شرح الكافية البديعية

صفي الدين الحلّي

شرح الكافية البديعية

المؤلف:

صفي الدين الحلّي


المحقق: الدكتور رشيد عبد الرحمن العبيدي
الموضوع : الشعر والأدب
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

بيض دعاهنّ الغبي كواعبا

ولو استبان الرشد قال كواكبا

حتّى قال في مخلصها (١) :

عاتبته فتضرجت وجناته

وأزور ألحاظا وقطب حاجبا

فأراني الخد الكريم فطرفه

(ذو النون) إذ ذهب الغداة مغاضبا

وأراد بذي النون : الحاجب تشبيها له بالقوس ، لأن النون مقوسة (ن) ، وذو النون : يونس بن متى ، وإشارته في الشطر الثاني إلى الآية : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى ....) وكثيرا ما كان أهله وأخوته يلحون عليه أن لا يترك قبيلته وأقرانه ، إلّا أنه كان شديد الرغبة في الاستقرار والدّعة ، والعيش السليم ، ويبدو أنه وجد ضالته في ملازمته سلاطين ماردين ، والنزول عندهم ، ويبدو من رسائله الشعرية التي كان يراسل بها أخوته وأصدقاءه أنه تبرّم بالحياة القاسية في العراق ، وأنه لن يرجع إلى تلك الحال التي وجد قومه عليها ، ومن ذلك قصديته :

قليل إلى غير اكتساب العلى نهضي

ومستبعد في غير نيل التقى ركضي

يرسلها إلى أحد أقاربه من ماردين ، ويعرض فيها بمدح سلطانها الملك المنصور (٢) وكتب بثانية إلى أحد بني عمه من ماردين ـ أيضا ـ يقول فيها :

كل الذين غشوا الوقيعة قتّلوا

ما فاز منهم سالما إلّا أنا

__________________

(١) الفوات : ١ / ٥٨١ ـ ٥٨٢.

(٢) الديوان : ٢٠.

٢١

ليس الفرار عليّ عارا بعد ما

شهدوا ببأسي يوم مشتبك القنا

إن كنت أول من نأى عن أرضهم

قد كنت يوم الحرب أول من دنا

أبعدت عن أرض العراق ركائبي

علما بأن الحزم نعم المقتنى

جبت البلاد ولست متخذا بها

سكنا ولم أرض الثريا مسكنا

حتّى أنخت بماردين مطيتي

فهناك قال لي الزمان لي ألهنا

في ظل ملك مذ حللت بربعه

أمسى لسان الدهر عني الكنا (١)

فالشاعر من خلال هذه الأبيات صريح بأنه ترك العراق فرارا من الأوضاع الشاذة التي تعيشها قبيلته ، بعد أن أبلى مع أعدائه البلاء الحسن ، وبعد أن أضمر له أعداؤه سوء النية لو ظفروا به. فلا بد له من أن يعيش بمنأى عن يد أعدائه ، سالما من أذاهم. ولقد قنع بأن قلعة ماردين هي حصن له ، ولأنفاسه الشاعرية يزجيها لسلاطين (الأراتقة).

وبذلك استطاع الشاعر (الحلي) أن يضع فيهم بثلاثة شهور ديوانا كاملا في تسعة وعشرين حرفا ببناء تسع وعشرين قصيدة أرتقية ، أسماها (الأرتقيات) نسبة إليهم. وهذه الأرتقيات بناها على حرف من حروف المعجم يبتدئ البيت به ، وينهي قافية القصيدة به ، ومن ذلك قوله في قصيدته ـ على قافية الجيم ـ التي أشار إليها ابن حجة في خزانته ، وهو يتحدث عن المطالع ، وينتقده عليه.

وكذلك مطلع الشيخ صفي الدين الحلي في قصيدته الجيمية التي هي من جملة القصائد الأرتقيات ، التي امتدح بها الملك المنصور صاحب ماردين :

__________________

(١) الديوان : ٢١.

٢٢

جاءت لتنظر ما أبقت من المهج

فعطرت سائر الأرجاء بالأرج

فالشطر الثاني ليس من جنس الشطر الأول ، فإن الشطر الأول في الطريق الغرامية ليس له مثيل (١).

لقد أنعم المصريون على الشاعر كثيرا ، وشملوه بإنعامهم وبرهم ، ولكن إصراره على التغرب ، وهجر الوطن كان رائده دائما ، ولقد عاد مرة من مصر وهو مشمول بالأنعام فكتب إلى أخيه جواب عن نهيه إياه في التغرب (٢).

فقل لمسفّه في البعد رأيي

وكنت به أصح الناس رايا

عذرتك لم تذق للعز طعما

ولا أبدى الزمان لك الخفايا

فما حر يسيغ الضيم حرا

ولو أصمت عزائمه الرمايا

لذلك مذ علا في النّاس ذكري

رميت بلاد قومي بالنسايا

ولست مسفها قومي بقولي

ولكن الرجال لها مزايا

إن مقام الشاعر في ماردين ، جعله ، ينتهز المناسبات فيضعف فيهم المدح ، ويتدخل في تحريضهم على قتال العدو ويستخدمهم على تحقيق مطاليبه .. وغير ذلك مما كانت تدعو إليه الحال ، وهذه صور من المواقف التي استقيناها من ديوانه. فله قصيدة يحرض السلطان الملك المنصور نجم الدين غازي بن أرتق الذي وضع فيه الأرتقيات ... صاحب ماردين على

__________________

(١) الخزانة : ٧.

(٢) الديوان : ٢٧ ـ ٢٨.

٢٣

حضوره حصار قلعة أربل حين أرسل الجيوش ، ولم يحضرها سنة (٧٠٢ ه‍) : [من الرجز] :

أبد سنا وجهك من حجابه

فالسيف لا يقطع في قرابه

فارم ذرى قلعتهم بقلعة

تقلع أسّ الطود من ترابه

وهي طويلة تقع في ثلاثة وخمسين بيتا (١) ، وكانت النتيجة هي فتح أربل وقال يحرض السلطان الملك الصالح شمس الدين أبا المكارم بن السلطان الملك المنصور على خلاص ماله من لصوص نقبوا داره ، وأخذوا ما بها ، واحتموا بنائب له فحماهم ، واستخدمهم لديه (٢).

خطب لسان الحال فيه أبكم

وهوى طريق الحقّ فيه مظلم

وقضية صمت القضاة ترفعا

عن فصلها والخصم فيها يحكم

وقال من أخرى يحرض السلطان الملك الصالح على التحرر من المغول ومنافستهم ، عند اختلافهم واضطراب أحوالهم ، ويهنئه بعيد النحر (٣) :

لا يمتطي المجد من لا يركب الخطرا

ولا ينال العلا من قدم الحذرا

ولا ينال العلا إلّا فتى شرفت

خلاله فأطاع الدهر ما أمرا

كالصالح الملك المرهوب سطوته

فلو توعد قلب الدهر لانفطرا

من آل أرتق المشهور ذكرهم

إذ كان كالمسك إن أخفيته ظهرا

فاسعد بعيدك ذا الأضحى وضح به

وصل صلّ لرب العرش مؤتمرا

وانحر عداك فبالأنعام ما انصلحوا

إن كان غيرك للأنعام قد نحرا

__________________

(١) الديوان : ٣٧ ـ ٣٩.

(٢) نفسه : ٤١.

(٣) نفسه : ٤٣ ـ ٤٥.

٢٤

ولست أريد أن أستقصي في هذا المجال موقع الشاعر من الأرتقيين وإن جاء مديحه لهم ، وتحريضه على قتال أعدائهم ، ولعل ما لقي عندهم من البر والإكرام وحياة النعيم والسّلام ، هو الذي جعله يلتصق بهم هذا الالتصاق ، على الرغم من أنهم لم يكونوا عربا ، بل كانوا من بقايا الأتراك السلاجقة الذين حكموا العراق حقبة من الزمن.

لقد اتصل الشاعر خلال هذه الحقبة من حياته بالجم الغفير من الأفاضل والأدباء ، والأعيان ، فاجتمع بابن سيد الناس ، وأبي حيان والصدر شمس الدين عبد اللطيف الذي كان يعتقد أنه ما نظم الشعر أحد مثله مطلقا. كما اجتمع هو والفيروزآبادي (٨١٧ ه‍) سنة (٧٤٧ ه‍) فقال فيه (١) : «اجتمعت سنة سبع وأربعين وسبعمائة بالأديب الشاعر ، صفي الدين بن سرايا الحلي ـ رحمه‌الله ـ بمدينة بغداد فرأيته شيخا كبيرا له قدرة تامة على النظم والنثر وخبرة بعلوم العربية ، والشعر ، فغزله أرق من النسيم ، وأدقّ من المحيا الوسيم ..».

وكانت هذه الصفة ، أعني شاعريته المميزة مثار إعجاب كل الذين عاصروه ، أو من جاء بعده ، يقول الكتبي فيه (٢) : الإمام العلامة القدوة الناظم الناثر ، شاعر عصره على الإطلاق ، أصبح راجح الحلي دونه ناقصا.

وراجح الحلي هذا أقدم من صفي الحلي كان من مداح الدولة الأيوبية بمصر توفي سنة (٦٢٧ ه‍) (٣).

__________________

(١) البلغة : ٦٠.

(٢) الفوات : ١ / ٥٨٠.

(٣) تاريخ مصر : ابن إياس : ١ / ٨٠ والنجوم الزاهرة : ٦ / ٢٧٥ وشذرات الذهب : ٥ / ١٢٣.

٢٥

كان الراجح هذا ذا قدم راسخة في نظم الشعر ، مشهورا في عصره ، فحين برز الصفي بزّه وأخذ مكانه ، يقول الكتبي ـ أيضا ـ وكان ـ يعني الحلي راجحا ـ سابقا فعاد على كعبه ناكصا ، أجاد القصائد المطولة والمقاطع وأتى بما أخجل زهر النجوم في السماء ، كما قد أزرى بزهر الربيع ، تطربك ألفاظه المصقولة ، ومعانيه المعسولة ، ومقاصده التي كأنها سهام راشقة وسيوف مسلولة (١).

رحل الحلي ـ شاعرنا ـ إلى العراق في غضون عام ٧١٢ ه‍.

وحصل للأراتقة ـ وهو بعيد منهم ـ أن توفي الملك المنصور ، وقام بعده الملك العادل بعد أبيه ، ولكنه لم يلبث إلّا قليلا فتوفي بعد سبعة عشر يوما من سلطنته ، فتقلد آمر السلطنة بعده أخوه شمس الدين أبو المكارم الذي نظم فيه القصائد (الصالحيات) .. ولم يصل الخبر بوفاة المنصور صاحب ماردين إلّا بعد مرور مدة غير قليلة. فقصد ماردين ، للتعزية ، فوجد أنّ الآمر قد انتهى وأن أمورا قد حصلت دون أن يعلم شيئا عنها ، فقدم قصيدة في مدح السلطان الملك المنصور الصالح شمس الدين أبي المكارم ، وكان قد ولي بعد وفاة أخيه الملك العادل يقول فيها :

دبت عقارب صدغه في خده

وسعى على الأرداف أرقم جعده

قرن يخاف قرينه من قربه

أضعاف خوف محبة من بعده

أرمي الحصى من حافريه بمثله

وأروع ضوء الصبح منه بضده

__________________

(١) الفوات : ١ / ٥٨٠.

٢٦

وأظل في جوب البلاد كأنني

سيف ابن أرتق لا يقر بغمده

الصالح الملك الذي صلحت به

رتب العلاء ولاح طالع سعده

ثم يشير إلى أنه إنما تولى السلطنة بعد أخيه لشد أزره :

وإليك كان الملك يطمح بعده

يبغي جوابا لو سمحت برده

وشددت أزر أخيك يا هارونه

لما توقع منك شدّة عضده

حتّى أحاط بنو الممالك كلها

علما بأنك قد فيت بعهده

 .. ثم يقول :

مدح لمجدك عن وداد خالص

وسواي يضمر صابه في شهده

لا كالذي جعل القريض بضاعة

متوقعا كسب الغنى من كده

وفي قصيدته الرائية التي مدحه بها وهنأه بالملك بعد أخيه ، يعتذر له عن الانقطاع عنهم مدة ، وكان قد نظمها مهنئا بعيد الفطر المبارك ، يقول في مطلعها (١) :

من نفحة الصّور أم من نفخة الصوّر

أحييت يا ريح ميتا غير مقبور

وهي طويلة من قصائده (الصالحيات) يقول في تخلصها إلى مدح الملك الصالح :

وقائل إذ رأى الجنات عالية

والحور مقصورة بين المقاصير

__________________

(١) انظرها في الديوان : ٩٣ ـ ٩٧.

٢٧

لمن ترى الملك بعد الله قلت له :

مقال منبسط الآمال مسرور

للصاحب التاج والقصر المشيد من

أتى بعدل برحب الأرض منشور

فقال : تعني به كسرى ، فقلت له :

كسرى بن أرتق لا كسرى بن سابور

الصالح الملك المشكور نائله

ورب نائل ملك غير مشكور

وحين يصل إلى الاعتذار يوجه أبياتا غاية في الرقة والدماثة ، فيقول :

أدعوك دعوة عبد وامق بكم

يا واحد العصر فاسمع غير مأمور

لا أدّعي العذر عن تأخير قصدكم

ليس المحب على بعد بمعذور

بل إن غدا طول بعدي عن جنابكم

ذنبي العظيم فهذا المدح تكفيري

رقت لتعرب عن رقي لمجدكم

حبّا. وطالت لتمحو ذنب تقصيري

ويبدو لي أن الحلي لم يمل عن الأرتقيين حبا في مفارقتهم ، ولكنه كان يتطلع إلى توسيع دائرة صلاته بسلاطين العصر وأمرائه ، ولذلك كان يسافر إلى مصر ، ويخرج إلى الشام ، ويرحل إلى العراق ، ثم يعود إلى الأراتقة ، وفي جميع حالاته هذه يرسل بقصائده إليهم ، في التهنئة ، والمديح ، واستغلال المناسبات المفرحة ، ليزج بشعره إليهم فيها ، وفي عام (٧١٩ ه‍) ترد وفي الديوان قصيدة يمدح بها الملك الصالح وكان قد اقترح عليه (الصالح) الوزن والروي ، يشكو فيها الحلي أمرا جرى له يقول فيها (١) :

يا نسمة لأحاديث الحمى شرحت

كم من صدور لأرباب الهوى شرحت

يقول خلالها ، وهو يعرض محنته :

يا باذل الخيل عفوا بعد عزتها

وما جنت في الوغى ذنبا ولا اجترحت

__________________

(١) الديوان : ٩٩ ـ ١٠١.

٢٨

ودعتكم وثنائي لا يودعكم

وسرت لا بعدت داري ولا نزحت

أشدو بمدحكم حبا وبي محن

لو أن أيسرها بالورق ما صدحت

ما أن أفوه بشرح في المقال لها

لكنها بلسان الحال قد شرحت

لا أذمم الدهر في أمر رميت به

ولا أقول حصاة الحظ ما رشحت

لئن نأت عنكم يوما جوانحنا

فإن أرواحنا في ربعكم جنحت

وكلّ يوم مقالي عند ذكركم

يا ساكني السفح كم عين بكم سفحت

ظلت هذه العلاقة وثيقة بين الشاعر والأرتقيين ، يذكر هم أنى سافر ، وأينما حل ، وفي سنة (٧٢٠ ه‍) دخل الشام وبعث إلى السلطان الصالح بقصيدة يمدحه فيها (١) :

نمّ بسر الروض خفق الجناح

واقتدح الشرق زناد الصباح

وحين وصل الصالح إلى الحجاز عام (٧٢٣ ه‍) كان الشاعر في مصر ، فبعث إليه بقصيدة مطلعها (٢) :

أني ليطربني العذول فأنثني

فيظن أني عن هواكم أنثني

__________________

(١) الديوان : ١٠٧.

(٢) نفسه : ١٠٨.

٢٩

وفي سنة (٧٢٦ ه‍) دخل مصر ، واجتمع بالقاضي علاء الدين بن الأثير ، كاتب السر (١) ، ومدحه كما مدح السلطان الملك الناصر بقصيدة وازى بها قصيدة المتنبي التي أولها :

بأبي الشموس الجانحات غواربا

اللابسات من الحرير جلاببا (٢)

ومطلعها :

أسبلن من فوق النهود ذوائبا

فتركن حبات القلوب ذوائبا

يقول فيها :

وغربن في كلل فقلت لصاحبي :

(بأبي الشموس الجانحات غواربا)

وهي قصيدة من أجمل شعره المدحي ، ولكنه يظل مرتبطا بالصالح فيكتب إليه بأبيات :

أجرّد كي أجرد سيف مدحي

فينبو عن سواك به لساني

وأنظم مدح غيرك والقوافي

تعض عليّ أطراف البنان

فأظهر حيرة في بسط عذري

وأخفي ما يحن لكم جناني

__________________

(١) الوافي للكتبي : ١ / ٥٨٠.

(٢) ديوان المتنبي : (دار صادر) : ١٠٩ وقصيدة الحلي في الديوان : ص ٥٩.

٣٠

فإن أفعل تألمت المعالي

وإن أنكل تظلمت المعاني (١)

وفي الأبيات ما يدل على أنه لا يريد أن ينقطع عن الأراتقة ، وأنه يأمل دائما في الرجوع إليهم ، وإن طوحت به الأيام ، وفي الديوان مقطعات قصيدة يبعثها إليه ، يتضح من خلالها شدة ميله إليهم ، وارتباطه بهم (٢).

وحين أحس الشاعر بهذا البعد والانقطاع عنه زج إليه قصيدة طويلة يمتدحه فيها ويعتذر عن الانقطاع عنه ، مطلعها (٣) :

ليالي الحمى ما كنت إلّا لآليا

وحيد سروري بانتظامك حاليا

يقول فيها :

ومالي لا أسعى بمالي ومهجتي

إلى من به استدركت روحي وماليا

إلى ملك يخفي الملوك إذا بدا

كما أخفت الشمس النجوم الدراريا

ولكنه دفع بقصائد رائعة في مدح (قلاوون) في مصر ، فضلا عن قصيدته التي عارض بها المتنبي ، ومن ذلك قصيدته التي يمدحه فيها عند كسر الخليج :

خلع الربيع على غصون البان

حللا فواضلها على الكثبان

ونمت فروع الدوح حتّى صافحت

كفل الكثيب ذوائب الأغصان

__________________

(١) ديوان الحلي : ١١٤.

(٢) انظر الديوان : ص ١١٤ ـ ١١٨.

(٣) الديوان : ١١٨ ـ ١٢١.

٣١

يقول فيها :

حتّى إذا كسر الخليج وقسمت

أمواه لجته على الخلجان

ساوى البلاد كما تساوى في الندى

بين الأنام مواهب السلطان

الناصر الملك الذي في عصره

شكرا لظباء صنيعة السرحان

ملك إذا اكتمل الملوك بنوره

خروا لهيبته إلى الأذقان (١)

ولم يقف شعره على الناصر قلاوون بل مدح معه ثلاثة سلاطين ذكرهم في خطبة ديوان (الناصريات) وفي الديوان قصائد ومقطعات في مدحهم.

و (الناصريات) قصائد مصرية ، ولكن (المنصوريات) قصائد أرتقية ، بدأها كما سبقت الإشارة بمدح الملك المنصور السلطان نجم الدين أبي الفتح غازي بن أرتق. والشاعر في جميع ما تقدم من حياته ، كان قد شغل نفسه بالمديح المادي ، وبالصلات بالسلاطين والملوك ، ولم يكن الاتجاه الديني أو الروحي قد ظهر في شعره ، إلّا في بعض المقطعات القصار من آل البيت أو صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس بين أيدينا ما يعطينا الوقت الذي نظم فيه هذه المقطعات ، ففي ديوانه إشارات إلى أنه قال في آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) :

يا عترة المختار يا من بهم

يفوز عبد يتولاهم

أعرف في الحشر بحبي لكم

إذ يعرف النّاس بسيماهم

وقال :

يا عترة المختار يا من بهم

أرجو نجاتي من عذاب اليم

فمن أتى الله بعرفانكم

(فقد أتى الله بقلب سليم)

__________________

(١) الديوان : ١١٨ ـ ١٢١.

(٢) الديوان : الصفحات : ٥٥ ـ ٥٩.

٣٢

وقال في صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

قيل لي تعشق الصحابة طرا

أم تفردت منهم بفريق

فوصفت الجميع وصفا إذا ضوّع

أزرى بكلّ مسك سحيق

قيل لي هذي الصفات والكل كالدرياق

يشفي من كل داء وثيق

فإلى من تميل؟ قلت إلى الأربع

لا سيما إلى (الفاروق)

غير أننا نعلم أنه دخل مصر سنة (٧٢٦ ه‍) وكان دخوله مصر في هذه السنة أنه قصد الحج ، وقد قال هو نفسه عن زيارته لمصر في هذه السنة (فلما منّ الله عليّ بقضاء حجة الإسلام ، وزيارة قبر النبي عليه‌السلام ، قذف بي خوف بلادي إلى الديار المصرية ، وأهلت بالمثول في الحضرة الشريفة الملكية الناصرية .. (١).

ومن هنا نستطيع تحديد الوقت الذي نظم فيه قصيدته الرائية التي مدح بها النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في المدينة المنورة :

كفى البدر حسنا أن يقال : نظيرها

فيزهي. ولكنا بذاك نضيرها

وحسب غصون البان إن قوامها

يقاس به ميادها ونضيرها

ومن خلال هذه القصيدة النبوية يلمح القارئ أن ثمة معاناة قاسية كان يعيش الشاعر في أجوائها ، وأنه يحمل في طيات نفسه هما ثقيلا وعسرا من

__________________

(١) مقدمة الديوان (صادر) : ١١.

٣٣

الحياة ، وضيقا من الدنيا ، ولم يستطع التعبير عن ذلك كله إلّا إمام قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو يقول :

فلو تحمل الأيام ما أنا حامل

لما كاد يمحو صبغة الليل نورها

سأصبر إما أن تدور صروفها

عليّ وإما تستقيم أمورها

فإن تكن الخساء أني فخرها

وإن تكن الزّبّاء أنّي قصيرها

ثم ينتقل إلى ذكر المقصود ـ ع ـ ببراعة مخلص :

وعاج بها عن رمل عاج دليها

فقامت لعرفان المراد صدورها

غدت تتقاضانا المسير لأنها

إلى نحو خير المرسلين مسيرها

ترضّ الحصى شوقا لمن سبّح الحصى

لديه وحيّى بالسلام بعيرها

إلى خير مبعوث إلى خير أمة

إلى خير معبود دعاها بشيرها

حتّى يقول فيها :

أيا صادق الوعد الأمين وعدتني

ببشرى فلا أخشى وأنت بشيرها

بعثت الأماني عاطلات لتبتغي

نداك فجاءت حاليات نحورها

٣٤

إليك رسول الله أشكو جرائما

يوازي الجبال الراسيات صغيرها

كبائر لو تبلى الجبال بحملها

لدكت ونادى بالثبور ثبيرها

وغالب ظني بل يقيني إنها

ستمحى وإن حلت وأنت سفيرها

وبين يدي نجواي قدمت مدحة

قضى خاطري إلّا نجيب خطيرها

تروم بها نفسي الجزاء فكن لها

مجيزا بأن تمسي وأنت مجيرها

فلا بن زهير قد أجزت ببردة

عليك فأثرى من ذويه فقيرها

أجرني أجزني وأجزني أجر مدحتي

ببرد إذا ما النار شب سعيرها

بمدحك تمت حجتي وهي حجتي

على عصبة يطغى عليّ فجورها (١)

لقد تركت معظم أبيات هذه القصيدة ؛ لطولها ، ولكن الذي يهمنا منها أنه يظهر شكواه. ويعترف بذنوب أثقلت كاهله ، وأنه يرجو من رسول الله

__________________

(١) الديوان : ٤٦ ـ ٥٠.

٣٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقبل الله ـ تعالى ـ بمدحه منه إنابته وتوبته على الرغم من عظم الجرم الذي : يوازي الجبال الراسيات صغيرها.

ونظم الصفي قصائد أخرى في مناسبة مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنها قصيدة :

خمدت لفضل ولادك النيران

وانشق من فرح بك الإيوان (١)

وفي هذه القصيدة يتجرد الشاعر من أموره الدنيوية ، ويسوق معاني المديح النبوي تترى ، ويضمنها أحداثا واكبت سنة الميلاد الشريف ، ومكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أخوته من الأنبياء والرسل «عليهم‌السلام». وفي أواخرها يعترف بقصوره عن أن يحيط بكل صفاته وأخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقول :

ولو أنني وفيت وصفك حقه

فني الكلام وضاقت الأوزان

فعليك من ربّ السّلام سلامة

والفضل والبركات والرضوان

وعلى سراط الحقّ آلك كلما

هب النسيم ومالت الأغصان

وعلى ابن عمك وارث العلم الذي

ذلّت لسطوة بأسه الشجعان

وعلى صحابتك الذين تتبعوا

طرق الهدى فهداهم الرحمن

وشروا بسعيهم الجنان وقدروا

أن النفوس لبيعها أثمان

ثم ينهي القصيدة بالغرض النفسي الذي لا ينفك الإنسان بذكره أمام شفيع الأمة ، ومنقذها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقول :

أشكو إليك ذنوب نفس هفوها

طبع عليه ركب الإنسان

فاشفع لعبد شانه عصيانه

إن العبيد يشينها العصيان

__________________

(١) الديوان : ٥٠ ـ ٥٢.

٣٦

فلك الشفاعة في محبيكم إذا

نصب الصراط وعلق الميزان

فلقد تعرض للإجازة طامعا

في أن يكون جزاءه الغفران (١)

وأما قصيدته التي استعان منها بالبيت :

صلى عليك إله العرش ما طلعت

شمس النهار ولاحت أنجم الغسق

في بديعيته القافية ، فمطلعها :

فيروزج الصبح أم ياقوتة الشفق

بدت فهيّجت الورقاء في الورق

وهي قصيدة مدحية في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر كعادته في المديح النبوي : الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفاته وأخلاقه ، وموقعه بين الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ وفي آخرها يعد الرسول بأنه سوف يصفيه المدح ما دام حيا ، فيقول :

فلا أخلّ بعذر عن مديحكم

ما دام فكري لم يرتج ولم يعق

فسوف أصفيك محض المدح مجتهدا

فالخلق تفنى وهذا إن فنيت بقي (٢)

ولقد صدق الشاعر وعده مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين وضع قصيدته (الكافية البديعية) فيه. فقد تأخر نظمها بعد هذا الزمن ، وقد أشار إلى القصيدة القافية المذكورة في شرح بيت (التفصيل) من الأنواع البديعية حين قال :

(صلي عليه إله العرش ما طلعت)

شمس وما لاح نجم في دجى الظلم

__________________

(١) وردت في الديوان (جزاؤه) الأصوب أن يقول : (جزاءه الغفران) كما أثبتنا بنصب جزاء ليكون (الغفران) اسم (يكون) ، ولكنه سها : أو هو خطأ مطبعي.

(٢) الديوان : ٥٤.

٣٧

قال في الشرح : وصدر بيت القصيدة هو بحاله لي في قصيدة أخرى في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولها :

فيروزج (١) الصبح أم ياقوتة الشفق

بدت فهيجت الورقاء في الورق

والبيت الذي أتيت بصدره منها لئلا تخلو. القصيدة من هذا النوع هو :

صلى عليه إله العرش ما طلعت

شمس النهار ولاحت أنجم الغسق (٢)

ثم نعود بعد هذه الوقفة الموجزة مع الصفي ، وهو يزجي قصائده الدينية إلى النبي وصحابته وآله رضى الله عنهم إلى بقية عمره الذي قضاه بين سلطان مصر ، وسلطان ماردين ، وبلده العراق. ويبدو أن السنوات التي تلت عودته من الحج أي من بعد سنة (٧٢٦ ه‍) جعلته ينسج حبال الصلة بين ملوك مصر وماردين بشكل ذكي ، ففي الوقت الذي نراه يلازم السلطان قلاوون ، يبعث سنة (٧٢٧ ه‍) بقصيدة إلى سلطان ماردين ـ وهو في دمشق يعتذر له عن الانقطاع. ثم بأخرى يمدحه ويهنئه بعيد النحر ، ويصف ليلة مضت له ، يقول في مطلعها :

أهلا ببدر دجى يسعى بشمس

بنوره صبغة الليل البهيم محا

ثم يمدحه بقصيدة كافية عقيب مال تلف له بماردين ويعرض بذلك سنة (٧٤١ ه) :

أيا ملك العصر الذي شاع فضله

ويا ابن ملوك العرب والعجم والترك

__________________

(١) الديوان : ١٠٣.

(٢) الديوان : ١٢٥.

٣٨

وينظم له قصيدة موشحية يهنئه بعيد الفطر سنة (٧٤١ ه‍) بوزن الدوبيت :

لما شدت الورق على الأغصان بين الورق

ماست طربا بها غصون البان كالمغتبق

الطير شدا

ومنظر الزهر يدا

والقطر غدا

يوليه جودا وندا

والجون حدا

ومد في الجوردا

والنرجس جفن طرفه الوسنان لم ينطبق

بل بات إلى شقائق النعمان ساهي الحدق

ما هزني الريح إلّا هزني الطرب

إذ كان للقلب في مر الصبا إرب (١)

وطال مكث الصفي في مصر حتّى سنة (٧٣٩ ه‍) وكانت العلاقة بين مصر وسلاطين ماردين قد قويت ، بفعل المخاطر المغولية التي كانت تواجههم ، وكان لوجود الصفي بين الأمارتين أثر في تقريب وجهات النظر ، وتوثيق العلائق بينهما. وموقع الصفي في مصر ـ في هذه السنوات ـ كان موقعا متميزا ، فقد حظي برعاية سلطان مصر ، ورئيس وزرائه. ما لم يحظ غيره بها وقد ذكر هو نفسه هذه الرعاية فقال :

«وشملني من الأنعام ما فاجأني ابتداعا» ولم أملك له خبرا ألزمتني المروءة بمكافأة تلك الحقوق ، ورأيت كفرانها كالعقوق .. فنظمت في معاليه ما طاب لفظه ومعانيه ، وظهرت آيات القويّ فيه ، من تمكن سبكه وقوافيه.

__________________

(١) الديوان : ١٢٧.

٣٩

فلما صادفت رسائلي فيه قبولا ، وهبت ريح سعدها قبولا ، أشار رئيس وزرائه ، وزعيم كتاب إنشائه عن إشارته العالية أن اجمع له جزءا من جد شعري وهزله ورقيق لفظي وجزله ... ؛ ليكون ديوانا للمحاضرة ومجموعا للمذاكرة .. فاخترت منه ما يحبّ ويبتغي ، ورتبته على ما يجب وينبغي ، واقتضى الأدب أن اسم الكتاب بوسمه ، وأشرف باب المديح بتقديم لقبه الشريف واسمه ، فصيرت ولي المديح كوسيمه ، وختمت به أبناء المدح كختم الأنبياء بسميه ، وجعلت فصول الأبواب فروعا تتبع أصلا ، وجملة الكتاب اثنا عشر بابا تشتمل على ثلاثين فصلا .. (١) فكان هذا الديوان الذي بين أيدينا اليوم ، وقد طبع أكثر من طبعة أولاهما سنة : ١٢٨٣ ه‍ و ١٢٩٧ ه‍ ، ثم طبعة ١٣٧٥ ه‍ وأشار الناشر إلى أنه قابل بها النسخ المطبوعة سابقا والأخيرة المتداولة هي طبعة (دار صادر ـ بيروت) سنة : ١٣٨٢ ه‍ / ١٩٦٢ م. وحين ترك الشاعر مصر راجعا إلى العراق لم ينس أن يضع بين يدي ابن قلاوون قصيدة عصماء يمدحه بها سبق أن أشرنا إليها فيما مضى ، يشير في أخرياتها بالرحيل ، ويعتذر إلى ابن قلاوون بقوله (٢) :

يا ذا الذي خطب المديح سماحة

فنداه قبل نداي قد لباني

أقصيتني بالجود ثم دعوتني

فنداك أبعدني وإن أدناني

ضاعفت برّك لي ولو لم تولني

إلّا القبول عطية لكفاني

فنأيت عنك ولست أول حازم

خاف النزول بمهبط الطوفان

علمي بصرف الدهر أخلى معهدي

مني وصرف في البلاد عناني

ولربما طلب الحريص زيادة

فغدت مؤدية إلى النقصان

__________________

(١) مقدمة ديوانه : ٧ ـ ٨.

(٢) الديوان : ٦٢ ـ ٦٥.

٤٠