنظر السديد الباهر ، على شيء من حال المتعاصرين من قبل وقتنا فيرى ما بين العصرين وأهلهما!! سامح الله الجميع بفضله وكرمه.

١٩٠

فصل في ذكر قضاتنا وأئمتنا

وكان أولى أن يكونوا أحق بالتقديم في الذكر ، غير أن قصدي من معظم من ذكرته ، تنبيه من قدمته ، وإنما ذكرت من سواهم تبركا بهم ، وحضا لغيرهم على اقتفاء آثارهم ، فالضد يظهر حسنه الضدّ ، ولم أجر فيما ذكرته على منوال ، ولا رتبته على مثال ، بل من سبق إلى الفكرة ذكره قدمته ، ومن أخّره الفكر لم يسرع به الذكر.

فأول من أدركته من قضاتنا وأئمتنا الشيخ الإمام العلامة سراج الدين عمر (١) بن أحمد الخضري بن ظافر بن طراد بن أبي الفتوح الأنصاري الخزرجي ، كان ـ رحمه‌الله ـ فقيها مجيدا أصوليا نحويا متفننا في علوم جمة ، حدث عن الرشيد العطار ، وأجاز له الشريف المريسي المنذري ، وتفقه بعز الدين بن عبد السلام قليلا ، ثم بالسديد التزمنتي ، والنصير (٢) بن الطباخ وأئمة وقته.

٧ قدم المدينة سنة اثنتين وثمانين وستمائة متوليا للخطابة ، وكانت الخطابة بأيدي آل سنان بن نميلة الشريف الحسيني ، وكان الحكم أيضا راجعا إليهم ، ولم يكن لأهل السنة خطيب ولا إمام ولا حاكم منهم ، والظاهر أن ذلك منذ استولى العبيديون على مصر والحجاز ، فإن الخطبة في المدينة كانت باسمهم.

فلما كان في سنة اثنتين وستين وستمائة ، وقع في مصر قحط ووباء لم

__________________

(١) ترجمته في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٣٢٨ (٣٢١) ، «الدرر الكامنة» ٣ / ١٤٩ (٣٥٣) ، «طبقات الشافعية» للإسنوي ٢ / ٧٢ (٦٦٢).

(٢) في «الدرر» و «طبقات» الأسنوي : «البصير».

١٩١

يسمع في الدهور بمثله ، وكاد الخراب يستولي على وادي مصر ، حتى ذكر أن امرأة خرجت وبيدها مدّ جوهر فقالت : من يأخذه بمدين؟

فلم يلتفت إليها أحد ، فألقته ، وقالت : لا أريد شيئا لا ينفعني وقت الحاجة ، فلم يلتفت إليه ، واشتغل العبيديون بما أصابهم من ذلك ، فحينئذ تغلب الخلفاء العباسيون على الحجاز ، وأقيمت الخطبة لهم من ذلك العهد إلى يومنا ، والله أعلم.

وكان أخذ الخطابة من آل سنان في سنة اثنتين وثمانين وستمائة ، واستمروا حكاما على حالهم ، وكان لأهل السنّة إمام يصلي بهم الصلوات فقط ، وكان السلطان يومئذ الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي ، فأول خطيب خطب لأهل السنّة القاضي سراج الدين ، وكان السلطان بعد ذلك يبعث مع الحاج شخصا يقيم لأهل السنّة الخطابة والإمامة إلى نصف السنة ، ثم يأتي غيره مع الرجبية إلى ينبع ، ثم إلى المدينة ، وكل من جاء لا يقدر على الإقامة نصف سنة إلا بكلفة ومشقة ، لتسلط الإمامية من الأشراف وغيرهم عليه.

فأوّل من خطب السراج كما تقدم ، ثم من بعده شخص يقال له : شمس الدين الحلبي (١) ، ثم من بعده شرف الدين السخاوي (٢) ، ثم استقر سراج الدين المذكور خطيبا فخطب بالمدينة أربعين سنة ، ثم سافر إلى مصر يتداوى فأدركه الموت بالسويس متوجها إلى مصر ، وذلك في سنة ست وعشرين وسبعمائة.

وأما الأئمة من أهل السنّة فلم يزالوا بالمدينة قبل هذا التاريخ ، وأدركت ذرية لمحمد (٣) إمام الحرم ، كان معظما عند الشرفاء محببا إليهم ، وقد ملك أملاكا أصلهم من تمليك الشرفاء له كأثارب وغيرها ، وبلغني أن

__________________

(١) لم أعثر له على ترجمة.

(٢) هو : أبو عبد الله ، محمد بن موسى بن أبي بكر السخاوي القاهري المالكي ، قاضي طيبة ونزيلها ، ولد سنة تسع عشرة وثمانمئة ، توفي سنة خمس وتسعين وثمانمئة. ترجمته في :«التحفة اللطيفة» ٢ / ٤٣٩ (٣٦٤٣) ،.

(٣) يعني : أبا عبد الله محمد السخاوي ، المتقدم ذكره.

١٩٢

عبد المنعم كان وزيرا له ، وكان مدرسا في المدرسة الشهابية ، وكان يجلس للتدريس والسيف معروض بين يديه ، وكان مدرس المالكية يومئذ الشيخ أبا إسحاق له كتب في المدرسة بخطه أوقفها ، وكان منهم رجل صالح عالم مصنف وهو صاحب «الضوابط الكلية في علم العربية».

وكان منهم النظام له ذرية وكان لهم بالمدينة أملاك ، وذكر أنهم أقاموا في منصبهم مستضعفين يجنيهم الشرفاء ويؤذونهم ، فارتحلوا بأولادهم وتركوا أملاكهم.

وكنت أسمع من كبار أهل المدينة أن الشرفاء بعثوا إليهم وأمنوهم على أن يرجعوا إلى المدينة ، فلم يفعلوا حتى أخذت أملاكهم وتملكّت.

وبالمدينة موضع يسمى : «سيّما النظامية» منسوبا إليهم ، وكان موضع يقال له «الإماميّة» منسوب إلى إمام المسجد الشريف.

فلما قرر القاضي سراج الدين بالمدينة خطيبا فلطالما عملوا معه من القبائح والأذى ما لم يصبر عليه غيره فصبر واحتسب ، وأدركت من أذاهم له أنهم كانوا يرجمونه بالحصباء وهو يخطب على المنبر.

فلما كثر ذلك منهم تقدم الخدام وجلسوا بين يديه ، فكان هذا هو السبب في إقامة صف الخدام يوم الجمعة قبالة الخطيب ، وخلفهم غلمانهم وعبيدهم خدمة وحماية للقضاة ، وتكثيرا للقلة ونصرا للشريعة.

فانظر كيف كان اتحادهم واجتماع قلوبهم!! رحمهم‌الله تعالى.

وكان يصبح باب بيته عليه مغلوقا ، وفي بعض الأحيان يلطخونه بالنجاسة ويتبعونه بكل أذى وهو صابر ، وربما عذرهم لاحتراقهم على خروج المنصب من أيديهم بعد توارثهم له ، فقد كان سنان (١) قاضي المدينة خطيبها ، وكذلك ولده عبد الوهاب فيما يغلب على ظني.

حكى لي الشريف سلطان بن نجاد أحد شيوخ الشرفاء الوحاحدة قال : أدركت القاضي شمس الدين سنان يخطب على المنبر ويذكر الصحابة

__________________

(١) هو : سنان بن عبد الوهاب بن نميلة ، وقد تقدم ذكره.

١٩٣

ويترضى عنهم ، ثم يذهب إلى بيته فيكفر عن ذلك بكبش يذبحه ويتصدق به ، يفعل ذلك كل جمعة عقب الصلاة.

ومما حكاه ابن جبير في «رحلته» وعده من غرائبه التي رأها في رحلته ، أنه قدم المدينة زائرا مع الحاج ، فحضر صلاة الجمعة وهم بالمدينة.

قال : فطلع الخطيب وكان من الشرفاء الإمامية فخطب ثم جلس في أثناء الخطبة ، وتقدم من عنده غلمانه يطوفون على الناس ويأخذون منهم شيئا للخطيب فجمعوا له شيئا ثم جاؤوا به إليه فرده ، وقال : لا يكفيني ، فعادوا على الناس الرجال منهم والنساء فزادوهم فلم يقبل ، والناس في ضيق من تأخير جمعتهم.

قال : ثم لم يزل كذلك حتى قرب وقت العصر فنزل وصلى (١).

ثم إن السراج (٢) تزوج بنت القيشاني وكان رئيس الإمامية وفقيهها ، حتى قيل : إن المدينة لم يكن بها من يعرف مذهب الإمامية حتى جاءها القيشانيون من العراق ، وذلك أنهم كانوا أهل مال عظيم ، فصاروا يؤلفون ضعفة الناس بالمال ويعلمونهم قواعد مذهبهم ، ولم يزالوا على ذلك حتى ظهر مذهبهم وكثر المشتغلون به ، وعضده الأشراف في ذلك الزمان ، ولم يكن لهم ضد ، ولا في مصر ولا في الشام من يلتفت إليهم ، لأن الملك العادل نور الدين الشهيد كان حاكما على البلدين ، لكن همه الجهاد ولا يستقر له قرار.

ثم ولي بعد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، فسار على طريقة الملك العادل وزاد عليه ، وكان صاحب المدينة أبو فليته قاسم (٣) بن المهنا يحضر معه الفتوحات ، ويلازمه في الغزوات ، فلم يكن أحد يجسر على الكلام في الإمامية في ذلك الزمان.

__________________

(١) انظر رحلة ابن جبير ، ص ١٧٩ ، وما بعدها.

(٢) يعني : سراج الدين الدمنهوري. وقد تقدم ذكره.

(٣) هو : أبو فليته القاسم بن مهنا بن حسين بن مهنا الحسيني ، كان أمير المدينة في أيام الخليفة المستضيء بأمر الله ، وكان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب يستصحبه معه في غزواته حتى حضر معه أكثر فتوحاته. ترجمته في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٣٧٨ (٣٤٥٨).

١٩٤

ولما صاهرهم السراج انكف عنه الأذى قليلا ، وصار يخطب ويصلي من غير حكم ولا أمر ولا نهي.

وكان إذا عقد في البلد عقد نكاح بغير إذن علي بن سنان (١) وأمره ، طلب الفاعلين لذلك وعزرهم وسلط عليهم الشرفاء ، وكان المجاورون وأهل السنّة إذا أرادوا عقد نكاح أو فصل حكومة على مذهبهم ، يأتون والدي ليعقد لهم أو يصلح بينهم.

فيقول لهم : لا أفعل حتى يأتيني كتاب ابن سنان ، فيذهبوا إلى علي بن سنان فيعطونه ما جرت به عادته ، فيكتب لهم إلى والدي ما صورته : (يا أبا عبد الله اعقد نكاح فلان على فلانة) ، أو (اصلح بين فلان وفلان).

ولم يزل الأمر على ذلك حتى كانت أيام شيخ الخدام الحريري ، وقد تقدم ذكرها وتاريخها ، فكثر المجاورون وسألوا الملك الناصر محمد بن قلاوون أن يكون لأهل السنّة حاكم يحكم بينهم ، ويحملهم على مذهبهم ، فجاء تقليد بذلك للقاضي سراج الدين وجاءته على ذلك خلعة وألف درهم ، وكان فيه معرفة ومداراة.

فقال : أنا لا أتولى حتى يحضر الأمير منصور (٢) بن جماز ، فأحضروه.

فقال له السراج : قد جاءني من السلطان مرسوم بكذا ، وأنا لا أقبل حتى تكون أنت المولي لي ، فإنك إن لم تكن معي لم يتم أمري ولا ينفذ حكمي.

فقال له : قد رضيت ، وأذنت فاحكم ولا تغير شيئا من أحكامنا ولا حكامنا.

فاستمر الحال على ذلك يحكم بين المجاورين وأهل السنّة ، وآل سنان يحكمون في بلادهم على جماعتهم وعلى من دعى إليهم من أهل السنّة ، فلا

__________________

(١) هو : علي بن سنان بن عبد الوهاب بن نميلة. ذكره في : «التحفة اللطيفة» ٢ / ٢٧٨ (٣٠٣٣) ، نقلا عن ابن فرحون.

(٢) هو : منصور بن جماز بن شيحة بن هاشم الحسيني.

١٩٥

يقدر أحد على الكلام في ذلك والتقدم في الأمور لهم ، وأمر الحبس راجع إليهم ، والأعوان تختص بهم ، والإسجالات تثبت عليهم ، والسراج يستعين بأعوانهم وبحبسهم.

استمر ذلك الحال مدة السراج حتى مات ، وكان السراج ـ رحمه‌الله ـ يواسي الضعفاء ويتفقد الأرامل والأيتام ببره وزكاته ، ويقصدهم في بيوتهم بنفسه ، وكان لا يرد من سأله قرضا ، بل يأخذ منه ويعطيه ما أراد ، وكان قبل ولايته الحكم طوعا للناس الذين عاصروه من أهل الصلاح ، يصلي كما يشتهون من تطويل وتقصير ، وتكميل السورة في الركعة وملازمة الطيلسان ومسح جميع رأسه.

وكان إذا جلس للدرس ينتظر كبار أصحابه ، وكان مرارا يبعث إلى والدي وهو في بيته بأن الجماعة ينتظرونك ، فيتوضأ ويصلي الضحى ، ثم يخرج إليه فيجده جالسا مع الجماعة لم يشرع في الدرس.

فلما ولي الحكم تنكرت عليهم أخلاقه ، وصار يرمي عليهم كلمات يغيظهم بها وإن لم يكن تحتها طائل ، فنفرت نفوسهم منه ، وتفرقوا عنه.

كان يحضر درسه جمال الدين المطري ووالدي وجماعة المالكية وغيرهم ، والشيخ أبو عبد الله النحوي وكان من الأئمة الكبار ، يقال : إنه كان يتقن اثني عشر علما ، وكان منهم الشيخ عز الدين الزرندي ، وكان منهم الشيخ الأديب أبو البركات ، فما من هؤلاء أحد إلا نفر عنه ، وفارق درسه لما يسمع منه.

فجلس يوما في درسه فلم ير من الجماعة أحدا إلا من لا نوبة له فقال : أين أصحاب اليمين أين أصحاب الشمال؟ أصحابنا ضد الأنصار يكثرون عند الطمع ، ويقلون عند الفزع.

وقال له بعض الطلبة : قال الشيخ أبو إسحاق : في هذه المسألة كذا ، فقال : قلقل الله أنيابه.

فقيل له في ذلك ، فقال : تقلقلت منذ زمان ، وإذا قيل له قال النووي قال : كذا نعلك النووي.

١٩٦

ويقول للمالكية : أنتم تقولون الكلب حيوان ذو صوف ، فلحمه لحم خروف ، فيتأذون من ذلك.

وكان يحضر درسه أيضا الفقيه الفاضل أبو العباس أحمد (١) الفاسي فجلس يوما قريبا منه ، وكان يتجاهل.

فقال : من هذا؟ فقال : أنا أحمد الفاسي ، فقال له : من فسى يفسو فسوا فهو فاسي.

ولقيه الشيخ أبو البركات بعد أن ترك درسه وخرج من المدرسة وسكن رباط دكالة ، فقال له السراج : من هذا؟ وكان يظهر التعامي وقلة السمع وما هما به ، فقال : أنا أبو البركات ، فقال : بل أبو الهلكات ، فقال له أبو البركات : طائركم معكم وافترقا ، ولقيه يوما في الطريق ، فقال له : أنت أبو البركات؟

فقال : نعم ، فقال : أوحشتنا أوحشنا أنسك.

فقال له أبو البركات :

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا

أن لا تفارقهم فالراحلون هم

فقال له السراج : فالراحلون أنت ، وافترقا وكان فيه صبر عظيم ، واحتمال كثير.

وكان في أيامه رجل إمامي من حلب ، وكان يسكن في دار تميم الداري له ثروة ورئاسة ، فكان يجلس السراج على طريقه عند باب الرحمة ، فإذا دنا منه يقول له : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) [العلق : ١٦] ، هكذا أبدا وهو لا يجاوبه ولا يعيد الكلام له.

حتى انتقم الله له منه ، وذلك أنه كانت له جارية كأنه نقم عليها شيئا فعاقبها حتى قتلها ، فبلغ ذلك الأمير منصور فمسكه ودخل بيته وأخذ منه ألف دينار.

__________________

(١) هو : أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن الشاذلي الفاسي ، ناب في قضاء المدينة وكان صدرا في العلماء ، توفي سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. ترجمته في : «التحفة اللطيفة» ١ / ١١١ (١٩٨).

١٩٧

وتقدم ذكر وفاة السراج ، وكان مولده في سنة خمس أو ست وثلاثين وستمائة ، رحمة الله عليه.

ثم ولي منصب الحكم بعده الشيخ الإمام العالم الفاضل علم الدين يعقوب بن جمال القرشي المتقدم ذكره ، وكان الفقيه علم الدين نائبا للقاضي سراج الدين في الأحكام ، فلما توفي السراج سعى له بعض أصحابه في الاستقلال بالمنصب ووجدوا من رضي بمنصب الخطابة والإمامة ، فأجيب إلى ذلك وولي القضاء.

وولي الخطابة والإمامة الأخ في الله بهاء الدين بن سلامة المصري ، كان فاضلا أديبا من صدور الكتّاب الرّؤساء المعتمد عليهم ، وكان يفك الخط المعمى بسرعة حسب ما يقف عليه يكتبه تحته نثرا كان أو نظما ، وكان له خط حسن قليل المثل ، وربما كان يكتب المصاحف ويهديها لأصحابه من الأمراء فيبعثون بالألف درهم وما قاربها على كل مصحف.

ثم تخلف عن صنعة الكتابة للسلطان ، فأبقى السلطان عليه معلومه وزاده معلوما آخر في دمشق ، وأقام بالمدينة سنتين ، ثم عزل نفسه واستقال ، لأنه لم ير نفسه أهلا لما شرطه الواقف من معرفة القراءات ومعرفة الفرائض ، فخاف على دينه وآثر رضى ربه ، فأرسل يستقيل.

فلما عزل ولي القاضي شرف الدين الأميوطي الوظيفتين جميعا ، وعزل القاضي علم الدين.

وكان الفقيه يعقوب (١) رحمه‌الله حاكما عادلا فقيها فاضلا رئيسا ، وكان مقدما عند القاضي سراج الدين يحبه ويعظمه ويشاوره.

قال لي رحمه‌الله : والله ما فرحت بهذا المنصب وإني لأرجو أن يقيلني الله تعالى منه ، وذكر لي أنه رأى في المنام كأنه على سطح قباء وأنه على طرف الحائط قد تدلى ولم يبق إلا أن يسقط فيهلك ، وهو من الخوف

__________________

(١) هو : علم الدين يعقوب بن عبد الله القرشي. ترجمته في : «الدرر الكامنة» ٤ / ٤٣٤ (١٢٠٨) ، ويسرد ذكره باسم : يعقوب بن جمال ، وذكره السخاوي في مقدمة «التحفة اللطيفة» ١ / ٢٩ ، عند ذكره لمن تولى الخطابة والإمامة بقوله : «... وهو العلم يعقوب بن جمال القرشي الهاشمي المقري ...». فليلا حظ.

١٩٨

في أعظم ما يكون حتى نجاه الله تعالى ، فكان ذلك تسلية له عند العزل.

وكان قد جرى في أحكامه على السّداد وخصوصا على الخدام ، ومنعهم من الشمع والدراهم وغير ذلك مما يجمعونه في صندوق النذر في أيام الموسم ، وقال لهم : هذا يجري في مصالح الحرم لا يجوز لكم قسمه بينكم ، فتضيقوا من ذلك وعزّ عليهم فغلبهم عليه ولم يصرف لهم منه شيئا رحمه‌الله (١) ، توفي رحمه‌الله في سنة خمس وأربعين وسبعمائة ، ومولده في سنة ثمان وثمانين وستمائة.

ثم ولي الخطابة والإمامة الشيخ الإمام العلامة زين الفقهاء صدر المدرسين شرف الدين أبو الفتح محمد (٢) بن القاضي عز الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ كمال الدين أبي المجد اللخمي الشافعي المصري ، المعروف بابن الأميوطي تغمده الله برحمته ، كان شرف الدين فقيها فروعيا حافظا للمذهب ، قلّ أن رأيت مثله في حفظه وغزارة علمه ، وأما كلامه على الحديث واستنباطه لعلومه وما يستلوح من فوائده فالعجب العجاب.

قال لي أخي علي رحمه‌الله : قطعت هذه البلاد شرقا وغربا لم أر أحدا يتكلم على الحديث مثله ، وكان كريما جوادا ، حسن المحاضرة لين العريكة حتى ينحرف فكأنه غير الذي تعرف ، ولما قدم المدينة عرض على القاضي يعقوب بن جمال النيابة عنه في الأحكام فامتنع ، فنزل له عن تدريس المدرسة الشهابية فقبلها واستمر مدرسا للشافعية محببا إلى الناس.

وكان في القاضي شرف الدين شدة على الأشراف ، وكان له هيبة عظيمة سقاهم المر وأذاقهم الصبر ، وأما سطوته على الإمامية وتوبيخه لهم

__________________

(١) ورد في حاشية النسخة (أ) تعليقة للشيخ عبد الستار الدهلوي ناسخ هذه النسخة قوله : «قف على محل النذور الواردة في مسجد المدينة من الشمع والدراهم ، ما حكمه (...) ، وقد أقره السخاوي وحسنه». وفي مقدمة «التحفة اللطيفة» للسخاوي ١ / ٢٩ ، عند كلامه على القضاء وفي مجرى كلامه على الشيخ يعقوب بن جمال القرشي ، وأنه قال للخدم : «لا يجوز لكم قسمه بينكم» ، قال السخاوي معترضا : «وما هو محق فيه». انتهى.

(٢) تقدم ذكره.

١٩٩

في المحافل وسبهم على المنبر ، فأمر مشهور لا يحتاج إلى وصف ، ولا تكاد السنين تبيد ذكره.

وكان إذا قام في الأمر لا يرجع عنه ولو خوّف في عاقبته ، وكان متمسكا بالسّنّة يتبع أشدها ويحمل نفسه على أشقها ، رأيته في يوم صائف محرما متجردا راكبا على حمار لم يزل عليه حتى كمل حجه ورجع إلى المدينة ليس له مركب غيره ، ورأيته وقد أكلته الشمس وتقشر جلده ودمى وجهه ، فعرضت عليه الركوب في الشقدف (١) فلم يفعل.

وكان قد أراد أن يسوي الحفرة التي في محراب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببنيان أو أخشاب فلم يوافق على ذلك ، فترك الصلاة في المحراب وصلى عن يسار المحراب قريبا من الشباك ، واستمر على ذلك حتى مات رحمه‌الله ، وقد تقدم الكلام على ذلك.

وهو الذي أبطل صلاة النصف من شعبان ، وكان تبطيلها عزيزا على النفوس فقد اعتادوا صلاتها ، ومبتدعات كانت معها.

منها : زينة المسجد الشريف ، وكثرة الوقيد ، وكثرة النساء واختلاطهم بالرجال ، والصياح من الصغير والكبير حتى لا يبقى للحرم حرمة ولا يملكه القوم.

وكان له غيرة على أهل السنّة وإن علم من كثير منهم الكراهة له ، فيسدد أحوالهم ويقيم حرمتهم عند أمراء المدينة ويجاهد بنفسه في حقهم.

وله تواليف مفيدة في الكلام على الحديث وغيره ، منها : (الجواهر السّنية في الخطب السّنّية) قل أن يخلو منها خطبة إلا وفيها ذكر البدعة وأهلها ، وتوبيخهم لما هم عليه.

ونزل مرة من على المنبر لضرب رجل من الإمامية كان يتنفّل زيادة على تحية المسجد ، ويؤدّي ظهر الجمعة أربعا في أثناء ذلك التّنفل ، لأنهم لا يعتقدون إقامة الجمعة إلا خلف إمام معصوم ، وهذا كان عادتهم معه ومع

__________________

(١) الشقدف : هو ما يوضع على الجمل يجلس فيه الراكب ، وهو يشبه الهودج بالنسبة لركوبة النساء.

٢٠٠