تاريخ المدينة المنوّرة

أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن فرحون المالكي [ ابن فرحون ]

تاريخ المدينة المنوّرة

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن فرحون المالكي [ ابن فرحون ]


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٣

١
٢

٣
٤

مقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آل محمد ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحمد لله المنعم المتفضل علينا بجزيل النعم والكرم ، والهادي إلى الصراط المستقيم.

أما بعد ، فهذا كتاب نفيس يتعلق بتاريخ مدينة المختار ، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم ، الموسوم ب «نصيحة المشاور وتعزية المجاور» للإمام الفقيه أبي محمد عبد الله بن فرحون المالكي ، وهو كتاب موسوعي يتطرق لذكر جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية إضافة إلى التراجم لرجالات تلك الفترة التي من خلالها نتعرف على جوانب تلك الحياة بجميع تفصيلاتها ، وهذا الأسلوب المتميز حاول تقليده السخاوي في «التحفة اللطيفة» حيث إنه اقتبس منه تراجم عديدة ونقل معظمها نصا بكامل تفصيلها مما سيراه القارئ هنا حين عزوت إلى مصادر الترجمة وبينت النقل.

كما أنه بدأ كتابه هذا بمسألة فقهية رد فيها على معترض ، وبيّن فيها أقوال الأئمة والحكم الشرعي في تلك المسألة المعترض عليها ، ثم ذكر نبذة مختصرة عن أحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخلاقه وشمائله ، ثم استهل كتابه بذكر من أدركه من مشايخ الحرم النبوي الشريف ، ثم من أدرك من خدام الحرم ، ذكر من خلال تراجمهم أهم الأحداث التي عاصرت تلك الشخصيات وشاهدها وكان أحد أطرافها.

ولقد شرح الله صدري لبذل الجهد المقل في خدمة هذا الكتاب وإخراجه حين طالعت منه نسخة مصورة عن النسخة الأصلية لهذا الكتاب

٥

والمحفوظة بمكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت ، وسعيت في الحصول على نسخة أخرى لهذا الكتاب خاصة وأنني وجدت أن هذه النسخة غير تامة وليست قديمة فناسخها ـ في غالب الظن ـ هو السيد إبراهيم حمدي الخربطلي أحد أمناء هذه المكتبة السابقين ، فعثرت على نسخة أخرى بمكتبة آل هاشم مكتوبة بخط جيد من قبل صاحب هذه المكتبة السيد جعفر هاشم ، ثم ظفرت بنسخة ثالثة بخط المحدث العلامة الشيخ عبد الستار الدهلوي محفوظة بمكتبة الحرم المكي الشريف ، وظهر لي أن النسختين الأخريين مقابلتان وعليهما بلاغات المقابلة.

فاستعنت بالله العلي العظيم في نسخ المخطوطة المحفوظ أصلها بمكتبة آل هاشم لوضوحها ، ومن ثم مقابلتها على النسخ الخطية الأخرى وإخراج النص الصحيح قدر الإمكان منها.

ثم قمت بعزو التراجم إلى المصادر ، وتبيين نقل هذه المصادر عن أصل هذا الكتاب ، ولم أهتم بذكر فروق النسخ إلا في نطاق ضيق جدا ، واجتهدت حسب الإمكان في ذلك والطاقة مع اعترافي بالعجز وقلة البضاعة ، لكن كان الأمل في الله والرجاء في إخراج هذا العمل دأبي وشغلي.

والله أسأل أن يمن عليّ بالقبول ، وأن يجعل هذا الجهد القليل ذا أجر كثير عنده ، وأن يرزقني الهمة في خدمة مدينة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

إنه سميع قريب مجيب.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه المفتقر إلى رحمة مولاه حسين محمد علي شكري حامدا ومصليا بالمدينة المنورة في غرة رمضان سنة ١٤١٦ ه

٦

وصف النسخ الخطية المعتمدة

ذكرت فيما سبق أنني قد حصلت على ثلاث نسخ لهذا الكتاب وهي كما يلي :

١ ـ النسخة (أ) : وهي بخط المحدث الشيخ عبد الستار بن عبد الوهاب الدهلوي المكي ، والمحفوظة بمكتبة الحرم المكي تحت رقم (٢٨٩٩) دهلوي ، وعدد أوراقها (١٢٠) ورقة ، وتمتاز هذه النسخة بوجود بلاغات في الهامش ، ولم يذكر تاريخ نسخها.

٢ ـ النسخة (ب) : وهي بخط السيد جعفر بن حسين هاشم ، والمحفوظ أصلها في مكتبة آل هاشم بالمدينة المنورة ، وعدد أوراقها (٩١) ورقة ، وهي أيضا نسخة مقابلة كما يظهر ذلك من وجود لفظة (نسخة) في الهامش ، وتاريخ نسخها ١٢٩٨ ه‍.

٣ ـ النسخة (ج) : وهي في غالب الظن بخط الشيخ إبراهيم حمدي أحد أمناء مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة ، وأصلها محفوظ بالمكتبة المذكورة تحت رقم (٩٦ / ٩٠٠) ، وهي نسخة ناقصة لم يتمها الناسخ ، وعدد أوراقها (١٣٩) ورقة.

وقد علمت أنه توجد نسخة بدار الكتب المصرية بمكتبة الشيخ محمد محمود التركزي ولكني لم أتمكن من الحصول على نسخة مصورة منها.

٧
٨

ترجمة المؤلف (١)

اسمه

هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن أبي القاسم فرحون بن محمد بن فرحون اليعمري التونسي الأصل ، المدني المولد والمنشأ.

مولده وعلمه

ولد بالمدينة المنورة سنة ٦٩٣ ه‍ ، قرأ القرآن الكريم والحديث الشريف ، والفقه والتفسير ، وفقه الحديث ومعانيه.

قال عن نفسه : «لازمت تفسير ابن عطية حتى كدت أحفظه».

وكان ـ رحمه‌الله ـ بارعا في علم العربية حتى إن إمام عصره وشيخ وقته الشيخ أثير الدين بن حيان قال عندما وقف على كلامه في إعراب «بانت سعاد» : «ما ظننت أنه يوجد بالحجاز مثل هذا الرجل» ، واستعظم علمه.

وقال هو عن نفسه : «اشتغلت في علم العربية وأنا ابن ثمان عشرة سنة».

كان صبورا على السماع والاشتغال ، وظل أكثر من خمسين سنة متصدرا للاشتغال بالحرم النبوي الشريف ، ومدرسا للمالكية.

شيوخه

قرأ القرآن الكريم على الشيخ أبي عبد الله القصري ، والحديث على والده والشيخ محمد بن حريث البلنسي ـ خطيب سبته وفقيهها ـ وكذلك قرأ على كلّ من :

__________________

(١) مصادر الترجمة : «التحفة اللطيفة» للسخاوي ٢ / ٨٥ (٢٢٤٠) ، «الديباج المذهب» لابن فرحون ، ص ١٤٤ ؛ «شجرة النور الزكية» ٢٠٣ (٧٠٠) ، «الدرر الكامنة» لابن حجر ٢ / ٣٠٠ (٢٢٢٨).

٩

الشيخ عز الدين يوسف الزرندي المدني ، والشيخ محمد بن أحمد المطري ، والشيخ شرف الدين الزبير الأسواني ، والشيخ سراج الدين الدمنهوري ، والشيخ محمد بن جابر الوادي آشي ، والشيخ قطب الدين أبي المكارم المصري ، والشيخ زين الدين الطبري ، والشيخ رضي الدين الطبري ، وغيرهم.

وقد خرج له شرف الدين بن سكن المصري فهرسة كبيرة مشتملة على شيوخه ومروياته.

مؤلفاته

١ ـ الدر المخلص من التقصي والمخلص : وهو جمع لأحاديث الكتابين.

٢ ـ كشف الغطا في شرح الموطا : يقع في أربعة مجلدات.

٣ ـ شرح «مختصر التفريع» لابن الجلاب النيلي ، وسماه : «كفاية الطلاب في شرح مختصر الجلاب».

٤ ـ نهاية الغاية في شرح الآية.

٥ ـ العدة في إعراب العمدة.

٦ ـ التيسير في علمي البناء والتغيير.

٧ ـ شفاء الفؤاد في إعراب بانت سعاد.

٨ ـ المسالك الجلية في القواعد العربية.

٩ ـ شرح «قواعد الإعراب» لابن هشام.

١٠ ـ نصيحة المشاور وتعزية المجاور : وهو آخر كتبه تأليفا.

أقوال العلماء فيه

قال عنه السخاوي في «الضوء اللامع» : كان من الأئمة الأعلام ، ومصابيح الظلام ، عالما بالفقه والتفسير ، وفقه الحديث ومعانيه.

وقال عنه أثير الدين بن حيان عند ما طالع كلامه على إعراب بانت سعاد : «ما ظننت أنه يوجد بالحجاز مثل هذا الرجل».

١٠

وقال عنه برهان الدين بن فرحون في «الديباج المذهب» : «.. كان كهفا لأهل السنة يذب عنهم ، ويناضل الأمراء والأشراف».

محنته ووفاته

كان ـ رحمه‌الله ـ من المكثرين للحج ، فقد حج خمسا وخمسين حجة ، وقد قال في آخر حجة له : هذه حجة الوداع ، فلما أحس بالمرض أمر بحفر قبره في بقعة مخصوصة ، وأوصى أن يعتق عند قبره عبيد ، وأن يتصدق على الفقراء بصدقة واسعة ، وأوقف أوقافا كثيرة على الفقراء.

وقد تسبب وقوفه في وجه الشيعة الإمامية وإنهاء سلطتهم القضائية ووقوفه ضدهم ، أن رصد في السّحر بطريق الحرم فطعن طعنة أريد بها قتله ، فصرف الله عنه شرها وعافاه منها ، وقد صور معاناته من تلك الطعنة في آخر هذا الكتاب بقصيدة مؤثرة.

وفي يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر سنة تسع وستين وسبعمائة توفي رحمه‌الله ودفن بالبقيع.

١١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة المؤلف

الحمد لله الذي أذلّ بالعلم رقاب أهل الجهل ، وكسر بصدمته كلّ بارد الشّكل سخيف العقل ، وجعل اليد العليا لمن اتّبع هدي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرّف وكرم ، أحمده على ما خوّل من النّعم ، ودفع من النّقم ، وأصلّي على خير أنبيائه صلاة دائمة بدوامه ، كفيلة بفضله وإنعامه. وبعد ؛

فإنّ الله تعالى رفع أهل العلم بما علّمهم ، وشرّفهم بما وهبهم ، من معرفة كتابه وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثمّ عظّم لهم الأجر بما سلّط عليهم من جهلة النّاس ، نعوذ بالله من الوسواس الخنّاس ، تجدهم يحرصون على هضم جانب العلماء ولو تمكنوا لأبادوهم عن آخرهم بسعيهم عليهم وتوقّع هلاكهم ، كلّ ذلك لأجل قيامهم عليهم بالحقّ عند خلافهم الشرع ، وما هذه إلا بلية ، وفتنة جاهلية ، قدّرها الله تعالى على العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.

قال عليّ رضي‌الله‌عنه :

كلّ امرئ قدره ما كان يحسنه

وللرّجال على الأفعال أسماء

وضدّ كلّ امرئ ما كان يجهله

والجاهلون لأهل العلم أعداء

في أبيات له رضي‌الله‌عنه.

هذا في زمانه ، ولا شكّ أنّ زمانه خير من زماننا ، ومن زمان من قبلنا ، لكنّ جهل زماننا مركب من جهلين : يجهلون ، ويجهلون أنّهم يجهلون.

إذا كنت لا تدري ولم تك بالذي

تسائل ذا علم فياضيعة العمر

ومن أعظم الأشياء أنّك جاهل

وأنّك لا تدري بأنك لا تدري

١٢

تراهم لباس الفضلاء يلبسون ، وبالحدس والتخمين يفتون ، ويقولون ما لا يفعلون ، (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩]؟!.

واعلم ـ أرشدنا الله وإياك ـ أنّ من سعى على العلماء بجهل وعناد ليخمل ذكرهم ، ويسقط كلمتهم وأمرهم ونهيهم ، فهو بلا شكّ إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان ، ويكفيه ذلك عند الله هوان ، وأمّا من ظنّ في نفسه أهلية الأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر ـ ولم يره الناس لذلك أهلا ـ فلا يترك قوله أصلا ، حتى يظهر حجته ، ويبدي صفحته ، فإمّا أعذر فنجا ، وإما أسره الحقّ فارتدى ، وما أحقّه بالتعزير والهوان الشديد.

قال مالك رحمه‌الله : لا خير فيمن يرى نفسه بحالة لا يراه النّاس لها أهلا.

وقال : ليس كلّ من أحبّ أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس ، بل حتى يشاور أهل الصّلاح والفضل ، وعلماء تشير إليه جهة المسجد ، فإن رأوه أهلا لذلك جلس ، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخا من أهل العلم أنّي أهل لذلك (١).

ولما بلغني عن بعض المتعصّبة من المتفقّهة ، وعن جماعة من أهل الشّرّ متعددة ، إنكارهم وضع حجر أو أحجار بالمسجد الشريف وضعت علما على موضع حاكم ، أو مفت ، أو عالم ولم أر معه صوابا ، ولا كان لفضوله يستحق جوابا ، أردت أن أبدي ما عندي في ذلك.

وما ذكره الرّواة عن الإمام مالك رضي‌الله‌عنه ، ليكون عدّة لأهل العلم إذا عوندوا ، وحجة لهم إذا بوحثوا ، وأضيف إلى ذلك شيئا من أحوال من كنت في زمانه من المشايخ الصلحاء ، والأكابر العلماء ، والخدام الأرقّاء ، وأسمي من حضرني اسمه ، وشيئا من كراماته ليحيى بها ذكره ، وينشر بها علمه ، وألحق بذلك أشياء حسنة من تاريخ من كان قبلنا من الثقات يرتاح إليها من سمع لها ، ولم يقف على صحة نقلها ، فيجدها هنا وعسى أن يقف على ذلك منصف ، فيتّصف بأخلاقهم السّنية ، ويتأدّب بآدابهم العلية.

__________________

(١) «ترتيب المدارك» ١٢٧ ؛ «الديباج المذهب» ص ٢١.

١٣

قال علماؤنا رضي‌الله‌عنهم : يستحبّ اتّخاذ موضع من المسجد للقاضي والعالم والمفتي ، حتى إليهم ينتهي المستفتي ، وبذلك قال علماء الحنفية.

قال مؤلف «الاختيار في شرح المختار» : ويجلس للقضاء جلوسا ظاهرا في المسجد ؛ لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفصل بين الخصوم في المسجد ، وكذا الخلفاء الراشدون من بعده ، ودكّة عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه في مسجد الكوفة إلى الآن معروفة.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما بنيت المساجد لذكر الله تعالى وللحكم» ، ولئلا يشتبه على الغرباء مكانه. انتهى كلامه.

ونقل القاضي عياض ـ رحمه‌الله تعالى ـ عن ابن المنذر أن مالك بن أنس كان له موضع في المسجد ، قال : وهو مكان عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، وهو المكان الذي كان يوضع فيه فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اعتكف ، كذا قال الأويسي.

ونقل أهل السّير (١) : أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اعتكف في رمضان طرح فراشه وراء أسطوانة التوبة ، وروى الطبرانيّ في «معجمه» عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما أنّ ذلك ممّا يلي القبلة يستند إليها.

وفي كتاب «إقليد الإقليد المؤدّي إلى النّظر السّديد» من كلام الشّيخ الإمام الحافظ أبي بكر محمد بن أحمد بن حمزة : إنّ اتّخاذ العلماء المصاطب والمنابر جائز في المسجد للتّعليم والتّذكير ، وهم أحقّ بها.

وممّا رويته بسندي إلى الزّبير بن بكّار قال : حدّثني محمد بن إسماعيل قال : رأيت طنفسة كانت لعبد الله بن الحسن بن الحسين تطرح قبالة المنبر على مرمر كان هناك ، قال : فحبس عبد الله بن الحسن سنة أربعين ومائة ، وبقيت الطّنفسة بعده أياما ، ثمّ رفعت ، ثمّ إن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنهم أيام كان واليا على

__________________

(١) انظر ذلك في «سبل الهدى والرشاد» ٨ / ٤٣٩ ، وانظر الحديث في «سنن ابن ماجه» ١ / ٥٦٤ (١٧٧٤).

١٤

المدينة عام خمسين ومائة ، عمل المرمر في جوانب المسجد حتى ألحقه بالسواري ، فسأله أبو مودود عبد العزيز بن أبي سليمان أن يدع له مصلّى ، فتركه.

قلت : وهذا كلّه يدلّ على أنّ التابعين فمن بعدهم كان لهم من المسجد أماكن يختصون بها ، ويحافظون على بقائها برسمها ؛ لتكون باسمهم ، لفضلهم وعلمهم.

وروينا بالسّند الصّحيح إلى ابن عمر رضي‌الله‌عنهما أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اعتكف يطرح له وسادة ، ويوضع له سرير من جريد فيه سعف يوضع له فيما بين الأسطوانة التي وجاه القبر وبين القناديل ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضطجع عليه.

قال أبو وجزة السّعدي ، وهو يذكر السّرير ، ويمتدح آل الزبير لقربهم منه محلا :

وإذا غدا آل الزّبير غدا النّدى

وإذا انتدوا فإليهم ما ينتدي

وإذا هموا راحوا فإنهم هموا

أهل السّرير وأهل صدر المسجد

قلت : وهذا يؤيّد ما نحن بصدده ، ويزيد في عدده ومدده.

قال القرطبي في تفسير «سورة المجادلة» : القاعد في موضع من المسجد إذا قام لغيره ، وكان قيامه في موضع مثل الأول يسمع فيه كلام الإمام لم يكره له ذلك ، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك ، لأنّ فيه تفويت حظّه من القرب ، وإذا أمر إنسان إنسانا أن يبكّر إلى الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره ، فإذا جاء الآمر يقوم المأمور من المكان.

وروي أنّ ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة فيجلس فيه ، فإذا جاء قام له منه. قال : وعلى هذا من أرسل بساطا أو سجادة تبسط له في موضع من المسجد.

روى مسلم (١) عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

__________________

(١) كتاب السلام «باب إذا قام من مجلسه ثم عاد» ٤ / ١٧١٥ (٣١ / ٢١٧٩).

١٥

«إذا قام أحدكم» وفي حديث أبي عوانة : «من قام من مجلسه ثمّ رجع إليه ، فهو أحقّ به».

قال علماؤنا : هذا يدلّ على صحة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه ، لأنّه إذا كان أولى به بعد قيامه فقبله أحرى وأولى ، وقد قيل : إنّ ذلك أولى ، وقد قيل : إنّ ذلك على النّدب ، لأنه موضع غير متملّك ، لكنّه يختصّ به إلى أن يفرغ غرضه منه ، فصار كأنه تملّك منفعته ، إذ قد منع غيره من مزاحمته.

وقال في «الإقليد» : وما في جوامع مصر من ذلك مما لم ينكره أهل العلم ، دليل على ذلك ، فأمّا ما وضع منها لطلب الأجرة كالمعلمين ، فلا يكونون أحقّ بها ، بل ينبغي إزالتها ، وكذلك إن وضع للعالم في الموضع حصير فهو أحق بذلك الموضع ، وإن تأخّر حتى سبقه غيره ، ويراعى في ذلك حقّ من يقصد العلماء فيجدهم في مكانهم.

وفي «الموطأ» (١) : أنّه كانت طنفسة توضع لعليّ (٢) بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه يوم الجمعة تحت الحائط الغربي ، فإذا غشيها الظّلّ ، يخرج عمر رضي‌الله‌عنه فيخطب ، وهذا يرسخ ما تقدّم.

قال الباجي ـ رحمه‌الله ـ في كلامه على حديث صفوان مع السّارق لردائه : قال ابن القاسم في «العتبية» : فمن سرق من بسط المسجد التي توضع فيه في رمضان ؛ فإن كان عندها صاحبها قطع.

قلت : وهذا يدلّ على أنّ السّلف كانوا يضعون البسط في المسجد في رمضان ، ليحفظوا بها أماكن صلاتهم.

قال القاضي أبو بكر في قوله عليه الصلاة والسلام : «منى مناخ من سبق إليه برحله» (٣) ، دليل على ما يفعله الصوفية اليوم من تقديم سجاجيدهم إلى المسجد ليحفظوا أماكنهم للصّلاة.

__________________

(١) باب وقت الجمعة ، ص ٢٣ ، حديث (١٣).

(٢) في النسخة المطبوعة : «لعقيل بن أبي طالب».

(٣) رواه الترمذي ٣ / ٢٢٨ «باب أن منى مناخ من سبق» (٨٨١) ، وأبو داود ٢ / ٥٢١ «باب تحريم حرم مكة» (٢٠١٩). ولم ترد في هذه الروايات لفظة : «برحله».

١٦

وعن مالك ـ رحمه‌الله ـ أنه كان يقول : إذا ارتسم موضع من المسجد برجل فهو أحقّ به. وعلى هذا أكثر العلماء.

قال صاحب «الإقليد» : وممّا يدل على ذلك العامود المخلّق الآن في المسجد النّبويّ ، وعنده كان جلوس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن كان له موضع من المسجد معلوم يجوز أن يخرق الصّفوف إليه إذا تأخّر.

ونقل القاضي عياض في «المدارك» أنّ سحنون إمام المالكية في زمانه لمّا ولي القضاء ، وكثر عليه الناس ، أمر ببناء بيت في المسجد لنفسه يحكم فيه ، فكان لا يحضر عنده إلا الخصمين ، ومن يشهد بينهما.

وقال في «الإكمال» عند قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قام أحدكم من المسجد ، ثمّ رجع إليه فهو أحقّ به إذا قام لحاجة» : اختلف في معناه؟

فقال محمد بن مسلمة : يحمل الحديث على مجلس العالم إذا قام لحاجته ، فهو أحقّ به ، واختلف في من رسم من العلماء والقراء موضعا من المسجد للتدريس والفتيا.

فحكي عن مالك رحمة الله عليه : أنّه أحقّ به إذا عرف به.

قلت : وممّا يقوي ذلك ما كان في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من أمر الصّفّة وأهلها ، واختصاصهم بها ، وكانت في أواخر المسجد.

وممّا يرسخ هذا وضع أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي‌الله‌عنهن أخبيتهن بالمسجد حين أردن الاعتكاف ، ولم ينكر عليهن صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضعها ، وإنما خشي عليهن الغيرة التي بينهن من الحرص على القرب منه ، فلا تسلم لهن نية الاعتكاف.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آلبرّ ترون بهنّ؟» (١) ، فمنعهن جميعهن.

ومما امتاز به العلماء ما نقله الشّيخ أبو الحسن اللخمي ، عن ابن حبيب ، قال : وأرخص مالك ـ رحمة الله عليه ـ للعالم (٢) إذا كان مجلسه في مؤخّر المسجد ، أو وسطه أن يصلّي في موضعه مع أصحابه وإن تقدّمتهم الصفوف.

قلت : وإنما قال ذلك مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير صفوف الرّجال أوّلها وشرّها

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاعتكاف ، البخاري ٢ / ٦٦ «باب اعتكاف النساء» (٢٠٣٣).

(٢) في (ب): «العالم أو المدرس».

١٧

آخرها» (١) ، لأنّه إذا تقدّم عن الجماعة وتركهم لم يسهل عليه تخليفهم ، وإن ذهب هو وهم إلى الصّفّ المتقدم قبل الصّلاة انقطع اشتغالهم ، وإن اشتغلوا فيه شوّشوا على المصلّين ، وإن تقدّموا بعد إقامة الصّلاة كان سعيهم من آخر المسجد إلى أوله عمل والإمام يصلّي ، وربما فاتتهم الركعة الأولى ، فأرخص لهم في ذلك.

ومما تترشح به مسألتنا ما ورد في «صحيح البخاري» في حديث الوليدة (٢) التي اتّهمت بالوشاح.

فقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : كان لها خباء في المسجد ، أو حفش ، وهو البيت الصّغير.

وفي البخاريّ (٣) أنّه عليه الصّلاة والسّلام ضرب لسعد خيمة في المسجد ، حين أصيب يوم الخندق في أكحله ليعوده من قرب.

ومن ذلك أيضا بناء المقصورة في أيام عبد الملك ، والمتولّي على عمارتها عمر بن عبد العزيز ، فاقتطع لها قطعة من قبلة المسجد لمّا أراد حفظ والي المدينة من الغيلة.

وقد ذكر ابن رشد في «البيان والتحصيل» (٤) أنّ مروان بن الحكم فعل معه كما فعل مع عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، فأراد اليماني قتله في صلاة الصبح ، فأمر بمقصورة يصلّي فيها ويتحصّن بها ، فلمّا دعت الضّرورة إلى قطع جانب المسجد جاز ذلك للحاجة إليه ، ثمّ لم تزل حتى احترقت بحريق المسجد في ليلة الجمعة أوّل شهر رمضان من سنة أربع وخمسين وستمائة ، ومنها بقيت أثرا إلى الآن (٥).

ومن ذلك بناء القبة التي في صحن المسجد الشريف ، عمّرها الإمام

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الصلاة ١ / ٣٢٦ (١٣٢).

(٢) انظر الحديث في كتاب الصلاة «باب نوم المرأة في المسجد» (٤٣٩).

(٣) كتاب الصلاة «باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم» (٤٦٣).

(٤) «البيان والتحصيل» ١ / ٢٩١.

(٥) يعني في عهد المؤلف.

١٨

الناصر لدين الله (١) لحفظ حواصل الحرم ، والمصحف الكريم العثماني ، وعدة صناديق كبار متقدمة التاريخ صنعت بعد الثلاثمائة ، وكانت عمارتها سنة ست وسبعين وخمسمائة ، وجميع ما فيها سالم إلى اليوم ، وقد سلمت من الحريق ببركة المصحف الكريم ، ولكونها متوسطة في المسجد ، ومن ذلك الدّكّة الخشب التي يبلّغ عليها المؤذّنون خلف الإمام.

ومما يشيد بناء هذه المسألة ويقوّي أركانها ، إباحة العلماء المالكيين التعزير في المسجد الشريف ، وإنّما ذلك تيسير للحكّام لئلا يتكلفوا الخروج عند إقامة الحدود ، مع العلم بما يجب للمسجد من التنزيه عما هو أقل من هذا ، مثل رفع الصّوت بالعلم ، بل أدنى من ذلك ، حتى قيل : لا توقد فيه النار ، لكنّهم راعوا المصلحة العامة ، ورأوا أنّ المسجد بني للشّرع وأهله ، ولم يبن لغيره.

ثم يرجع الكلام مع هذا الذي تصدّى للإنكار والإفتاء ، هلّا أنكر غير مجلس الحكام من مجالس لغيره نصبت ، ومتكآت خصّصت ، وبالفضّة بيضت ، ودكاك عند الأبواب ، ومواضع من المسجد محجزة ، وخلوات مبتدعة؟

لو تكلم في جميعها لساعده الخلق ، وشكره الحقّ ، بل تكلّم بالهوى ، ومن اتبع هواه فقد غوى. ثمّ إنّه لم ينكر الحجر المرآة الذي عن قريب وضع ، وأثبت في الحائط من داخل المسجد وجصص ، وهو من البدع المنكرة ، يستدعي شرورا متعددة ، ومنكرات متجددة ، ولا يسع ذكرها هنا لكثرة تعدادها.

ثمّ هذا الحجر الذي وقع فيه الكلام ، وضعه متقدّم ، وضع في زمن غير هذا الزمن ، فإن خفي عليه ذلك ، فليسأل عن ذلك من سبقه من أهل ذلك الزمان الذي هو خير الزمنين ، وأعدل القرنين ، وإنّما غيّر اسمه ، ورفع

__________________

(١) هو : الناصر لدين الله : أحمد أبو العباس بن المستضيء بأمر الله ؛ ولد سنة ٥٥٣ ه‍ ، وكانت فترة ولايته ٤٧ سنة ، وهو أول من كسى الكعبة ديباجا أسود. انظر ترجمته في «تاريخ الخلفاء» ص ٤١٣ ـ ٤٢٢.

١٩

علمه ، لمّا ذهب أهله ، ومن كان يجلس عنده ، ويستند إليه ، مثل القاضي سراج الدين (١) ، ومثل الشيخ عبد العزيز الجبرتي (٢) الذي كان للقرآن تاليا ، كان يجلس إليه إذا دخل المسجد سحرا فيرفع صوته بالقراءة بحسن نية ، وأداء حسن عن رويّة.

وإنّما العلة في هذا المنكر ، غمة من العلم وأهله ، وما وهبوا من بذله ونشره ، ورأى أنّ رفع أهل العلم عيب فيه ، وعلم على كونه ليس من أهله.

وفي مثل هذا أنشد بعضهم :

إذا محاسني اللّاتي أدلّ بها

صارت ذنوبا فقل لي كيف أعتذر

وأما أحقّ شيء بالإزالة ما أحدث بالمنارتين الشماليتين ، قدّم باباهما على بابيهما الأصليين ، وجعل ما بين البابين في كلّ منارة خلوة اقتطع بها جانب من المسجد كبير ، لا شكّ في تحريمه ووجوب تغييره ، وقد تساهل من كان قبلنا فزادوا على الحجرة الشريفة مقصورة كبيرة ، عملت وقاية من الشمس إذا غربت ، فكانت بدعة وضلالة يصلّي فيها الإمامية من الشيعة ، لأنها قطعت الصفوف ، واتّسمت بمن ذكر من الصنوف ، فغلبت المفسدة بها ، وندم على ذلك من وضعها.

ولقد كنت أسمع الشريف عزاز (٣) يقف على بابها ، ويؤذّن بأعلى صوته من غير خوف ولا خجل : (حيّ على خير عمل) ، وكانت مواطن تدريسهم وخلوة علمائهم ، حتى قيض الله لها من سعى فيها ، فأصبحت ليلة مخلعة أبوابها ، معوجّة أخشابها ، متّصلة صفوفها ، وأدخل بعضها في الحجرة الشريفة ، وجعل فيها الباب الشامي ، وكان في ذلك مع زيادة الرواقين الذين زادهما الملك الناصر جملة مصالح ودفع مفاسد ، فلذلك سكت أهل العلم ، ولم يعدوا ذلك من تحجير المسجد وتضييقه.

__________________

(١) هو : عمر بن أحمد بن الخضر بن ظافر القاضي سراج الدين ؛ ولد سنة ٦٣٥ ، وكان فقيها فاضلا صالحا ، تولى الخطابة بالمدينة أربعين سنة ، توفي بمصر سنة ٧٢٦ ه‍. انظر ترجمه في : «التحفة اللطيفة» (٢ / ٣٢٨) ، «الدرر الكامنة» (٣ / ١٤٩).

(٢) ترجمته في : «التحفة اللطيفة» (٢ / ١٩١) ، «المغانم المطابة» ، الورقة ٢٥٢ / أ.

(٣) في «أ» : «عزار».

٢٠