همع الهوامع - ج ٢

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

همع الهوامع - ج ٢

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٧

١
٢

٣
٤

الكتاب الثاني :

في الفضلات

المفعول به ، التحذير ، الإغراء ، الاختصاص ، المنادى ، المندوب ، الاستغاثة ، الترخيم ، المفعول المطلق ، المفعول له ، المفعول فيه ، المفعول معه ، المستثنى ، الحال ، التمييز ، نواصب المضارع.

(ص) الكتاب الثاني في الفضلات ، المفعول به : اختلف في ناصبه فالبصرية عامل الفاعل ، وقيل : الفاعل ، وقيل : هما ، وقيل : كونه مفعولا ، وقيل : ينصب الكل تشبيها به ، وسمع رفعه ونصب الفاعل ، ورفعهما ، ونصبهما ، وهو الواقع عليه الفعل.

(ش) بدأت من الفضلات بالمفعول به ، وقد حده صاحب «المفصل» وغيره بأنه ما وقع عليه فعل الفاعل ، والمراد بالوقوع التعلق ؛ ليدخل نحو : أوجدت ضربا ، وأحدثت قتلا ، وما ضربت زيدا.

وقد اختلف في ناصب المفعول به ، فالبصريون على أنه عامل الفاعل الفعل أو شبهه ، وقال هشام من الكوفيين : هو الفاعل ، وقال الفراء : هو الفعل والفاعل معا ، وقال خلف : معنى المفعولية ، أي : كونه مفعولا ، كما قال في الفاعل : إن عامله كونه فاعلا ، وقولي : «وقيل : ينصب الكل تشبيها به» أشرت إلى ما ذكره أبو حيان في شرح التسهيل أن انقسام المفعول إلى مفعول مطلق ومفعول به وله وفيه ومعه هو مذهب البصريين ، وأما الكوفيون فزعموا أن الفعل إنما له مفعول واحد وهو المفعول به ، وباقيها عندهم ليس شيء منها مفعولا وإنما مشبه بالمفعول.

وسمع رفع المفعول به ونصب الفاعل حكوا : خرق الثوب المسمار ، وكسر الزجاج الحجر ، وقال الشاعر :

٥

٦٤١ ـ مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت

نجران أو بلغت سوءاتهم هجر

والسوءات هي البالغة.

وسمع أيضا رفعهما قال :

٦٤٢ ـ كيف من صاد عقعقان وبوم

ونصبهما قال :

٦٤٣ ـ قد سالم الحيّات منه القدما

والمبيح لذلك كله فهم المعنى وعدم الإلباس ، ولا يقاس على شيء من ذلك.

(ص) ويجب تقديمه إن تضمن شرطا أو استفهاما ، خلافا للكوفية فيما قصد به استثبات ، أو أضيف إليهما ، أو نصبه فاصلا جواب أما ، أو أمر فيه الفاء ، أو كان معمول مفسر الجواب ، أو كم الخبرية إلا في لغية ، وتأخيره إن كان أنّ أو أن ، أو مع فعل تعجبي وموصول بحرف ، أو جازم لا إن قدم عليه ، ولام الابتداء ، أو قسم ، أو قد ، أو سوف ، أو قلما ، أو ربما ، ونحو : ما زيد عمرا إلا يضرب.

قال الرندي : وضرب القوم بعضهم بعضا ، وقوم مفعول الأمر والنهي ، ويجوز فيما عدا ذلك ، وإذا قدم أفاد الاختصاص خلافا لابن الحاجب ما لم يكن مستحقا ، والمختار أنه غير الحصر وفاقا للسبكي.

(ش) الأصل في المفعول به التأخر عن الفعل والفاعل ، وقد يقدم على الفاعل جوازا

__________________

٦٤١ ـ البيت من البسيط ، وهو للأخطل في ديوانه ص ١٧٨ ، وتخليص الشواهد ص ٢٤٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٧٢ ، واللسان والتاج (نجر) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٣٣٧ ، ورصف المباني ص ٣٩٠ ، وشرح الأشموني ١ / ١٧٦ ، ٢ / ٧١ ، والمحتسب ٢ / ١١٨ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٩٩ ، وأمالي ابن الشجري ١ / ٣٦٧ ، انظر المعجم المفصل ١ / ٣٥٣.

٦٤٢ ـ البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٩٧٦ ، ومغني اللبيب ٢ / ٦٩٩ ، انظر المعجم المفصل ٢ / ٨٧٤.

٦٤٣ ـ الرجز للعجاج في ملحق ديوانه ٢ / ٣٣٣ ، وجمهرة اللغة ص ١١٣٩ ، وله أو لأبي حيان الفقعسي أو لمساور العبسي أو للدبيري أو لعبد بني عبس في الخزانة ١ / ٤١١ ، ٤١٥ ، ٤١٦ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٨١ ، ولأحد هؤلاء أو للتدمري في شرح شواهد المغني ٢ / ٩٧٣ ، ولمساور العبسي في اللسان (ضمز) ، ولعبد بن عبس في الكتاب ١ / ٢٨٧ ، انظر المعجم المفصل ٣ / ١٢٥٥.

٦

ووجوبا كما تقدم في بابه ، وقد يقدم على الفعل جوازا نحو : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) [الأعراف : ٣٠] ، (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) [البقرة : ٨٧].

أوجه وجوب تقديم المفعول به على الفعل :

وقد يجب تقديمه عليه وذلك في صور :

أحدها : إذا تضمن شرطا نحو : من تكرم أكرمه ، وأيهم تضرب أضربه.

ثانيها : إذا أضيف إلى شرط نحو : غلام من تضرب أضرب.

ثالثها : إذا تضمن استفهاما نحو : من رأيت ، وأيهم لقيت ، ومتى قدمت ، وأين أقمت ، سواء كان في ابتداء الاستفهام أم قصد به الاستثبات ، هذا مذهب البصريين ، ووافقهم الكوفيون في الأول ، وجوزوا في الثاني ألا يلزم الصدر لما حكوا من قولهم : (ضرب من منا) و (تفعل ما ذا) و (تصنع ما ذا) و (إن أين الماء والعشب) جوابا لمن قال : إن في موضع كذا ماء وعشبا ، والبصريون حكموا بشذوذ ذلك.

رابعها : إذا أضيف إلى استفهام نحو : غلام من رأيت.

خامسها : إذا نصبه جواب (أما) نحو : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) [الضحى : ٩].

سادسها : إذا نصبه فعل أمر دخلت عليه الفاء نحو : زيدا فاضرب.

سابعها : إذا كان معمول (كم) الخبرية نحو : كم غلام ملكت ، أي : كثيرا من الغلمان ملكت ، وحكى الأخفش أنه يجوز تأخيره عن الفاعل في لغة رديئة نحو : ملكت كم غلام.

أوجه وجوب تأخير المفعول به عن الفعل :

وقد يمنع تقديمه عليه وذلك في صور :

أحدها : أن يكون أن المشددة أو المخففة نحو : عرفت أنّك أو أنك منطلق ، قال أبو حيان : وقياس ما أجازه الفراء من الابتداء ب : (أن) المشددة ، وما أجازه هشام من أن أن زيدا قائم حقه جواز التقديم.

ثانيها : أن يكون مع فعل تعجبي نحو : ما أحسن زيدا.

ثالثها : أن يكون مع فعل موصول بحرف نحو : من البر أن تكف لسانك.

٧

رابعها : أن يكون مع فعل موصول بجازم نحو : لم أضرب زيدا ، فلا يقدم على الفعل فاصلا بينه وبين الجازم ، فإن قدم على الجازم جاز.

خامسها إلى ثامنها : أن يكون مع فعل موصول بلام الابتداء ، أو لام القسم ، أو قد ، أو سوف ، نحو : ليضرب زيد عمرا ، والله لأضربن زيدا ، والله قد ضربت زيدا ، سوف أضرب زيدا.

تاسعها : أن يكون مع فعل مؤكد بالنون ، فلا يقال : زيدا اضربن ، قال الرضي : ولعل ذلك لكون تقدم المنصوب على الفعل دليلا على أن الفعل غير مهم ، وإلا لم يؤخره من مرتبته ، وتوكيد الفعل يؤذن بكونه مهما فيتنافران في الظاهر ، وإذا قدم المفعول أفاد الاختصاص عند الجمهور نحو : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] ، أي : لا غيرك (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) [الزمر : ٦٦] ، أي : لا غيره ، وخالف في ذلك ابن الحاجب ووافقه أبو حيان فقالا : الاختصاص الذي يتوهمه كثير من الناس من تقدم المفعول وهم ، وعلى الأول شرطه أن لا يكون التقديم مستحقا كالصور المبدوء بها ، والمشهور أن الاختصاص والحصر مترادفان ، واختار السبكي التفرقة بينهما وأن الحصر نفي غير المذكور وإثبات المذكور ، والاختصاص قصر الخاص من جهة خصوصه من غير تعرض لنفي وغيره ، وهاتان المسألتان من علم البيان لا النحو فليطلب بسط الكلام فيهما من كتابنا شرح «ألفية المعاني» وكتاب «الإتقان».

حذف المفعول به :

(ص) ويحذف المفعول لا نائب ومتعجب منه وجواب ومحصور ومحذوف عامله حتما ، وكذا نحو : زيد ضربته ، خلافا للكوفية وينوى إلا لتضمين الفعل اللزوم أو الإيذان بالتعميم أو غرض حذف الفاعل ومتى حذف بعد لو فهو جوابها غالبا ، ويجر بالباء الزائدة كثيرا مفعول عرفت ونحوه نحو : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) [البقرة : ١٩٥] ، وقليلا في ذي اثنين ونحو : «كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكل ما سمع».

(ش) فيه مسائل :

الأولى : الأصل جواز حذف المفعول به ؛ لأنه فضلة ويمنع في صور :

أحدها : أن يكون نائبا عن الفاعل ؛ لأنه صار عمدة كالفاعل.

ثانيها : أن يكون متعجبا منه نحو : ما أحسن زيدا.

٨

ثالثها : أن يكون مجابا به ك : زيدا لمن قال : من رأيت ؛ إذ لو حذف لم يحصل جواب.

رابعها : أن يكون محصورا نحو : ما ضربت إلا زيدا ؛ إذ لو حذف لأفهم نفي الضرب مطلقا والمقصود نفيه مقيدا.

خامسها : أن يكون عامله حذف نحو : خيرا لنا وشرا لعدونا ؛ لئلا يلزم الإجحاف.

سادسها : إذا كان المبتدأ غير (كل) ، والعائد المفعول نحو : زيد ضربته ، فلا يقال اختيارا : زيد ضربت بحذف العائد ورفع زيد ، بل يجب عند الحذف نصب زيد ، قال الصفار : وأجاز سيبويه في الشعر (زيد ضربت) ، ومنع ذلك الكسائي والفراء وأصحاب سيبويه ، حكي عن أبي العباس أنه قال : لا يضطر شاعر إلى هذا ؛ لأن وزن المرفوع والمنصوب واحد.

ونقل عن هشام أنه أجاز زيد ضربت في الاختيار ، هكذا نقل أبو حيان ، ونقل ابن مالك عن البصريين الجواز في الاختيار ، وعن الكوفيين المنع إلا في الشعر ، والله أعلم.

الثانية : إذا حذف المفعول نوي لدليل عليه نحو : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] ، أي : لما يريده ، وقد لا ينوى إما لتضمين الفعل المتعدي معنى يقتضي اللزوم ، كما يضمن اللازم معنى يقتضي التعدية كتضمن (أصلح) معنى (الطف) في قوله تعالى : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) [الأحقاف : ١٥] ، أي : الطف بي فيهم ، وإما للإيذان بالتعميم نحو : (يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] يعطي ويمنع ، ويصل ويقطع ، وإما لبعض الأغراض السابقة في حذف الفاعل كالإيجاز في (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) [التغابن ١٦] ، والمشاكلة في (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) [النجم ٤٢ ـ ٤٣] ، والعلم في (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة : ٢٤] ، والجهل في قولك : ولدت فلانة وأنت لا تدري ما ولدت ، وعدم قصد التعيين في (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً) [الفرقان : ١٩] ، والتعظيم في (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] ، والخوف في أبغضت في الله ولا تذكر المبغوض خوفا منه.

الثالثة : إذا حذف المفعول بعد (لو) فهو المذكور في جوابها غالبا نحو : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) [يونس : ٩٩] ، أي : ولو شاء إيمان من في الأرض ، (لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) [الرعد : ٣١] ، أي : لو يشاء هدى الناس ، وقد لا يكون كذلك

٩

كقوله تعالى : (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [فصلت : ١٤] فإن المعنى لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة بقرينة السياق.

الرابعة : تزاد الباء كثيرا في مفعول عرفت ونحوه ، ومما زيدت فيه الباء في المفعول نحو : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] ، (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [مريم : ٢٥] ، (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) [الحج : ١٥] ، (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) [الحج : ٢٥] ، أي : أيديكم ، وجذع النخلة ، وسببا ، وإلحادا.

وقلّت زيادتها في مفعول ما يتعدّى لاثنين كقوله :

٦٤٤ ـ تسقي الضّجيع ببارد بسّام

وقد زيدت في مفعول كفى المتعدية لواحد ، ومنه الحديث : «كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكلّ ما سمع» ، وقوله :

٦٤٥ ـ فكفى بنا فضلا على من غيرنا

حبّ النّبيّ محمّد إيّانا

تعدّد المفعول به :

(ص) مسألة : إذا تعدد مفعول في غير ظن فالأصل تقديم فاعل معنى ، وما لا يتعدى بحرف ، ومن ثم جاز خلافا لهشام أعطيت درهمه زيدا ، ودرهمه أعطيت زيدا ، وثالثها يمنع الأول دون الثاني ، وامتنع خلافا للكوفية أعطيت مالكه الغلام ، ويجب ويمنع لما مر.

(ش) إذا تعدد المفعول فإن كان في باب ظن وأعلم فمعلوم أن المبتدأ فيهما مقدم على الخبر ، والفاعل في باب أعلم مقدم على الاثنين ، وإن كان في غيره كباب أعطى واختار فالأصل تقديم ما هو فاعل معنى في الأول وما يتعدى إليه الفعل بنفسه في الثاني

__________________

٦٤٤ ـ البيت من الكامل ، وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص ١٠٧ ، والأغاني ٤ / ١٣٧ ، ٢١٥ ، والجنى الداني ص ٥١ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٣٢ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ٢٠٠ ، ومغني اللبيب ١ / ١٠٩ ، انظر المعجم المفصل ٢ / ٩٠٠.

٦٤٥ ـ البيت من الكامل ، وهو لكعب بن مالك في ديوانه ص ٢٨٩ ، والخزانة ٦ / ١٢٠ ، ١٢٣ ، ١٢٨ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٢٥ ، ولبشير بن عبد الرحمن في اللسان مادة (منن) ، ولحسان بن ثابت في الأزهية ص ١٠١ ، ولكعب أو لحسان أو لبشير بن عبد الرحمن في شرح شواهد المغني ١ / ٣٣٧ ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٨٦ ، انظر المعجم المفصل ٢ / ٩٧١.

١٠

على ما ليس كذلك ؛ لأنه أقوى ، فالأصل في أعطيت زيدا درهما ، واخترت زيدا الرجال تقديم زيد ؛ لأنه آخذ الدرهم ومختار من الرجال ، ويتفرع على ذلك جواز تقديم المفعول الثاني إذا اتصل به ضمير يعود على الأول إما عليه فقط نحو : أعطيت درهمه زيدا ، أو على العامل أيضا نحو : درهمه أعطيت زيدا ؛ لعود الضمير على متقدم في الرتبة وإن تأخر في اللفظ ، فهو نظير ضرب غلامه زيد ، والجواز في الصورتين مذهب أكثر البصريين ، خلافا لهشام في منعه لهما ولبعض البصريين في منعه الأولى دون الثانية.

قال أبو حيان : وبنى منعه على أن المفعولين في رتبة واحدة بعد الفاعل ، فأيهما تقدم فذلك مكانه ، بخلاف ما إذا قدم على الفعل فإن النية به التأخير ، وحينئذ ينوى تقديره بعد المفعول الذي يعود عليه الضمير.

ومما يفرع على الأصل أيضا امتناع أعطيت مالكه الغلام ؛ لعود الضمير على مؤخر لفظا ورتبة ؛ لأن المالك هو الآخذ ، فهو نظير ضرب غلامه زيد ، والكوفيون جوزوا ذلك على تقدير تناول الفعل الغلام أولا ، فالأول عندهم هو الذي يقدر الفعل آخذا له قبل صاحبه.

وقد يخرج عن هذا الأصل فيقال : أعطيت درهما زيدا ، واخترت الرجال زيدا ، بتأخير ما حقه التقديم ، وقد يجب التزام الأصل في نحو : أعطيت زيدا عمرا ؛ لأنه لو قدم لم يدر أزيد آخذ أم مأخوذ ، وقد يجب الخروج عنه في نحو : أعطيت الغلام مالكه ؛ ليعود الضمير على متقدم ، ويؤخر المحصور منهما نحو : ما أعطيت زيدا إلا درهما ، وما أعطيت درهما إلا زيدا.

أوجه حذف ناصب المفعول به جوازا ووجوبا :

(ص) مسألة : يحذف عامله قياسا ؛ لقرينة ، ويجب سماعا في مثل وشبهه لا إن لم يكثر استعماله ، خلافا للزمخشري ك : (الكلاب على البقر) ، (انْتَهُوا خَيْراً) [النساء : ١٧١] ، (أحشفا وسوء كيلة) ، (من أنت زيدا) ، (كل شيء ولا هذا) ، (هذا ولا زعماتك) إن تأتني فأهل الليل وأهل النهار ، ديار الأحباب عذيرك ، وكذا (مرحبا) وأهلا وسهلا خبرا لا دعاء فمن باب المصدر ، وقيل : مصدر مطلقا ، وقيل : يجعل المنصوب مبتدأ أو خبرا ، فيلزم حذف متمه ، والأصح أن منه (سبوحا) و (قدوسا) على النصب.

١١

(ش) يجوز حذف ناصب المفعول به قياسا ؛ لقرينة لفظية أو معنوية نحو : (زيدا) لمن قال : من ضربت ، أي : ضربت ، ولمن شرع في إعطاء ، أي : أعط ، و (خيرا) لمن ذكر رؤيا ، أي : رأيت ، و (حديثك) لمن قطع حديثه ، أي : تمم ، و (مكة) لمن تأهب للحج ، أي : تريد أو أراد ، و (القرطاس) لمن سدد سهما ، أي : تصيب.

ومعنى كونه قياسا أنه لا يقتصر فيه على مورد السماع ، ومنه في القرآن (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [النحل : ٣٠] ، أي : أنزل ، (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [البقرة : ١٣٥] ، أي : نتبع.

ويجب الحذف سماعا في الأمثال التي جرت كذلك ، فلا تغيّر كقولهم : (كلّ شيء ولا شتيمة حر) ، أي : ائت ولا ترتكب ، و (هذا ولا زعماتك) ، أي : هذا هو الحق ولا أتوهم ، وقيل : التقدير ولا أزعم ، وكذا ما أشبه المثل في كثر الاستعمال نحو : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) [النساء : ١٧١] ، أي : وأتوا ، بخلاف ما لم يكثر استعماله نحو : انته أمرا قاصدا ، أي : وأت ، فإنه لا يجب إضمار فعل.

قال أبو حيان : وقد غفل الزمخشري عن هذا فجعل (انْتَهُوا خَيْراً) [النساء : ١٧١] منه ، وانته أمرا قاصدا سواء في جواب إضمار الفعل ، وقد نص سيبويه على أنه لا يجب إضمار الفعل في (انته أمرا قاصدا) ، وعلل ذلك بأنه ليس في كثرة الاستعمال مثل انته خيرا لك ، وقولهم : (الكلاب على البقر) بإضمار (أرسل) ، ومعناه خلّ بين الناس جميعا خيرهم وشرهم ، واغتنم أنت طريق السلامة فاسلكها.

وقولهم : (أحشفا وسوء كيلة) (١) ، مثل لمن يظلم الناس من وجهين ، ومعناه تعطيني حشفا وتسيء الكيل ، وأما (من أنت زيدا) فأصله أن رجلا غير معروف بفضل تسمى بزيد وكان زيد مشهورا بالفضل والشجاعة فلما تسمى الرجل المجهول باسم ذي الفضل دفع عن ذلك ، وقيل : له من أنت زيدا على جهة الإنكار عليه ، كأنه قال : من أنت تذكر زيدا ، أو ذاكرا زيدا ، وفي قولهم : من أنت تحقير للمخاطب ، وقد يقال لمن ليس اسمه زيدا : (من أنت زيدا) على المثل الجاري.

وأما (كل شيء ولا هذا) فمعناه ائت كل شيء ولا تأت هذا ، أو اقرب كل شيء ولا تقرب هذا.

__________________

(١) الكيلة فعلة من الكيل ، وهي تدل على الهيئة والحالة ، نحو : الركبة ، والحشف أردأ التمر ، أي : أتجمع حشفا وسوء كيل ، يضرب لمن يجمع بين خصلتين مكروهتين.

١٢

وأما (هذا ولا زعماتك) فمعناه أن المخاطب كان يزعم زعمات فلما ظهر خلاف قوله قيل له هذا الكلام ، وهذا مبتدأ خبره محذوف ، أي : هذا الحق ولا يختص بهذا اللفظ ، بل تقول : أقول كذا ولا زعماتك ، وأعلم كذا ولا زعماتك.

وأما (إن تأتني فأهل الليل وأهل النهار) فالمعنى تجد من يقوم لك مقام أهلك في الليل والنهار ، وهو مما يجري مجرى المثل في كثرة الاستعمال.

وأما (ديار الأحباب) فمعناه اذكر ، قال أبو حيان : إن أراد ابن مالك هذا اللفظ بخصوصه فيحتاج إلى سماع ، ولم نقف عليه ، وإن أراد لفظ (ديار) مضافا إلى اسم المحبوبة فكثير ، قال ذو الرمة :

٦٤٦ ـ ديار ميّة إذ ميّ تساعفنا

وقال طرفة :

٦٤٧ ـ ديار سليمى ؛ إذ تصيدك بالمنى

وفي «البسيط» ما نصه : ومنها ذكر الدار فإنه كثر عندهم فاستعملوه بحذف الفاعل كقوله : (ديار مية) ، أي : اذكر ، ومثله ذكر الأيام والمعاهد والدمن ؛ لأنه يستعمل عندهم كثيرا ، وأما عذيرك فمعناه أحضر عاذرك قال :

٦٤٨ ـ أريد حياته ويريد قتلي

عذيرك من خليل من مراد

وأما مرحبا وأهلا وسهلا فالمعنى صادفت رحبا وسعة ، ومن يقوم لك مقام الأهل ، وسهلا ، أي : لينا وخفضا لا حزنا ، وهذا يستعمل خبرا لمن قصدك ، ودعاء للمسافر ، والأول هو المراد هنا ، وأما الثاني : فتقديره لقّاك الله ذلك ، وقدره سيبويه : رحبت بلادك

__________________

٦٤٦ ـ البيت من البسيط ، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ٢٣ ، والخزانة ٢ / ٣٦٥ ، ٣٣٩ ، ٣٤٠ ، ٣٤٥ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٤٨ ، والكتاب ١ / ٢٨٠ ، ٢ / ٢٤٧ ، واللسان مادة (عجم) ، ونوادر أبي زيد ص ٣٢ ، وأمالي ابن الشجري ٢ / ٩٠ ، انظر المعجم المفصل ١ / ٦٤.

٦٤٧ ـ البيت من الطويل ، وهو لطرفة بن العبد في ديوانه ص ٧٦ ، انظر المعجم المفصل ٢ / ٦٩٣.

٦٤٨ ـ البيت من الوافر ، وهو لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص ١٠٧ ، ١١١ ، والأغاني ١٥ / ٢٢٧ ، وحماسة البحتري ص ٧٤ ، والحماسة الشجرية ١ / ٤٠ ، والخزانة ٦ / ٣٦١ ، ١٠ / ٢١٠ ، والسمط ص ٦٣ ، ١٨٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٩٥ ، والكتاب ١ / ٢٧٦ ، واللسان والتاج وعمدة الحفاظ مادة (عذر) ، ومعجم الشعراء ص ١٦ ، انظر المعجم المفصل ١ / ٢٣٦ ، وفي نسخة (حباءة) بدلا من (حياته).

١٣

وأهلت ، قال أبو حيان : وإنما قدره بفعل ؛ لأن الدعاء إنما يكون بالفعل ، فقدره بفعل من لفظ الشيء المدعو به ، فعلى تقدير سيبويه يكون انتصاب (مرحبا) على المصدر لا على المفعول به ، وكذلك (أهلا) قال : وهذا الذي قدره سيبويه إنما هو إذا استعمل دعاء ، أما إذا استعمل خبرا على تقدير صادفت وأصبت فيكون مفعولا به لا مصدرا.

قال : ووهم القواس فنسب لسيبويه أن (مرحبا) مفعول به ، أي : صادفت رحبا لا ضيقا ، وأن مذهب غيره أنه مصدر بدل عن اللفظ بفعله ، ومن العرب من يرفع المنصوب في هذه الأمثلة ونحوها على الابتداء أو الخبر ، فيلزم حذف الجزء الآخر كما لزمه إضمار الناصب نحو : كل شيء ، أي : أم بمعنى قصد ، وديار الأحباب ، أي : تلك ، و (كلاهما وتمرا) ، أي : لي وزدني ، ومن أنت وزيدا ، أي : ذكرك أو كلامك ، وكذا البواقي قال :

٦٤٩ ـ ألا مرحب واديك غير مضيّق

أي : ألا هذا مرحب ، أو لك مرحب ، وأنشد سيبويه :

٦٥٠ ـ وبالسّهب ميمون النّقيبة قوله

لملتمس المعروف : أهل ومرحب

وأما سبوح قدوس فيقالان بالرفع عند سماع من يذكر الله على إضمار (مذكورك) ، فليسا بمصدرين ، وبالنصب على إضمار ذكرت سبوحا قدوسا ، أي : أهل ذلك فاختلف على هذا الفعل الناصب واجب الإضمار أو جائزه ، فقال الشلوبين وجماعة بالأول ، وآخرون بالثاني.

التحذير :

(ص) ومنه ما نصب تحذيرا إن كان (إيا) ، أو مكررا ، أو متعاطفا ، وإلا فيجوز إظهاره ، وأجازه قوم مع المكرر.

ولا يحذف عاطف بعد (إيا) إلا بنصب المحذوف بإضمار آخر ، أو جره بمن ،

__________________

٦٤٩ ـ البيت من الطويل ، وهو لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص ١٤١ ، ٢٨٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٠١ ، والكتاب ١ / ٢٩٦ ، وبلا نسبة في المقتضب ٣ / ٢١٩ ، انظر المعجم المفصل ٢ / ٦١٥.

٦٥٠ ـ البيت من الطويل ، وهو لطفيل الغنوي في ديوانه ص ٣٨ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٨٤ ، وشرح المفصل ٢ / ٢٩ ، والكتاب ١ / ٢٩٦ ، وبلا نسبة في المقتضب ٣ / ٢١٩ ، والمنصف ٣ / ٣٧ ، انظر المعجم المفصل ١ / ٥٩.

١٤

ويكفي تقديره في أن تفعل ، ويعطف المحذور على إياي وإيانا وعلى إياك وإخوته ، ونفسك وشبهه من المخاطب ، ويضمر ما يليق ك : (نح) واتق ، وقيل : لكل ناصب ، ولا يحذر من ظاهر وضمير غائب إلا معطوفا ، والضمير هنا مؤكدا ومعطوفا عليه كغيره.

(ش) من المنصوب على المفعول به بإضمار فعل لا يظهر باب التحذير ، وهو : إلزام المخاطب الاحتراز من مكروه ب : (إيّا) أو ما جرى مجراه ، وإنما يلزم إضماره مع (إيا) مطلقا نحو : إياك والشر فالناصب ل : (إيا) فعل مضمر لا يجوز إظهاره ، ومع المكرر نحو : الأسد الأسد ؛ لأن أحد الاسمين قام مقام الفاعل ، ومع العاطف نحو : (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) [الشمس : ١٣] استغناء بذكر المحذر منه عن ذكر المحذر ، وما عدا هذه الصور الثلاث يجوز فيه الإظهار ، وجوز بعضهم إظهار العامل مع المكرر حكاه في «البسيط» ، وقال الجزولي : يقبح فيه الإظهار ولا يمتنع ، ويمتنع عند قوم ، والشائع في التحذير أن يراد به المخاطب ، فإذا حذر ب : (إيا) اتصل بضميره وعطف عليه المحذور نحو : إياك أو إياك أو إياكما أو إياكم أو إياكن والشر ، ويضمر فعل أمر يليق بالحال نحو : اتق وباعد ونح وخل ودع وما أشبه ذلك.

وتحذر نفسك وشبهه من المضاف إلى المخاطب معطوفا عليه المحذور أيضا بإضمار ما ذكر نحو : رأسك والحائط ، ورجلك والحجر ، وعينك والنظر إلى ما لا يحل ، وفمك والحرام ، وكونه معطوفا مذهب السيرافي وجماعة ، وأجازه ابن عصفور وابن مالك ، وذهب ابن طاهر وابن خروف إلى أن الثاني منصوب بفعل آخر مضمر والتقدير إياك باعد من الشر واحذر الشر ، فيكون الكلام جملتين ، وعلى الأول يكون جملة واحدة والتقدير إياك باعد من الشر والشر منك ، فكل منهما مباعد عن الآخر.

ولا يحذف العاطف بعد (إيا) إلا والمحذور منصوب بناصب آخر مضمر أو مجرور ب : (من) ، نحو : إياك الشر فلا يجوز أن يكون الشر منصوبا بما انتصب به (إياك) ، بل بفعل آخر تقديره : دع الشر ، وإياك (من) الشر ، ويجوز تقدير من مع أن تفعل ؛ لاطراد حذف الجر مع أن إذا أمن اللبس ، نحو : إياك أن تفعل ، أي : من أن تفعل.

وقد يكون التحذير للمتكلم ، سمع : (إياي وأن يحذف أحدكم الأرنب) ، أي : إياي نح عن حذف الأرنب ، ونح حذف الأرنب عن حضرتي ، ولا يكون المحذور ظاهرا ولا ضمير غائب إلا وهو معطوف نحو : إياك والشر ، وماز رأسك والسيف وقوله :

١٥

٦٥١ ـ فلا تصحب أخا الجهل

وإيّاك وإيّاه

أي : باعد منه وباعده منك.

وأما قولهم : (أعور عينك الحجر) فعلى حذف العاطف ، أي : والحجر ، وقولهم : (فإياه وإيا الشواب) شاذ ، أي : ليتباعد من النساء الشواب ويباعدهن منه.

وحكم الضمير في هذا الباب مؤكدا ومعطوفا عليه حكمه في غيره ، وهنا ضميران أحدهما لفظ إياك ، والآخر ما تضمنه (إياك) من الضمير المنتقل إليه من الفعل الناصب له ، فإذا أكدت قلت : إياك نفسك أن تفعل ، أو إياك نفسك والشر ، وأنت بالخيار في تأكيده ب : (أنت) قبل النفس وتركه ، وإذا أكدت الضمير المستكن في إياك قلت : إياك أنت نفسك أن تفعل ، أو إياك أنت نفسك والشر ، وإذا عطفت على (إياك) قلت : إياك وزيدا والأسد ، وكذا رأسك ورجليك والضرب ، وأنت بالخيار في تأكيده ب : (أنت).

وإذا عطفت على الضمير المستكن فقلت : (إياك وزيدا أن تفعلا) كان قبيحا حتى تؤكده ب : (أنت).

ثم الفعل المضمر في هذا الباب يجب تقديره بعد (إيا) ، ولا يجوز تقديره قبلها ، وأن الأصل باعدك مثلا ، فلما حذف انفصل الضمير ؛ لأنه يلزم منه تعدي الفعل الرافع لضمير الفاعل إلى ضميره المتصل ، وذلك لا يجوز إلا في أفعال القلوب وما حمل عليها إلا في (إياي) إذا قدر ناصبه فعل أمر ، فإنه يجوز ؛ لانتفاء هذا المحذور.

الإغراء

(ص) ومنه ما نصب إغراء بإضمار الزم ، إن عطف أو كرر.

ويجوز إظهاره دونهما ولا يكون ضميرا ، وقد يرفع مكررا ، وإنما يعطف فيهما بالواو ، ويجوز كون تاليها مفعولا معه.

(ش) من المنصوب مفعولا به بإضمار فعل واجب الإضمار باب الإغراء ، وهو : إلزام المخاطب العكوف على ما يحمد عليه ، وإنما يجب الإضمار في صورتين : إذا عطف أو كرر ، كقولك : الأهل والولد ، وقولك : العهد العهد.

__________________

٦٥١ ـ البيت من الهزج ، وهو بلا نسبة في شفاء العليل ص ٨٣٧ ، انظر المعجم المفصل ٢ / ١٠٥٧.

١٦

وتضمر الزم أو شبهه قال :

٦٥٢ ـ أخاك أخاك إنّ من لا أخا له

ويجوز الإظهار فيما عداهما نحو : العهد ، فيجوز أن تقول : الزم العهد ، واحفظ العهد ،

ولا يكون المغرى به إلا ظاهرا ، فلا يجوز أن يكون ضميرا ، وقد يرفع المكرر قال :

٦٥٣ ـ لجديرون بالوفاء إذا قا

ل أخو النجدة : السّلاح السّلاح

ولا يعطف في هذا الباب وباب التحذير إلا بالواو ؛ لدلالتها على الجمع ، وهي للمقارنة هنا في الزمان بخلاف الفاء وثم ؛ لدلالتهما على التراخي ، ولأن المعطوف هنا شبيه بالتأكيد اللفظي ؛ لأن إياك والشر معناه : إياك أبعد من الشر والشر منك ، والتوكيد اللفظي إذا اختلف اللفظ لا يكون إلا بالواو ، ويجوز كون ما بعد الواو في البابين مفعولا معه ؛ لأنهما لما كانت للمقارنة في الزمان جاز أن يلحظ فيها معنى المعية.

الاختصاص

(ص) ومنه ما نصب على الاختصاص قال سيبويه بتقدير (أعني) ، وهو (أي) بعد ضمير متكلم ، وقلّ بعد مخاطب وغائب في تأويله ، خلافا للصفار ، وحكمها كالنداء إلا حرفه ووصفها بإشارة ، وقال السيرافي : معربة مبتدأ أو خبرا ، والأخفش منادى ومتبوعها مرفوع ولا يزاد عليه ، ويقوم مقامها منصوبا معرف ب : (أل) ، أو إضافة ، قال سيبويه : فالأكثر بنو و (معشر) و (أهل) و (آل) ، وأبو عمرو لا ينصب غيرها ، وقلّ علما ، ولا يقدم منصوبا على الضمير.

(ش) من المنصوب مفعولا به بفعل واجب الإضمار باب الاختصاص ، وقدره سيبويه ب : (أعني) ، ويختص ب : (أي) الواقعة بعد ضمير المتكلم نحو : أنا أفعل كذا أيها الرجل ، و (اللهم اغفر لنا أيتها العصابة) ، وقوله :

__________________

٦٥٢ ـ البيت من الطويل ، وهو لمسكين الدارمي في ديوانه ص ٢٩ ، والأغاني ٢٠ / ١٧١ ، ١٧٣ ، والخزانة ٣ / ٦٥ ، ٦٧ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٢٧ ، وشرح التصريح ٢ / ١٩٥ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٠٥ ، ولمسكين أو لابن هرمة في فصل المقال ص ٢٦٩ ، ولقيس بن عاصم في حماسة البحتري ص ٢٤٥ ، وله أو لمسكين الدارمي في الحماسة البصرية ٢ / ٦٠ ، انظر المعجم المفصل ١ / ١٨٢.

٦٥٣ ـ البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة في الخصائص ٣ / ١٠٢ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٨٣ ، ٣ / ١٩٣ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٠٦ ، ومعاني الفراء ١ / ١٨٨ ، انظر المعجم المفصل ١ / ١٦٨.

١٧

٦٥٤ ـ جد بعفو فإنني أيّها العب

د إلى العفو يا إلهي فقير

وإنما اختص بها ؛ لأنه لما جرى مجرى النداء لم يكن في المناديات ما لزم النداء على صيغة خاصة إلا أيها الرجل فلازمه معنى الخطابية الذي في النداء ، فناسب أن يكون وحده مفسرا ، فلا يقال مثلا : إني أفعل زيد ، تريد نفسك ، وحكم (أي) في هذا الباب حكمها في باب النداء من بنائها على الضم محكوما على موضعها بالنصب ووصفها باسم الجنس ، ملتزما فيه الرفع.

واستثنى ابن مالك في «التسهيل» دخول حرف النداء فإنه لا يدخل عليها هنا ؛ لأن المراد بها المتكلم والمتكلم لا ينادي نفسه ، وزاد أبو حيان وصفها باسم الإشارة فإنه ممتنع هنا لا يقال : على أيها ذا الفقير تصدق ، سواء قصد به التعيين أم صرف إلى اسم الجنس.

وزعم السيرافي أن (أيا) هنا معربة وضمها حركة إعراب لا بناء على أنه خبر تقديره : أنا أفعل كذا هو أيها الرجل ، أي : المخصوص به ، أو مبتدأ تقديره الرجل المخصوص أنا المذكور ، وزعم الأخفش أنها منادى ؛ لأنها في غير الشرط والاستفهام لا تكون إلا على النداء ، قال : ولا ينكر أن ينادي الإنسان نفسه ، ألا ترى أن عمر قال : (كل الناس أفقه منك يا عمر) (٢) ، قال : وهذا أولى من أن تخرج (أي) عن بابها ، ورد بأن بقية الباب لا يمكن فيه تقدير الحرف نحو : (نحن العرب) و (بك الله).

ويقوم مقام (أي) في الاختصاص مصرحا بنصبه اسم دل على مفهوم الضمير معرف باللام نحو : (نحن العرب أقرى الناس للضيف) ، أو الإضافة قال سيبويه : وأكثر الأسماء المضافة دخولا في هذا الباب (بنو فلان) ، و (معشر) مضافة ، و (أهل البيت) ، و (آل فلان) ، وقال أبو عمرو : العرب تنصب في الاختصاص هذه الأربعة ولا ينصبون غيرها ، قال :

٦٥٥ ـ نحن بني ضبّة أصحاب الجمل

__________________

٦٥٤ ـ البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة في شرح شذور الذهب ص ٢٨٣ ، انظر المعجم المفصل ١ / ٣٩٩.

٦٥٥ ـ الرجز للأعرج المعنى في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٢٩١ ، وبلا نسبة في الخزانة ٩ / ٥٢٢ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٨٥ ، واللسان مادة (ندس ، جمل ، محل) ، وتاج العروس مادة (بجل ، جمل) ، وجمهرة اللغة ص ٢٦٩ ، انظر المعجم المفصل ٣ / ١٢٢٧.

(١) هذا القول ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز ٢ / ٢٩ ، والقرطبي في تفسيره ٥ / ٩٩.

١٨

وقال :

٦٥٦ ـ إنّا بني منقر قوم ذوو حسب

وقال :

٦٥٧ ـ نحن بنات طارق

نمشي على النّمارق

وقال :

٦٥٨ ـ لنا معشر الأنصار مجد مؤثّل

بإرضائنا خير البريّة أحمدا

وفي الحديث : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» (٤) ، وقل كونه علما كقول رؤبة :

٦٥٩ ـ بنا تميما يكشف الضّباب

ولا يكون اسم إشارة ولا غيره ولا نكرة ألبتة.

ولا يجوز تقديم اسم الاختصاص على الضمير ، وإنما يكون بعده حشوا بينه وبين ما نسب إليه ، أو آخرا ، وقلّ وقوع الاختصاص بعد ضمير المخاطب نحو : بك الله نرجو الفضل ، وسبحانك الله العظيم ، وبعد لفظ غائب في تأويل المتكلم أو المخاطب نحو : على المضارب الوضيعة أيها البائع فالمضارب لفظ غيبة ؛ لأنه ظاهر ، لكنه في معنى علي أو عليك ، ومنع الصفار ذلك البتة ؛ لأن الاختصاص مشبه بالنداء ، فكما لا ينادى الغائب فكذلك لا يكون فيه الاختصاص.

__________________

٦٥٦ ـ البيت من البسيط ، وهو لعمرو بن الأهتم في شرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٠ ، والكتاب ٢ / ٢٣٣ ، وبلا نسبة في الخزانة ٨ / ٣٠٦ ، وشرح المفصل ٢ / ١٨ ، انظر المعجم المفصل ٢ / ١٠٥٤.

٦٥٧ ـ الرجز لهند بنت عتبة في أدب الكاتب ص ٩٠ ، والأغاني ١٢ / ٣٤٣ ، ١٥ / ١٤٧ ، ولها أو لهند بنت بياضة بن رياح (أو رباح) بن طارق الإيادي في شرح شواهد المغني ٢ / ٨٠٩ ، واللسان مادة (طرق) ولهند بنت بياضة بن رباح بن طارق الإيادي في معجم ما استعجم ص ٧٠ ، لهند بنت الفند الزماني (سهل بن شيبان) في الأغاني ٢٣ / ٢٥٤ ، انظر المعجم المفصل ٣ / ١٢٠٩.

٦٥٨ ـ البيت من الطويل ، وهو لبعض الأنصار في شرح شذور الذهب ص ٢٨٣ ، انظر المعجم المفصل ١ / ٢٠٣.

٦٥٩ ـ ذكر في نسخة العلمية بدون شرح.

(١) أخرجه بهذا اللفظ تمام في فوائده ٢ / ٧٢ (١١٧٤) ، وابن عدي في الكامل ٢ / ٧٦ ، وأخرجه البخاري ، كتاب المناقب ، باب مناقب قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٧١٢) ، ومسلم ، كتاب الجهاد والسير ، باب حكم الفيء (١٧٥٧) ، بدون قوله : «نحن معاشر الأنبياء».

١٩

المنادى :

(ص) ومنه المنادى ويقدر (أدعو) و (أنادي) إنشاء ، وقيل : ناصبه القصد ، وقيل : الحرف نيابة ، وقيل : اسم فعل ، وقيل : فعل ، وهو همزة لقريب ، و (أي) له أو لبعيد أو متوسط أقوال ، ويا وأيا وهيا وآي و (آ) للبعيد حقيقة أو حكما وقد ينادى ب :  (يا) القريب ، وقيل : مشتركة بينهما ، قيل : والمتوسط ، وزعم الجوهري أيا مشتركة ، وبعضهم الهمزة للمتوسط و (يا) للقريب ، وابن السكيت (ها) (هيا) بدلا ، والجمهور تختص (وا) بالندبة.

(ش) من المنصوب مفعولا به بفعل لازم الإضمار باب المنادى ، وللزوم إضماره أسباب : الاستغناء بظهور معناه ، وقصد الإنشاء ، وإظهار الفعل يوهم الإخبار ، وكثرة الاستعمال والتعويض منه ، بحرف النداء ويقدر بأنادي أو أدعو إنشاء هذا مذهب الجمهور.

وذهب بعضهم إلى أن الناصب له معنوي وهو القصد ، ورد بأنه لم يعهد في عوامل النصب ، وذهب بعضهم إلى أن الناصب له حرف النداء.

ثم اختلفوا فقيل : على سبيل النيابة والعوض عن الفعل فهو على هذا مشبه بالمفعول به لا مفعول به وعليه الفارسي.

ورد بجواز حذف الحرف والعرب لا تجمع بين العوض والمعوض منه في الذكر ولا في الحذف ، وقيل : على أن حروف النداء أسماء أفعال بمعنى أدعو ك : (أف) بمعنى أتضجر ، وليس ثم فعل مقدر ، ورد بأنها لو كانت كذلك لتحملت الضمير وكان يجوز إتباعه كما سمع في سائر أسماء الأفعال ، ولاكتفي بها دون المنصوب ؛ لأنه فضلة ولا قائل بأنها تستقل كلاما ، وقيل : على أنها أفعال ، ورد بأنه كان يلزم اتصال الضمير معها كما يتصل بسائر العوامل ، وقد قالوا : أيا إياك منفصلا ، ولم يقولوا : إياك ، فدل على أن العامل محذوف.

وذهب بعضهم إلى أن النداء منه ما هو خبر لا إنشاء وهو النداء بصفة نحو : يا فاسق ويا فاضل ؛ لاحتمال الصدق والكذب في تلك الصفة ، ومنه ما هو إنشاء وهو النداء بغير صفة.

وحروف النداء ثمانية :

أحدها : الهمزة والجمهور أنها للقريب نحو :

٢٠