البرنس في باريس

محمّد المقداد الورتتاني

البرنس في باريس

المؤلف:

محمّد المقداد الورتتاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-605-5
الصفحات: ٣٩٥

سالم بوحاجب أدام الله نفع القطر به. إلى إيطاليا مع المنعم السيد حسين وزير العلوم وكانت وجهتهما في موضوع واحد شارك في مثله قبل ذلك المنعم الوزير خير الدين التونسي بباريز. سافر ابن خلدون إلى ملك قشتالة بطره بن الهنشة بن أدفونش (هكذا سماه) لعقد الصلح بينه وبين ابن الأحمر ٧١٥ وأثنى على معاملته له وإكرامه وإهدائه له بغلة فارهة. وممن سافر من القيروان المرحوم السيد محمد المرابط الفريق وعاملها فيما بعد. وجهته الحكومة إلى فرانسا عام ١٢٧١ مع اثنين من أبناء العائلة الحسينية لتهنئة نابليون الثالث بالنجاة من اليد العادية التي رمته بالرصاص. وبين هاذين الملكين وداد سابق فقد أرسل في عام ١٢١٨ ملك فرانسا إلى أحمد باي رسولا يعوده لما بلغه خبر مرضه.

وكثيرا ما يسافر الملوك أنفسهم لزيارة بعضهم وينشأ عن ذلك الاجتماع من الحديث في المسايل العظيمة ما لا يمكن أن يقال أو يبرم بواسطة الرسل والرسائل لما بين الملوك من الاحترام والمسارعة إلى الإجابة في الرغايب التي تعرض بلا واسطة.

وهذا الأمر أصبح في العصور الجديدة شائعا. ومن قبل ربما استعظموه وكبر على نفوسهم ويحسبون من العزة والانفراد بالتبجيل وكلمات التفخيم ، وأن الملوك لا تتلاقى إلّا في الحروب ، وأن التساوي في المعاملة فيما بينهم ليس إليه من سبيل ، حيث يحط من كرامة من يعتقد الرفعة على الآخر. وقد قال محمد بن الحكيم إلى أبي يحيى الحفصي لما أراد الاجتماع مع أبي الحسن المريني بالمغرب الأوسط أن لقاء سلطانين لا يتفق إلّا في يوم على أحدهما فكره ذلك السلطان الحفصي وتقاعد عنه ، نقل ذلك ابن خلدون. وقال في شأن اجتماع ملك إسبانيا ويعقوب المريني عام ٦٨٤.

فلقيه أمير المسلمين بأحسن مبرة وأتم كرامة يلقى به مثله من عظماء الملل. قلت ويظهر أن ملوك الأندلس والمغرب الأقصى كانوا أعرف بالسياسة وأكثر خبرة من ملوك بني حفص بمقتضى الحال لمجاورتهم لملوك أروبا. ومن الملوك الحسينيين سافر المنعم سيدي الصادق باي للجزاير ١٢٧٨ لملاقاة نابليون الثالث هناك. وسيدي أحمد باي إلى باريز عام ١٢٦٢ وفي صحبته شيخ المؤرخين بتونس المنعم السيد أحمد بن أبي الضياف وقد وصف طرفا مفيدا من الرحلة والإقامة.

والمنعم سيدي محمد الهادي باي عام ١٣٢٢ ـ ١٩٠٤ إلى باريز رجع الزيارة إلى

٨١

المفخم المسيو لوبي رئيس الجمهورية الفرانسوية الذي أتى لتونس عام ١٩٠٣. ومن مآثره في تلك الزيارة وضع الحجر الأساسي للتكية بتونس وقد كنت أرختها ونص ما نشرته جريدة الحاضرة المؤرخة بيوم الثلاثاء في ١٦ صفر ١٣٢٤ الموافق ١٠ أفريل ١٩٠٦ عدد ٨٨٧.

صدى التكية

هبت على القيروان شمول هاته الحسنة فحركت قريحة الفاضل الأديب الشاعر المطبوع السيد محمد المقداد الورتتاني فجادت بأبيات بديعة تاريخا لهذه المنقبة التي سيسرمد الدهر ذكرها ، ولذلك نبادر لإثباتها هنا خدمة للتاريخ وللأدب ، وسيرى القاري الكريم ضمن البيت الخامس منها ذكر اسم المفلق هيكو صاحب كتاب البؤساء ، وما هذا الاستنباط الغريب في فن القريض العصري إلا من البديعيات في كلام هذا الشاعر التونسي ، ووقع نظيرها في كلام نخبة من شعراء الإسلام منهم الأديب ابن الصايغ حيث قال ضمن قصيدة فريدة «كأني هميروس لدين محمد».

ومعلوم أن هميروس هذا هو الشاعر اليوناني صاحب الإلياذة التي ملأ ذكرها الآفاق ، أما الأبيات المشار إليها فإليك هي بحروفها :

قف ورز للبر قصرا أنفسا

من خطوب الدهر يحمي الأنفسا

منزل تبارك الله سما

ونما خيرا نضيدا حبسا

هيأت جناته رفقا بمن

حالك العصر عليهم عسعسا

فيبيتون وقد لاذوا به

وإذا صبح المنى تنفسا

ليت هيكو الفيلسوف البشري

حاضرا قصر نعيم البؤسا

٨٢

كل مأمول عدا الخلد به

راحة النفس وقوت وكسا

صنعه المحكم والبر الوفي

جددا ما كاد أن يندرسا

ذلك من عزم البشير الوطني

حافظ الوقف رئيس الرؤسا

كم له في كل فضل من يد

غبطت مصر عليه تونسا

ورئيس حكم باريز السري

شرفت يمناه تلك الأسسا

ذلك الشهم (لبي) حامي الحمى

من له في القطرود غرسا

وكذا الهادي السني باينا

فهو كهف بهما تأسسا

قد تولى فتحه يوم انتهى

وزرا ضاهوا الجواري الخنسا

نعم كهفا منزل تاريخه

قصر بر محسن للبؤسا

ووضع الملوك أيديهم في تأسيس البناءات المعتبرة شايع من قديم ويقول الوزير السراج في تاريخ تأسيس المنعم سيدي حسين باي بن علي لسور القيروان المرقوم على باب تونس الآن من قصيدة مطلعها :

«للقيروان نظام في تعجبها»

وكيف لم تتشرف يوم أرخها

وكان أول في وضع يديه بها. ولسيدنا ومولانا محمد الناصر باي أدام الله كمال

٨٣

طلعته وأيد رجال دولته رحلة في عام ١٣٣٠ ـ ١٩١٢ إلى باريز ، ومعه وزراؤه الكرام ، رجع بها الزيارة إلى جناب المفخم رئيس الجمهورية المسيو فاليار الذي أتى للمملكة التونسية عام ١٣٢٩ ـ ١٩١١. وقد تكفل قلم الكاتب البليغ والمؤرخ الخبير سيدي محمد بن الخوجة ببسط القول على تلك الرحلات بما جلى في كتاباته وتحاريره على كل سابق وسن الطريق في أساليب التآليف لكل لا حق.

السفر على وجه البحر كالنفي والأسر

أسرت الروم عبد الرحمان بن أنعم في البحر ومضوا به إلى القسطنطينية ثم افتدي مع من افتدي من الأسرى. وكان الملك هم بقتله فحرك شفته بقوله : الله ربي لا أشرك به شيئا فسأله الملك عن ذلك فأعلمه بما قال فأطلقه لذلك. وكذلك وزمار بن صقلاب أمير مغراوة وزناتة أسره عبد الله ابن أبي سرح وأرسل به إلى سيدنا عثمان ، فلما أسلم أطلقه وصار له ولذريته من بعده ذكر ونفع للأمة وانتماء وتشيع لصاحب الولاء. وغالبا يكون القسم الأول لأسباب سياسية وأحكام إدارية. وقد سارت لأجل ذلك سفينة نابليون إلى جزيرة هيلانة وسفينة إسماعيل باشا والي مصر ، وغيرهم من عظماء الرجال كثير. والثاني يكون لاختلاف الأمم وينشأ عنه الرق في الإسلام على شروط معلومة وأحيانا لمجرد التعدي في صحراء السودان والممالك الغير المنظمة والقرصنة في لجج البحار وشواطئها. وقد أجمعت الآن آراء الدول على إراحة البشر من ذلك كله.

٥. السفر الأدبي :

١. كزيارة الأقارب والأوداء لإزالة الشوق وتمكين المحبة.

٢. أسفار الزفاف. سافر سيدنا عمرو بن العاص إلى الإسكندرية إجابة لدعوة شماس بها كان عرفه في الشام في بعض رحلاته التجارية. والشماس في وجهة

٨٤

دينية بالقدس. وقد أجهد الشماس العطش في بعض الأيام وأشرف على الهلاك فجاد عليه بالماء عمرو بن العاص ، والعرب كرام ، ثم نام الشماس وسعت نحوه حية فقتلها عمرو ، ومن أخلاق العرب حفظ الجوار ، فلما استيقظ الشماس وعلم قيمة هاتين المزيتين طلب منه أن يزوره في بلده الإسكندرية حيث كان منقطعا عن أهله وماله ولا يقدر على مكافأته عن إحيائه له مرتين. نجاه من العطش والحية معا. وعند ما حل سيدنا عمرو بالإسكندرية قابله الشماس بكل حفاوة وإكرام في إقامته وعودته. سافر عبد الرحمان بن أنعم قاضي إفريقية من القيروان في أواسط القرن الثاني إلى بغداد لزيارة أبي جعفر المنصور صاحبه من عهد التعليم ـ وحلقات العلم من أعظم أسباب التعارف المتين لرجال المستقبل وحكى عن نفسه قائلا : كنت أطلب العلم مع أبي جعفر المنصور أمير المؤمنين قبل الخلافة فأدخلني يوما منزله فقدم إلي طعاما ومريقة من حبوب ليس فيها لحم ثم قدم إلي زبيبا ثم قال يا جارية : عندك حلواء؟ قالت : لا. قال : ولا التمر؟ قالت : ولا التمر. فاستلقى ثم قرأ هذه الآية (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ). قال فلما ولي المنصور الخلافة أرسل إلي فقدمت عليه فدخلت والربيع قايم على رأسه فاستدناني وقال يا عبد الرحمان ، بلغني أنك كنت تفد إلى بني أمية. قلت أجل. قال : كيف رأيت سلطاني من سلطانهم وكيف ما مررت به من أعمالنا حتى وصلت إلينا. قال فقلت : يا أمير المؤمنين رأيت أعمالا سيئة وظلما فاشيا ، وو الله يا أمير المؤمنين ما رأيت في سلطانهم شيئا من الجور والظلم إلّا ورأيته في سلطانك وكنت ظننته لبعد البلاد منك فجعلت كلما دنوت كان الأمر أعظم. أتذكر يا أمير المؤمنين يوم أدخلتني منزلك فقدمت إلي طعاما ومريقة من حبوب لم يكن فيها لحم ثم قدمت زبيبا ثم قلت يا جارية عندك حلواء قالت : لا. قلت : ولا التمر. قالت : ولا التمر. فاستلقيت ثم تلوت (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) فقد والله أهلك عدوك واستخلفك في الأرض ، ما تعمل؟ قال فنكس رأسه طويلا ثم رفع رأسه إلي وقال : كيف لي بالرجال؟ قلت : أليس عمر بن عبد العزيز كان يقول : إن الوالي بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها ، فإن كان برا أتوه ببرهم وإن كان فاجرا أتوه بفجورهم. فأطرق طويلا فأومأ إلي الربيع أن اخرج

٨٥

فخرجت ، نقل ذلك الحموي. رحل أبو عقال غلبون ابن الحسن من القيروان إلى مكة في القرن الثالث وهو من عائلة بني الأغلب فرحلت إليه أخته من القيروان لزيارته وأقامت معه بمكة حتى مات فقالت في حقه :

ليت شعري ما الذي عاينته

بعد طول الصوم مع نفي الوسن

مع عزوب النفس عن أوطانها

والتخلي عن حبيب وسكن

يا شقيق ليس في وجدي به

علة تمنعني من أن أجن

وكما تبلى وجوه في الثرى

فكذا يبلي عليهن الحزن

١٣٢٠ ـ ١٩١٢ في العام الفارط سافر صديقنا الفاضل الحسيب النحرير سيدي الخضر ابن الحسين إلى دمشق الشام لزيارة أقاربه بيت العلم والشرف والنزاهة ومكارم الأخلاق ونشرت جريدة الزهرة من تحرير قلمه البليغ وأدبه الغزير في شأن الرحلة ما تسابقت أيدي قراء العربية إلى تناوله من مطبوعات تلك الجريدة وادخاره ذخرا بين عيون الأخبار وأحاديث الأسفار.

ومن عوايد أروبا سفر العروسين وقت الزفاف ، ولعلهم يرون فيه راحة من تكاليف المنزل وقبول المهنئين. والمسافرون يركن بعضهم إلى بعض بداعي الحاجة والإعانة ، وفي السفر يعلم الإنسان قيمة نفسه ، واحتياجه إلى بني جنسه ، والإنسان مدني بالطبع. يعمد هاذان الرفيقان في مبدأ تعارفهما للاجتماع العمري على وجه الأرض إلى الترافق في سفر قصير يستفيدان منه لزوم إعانة كل منهما للآخر في سفر الحياة الطويل وحاجته الشديدة إليه ، ولكي يعلما أن ليس لهما ثالث يعتمدان عليه في شؤونهما أوله حظ في القرب من منزلة اتحادهما. وليس للعروسين من درس لذيذ ومفيد لهذا الغرض العظيم أحسن من السفر وهذا شأنهم في غير سفر الزواج ، فمتى رحل الرجل في أي خدمة أو نزهة إلا وعياله معه ، وإذا تمثلنا نحن بقول الشاعر :

٨٦

نقل ركابك في الفلا

ودع الغواني في القصور

ما الماكثون بأرضهم

إلا كسكان القبور

قلت قال لسان حالهم :

نقل ركابك في الممالك

بالعيال ترى السرور

إن العيال إذا نووا

أضحوا كسكان القبور

وتلك رتبة من ثمرات العلم والتهذيب العام في طبقات الرجال والنساء دون الوصول إليها مراحل الأجيال ، وعظائم الأعمال وعزائم الآمال.

الإقدام على السفر لغير الممالك الإسلامية

الإقدام عليه ما دام الإنسان آمنا على نفسه ودينه وماله لا مانع منه لجميع الممالك المتباينة الأجناس والأديان. وبالأحرى إذا كان لفائدة مرغوب فيها فإن الحكم الشرعي الذي جاء بمصالح الدنيا والدين يتعلق بذلك على حسب تفاوت الأسباب والمصالح. وسيأتي شرح الأمن في فرانسا على الدين والنفس والمال ـ وقد سافر أساطين العلماء سعيا في الصلح أو مناظرة أهل الأديان أو في السفارات أو في نقل العلوم ونحو ذلك ـ وقد تكلم الفقهاء في ذلك قديما وعنونوها بمسألة السفر إلى أرض الحرب أو دار الحرب. وجاء الناس بعدهم فتلقفوا كلماتهم بدون إمعان النظر فنزلوا المسألة على السفر لغير بلاد الإسلام مطلقا وغضوا النظر عن كلمة دار الحرب.

فإن دار الحرب هي بلد القوم العدو الذين بيننا وبينهم القتال بحيث من ظفر منهم بواحد منا كان غير آمن على نفسه وماله كما كان الحال في أيام القرصنة. وقد توسع

٨٧

بعض الفقهاء فعلل المسألة بأن المسافر إلى غير بلد الإسلام تجري عليه أحكام غير الدين الإسلامي ولا يجوز للإنسان أن يعرض نفسه لذلك. وقد وقع التعليل بذلك في المدونة وقال لا أحب ذلك ففهم سحنون وابن حبيب الحرمة وارتضاه المازري ، وذهب جمهور القرويين إلى أنه مكروه ولا يجرح في عدالة فاعل واستدلوا له بتصريح مالك في غير المدونة. وقال ابن محرز الصواب أنه إن لحقت المسافر ببلدهم مذلة فهو مكروه وإن لا فلا شيء فيه.

٨٨

نصّ الرّحلة

قبل السفر إلى فرانسا

كنت أبحث كثيرا عما يلزم المسافر وما ينبغي له أن يحتاط منه في فرانسا حيث لا يوجد دليل يشتمل على ما يتطلبه التونسي عند السفر لأروبا. وبعد أن جمعت كثيرا من الإفادات لخصت من أهمها ثلاثة أشياء يجتهد المسافر للتيقظ لها وهي :

١ ـ التنبيه لبعض المحتالين بإظهار التودد وبالتدليس في التشبه بقوم ذوي شرف أو وظيف ومرادهم الخداع. وأن تلف الثياب كما يلزم على البدن ، وبالأخص الجهات التي بها مال الإنسان وحاجته تحفظا من تسرب أيدي السراق من المنافذ الكثيرة في الثياب العربية ، وإن كان الأروباويون يجهلون خفايا وأكمام لباسنا ومواقع وضع المال. وقد سمعت ذلك من بعض العائلات في باريز اغتباطا على جهل السراق لذلك واطمئنانا عني من هاته الجهة حسبما يأتي ـ وأن لا تسلم الحقيبة عند النزول من السفينة أو القطار للحمالين غير المستخدمين بالشركات ، وبالأخص في مرسيليا المفعمة أرصفتها وطرقاتها بمزيج من أصناف الحرافيش وكثير من أذناب الأمم.

٨٩

٢ ـ التباعد عن القهاوي التي تجلس بها النسوة ذوات الحرية وتغشاها غير ذوات الأزواج ويكثر اجتماعهن فيها وبالأخص ليلا.

٣ ـ التنبيه في الطرقات للسيارات «الأتوموبيلات» لكثرتها وسرعة سيرها لأنها أضرت بكثير من الناس من أبناء البلاد فكيف بالغريب الذي تصعب عليه بباريز السباحة في تيار الطرقات المفعمة بحشر من البشر والحيوان والعجل وضروب آلات النقل السريعة. وسيأتي ذكر هاته المسايل في مواضعها.

والعلم قبل السفر بالأماكن المقصودة والإحاطة خبرا بشؤونها والاحتياط لما يهم المسافر منها مما يوفر الاستفادة والأمن والمال للمسافر عند الوصول إليها كما لا يضيع على المسافر الوقت في البحث والسؤال. والوقت للمسافر أنفس من المال.

من القيروان إلى باريز

المسافة بين القيروان وباريز نحو خمسين ساعة برا وبحرا ، فالراكب من القيروان بالقطار على الساعة الرابعة ونصف صباحا يوم الجمعة مثلا يدرك السفينة التي تخرج من مرسى تونس على الساعة الثانية بعد الزوال ، ومن الغد يوم السبت مساء يصل إلى مرسيليا مرسى التجارة العظمى بفرانسا على الساعة الثامنة مساء ومنها إلى باريز. والحصص اللازمة للتنقل بين مراكب البر والبحر في العدوتين قليلة جدا ، ومدة السفر الحقيقية من القيروان إلى تونس سبع ساعات في القطار ، وفي البحر ثلاثون ساعة ، ومن مرسيليا إلى باريز نحو اثنتي عشرة ساعة في القطار السريع جدا ، ولا يقف بعد مرسيليا إلّا في ست مراكز فقط وهي أفينيون ، فلانس ، ليون ، ماكون ، ديجون ، لا روش ثم باريز. وبعض القطارات تصل في أربع عشرة ساعة فما فوق.

فالجملة نحو يومين بين القيروان وباريز التي هي مسافة نحو ألفي كيلومتر فمن القيروان إلى تونس على طريق سكة الحديد نحو مائتي ميل ، ومن تونس إلى مرسيليا بحرا ٨٨٥ ميلا ومن مرسيليا إلى باريز ٨٦٢ ميلا.

٩٠

يوم السفر من تونس إلى فرانسا

قطعت تذكرة السفر من شركة الملاحة المسماة لا طرانز أتلانتيك على طريق إدارة النيابة الأجنبية «لا جانس طرانجي» في الدرجة الثانية بحرا وبرا من القيروان إلى القيروان. وعينت الخطوط والبلدان التي أمر بها وأجرة الكراء برا بحساب الأميال ، وكلما كثرت قل الكراء ، ويدفع مسبقا بتخفيض محدود يقارب الثلث لو دفع المسافر أجرة الركوب إلى كل بلد في مراكز الدفع ويسمى (بايي سركلاير). كما أن الشركة تتولى قبض معلوم الركوب في البحر ثلاثة فرنكات. وكان الفاضل الثقة الشيخ أحمد ابن سعيد المحصل على شهادات التطويع والخلدونية واللغة الفرنساوية قد عزم على السفر لفرانسا ، فعقدنا النية على الترافق وعزمنا على المصاحبة في السفر إلى أروبا ، وهو من أحسن الناس معاشرة وأصفى مودة وأنزه طوية وأبعد عن التداخل في الخصوصية. ذلك كله بعد أن قدمت مطلبا إلى النيابة المذكورة قبل السفر بمدة وعينت لها يوم الركوب وهو من لوازم المسافر ليأخذ فراشا في السفينة ، إذ قد لا يجد مكانا للكراء يوم السفر إذا أخر الطلب ، وبالأخص في أيام المصيف التي يكثر فيها المسافرون الأروباويون إلى مرسيليا رجوعا إلى لدات الأوطان ونعيم المصيف ، فيجمعون بين الوطن والوطر ، يصطافون بلد الثلج ويشتون بلد التمر. وركبت يوم الجمعة مساء على الساعة الثانية بعد الزوال في السفينة المسماة بلد الجزائر «فيل دالجي» ، ووادعنا بعض من الأقارب من بينهم الشيخ سيدي عمر الورتتاني ولمة من الأصدقاء والأخلاء ، منهم الأكمل النحرير الشيخ سيدي الطاهر ابن عاشور قاضي قضاة المملكة التونسية فيما بعد ، والمفضال الإمام سيدي محمود محسن الشريف ، وشقيقه الأكمل الإمام سيدي علي محسن. ورأيت كثيرا من الأحباب بعد صعودي ظهر السفينة قرب الأقلاع ليتمكنوا من مقابلتي ، جازى الله جميعهم خيرا. وقوة الوداد ، إنما تظهر في وداع وتلقي المسافر من البعاد. وتلك الذوات آخر ما يبقى بخياله في الاغتراب ، وأول ما يسر بها عند الإياب.

كما أن الإعانات المادية والأدبية والإرشادات المفيدة للمسافر التي أمدنا بها كثير من أهل الكمال والوداد مما رسخت في نفوسنا التي أثر عليها ذلك الحنو والانعطاف

٩١

في مثل تلك الأوقات التي يعز فيها على الإنسان كثرة الأصدقاء ، ومن قبل كان فتح عينه على كثير ولا كنه إذ ذاك لا يرى إلّا قليلا فيحسن التمثل بما يأتي :

وإذا دعتك إلى صديق حاجة

فأبى عليك فإنه المحروم

«فالأمر» يأتي عاجلا من غيره

وشدايد «الحاجات» ليس تدوم

فاستغن عنه ودعه غير مذمم

إن البخيل «بجاهه» مذموم

كل ذلك بعد أن أخذت رخصة من الحكومة لمدة شهرين في السفر لأروبا ودفعت عن ذلك ٣ فرنكات. وبلغني من بعد أن الموظفين يمكن أن يعفوا من الأداء منحة لهم مثل الإعفاء من كراء ركوب البحر الذي تعطفت همة جناب مسيو بلان الكاتب العام بالدولة التونسية فسوى فيها بين الإدارات التي يراها كلها لديه سواء ، والمتوظفين فيها منه بمنزلة الأبناء. لذلك تراه ينشطهم بأقواله وفعاله. وتذكرة الرخصة في السفر يستظهر بها عند الصعود في سلم السفينة بالرصيف لأعوان المحافظة المراقبين لكل مسافر. وغلمان السفينة يتلقون الراكب ويعينون له فراشه من العدد المرقوم على بطاقة السفر ويعينونه على رفع أمتعته ومواد سفره وقضاء حوايجه وهو ملزوم بالإحسان إليهم. ومن هنا يأخذ في التعود على الإحسان «بوربوار» أي ثمن المشروبات الواجب في كل مكان بفرانسا إلى كل من يباشر لك عملا زيادة على الأجور الواجبة.

بين السماء والماء وصف البحر وراكبه

أقلعت السفينة على الساعة الثانية بعد زوال يوم الجمعة بالتعديل المعتبر رسميا والمعمول به بالمملكة التونسية أخيرا المطابق لخط الزوال بأواسط أروبا ، وهو شرقي خط

٩٢

الزوال بتونس والقيروان ووقته سابق بنحو ربع الساعة أو ثلاثة أرباعها بحسب تنقلات الشمس وتباعد خطوط الزوال في أواسط الكرة وتقاربها في أطرافها على ما اقتضاه شكلها الكروي السابح في الفضاء كبقية الكواكب. (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ودامت السفينة في القنال بين الرصيف وحلق الوادي نحو نصف ساعة.

خاضت غدير الماء سابحة بها

فكأنما هي في سراب أينقا

كانت سرعة سير السفينة ثلاثة عشر ميلا بحريا وهي أربعة وعشرون كيلوميترو والميل البحري ١٨٥٠ مترا. ولسير السفن في البحر حساب خاص فيعبرون على مسافة خمسة عشر ميترو وكسر بالنو «عقدة». والميل البحري مركب من مائة وعشرين «نوا» ولما كانت الساعة بها ستون دقيقة قسموها إلى مائة وعشرين مثل أجزاء الميل البحري ، فكان الجزء من الساعة لأجل ذلك عبارة عن نصف دقيقة وبها يحسبون ما تقطعه السفينة من عدد «العقدات». فسفينة الجزاير تقطع ١٣ نوا أي في نصف الدقيقة وذلك عبارة عن ١٣ ميلا بحريا في الساعة المساوية لأربعة وثلاثين كيلوميتر من حساب مسافات البر. وعدد المستخدمين بالسفينة تسعون وصنعها كان عام ١٨٩٠. وقوتها ثلاثة آلاف وخمسمائة فرس ولها تلغراف بدون سلك وبها فرش ٩٥ في الدرجة الأولى وفي الثانية ٨٧ وفي الثالثة ٤٢ ، على عكس المجالس في قطارات البر حيث تكون الرتبة الثالثة أكثر ثم الثانية ثم الأولى ـ وهاته الشركة فرانساوية رأس مالها ثمانون مليونا ، وابتداء أعمالها في البحر المتوسط من سنة ١٨٨٠ ولها فيه عشرون سفينة جايلة ، وعلى جميع سطح البحار في العالم لها ٧٨ سفينة.

قضينا عشية اليوم والسمر بالليل في هدو وطيب هواء وراحة بال ، وشكرنا البحر وعجبنا من عظمته وتلونات مائه وامتداد سطحه والتصاق آفاقه بالأفلاك. فكان مثله مثل الحليم في قدرته أو العالم مع صغار تلامذته ، يبدي لهم ألوانا من المسايل بحسب ما يراه فيهم من القابلية وتفاوت الأهلية. وعندما غابت الشمس في لججه غاب عنها معها حسن ذلك المنظر الذي راق لنا للمرة الأولى. وكان البحر أسدل علينا ستار الليل ليستحضر رواية عجائبه ويمثلها لنا في الغد. ففي آخر الليل انقلب

٩٣

الحال وانعكست القضية ، وما بالطبع لا يتخلف. فاضطربت السفينة وغلقت شبابيك غرف النوم لأن شرب الماء المالح لا ينطبق على صحتها :

ومخالط السلطان مثل سفينة

في البحر ترعد دائما من خوفه

إن أدخلت من مائه في جوفها

آوى بها مع مائها في جوفه

فكأنه يعاملها بشريعة المصريين إذ كانوا يعاقبون السارق بأن يسترق طول دهره ، كما قصته علينا سورة يوسف ، فصعدت إلى الطبقة العليا وبها بيوت الأكل والجلوس منظمة بأحسن من بيوت المنازل البرية ، وكلما زاد النهار ازداد الاضطراب وأتعب الدوار الركاب وبالأخص أصحاب الدرجة الرابعة الذين على سطح السفينة ، فقد ابتلت حقائبهم وأمتعتهم التي طفت عليها الأمواج ، فأصعدوهم على سطح بيوت الأكل ومجالس الراحة بعدا عن تيار الماء واختطاف الأمواج حيث مجالس الرتبة الأولى والثانية بأسفل بطن السفينة ، وأما الرتب الأخيرة والرخيصة ففي أعلاها عرضة للحر والقر. وكذلك مجالس التمثيل حيث أهل الدرجة الأولى ينظرون للمرسح وأدوار الرواية أفقيا على مساواة سطح مجالسهم. وصار منظر السفينة محزنا حيث لا يرى إلا ركاب مبتلي الثياب وآخرون بدواير السفينة يتجرعون ما في بطونهم من آلام الدوار ، والبعض ملقى على الكراسي والكنبيات لا حراك به ، وطائفة على الأرض تئن بدون أن تقدر على الوقوف ، ومنهم من يحاول المشي نازلا إلى الطبقة السفلى التي بها غرف النوم وبيوت التطهير ، والبعض يعاني الصعود للجلوس في الطبقة العليا استنشاقا للهواء. وبالجملة (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) ولكن دوار البحر شديد ، وتحقق قول الشاعر :

ترى متنه سهلا إذا الريح أقلعت

وإن عصفت فالسهل منه وعور

حاولت في أول الأمر الثبات وعدم الاكتراث وكنت لا أعرف معنى لآلام الدوار

٩٤

ولم يكن يخطر ببالي أنه يتغلب على حواسي. وعدم الخوف مما يخفف فيما يظهر ، وأما الوهم فإنه مما يتقوى به الألم. وأخيرا كانت قدماي غير مساعدتين لي على الوقوف والمشي بهما على خلاف ما أعهد منهما. يكثر الصداع برأس الإنسان فلا يحب إلّا الاتكاء. ويتمشى الوجع بين الرأس والقلب فيتطلب ما في المعدة الخروج قهرا ، وكلما نزلت السفينة في هوة بعد الصعود على الأمواج التي هي كالجبال إلّا ويهوي القلب في جسد الراكب حتى يكاد يتقطع ، فيتأثر جميع البدن ويكاد يغمى على الدماغ. كنت أشجع نفسي في أثناء هاته الحالة لأتمكن من إغاثة بعض القوم الذين كانوا صرعى على بساط السفينة رجالا ونساء ، غير أنني صرت لا أقدر على الحركة بالمرة. نعم كنت أشاهد الزوج لا يلوي على زوجته ولا يتذكر صديق صديقه فهم لا يعملون بما قاله ابن رشيق :

ولقد ذكرتك في السفينة والردى

متوقع لتلاطم الأمواج

والغيث يهطل والرياح عواصف

والليل مسود الذوايب داج

وعلا لأصحاب السفينة ضجة

وأنا وذكرك في ألذ تناج

ولم يجلس المسافرون على مائدة الأكل ساير اليوم وفازت السفينة بطعام الصباح والزوال والعشاء ، حيث المؤنة داخلة في معين الكراء عدا موظفا عسكريا فرانساويا أتى من المغرب الأقصى ، وذكر أنه ركب البحر نحو العشرين مرة وأن ما عرض من الاضطراب للسفينة في هاته المرة لم يعهده ، وكان كلما ضرب طبق النحاس إيذانا بأوقات الأكل يجلس على المايدة وينال مشتهاه.

شكل البحر الأبيض وشئونه بين القارات الثلاث البحر الأبيض

أو الغول الأزرق ، قل ما شئت في أسمائه ، على حسب التقلب في أعماله

٩٥

والتلون في حلل مائه. ليس لمجاوري هذا البحر راحة ولا هدو من قديم الزمان ، والأمم تتهافت على سكنى شواطئه الطيبة الهناء وامتلاك وارف ظلالها وأراضيها الخصبة والجيدة التربة. المحفوفة بالمكاره والصعوبات ، والهجوم والغزوات. فكم تخطفت به ظلما من أرزاق ، وأسرت من عدوتيه نفوس بريئة وأريقت على جوانبه من دماء للدفاع عن المقر أو سلامة الشرف أو الانتقام له ، وامتلاك مكاسب الغير هجوما من قوم آخرين. وتاريخ هذا السام الأبيض أو الثعبان الأخضر التلون لسكان عدوتيه أمنا وبؤسا وراحة وشقاء وحلاوة ومرارة. رأسه الأسود في جهات البلغار القديمة ويداه بأراضي الفراعنة جنوبا وجزر أمم الإكريق شمالا ، ورجلاه في ممالك الرومان بالعدوة الشمالية ومجالات بربر إفريقية بالعدوة الجنوبية وذنبه بين جبل طارق وطنجة.

وقد اندلع هذا اللسان من المحيط الأطلانتيكي مشرقا سالكا بين أروبا شمالا وإفريقيا جنوبا ، حتى إذا ضرب بصدره في غربي آسيا وضع رأسه في أعالي الشمال واستنام بين قارة آسيا وأروبا ، وأرسى بأطراف جوارحه ومكن مخالبه في شواطي القارات الثلاث أروبا وآسيا وإفريقية. طوله نحو أربعة آلاف وخمسمائة ميل ، وعرضه بين تونس ومرسيليا ثمانمائة وخمسة وثمانون ميلا ، وعمقه نحو أربعة أميال ونصف ودرجة حرارته نحو ٢٥ درجة على السطح. ضرب بعصا يمينه البر «بالمهندس لسبس الفرنساوي سنة ١٢٨٦ ـ ١٨٦٩» بين مصر والحجاز فانفلق ما بين إفريقيا وآسيا وفرق ما بينهما على القاعدة القديمة (فرق تملك). ويقال إنه في القديم حال أيضا بين هاتين القارتين ولاكن صير فيما بعد يبسا وفي كتاب «تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن». عندما استولى ملوك الفرس على مصر فكروا في حفر ما بين البحرين القلزم والرومي ، ولكن توهموا ارتفاع ماء القلزم على أرض مصر فأحجموا ، وفي دولة اليونانيين وصل بينهما بطليموس الثالث على يد أرسمدس بلا ضرر. فلما كانت دولة الروم القياصرة طموه منعا لمن يصل إليهم من أعاديهم. ولما عزم الرشيد على إيصال بحر السويس إلى البحر الأحمر قال له جعفر البرمكي حيث خاف من سطو أمم البحر الأبيض على ثغور آسيا إن خرق السويس ووصله بالبحر الأحمر خرق في الإسلام ، وأشار بأنه يجب سده لو وجد متصلا بالبحر الأحمر.

لذلك عبرت أمم آسيا إلى إفريقيا على طريق مصر بسهولة وامتزج أبناء سام بأبناء

٩٦

عمهم حام. وأبناء حام لا يزالون من قديم تصيبهم دعوة جدهم نوح بأن يكونوا خولا وعبيدا لأبناء عميهم ، قرر ذلك ابن خلدون. ونص عبارة التوراة : ملعون كنعان (ابن حام) عبد العبيد يكون لإخوته. مبارك الرب إله سام. وليكن كنعان عبدا لهم.

ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبدا لهم. جرى البحر الأبيض في عهد الدولة الخديوية المصرية إلى البحر الأحمر وربط وصلة التعارف بين البحرين العظيمين الأطلانتيكي والهادي وصار مجمعا في أراضي الدنيا القديمة فكأنه اليربوع جعل نافقة ليجد مخلصا يوما ما إذا سد عليه بوغاز جبل طارق.

فعظمت في الواقع بذلك سلطته وزادت أهمية مركزه وامتدت عروق تغلبه. وليته صار كله يبسا أو جعل له نفق تحت الأرض بين إفريقيا وأروبا مثل الذي فكروا فيه ببحر المانش على ضيق مسافة عرضه بين فرانسا وأنكلترا لتستريح أمم القارات من ويلاته ، وأرباب الأسفار من نكباته ، وسكان الشواطىء من روعاته ، وموازين الدول من نفقاته. وتتعارف الأمم المفرق ما بينهما بحد سيفه ، حيث المجتاز عليه كالمار على الصراط وتتآخى بانقطاعه الممالك بموجب الجوار وسهولة المواصلة ، وتزول الخلافات ويرتفع اللبس ، ويرى كل فريق صاحبه عيانا ويتعرف لغته وخلقه وعوايده ، وتنقشع سحب الوهم من بعض أفكار قوم في احتقار قوم آخرين أو ظن النقص في جانبهم من أصل الخلقة أو عارض الاعتقاد.

نعم قد حال هذا السيف الأبيض بين أمم القارات وأرهف حده للممالك التي على حفافيه ، والجزر الناهدة على صدره ، يسكن في بعض الأحيان هياجه فتطمئن له النفوس البسيطة فيمازجونه وينامون بجواره على طيب الهواء وصفاء الماء ، ثم يفور تنور لهيبه ويغلو مرجل البغضاء بمائه فيضرب الأمم بعضها ببعض ليبتلع من فرايصها ما يقتات به حوت بطنه ، ويلتقم من المراكب والذخاير والنفايس ما يكتنزه ظلما في ظلمات أعماق أمعائه ، والبحار ذات ولع بالذخائر والجواهر. واليوم معدل نكباته أن يبتلع يوميا مركبا كأن ذلك معاوضة بما أكله البشر منه لحما طريا واستنشقه هواء نقيا. وفي العام الفارط طغى على أكبر سفينة وهي تيتانيك ، فابتلعها بما فيها من مال ورجال. ويوم نزلت تيتانيك إلى البحر للمرة الأولى قامت الصحافة الأنكليزية تفاخر بها وتلقبها بسيدة البحار ، وتحسب زيادة إتقانها ثمرة ما أتته الهندسة البحرية

٩٧

إلى اليوم لأنها تقل ٣٥٠٠ راكب يمكن لألف وخمسمائة منهم أن يتناولوا الطعام في آن واحد ، وهي لشركة هويت الأنكليزية ، وأكبر بواخر العالم ، تحمل ٠٠٠ ، ٦٤ طن ، وأبحرت للمرة الأولى من مدينة سوثمبتون في العاشر من شهر أفريل الماضي ١٩١٢ قاصدة البلاد الأميريكية حاملة من الركاب ٢٢٠٩ ، بينهم كثير من أصحاب الأموال الطايلة والشهرة البعيدة. وكانت تسير بسرعة ٣٠ عقدة في الساعة ، أي سبعة وثلاثين كيلوميترو حين اعترضها في منتصف الليل جبل من الجليد منحط من القطب الشمالي فاصطدمت به صدمة قوية فتحت في مقدمتها ثغرة كبيرة اندفعت فيها المياه بقوة هايلة أوقعت الرعب بقلوب من فيها من ركاب وبحارة. ولما رأى الربان شدة الخطر أوعز إلى مأمور المركونوغراف فيها أن يطير البرقيات في عرض الأوقيانوس يطلب النجدة من البواخر الماخرة فيه. وكانت كرباتيا ، وهي أول باخرة وصل إليها النبأ ، تبعد نحو ١٧٠ ميلا عن محل الفاجعة فلم تتمكن من إدراكها إلّا وقد قضي الأمر. وغدت تيتانيك إلى الأبد في قعر البحر ولم ينج من الباخرة إلّا ١٧٥ راكبا.

وظلت تلك الباخرة الجبارة أربع ساعات في نزع هايل ثم اختفت عن الأبصار. حكى ذلك البرق البيروتي. وكأن البحر شح بها فادخرها في خزاينه ـ ومن قبل ابتلع سفينة القاضي أبي بكر بن العربي الأندلسي ومعه أبوه في وجهة السفر السياسي بين يوسف بن تاشفين وبغداد في أواخر القرن الخامس هجري ورمى بهما على شاطي برقة. وسفينة أبي الحسن المريني سلطان المغرب الأقصى وقذف جسده على شاطىء بجاية ، ومن بين النفايس التي بها والذخاير الملوكية عقد المجوهرات الغالية ويسمى بالثعبان ، في نصف المائة الثامنة ـ وماء البحار بالنفايس مولع. وابتلع السفينة التي بها عائلة ابن خلدون ومكاسبه بين تونس والإسكندرية بما أحزن ذلك العالم الرحالة في أواخر عمره ولولا أنه فيلسوف المؤرخين لمات غما من الحادثة.

كثيرا ما تتمزق من هياج البحار أرحام القرابة بين أبناء نوح في أثافي القارات الثلاث ، ويتسع خرق الخلاف لبعد الشقة ويسوء التفاهم لاختلاف اللغة. والبعد عن العين من أسباب البعد عن القلب. واختلاف اللغات من أسباب سوء التفاهم في مصالح الحياة. مكن البحر الأبيض القرطاجنيين ، النازحين من صور الشام وهم عرفوا امتطاء البحار وطرقها من قبل المسيح بقرون ١٥ ، من تأسيس مستعمرة أتيكا

٩٨

وعاصمة قرطاجنة قبل المسيح ٨٨٠. وهم من أبناء حام ولذلك آوتهم قرابة البربر بهم وإن اختلفوا في اللغات حيث الفنيقيون لغتهم عبرانية. كما أغرى الفنيقيين أيضا بمهاجمة الرومان في قعر منازلهم وعاصمة ملكهم ومناخ عزهم وقوة جيشهم وأبهة جبروتهم ، وساحل بهم بزعامة القائد أنيبال مع شاطيه الجنوبي الإفريقي زوجيتانيا «المغرب الأدنى «ونوميديا» الأوسط ومورة «الأقصى». وأجازهم على ذنبه ومنبع مائه «بحر الزقاق» ، وأدارهم على الشاطي الشمالي مع دروب وفجاج جبال البيريني ثم جنوب غليا (فرانسا) التي زودته بجيش من أبنائها إعانة على حرب رومة فامتزجوا بعساكر قرطاجنة وإفريقية يدا واحدة على من سواهم. وربما أعاد التاريخ نفسه في السنوات الأخيرة من جهة اتحاد إفريقية قرطاجنة وفرانسا في مواضع كثيرة بالشمال الغربي من إفريقيا. ثم ضرب هؤلاء القرطاجينون ببطل رومة القائد سيبيو المعروف بالإفريقي في أول القرن الثالث قبل المسيح ، ودامت سلطة الرومانيين قائمة على العدوتين. فإحدى رجليها بالجنوب على قرطاجنة والرجل الأخرى بالشمال على رومة نحو ستة قرون ١٤٦ ـ ٤٣٩. ثم أدال من الرومان بالفندال سنة ٤٣٩ ، جلبهم من جهات الدانمارك إلى إفريقيا. ثم أحل بإفريقيا أصحاب قيادته ومن بيدهم دواير قلادته من شواطي بزنطة «دولة الروم» سنة ٥٣٥ حتى ضرب الروم بجرانه على إفريقيا ، غير أن نوابهم خافوا من أذى مجاورته فرحلوا عن ساحله وتباعدوا عن ساحته. ومعلوم أن ماء صداقة البحر أجاج ، وليس لكف أذاه من علاج. فنصبوا كرسي الاستقلال بسبيطلة بدل قرطاجنة ، والبراري وحواضر القفار هي منازل العز بلا خلاف.

لذلك أسس العرب القيروان في أواسط إفريقيا بين البسايط الجميلة الموالية للصحراء وبين التلول النضرة المتصلة بساحل البحر الأبيض ، حيث قال لهم عقبة إنني أخاف أن يطرقها صاحب القسطنطينية فيهلكها صاحب البحر لكن اجعلوا بينها وبين البحر ما لا تقصر فيه الصلاة. وبعد أن كانوا يخافون البحر وينهون عنه أنشأوا بشاطىء قرطاجنة جيشا من المراكب ملكوا به أعضاء الحياة من هذا المخلوق العظيم وحرثوا أديمه بأساطيلهم الماخرة ، وأكلوا وشربوا على بساطه الفيروزجي ، وملكوا غالب جسده. ولم ينفلت منه غير يسراه في اليونان ورأسه الأسود وراء عنق مرمرة ، وبحيث

٩٩

لم يبق منه إلا يد مقطوعة ورأس بلا جسد. واتخذوه طريقا لسلطنة الأندلس التي كانت هي الواسطة الوحيدة لإمداد أروبا بالمعارف ومبادئ الحضارة. وطرقوا جنوب العدوة الشمالية ردحا من الزمان وتغاضى صاحب بزنطة للعرب عجزا أو تغافلا بعد واقعة ذات الصواري عام ٣٧ في بحر الإسكندرية بين عبد الله بن أبي سرح وقسطنطين صاحب الأستانة ـ فللأول نحو مائتي مركب وللثاني خمسمائة في بعض الروايات ربطوها لبعضها وتضاربوا بالسيوف وتواجؤوا بالخناجر.

كما أطالت لهم أمم العدوة الشمالية حبل الإمهال إلى أن تفشى داء الفشل في العرب وتنازعوا أمرهم وأخلدوا إلى الراحة ، وساعفوا هواهم فركدت ريحهم ، وذهبت ريعهم ، فلم تقو إذ ذاك على أن تمسك بيدها الضعيفة وجسدها العليل على مخلوق عظيم متغلب. فتألبت الأمم المجاورة وتجاذبت حبل رياسته واقتعدت غواربه وتمرنت على تسيير أغربته. فرمى بأمم أروبا وهم أبناء يافث أبناء عمهم سام بأسيا وأبناء عمهم الآخر في إفريقيا في حرب الصليب.

وأحسن صلاح الدين الأيوبي في النصف الثاني من القرن السادس هجري مقابلة ضيوفه فأرجعهم إلى أوطانهم مزودين بالصنايع والعلوم الأيسوية العربية ، ومنها إجادة صنع المراكب البحرية. وأدى المستنصر الحفصي بتونس في النصف الثاني من القرن السابع هجريا مصاريف الضيافة للدول المحتلة بقرطاجنة وقدرها نحو واحد وعشرين مليونا من الفرنكات حسبما تقدم بسط المسألة في أسباب السفر للتغلب والاستيلاء ، وانجلى تعاون أمم أروبا. وهم كما علمت أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة ، وأوشكهم كرة بعد فرة. على امتلاك الشق الأيسر «الشمالي» حتى إلى الذنب «الأندلس». وأصبح البحر حدا طبيعيا بين القارات فتعلقت الدولة العثمانية بعنقه «بحر مرمرة» فاضطرب جسده ونفر من هذا المتغلب الجديد عام ٨٥٧. ففزعت أرباب الشواطي ولم تتوفق الأمم لطرق الاتحاد على إسكانه والمسك بأطرافه. ولعب خير الدين بربروس دورا على مرسح مائه في أواسط القرن العاشر هجريا ، ولما استنجد فرانسوا الأول على أعدائه بالسلطان سليمان أرسل له عمارة بحرية تحت قيادته عام ٩٣٢ ووصلت إلى مرسيليا وانضمت إلى العمارة الفرانساوية التي لقيادة أجيان. حتى اجتمعت كلمة الدول وامتلكت الآن رأسه دولة الروسيا ، فهو ينام بإحدى مقلتيه ما

١٠٠