البرنس في باريس

محمّد المقداد الورتتاني

البرنس في باريس

المؤلف:

محمّد المقداد الورتتاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-605-5
الصفحات: ٣٩٥

جميع السكان من المسلمين واليهود :

الرجال

 ٧٥٥٨

النساء

 ٨٨٥٨

واستفدت من إظهارهم السرور بهذا أنهم بشريون يحبون سعادة الإنسان في أي مكان ، كائنا من كان ، بقطع النظر عن الأجناس والأديان ، وأظن أن هذا ليس في بعض الأفراد بل في أكثرهم ، مثلما تأمرنا شريعتنا بالأقساط والمبرة ولو لمن خالفنا في الدين من المحسنين.

كثيرا ما خاضوا معي في شئون الزواج واستطلعوا رأيي عن درجة المرأة عندنا في المعارف وفي الحرية ، ويعنون بها خروجها بدون خمار وزواجها بمن تريد وبمن يراها ، وعن تعدد الزوجات ، والطلاق. وفي الغالب لا يقنعهم الجواب عن بعض هاته الفصول ، ولا سيما كون العصمة بيد الزوج يطلق متى شاء ، والحكم على المرأة بحجرها بين الجدران مدة الحياة وجمعها مع عدة زوجات. وأكثر الأسئلة عن مثل هذا الموضوع من النساء اللاتي يهمهن هذا الأمر. وقد تقدم لنا فيما بين ليون وباريز ما دار من الحديث في هذا الغرض بالقطار مع بعض عائلات ليون. وربما كان لمن لم يقنعهن الجواب عذر مقبول لأن هذا في عينهن سلب للحرية التي اعتدنها. والفطام صعب. وكذلك دواعي الغيرة من النسوة توجب عليهن النفرة من الضرة ، فكأنهن يقلن كيف الحياة مع الحيات في قفص؟ أما المعارف للمرأة وزواجها برضاها وبمن يراها وخروجها لبعض الأسباب بالجلباب فهو من قديم في الإسلام. ولئن تقلص قليلا بعض ذلك بعوائد القرون المتوالية فللمسلمين تشوف وتشوق إلى رجوع ما يكون به الزوجان ، ومنزلهما وأبناؤهما على وفاق مستمر وفي سعادة دائمة. وليت شعري متى ترى العائلة مقامة قواعدها على ما قرره الفيلسوف ابن سينا المتوفى سنة ٤٢٨ وهو ما ذكرناه بصحيفة ١٣٥ في المحادثة التي جرت بيني وبين عائلة بين ليون وباريز.

كانوا يسألونني بمناسبة ذكر إدارة الأوقاف عن مسمى هاته الإدارة وموضوعها وأعمالها حيث لا يوجد في نظامهم لها نظير. فكنت أقول بأن الذين أرادوا فعل البر ونفع البشر فيما مضى عمدوا إلى تأبيد النفع بإخراج شيء من أملاكهم يصرف

٣٢١

محصوله في جهة يعينونها ويعلنون على أنفسهم بذلك حتى لا يتأتى لخلفهم إرجاع ذلك لخاصته. ومن محاسن الشريعة الإسلامية وتشوفها إلى إسداء البر أن حكمت على هاته الأعمال الخيرية باعتبارها أبدية بمجرد قول صاحب المعروف حبست ، ليستمر النفع العام والثواب الخاص ما دام البشر محتاجا ومحبا لإسداء البر.

واختلفت المقاصد في تعيين أنواع البر ، وربما كانت مما تكثر الحاجة إليه أو يتأكد على حسب اختلاف العصور وأنظار الواقفين ، فمنهم من أوقف الآبار وعيون الماء والسبايل للشرب ، ومنهم من أوقف على إطعام الفقراء ، ومنهم من خصص شيئا لمداواة المرضى أو إطعام العجز وذوي العاهات أو مرضى العقول ، بإطعامهم ومداواتهم حتى بالموسيقى التي لها دخل عظيم في التأثير على النفوس. وعلى المستشفيات والتكايا ، وأوقفوا كثيرا على عمارة المساجد بيوت الله ومحلات التطهير «المواضي».

كما حبسوا على المعلمين والمتعلمين حبا في نشر العلم ، وعلى الأسوار لحفظ البلدان إلى غير ذلك من الجزئيات الكثيرة ، حتى على أصداق الأبكار الفقيرات وعلى من يقوم بقتل ذوات السموم كالعقارب والتقاطها من الجدران والطرقات دفعا للأذى عن السكان. وكان الفضل في إحداث نظام كفيل يحفظ أنواع الموقوفات واستعمالها فيما عينت له الوزير المنعم خير الدين التونسي ، ابتدئ العمل به في عام ١٢٩١ وجعل القانون النظر في إدارتها لجماعة من بينهم رئيس. وسماها جمعية الأوقاف لتكون تلك الهيئة متركبة من رجال جمعوا بين الخبرة بقواعد الدين ومعاني اللغة وبالقوانين وسياسة الحكومة وعلم الاقتصاد ، لما للأوقاف من الارتباط بالدولة وكافة طبقات الأمة ، وتلزمها التدابير الاقتصادية والتنسيقات المالية ، زيادة على كونها دينية يجب أن تدار حول مجرى الشرع ومقاصد المحبسين ، ويدافع عنها وعلى حقوقها حسب الشرائع والقوانين. وهي ثالث إدارة محترمة في عين الإسلام بعد ديوان الشرع العزيز ، ونظارة تعليم العلوم بجامع الزيتونة ، حيث إنها مجموعة مبرات ومصدر للخيرات. وقد بلغت من الرؤساء إلى حد الآن سبعة وهم :

النحرير السياسي سيدي محمد بيرم

 ١

العلامة الورع ـ أحمد الورتتاني

 ٢

النزيه المقرب سيدي عمر بن بركات

 ٣

٣٢٢

العالم الأكمل ـ محمد بن عاشور

 ٤

الموقر الخير ـ محمد صفر

 ٥

البارع الوطني ـ البشير صفر

 ٦

الماجد الحسيب ـ الشاذلي صفر

 ٧

ثم صار لهاته الإدارة ناظر من طرف الحكومة ، وأول من سمي لذلك السيد البشير صفر ، ثم صار فيما بعد رئيسا ، وبعد فترة من الزمن سمي السيد حسن بن بركات معتمدا ـ ثم الآن كذلك السيد العربي بن عبد الله.

بين مرسيليا وتونس

بت في مرسيليا عند الرجوع من فرانسا في أوتيل البوسطة حيث وصلت على الساعة العاشرة ليلا في القطار الراجع من آرل على الساعة السادسة ، وفي الصباح من يوم الاثنين السابع من جويلية والثاني من شعبان أشعرت إدارة طرانز أتلانتيك في الرصيف بالركوب في ذلك اليوم في سفينة قرطاج التي تقلع عند الزوال. ودفعت معلوم البحر فرنكات ٣ ، واجتمعت ببعض تلامذة الطب من يهود تونس آيبين من جنيف ، وتراءت لي مرسيليا ضعيفة الحركة ناقصة التنظيم بعد مشاهدات مدينة باريز ، ولما بارحت تراب فرانسا بعد ثلاثين يوما كاملة ودخلت سفينة قرطاج وأخذت أجيل النظر في شكلها ونظامها وسمعتها وحضرني الحديث عنها في العام الفارط أيام الوقائع الأطرابلسية.

وبما لدولة فرانسا من حقوق القوة بالبحار ، والأسبقية في ميدان الاستعمار ، لم يتأت في العام الفارط سنة ١٣٣٠ / ١٩١٢ مساس سفينتي منوبة وقرطاجنة ، التي صفق التونسيون لشهامة قائد الأخيرة منهما ، وقدم له بعض نبهاء القيروان تذكارا من أحسن مصنوعات زرابيها ، وهي الوحيدة في إتقان البسط بشمال إفريقيا ، كما أهدى له أبناء مدينة تونس كراسي مخرمة أجادت صنعها أنامل السيد الهادي بن مالك التونسي ، صاحب الشهرة في المصنوعات الخشبية وما يرسم بها من الأشكال

٣٢٣

الهندسية ، وكان ذلك على نظر الوطني السيد عبد الجليل الزاوش.

وداع مرسيليا

عند ما أقلعت سفينة قرطاج من رصيف مرسيليا عند الزوال ، كان جميع الركاب ينظرون قياما إلى مرسيليا وتراب العدوة الشمالية ، قياما منهم بواجب الشكر عند الوداع لمملكة شربوا عذب مائها ، وتنعموا بخضرة أرضها وطيب هوائها ، ومع ذلك هي مملكة العلم والأمن والحرية. وكأن جوارح الآيبين من فرانسا كلها ثناء على أهاليها أرباب البشاشة والحفاوة بالغريب الذي لا يثقل عليهم طول إقامته ، فلا تسمع منهم عند وداعه إلّا كلمة إلى الملتقى في العام القابل ، ومناديلهم ترفرف كقلب خفاق من حر الافتراق.

سفينة قرطاج بها مجالس ١٩٤ من الرتبة الأولى ومن الثانية ٩٣ ومن الثالثة ٦٦.

وسبحت في الماء عام ١٩١٠ وسرعة سيرها ١٨ نوا في الثانية ، أي ٣٢ ميلا في الساعة. والنو علامة يضعون بينها وبين الأخرى ١٥ ميترو تقريبا. ونوتيتها ١٤٥ وقوتها أفراس ٩٢٠٠ ، وطولها أمتار ١٢٧. وقد تقدم في الكلام على سفينة الجزاير أن هاته الشركة رأس مالها ثمانون مليونا ، وابتدأت في البحر الأبيض سنة ١٨٨٠ ولها فيه عشرون ، وفي بحار العالم ٧٨ سفينة.

كان البحر في رجوعنا هاديا والسفينة تتهادى ، ولا أدري هل كانت حركتها إعجابا مثل الفرس الجواد الذي تعرف نجابته بالتحرك والترجرج دائما ، أو صارت لها عادة ونوبة من أثر فعال البحر تصيبها حتى في حالة الصحو. أو ذلك لما قرروه في شأن هاته السفينة من شدة ارتفاعها فوق سطح الماء وضيق عرضها ، فهي تتحرك حتى من بخار المراجل ، كالغصن الرطيب في الصبوح والأصايل. وممن رجع من فرانسا في هاته السفينة النجلان الكريمان لسيدنا ومولانا سيدي محمد الناصر باي المملكة التونسية أدام الله عزه وعلاه ، كانا بها في وجهة التعليم بالمكتب الحربي.

وأذكر القصيدة التي ترجم بها صديقنا الأديب السيد الشاذلي خزنة دار شعرا فرانساويا تضمن هذا الموضوع ، وقد جدد هذا الشاعر المجيد حياة الشيخ رفاعة الذي

٣٢٤

ترجم الشعر الفرنساوي إلى العربي شعرا :

أشعتك اللاتي تنير بها الخضرا

حكت درة من فوق جبهتك الغرا

تمد عليها النور شمسا تضي بدرا

فترفل تيها وهي في حكمها سكرا

ومن فوق موج البحر تبسط راحة

تقرب من باريس للقطر ساحة

تصافحها إذ تمتلكها سماحة

فتملؤها ممنونة لكم تبرا

وهذه أعوام إليك ثمانية

تنعم «ترشيش» بقبلة غلية

ولولاك ما كانت إليها مراعيه

ولا استعملت لينا بقوتها الكبرى

لك الشرف الأسمى العريق الممجد

لدى عنصر كل بفضله يشهد

وإذ لم يكن إلّا خصالك مرشد

بقيت رشيدا منصفا واسعا صدرا

وما سركم في مسقط الرأس أنكم

تحكمتم حتى استضاء بنوركم

لقد أشرقت في القطر أيام ملككم

فآذن هذا النور بالغاية الأخرى

رعيت لباريس الجميل فجئتها

بأشرف من ذاك الجميل وفقتها

جعلت بهذا الصنع ترشيش أختها

فألحقت بالشبلين عسكرها فخرا

٣٢٥

فشوهد هذا الفضل يا له مشهدا

مليكان عن تشريفنا قد تساعدا

فيا أمة بالروح تشرى وتفتدى

شقيقان قد جاءاك تعلوهما البشرى

وقد دخلا في الجند عن طيب خاطر

كما شاءت الأقدار إذا بناصر

فيا له من صنع جميل المآثر

ولم يذكر التاريخ من مثله ذكرى

منحت رعاياك الهناء وصنتها

عن التعب المضني وأشرقت وقتها

بنورك في بردو المضيء امتلكتها

لك الكل يدعو أن يطيل لك العمرا

نرى نظرات القوم حولك أنجما

ترى عود قرطاجنة منك مغنما

فيا مشرقا ما كان قبله مظلما

إلى آخر الصحراء بين لنا الفجرا

ما يهم المسافر الاحتياط له قبل السفر

اغتنمت فرصة هدو البحر فراجعت مفكرتي ورأيي في لوازم السفر فوجدت من أهمها ما يأتي :

١. ترتيب برنامج السفر ومدة المغيب ومواقع الظعن والإقامة.

٢. اختيار الوقت المناسب.

٣. علما الجغرافيا والتاريخ.

٤. اللغات.

٥. المال.

٣٢٦

٦. الرفيق الموافق.

٧. القلم واستعماله.

٨. مرآة التصوير.

٩. تخفيف الأثقال.

١٠. لون اللباس.

١. ترتيب برنامج السفر ـ يتحتم على المسافر أن يحيط علما بالجهات التي يقصدها ويتعرف جيدا شئونها وما هي عليه من جهة تاريخها وعوائدها ولغتها ، وأن يستخبر على ما يهم الاطلاع عليه فيها من أنهر وجبال وبناءات وآثار ومعاهد علم ومراكز ومعامل ومخازن تجارة ومحلات صناعة ، حتى يكون على بينة من أمر وجهته ومستقبل سفره ، وبحيث يتوخى الأماكن التي تميل نفسه للانشراح فيها والاستفادة منها ، فالمتدبر في الجهات المزمع على مشاهدتها والمستعلم على شؤونها وحالاتها يستفيد كثيرا متى وصل إليها في وقت قصير ، ينظر فيه كل ما يهم بعين التأمل والمطابقة بين العلوم في الذهن والخارج.

ولا أضر على المسافر من الخبط في جهات لا يعلم عنها خبرا ولا يلم بشيء مما هي عليه ، لأنه يبيت مقادا بالقطارات والعربات والأدلاء إلى حيث لا يريد ، وما لا يستفيد ، يرى أشباح البناءات ولا يعلم ما المراد من بنائها وتمر به خيالات الذوات فلا يجد في وسعه إلّا النظر إليها. وخبايا الأخبار وكنوز الآثار هو عنها بمعزل ، فمتى أغمض عينيه ليلا أو بعد عن المحسوسات التي يقع عليها نظره لم يبق بمخيلة ذلك المسافر إلّا صور فارغة وأغلاط فادحة وأحاديث سطحية. يجب أن يحدد المسافر مدة سفره ويخص لكل بلد أياما معلومة وأعمالا مقررة. وتغيير شيء قليل من هاته المقررات أو زيادة بعض أيام تقتضيها الفائدة أو توجبها الضرورة ونقص شيء لمثل ذلك لا ينشأ عنه ضرر في برنامج السفر ولا خلل في آداب ترتيبه ، التي إذا روعيت من قبل كما يلزم كان المسافر في راحة بال من هذا الشاغل العظيم مدة تنقلاته ، وتجده متفرغا لما يهمه عمله ومشاهداته. وحاجات الغريب كثيرة وأوقاته عزيزة ، ومن لم يوزع الأوقات على حسب مهمات الحاجات تضيع أوقاته في التفكير والتدبير ،

٣٢٧

وبالآخرة يحار في أمره فلا يدري أين يسير. فيستسلم «للمكتوب» ويلقي بنفسه في أحضان الشوارع يتلقفه واحد ويدفعه آخر ، حتى إذا آوى للفراش وحاسب نفسه على ما فعل في بياض يومه وجد صحيفة المفكرات أكثر بياضا من نهاره عدا أنه أنفق كثيرا من خطواته ودريهماته. ومن الناس من إذا سألته متى يسافر أو متى يرجع لا تجد جوابه إلّا كلمة «لا أدري» ، سأنظر. يمكن كذا الظاهر كذا. وهو من غرايب التفريط وسوء التدبير الذي لا تجده مستعملا في أقل الحاجات عند الأوروباويين.

ومن كانت له معرفة ببعض أهالي البلدة التي يحل بها استفاد منها وأمن غايلتها ، فكلمة المعارف بمعانيها أنفع من المال في سائر الأحوال.

٢. «الوقت المناسب» ـ تحسن زيارة فرانسا وباريز في الربيع لاعتدال الهواء ووجود كافة الأهالي ومباشرتهم سائر الأعمال الاعتيادية.

أما المصيف فهواء المدن الكبرى فيه حار. وأغنياء باريز «وسكان فرانسا كلهم أغنياء بالعلم والمال والتدبير» يغادرونها إلى الجهات الباردة. كما أن بعض الإدارات وديار التمثيل ومجالس السياسة لا تفتح ، إلّا أن أرباب الأسفار للخلاعة والرياضة والمداواة يناسبهم كثيرا تقضية أشهر الصيف بالعدوة الشمالية ، وبينهم وبين لهيب الشمس بشمال إفريقيا ولفح سمومها عرض البحر الأبيض حاجزا حصينا. وتقضية مدة في جهة واحدة من أروبا مما لا يروق في نظري والخريف تعصف فيه الرياح وتتهاطل الأمطار التي تحول دون التجول وتعوق عن رؤية ما يهم ويهيج البحر ، وهو السد الأكبر والطريق المخطر وفي الشتاء ، لا سبيل للإقامة في ممالك أروبا لأبناء إفريقيا الذين يشكون برد الشتاء في مملكتهم ، وهو لا يصل إلى درجة الصفر والجمود إلّا نادرا اللهم إلا نحو الكاف وكسرى :

يمدح الإنسان في الصيف الشتا

فإذا جاء الشتا أنكره

لا يحب المرء حالا أبدا

قتل الإنسان ما أكفره

فكيف بهم في أروبا والثلج يدوم فيها متراكما عدة أشهر ، ودرجة الهواء تنزل إلى

٣٢٨

نحو العشرين تحت الصفر ، وتجمد دماء كثير من أبنائها المعتادين بها ، فيموتون وتسقط أعضاؤهم وأسنانهم منه. سمعتهم يعبرون عنه بالفصل المبغوض تذمرا مما يلاقونه فيه. وكثرة الإقامة في فرانسا تستدعي إنفاقا أكثر من المعتاد ، فالمصاريف في باريز لا تتجاوز عشرين فرنكا يوميا على شرط الاعتدال في السكن والمأكل والمركب والنزهة. ومن أراد أن يصرف أكثر من ذلك فلا يجد حدا يقف عنده ولا بغية تخطر بباله يعوزه أمرها ما دام متساهلا في بذل المال.

٣. «الجغرافيا والتاريخ» قد انتفعت بهاذين العلمين في السفر والجغرافيا دليل الغريب والتاريخ مفتاح كلامه ، وهل يستفيد الدخيل بدون مفتاح أو دليل؟ ومن درس التاريخ عرف نسبه لآدم. وقرابته من عائلات العالم. والجهل بالنسب والعائلة نوم في حياة الوجود ، وتفريط في أمر محمود. وجدت أهالي فرانسا يستغربون معرفة التونسي للتاريخ والجغرافيا ، وليس الاستغراب من جهة ذات التونسي لأنهم يعلمون ذكاء أبناء المملكة التونسية ومقدرتهم على تحصيل العلوم والنبوغ فيها من قديم الزمان ، والفرنساويون أهل إنصاف وإذعان للحجة الصحيحة. كما لا يجهلون أن مثل هاته العلوم قد بلغ فيها العرب أقصى درجة يمكن الوصول إليها في تلك العصور التي أناروها بالمعارف في آسيا وإفريقيا وغربي أروبا «الأندلس». فتاريخ ابن خلدون هو عمدة المؤرخين في جميع اللغات إلى الآن ، وقد مضت على قواعده خمسة قرون ، وهو الذي اعتنى بذكر أسباب الحوادث والانقلابات وعللها ، وقد أغفلها كثير من المؤرخين. كما ابتكر هذا الفيلسوف ما لم يسبقه واخترع بقلمه ما دل على سعة تبحره في علوم اللغة والتاريخ والاجتماع والسياسة فالناس عالة على كتابه فيما لا يوجد بسواه ، ويغبطونه على ما آتاه الله. وإليك مذاهب المؤرخين الأروباويين في أسباب وعلل الحوادث : فمذهب تيارس الفرنساوي في التاريخ أن كل التأثير في الوقائع التاريخية والحوادث لعلل طبيعية وأسباب خفية لا نرى أفاعيلها المختلفة ، نعم للإنسان تأثير على ذلك ضعيف للغاية. بخلاف مذهب من يرى أن الحوادث لا علة لها وإنما هي طبيعية بحتة.

وثالث الآراء يذهب إلى أن لها عللا وأسبابا كلها في عهدة الإنسان. والأول أحسن المذاهب لأن للإنسان أثرا ما في نتائج الأفكار وظهور الحوادث ، وقد تساعد

٣٢٩

التأثيرات الخارجية ، وهو ما يسمونه طبيعة وبختا ونسميه قدرا مقدورا ، دبره الخالق في الأزل كان ذلك في الكتاب مسطورا. ومن أسباب إبرازه عمل الإنسان ، وأحيانا تكون أعمال الإنسان بلا جدوى ومجهوداته بدون نتيجة ويأبى الله إلّا ما أراد. وربما كان ما يجهد فيه الإنسان نفسه ليستثمره ويجتنبه ينقلب اجتهاده فيه جناية عليه.

أو تكون الثمرات والترقيات للإنسان أكثر مما يعمل وأعلى مما يفكر فتتجارى إليه الأسباب طبعا ، وهي لا بد منها ، ويتهيأ له من كل أمر مراده ويتحقق عيانا ما ليس في طوق المجدود إيجاد أسبابه ، ولا التفكر في طرق أبوابه. لذلك لا تنكر الأسباب والسعي إليها ، فقد تنتج ويصيب المجتهد فيها وما باطن الأمر إلّا بيد المسيطر القدير ومخبوء عن الأبصار ، وفوق مدارك الأفكار ، لحكمة يعلمها. ولمنزله كماله تعالى وعجزنا نقدره حق قدره لأجلها ونتطلب فضله ، وترجع إليه متى عجزنا عن الأسباب ونتائجها. والفيلسوف تيارس لما أدرك هاته الحقيقة لم يحد عن هاته الطريقة.

والجغرافية من عهد المامون وكتبه ، وتأليف العلماء والرحالين من بعد ، هي أساس هذا الفن منذ أحد عشر قرنا. ومن لا يدري علم الجغرافيا لا يعلم مركزه في عالم الكون ، وليس بينه وبين أجناس المخلوقات بون.

حكوا في التنكيت على الجاهل بعلم الجغرافيا ، أن حوتا رأى شبه إنسان سقط في البحر فعزم على انتشاله من الغرق ، وحمله على ظهره وسبح به البحر ليذهب إلى الشاطئ ، ثم عرض له شك في كونه إنسانا فسأله عن البيرى وهو اسم مرسى أتينة وهل يعرفها ، فأجابه بقوله يعرفها جيدا وهي ذات جبال عظمى ، فعلم من ذلك أنه حيوان غير ناطق فمال عليه وأكله. سئل بعض الناس عن أهم المراسي البحرية في مملكته التونسية فأجاب «زغوان» وهذا ذنب لا يغتفر في جانب الإنسان. وفي محادثاتي بعد الرجوع عن أماكن الترحال كان من الناس من يظن أن باريز هي مملكة فرانسا كلها ، وبعض آخر يحسب فرانسا علما على مدينة ، ومنهم من في مخيلته أنها مجاورة لجزيرة العرب لما يسمعون من كون الحجاج يركبون البحر في سفرهم. إلى غير ذلك من أوهام الخيال الذي هو كحاطب ليل بهذا الفن ، والعذر لهم حيث لم يتعلموا. ويبرهن على الاعتناء بعلم الجغرافيا قديما والتقدم فيه بإفريقيا الشمالية أن المعز لدين الله العبيدي الخليفة بالقيروان رسم صورة الأرض على بساط عجيب.

٣٣٠

والقيروان من قديم مشهورة بصنع البسط التي كانت تؤديها من جملة خراج المملكة في صدر الدولة العباسية. كان بساط المعز من حرير أزرق منسوج بالذهب وسائر ألوان الحرير وبه صورة الأقاليم والبحار والأنهار والجبال والطرق وصورة مكة والمدينة ، وكتبت به أسماء الأماكن وعليه «مما أمر بعمله المعز لدين الله شوقا إلى حرم الله وإشهارا لمعالم رسول الله في سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة والنفقة عليه اثنان وعشرون ألف دينار» ، أي نحو نصف مليون من الفرنكات. وحبذا لو كانت زربية رئيس الجمهورية جناب المسيو فاليار التي أهديت له من صنع القيروان مرسوما عليها خريطة المملكة التونسية ، وليس ذلك بعزيز على اعتناء جمعية معمل الزربية القيرواني في المستقبل. وقد كان سلطان فرانسا لويز فيليب أهدى لأحمد باشا ملك تونس عند ما زاره في عام ١٢٦٢ زربية من صنع كوبلاين المعمل الشهير بباريز الذي يبلغ فيه الميترو المربع عدة آلاف. وكان في هاته الزربية النفيسة صورة السلطان المذكور فجمعت بين بديع الصنع وأحسن تذكار يهدى ، وهي الآن ببيت القبول الكبرى بباردو.

أما استغراب الفرنساويين لمعرفة التونسي للجغرافيا والتاريخ فهو فيما يظهر من جهة أن المسلمين منذ قرون أغفلوا الاعتناء بعلمي التاريخ والجغرافيا ونحوها. فمن العجيب أن أخذوا يرجعون إليهما ، والحق معهم في هذا الاستعجاب فإننا أغفلنا هاته العلوم ونبذناها ظهريا. وإنما أحيت هاذين العلمين المدرسة الخلدونية فكانت متممة للعلوم التي تدرس بجامع الزيتونة دام عمرانه وصارت هاته العلوم لزومية في برنامج الامتحان به ، وقد برز كثير من تلامذة الجامع في العلوم الرياضية. وبالجملة فقد أنجبت المدرسة الخلدونية جيلا جديدا وتلميذا موفقا انتفعت به الأمة واستكفت به الإدارة في الأعمال المهمة حيث ضموا لما عندهم من علوم اللغة والدين المستفادة من الجامع الأعظم.

الفنون التي تدرس بها من تاريخ وجغرافيا وحساب ومبادي هندسة وإنشاء ولغة فرانساوية. وتولى التعليم بها طائفة من أبناء الصادقية وبعض شيوخ الجامع والمهندس الخبير النصوح السيد علي رضى التركي الذي استكمل التلامذة من دروسه العلمية والعملية معلوماتهم الرياضية. وصفوة القول إن لتلامذة الخلدونية ، وبالأخص

٣٣١

قدماؤهم مقدرة في العمل واعتدالا في التفكير عادا بالنفع في عالم الاجتماع.

وتلك من مزايا التعليم الصحيح الذي نشره بها السيد البشير صفر في السنوات الأولى منها ونفخ فيها من روحه وأخذ بضبع تلامذتها فأصبح لسان حالهم ينشد :

كم من يد بيضاء قد أسديتها

تثني إليك عنان كل وداد

شكر الإله صنايعا أوليتها

سلكت مع الأرواح في الأجساد

هكذا كان المنعم خير الدين بالمدرسة الصادقية في عهد تأسيسها وقدماؤها الآن هم رجال الحاضر. بلغني أخيرا أن هاته المدرسة بهمة أمير الاقتصاد ، والمحبوب بجلائل أعماله وإحساسه بين أبناء البلاد. السيد عبد الجليل الزاوش قد اتسع نطاق التعليم بها بقدر ما ضاق الخناق على ماليتها. ومن الواجب على سراة الأمة مددها وعلى تلامذتها بالمملكة إعانتها ، وعلى قدمائها أن يفكروا في مستقبلها وينشروا بعض المطبوعات العلمية باسمها خدمة للمعارف وتخليدا لذكرها وإيرادا مثمرا لحياتها.

يرى من الفرنساويين في آن واحد مع التعجب مما ذكر علامات السرور بترقي النوع البشري ، وبالأخص الممالك التي لها امتزاج بأبناء وطنهم حيث حصل التيقظ والشعور بواسطتهم ، وقد حدثناك بطرف من هذا في إيسودان. وامتزاج الأمم الحية بغيرها مما يبعث على اكتساب العلوم ، وتقليدها في كل معلوم. وإدارة المعارف الآن معتنية ببث علوم اللسان والجغرافيا والتاريخ وغيرها مما به المباراة في معترك الحياة ومن حسناتها الأخيرة إرسال بعض كبار التلامذة إلى فرانسا للتعليم العالي وصغارهم للرياضة.

٤. من لوازم المسافر اللغات لأنها وسطة المناجاة ، ونعم العون في الأسفار اللغات ، خصوصا وأبناء الممالك المتباعدة أصبحوا كعائلة واحدة بفضل وسائل المواصلات برا وبحرا ، وإذا لم يتفاهموا فلا تحصل ثمرة من الاجتماع ولا تعاون على المقاصد. وقضية برج بابل الذي اتفق ذرية نوح على إشادته بعد الطوفان قضى تبلبل

٣٣٢

الألسن فيها وعدم التفاهم بانحلال عصبيتهم دون إتمامه ، وهدمت وحدة التعاضد على البناء وتباعد كل أصحاب لغة عن الآخرين. ومن مهمات اللغات الأجنبية في هذا العصر اللغة الفرنساوية ويقال إنها أخف من غيرها على اللسان وأكثر رواجا ، وقد اكتسبت صبغة رسمية في مجالس أصحاب اللغات المختلفة من زمن نابليون بونابارت ، أي من نحو مائة عام وتعلم اللغات أمر مرغوب فيه شرعا. فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت كاتبه بتعلم اللغات الأعجمية ومما نقل عن المعز لدين الله رابع خلفاء الدولة العبيدية بالقيروان وقوة عزيمته أنه تعلم أربع لغات بعد ولايته في أواسط القرن الرابع بسبب حادث صغير.

وذلك أن المظفر الصقلي قد بلغ رتبة عظيمة عند المنصور العبيدي والده باني المنصورية بجوار القيروان ، وهي المسماة الآن صبرة ، وبها الآن قطع عظمى من أعمدة حجرية لعلها من بقايا قصورهم التي أخنى عليها مع كامل المدينة ما أخنى على رقادة والقصر القديم ، فلبست أطلال جميعها على ما فقدت ثوب حواد مرقعا من شايك التين الهندي.

وكان المظفر هذا يدل على المعز من أجل أنه علمه الخط في صغره ، فحرد مرة على المعز وولى لما لم يقبل منه التداخل في شؤون الدولة «والرجال المقتدرون في السياسة والتدبر لا يقبلون تداخل أرباب الغايات أو العقول الصغار ، والمتطفلين على موائد الوجاهة بزايف الأخبار» فسمعه المعز يتكلم بكلمة صقلية استراب منها ولقنها منه وأنفت نفسه من السؤال عن معناها فأخذ يحفظ اللغات فابتدأ بتعلم اللغة البربرية حتى أحكمها ، ثم تعلم الرومية والسودانية حتى أتقنهما ، ثم أخذ يتعلم الصقلية فمرت به تلك الكلمة ، فإذا هي سب قبيح ، فأمر بالمظفر فقتل من أجل تلك الكلمة. ولعل هاته اللغات الأربعة كانت رائجة في إفريقيا في ذلك العهد لامتداد الفتوحات إلى أطراف الصحارى والبحار وقد تكلمنا على طرف من اللغات في مكتب اللغات الشرقية بباريز وفيما «بين شامبيري وكرونوبل» وفي فيشي.

ويتمنى الإنسان أن يكون عارفا بكثير منها عند ما يحل في فيشي التي هي معرض الدنيا ، فترى بها سائر الأشكال والألوان واللغات. ورأيت كثيرا ممن يتكلم بعدة لغات والجهات الغربية من فرانسا يحسنون الأنكليزية والشرقية اللغة الألمانية.

٣٣٣

وهذا ما رأيته من أحبابنا عائلة دوبوردايز في طولوز وعائلة دالبيرتو في كرونوبل ، ولعل الفضل في التمكن من تعلم عدة لغات بسهولة في حالة الصّبى هو طريقة التعليم وحسن ترتيب برنامجه ، فيأخذ التلميذ كفايته من العلوم واللغات في زمن الشباب وقبل الفوات.

أما المحافظة على الأساليب العتيقة في التعليم فإنها مما تضيع العمر بلا جدوى ، كما أن عدم الجمع بين علوم الدين والدنيا خلل فادح في معترك الحياة. كيف وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتعلمها. ونظام المدارس القرآنية الآن الذي الفضل فيه للبارع السيد خير الله بن مصطفى قد وفر الوقت للتلامذة بحيث يجدون فراغا في زمن الشباب لتعلم اللغات والعلوم العصرية ، بعد أن يأخذوا حظهم من العلوم اللغوية والدينية التي هي بالضرورة قبل كل شيء. ولكن بأسلوب مفيد. وقد بسطنا القول في هاته المسألة بقسم العلوم بباريز وفي فصل مدرسة اللغات الشرقية.

٥. أما المال فهو الصديق الملاطف ، والرفيق المعاضد ، والأنيس الخفيف الروح ، والسلاح النافذ «إذا بقي في الجيب أفاد ، وإذا أخرج أتى بكل مراد» :

صديق المرء كالدينار طبعا

وكيف يخالف المرء الطباعا

تراه ما أقام يقيم جاها

وإن فارقته أجدى انتفاعا

وهو كما قيل الرسول النبيه ، وذو الوجهين الوجيه :

يهيم الناس بالدينار حبا

وما فيهم سوى من يصطفيه

فذو الوجهين عندهم وجيه

وذاك نقيض ما قد صح فيه

يعني قوله صلى الله عليه وسلم : ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها. لا يقصر الإنسان حسب استطاعته في استصحاب ما يكفيه من المال ويضم بعد التقدير

٣٣٤

والتحرير إلى ذلك احتياطا نصف الكفاية إن أمكن ، لما عسى أن يطرأ ، وللرغبة التي تخلق في الإنسان عند المشاهدة ولا يتصور طرقها قبل ذلك ، ولا المكان والوقت الذي تكون فيه ولا السبب الموجب لها. على أن الأسعار في فرانسا لا تزيد في المسكن والمؤنة على المعروف بالأوتيلات الأروباوية بتونس على اختلاف الطبقات ، عدا الركوب في البلدان الكبرى ، وبالأخص في باريز ، فله اعتبار خاص لما يجب على المسافر من المحافظة على الوقت عند أداء الزيارات في الأماكن البعيدة التي إذا مشى لا على الأقدام ، فلا تكفيه عشرات الأيام. أما كراء الركوب بين البلدان وفي البحر فهو رخيص لمن يقطع تذاكر من إحدى شركات السفر التي تخفض من الأجور المحددة نحو الثلث ويزداد التخفيض على نسبة الزيادة في مسافات السفر. وكنت قطعت تذكرة من القيروان إلى القيروان برا وبحرا بنحو ثلاثمائة فرنك في الدرجة الثانية ، وحرر لي برنامج السفر صاحب الشركة الأجنبية المسيو كونيك وأمدني بإعانات وإرشادات مفيدة. ومن الناس من يختار استصحاب ماله ذهبا وأوراقا من بنك فرانسا ، ومنهم من يضعه في البنوك المشهورة ويأخذ من فروعها ما يريده متى شاء في البلدان التي يمر بها في أثناء السفر وبها فروع ذلك البنك. والأول يميل إلى راحة البدن وتشق عليه مفارقة حبيبه. والثاني يذهب لراحة القلب والأمن من طرو بعض الحوادث على جيبه.

٦. «الرفيق الموافق يؤنس الراحل في الأقطار التي لا يعرف مساكنها ولا سكانها ويعينه على التفكير فيما يستفاد منها. وقد نهي أن ينام الرجل وحده أو يسافر وحده. ولو يعلم الناس لم يسر راكب بليل وحده أبدا.

٧. «والقلم أحسن رفيق وحافظ» ، وهو كما قال ابن المعتز يخدم الإرادة ، ولا يمل الاستزادة. فيكتب به الراحل كل ما يرى أو يسمع ، حتى إذا عاد وجد خزينة كبرى من تلك المفكرات يستمد منها لتحرير كتاب رحلته بأصح مصدر وأوفى بيان ، وأصح التواريخ ما كتب في الإبان وعن عيان. غير أنه يلزم المؤلف الصبر والثبات بقدر ما يجب عليه من التثبت والتحري ، إذ الانتقاد من كثير الأفراد يحول غالبا دون إبراز ما في الأفكار من المنافع العامة ويثبط بعض العزائم. والغريب أن لكثير من أفراد بعض الأمم تآليف وتحارير وآراء في عدة مواضيع بقيت في طي الكتمان خوفا من أن يقال

٣٣٥

هذا غير لازم ، أو ليس بمعتاد أو ما ألجأه لمثل هذا. أو كان عليه أن يذكر الأمر على غير هذا الأسلوب إلخ. مع أنه لو قيل للمنتقد فآت برسالة من مثل هذا لم يفعل ولن يفعل. وكان من الواجب الإقدام ومضاء العزيمة. فالحريري يقول لا أكاد أخلص من .... (١٣٦) يضع مني لهذا الوضع ، ويندد بأنه من مناهي الشرع.

ومتى كثر سواد المؤلفين ، تضاءلت أمامهم ألسنة المنتقدين ، شأن العصور القديمة في الإسلام وكثرة التأليف في سائر المواضيع. وهي الحالة الحاضرة في أروبا. واليوم مصر وهي أندلس الإسلام لها ملكة متسعة في التأليف وقوة عزيمة وإقدام ، وبحيث لا يصدهم انتقاد أو يحجم بهم عن مقاصدهم ملام.

كتب الوزير المنعم خير الدين باشا في كتابه «أقوم المسالك في أحوال الممالك» والمنعم الشيخ بيرم أول رؤساء الأوقاف رحلته إلى أروبا. وطبعا كتابيهما لتشبع كلا الرجلين من علوم الاجتماع ، مع الخبرة بطرق النفع والانتفاع والامتزاج بالأمم الراقية وسبر أخلاقها والعلم بطرق تقدمها التي أهمها نشر العلم وإظهار التآليف في سائر المواضيع.

وكتب أخيرا النابغة السيد البشير صفر في التاريخ والجغرافيا رسايل ممتعة. والبارع السيد محمد بن الخوجة حرر رحلات بعض ملوك تونس إلى فرانسا ورحلات رؤساء جمهورية هاته الدولة إلى المملكة التونسية وله في الرزنامة التونسية مسايل مهمة ومواضيع لذيذة.

والسيد حسن بن عبد الوهاب في البحث وراء تراجم أهل الأدب وأصحاب التأليف وما لهم من الكتب. والسبب الذي حدا بهؤلاء للطبع هو عينه ما قررناه في شأن الوزير خير الدين ومن عطف عليه بالطبع.

ومن المعلوم أن الذي يزيد في نشر التاريخ وكثرة حفاظه تأليف كل مسألة مهمة في بابها بكتاب خاص ، وإشباع الكلام في حقها والإلمام بأطراف أحاديثها والبرهان على أسبابها وعللها ، وإيضاح غايتها وقدرة الخالق في تصاريف أعماله في عباده بما يتثبت به الفؤاد ويكون موعظة وذكرى للعباد. ووقائع التاريخ سلسلة حلقات غاب

__________________

(١٣٦) فارغ في الأصل.

٣٣٦

أكثرها وضلت عن السواد الأعظم من أبناء الجنس ، وربما انقطعت تلك الحلقات وتلاشت أو بادت مع رفاة عظام الآباء والأجداد فذهبت عظامهم وأخبارهم.

فالباحث على تلك الحلقات ربما أصاب منها كثيرا بالحفريات أو بعض المسودات ، ولكن الذي لا زال في طي الخفاء أكثر. على أن الزهد في مسايل التاريخ لو كان قاصرا على البحث وراء المجهول ، أو تنقيح بعض المنقول ، لكان في المسألة رجاء التنبه لمن يقوم بسد هذا الفراغ وإزالة هاته الوصمة. ولكن فتور العزائم دون حب الاطلاع على دواوين هذا الفن ودراستها والعلم بكنوز مخبآتها هو الذي سجل به التاريخ الحاضر على كثير وهم لم يحتفلوا بمواليد لياليه وحوادث أيامه ، ولا بغرايب أشهره وتطورات أعوامه. مع العلم بأن أهم التواريخ ما كتب في الإبان ، وكان عن ثقة أو عيان.

وربما كان التهاون بتدوين التواريخ في أوقاتها هفوة قديمة لم يسلم منها إلّا القليل من الكتاب في بعض العصور لتنبه فطري أو أسباب تبعث على ذلك. فتكون تلك الرسايل من أصح ما يرجع إليه أرباب التثبت ونقلة الأخبار. نعم إن كثيرا من المؤلفات تحتاج إلى التنقيح والتهذيب والبعض الآخر إلى الترتيب والتبويب. وهذا لا يتأتى إلّا بكثرة سواد المتبصرين ، وهو فرع نمو المتعلمين والحفاظ لأنواع العلوم العربية ورواة الأخبار والتراجم والأنساب.

٨. ومرآة التصوير تمثل إلى العين ما لا يقدر القلم على وصفه ، يأخذ بها المسافر صور البلدان والأشخاص والأشجار والأنهار والجبال والمعامل.

وعقب الإياب تكون تلك المناظر الغريبة التي شاهدها في أماكنها مستحضرة بين يديه صورها ، واستحضار الصورة الغريبة مما تميل إليه النفوس وبالأخص إذا كان على وجه محسوس. ولا تكلف المرآة حاملها عناء في طبعها ما يريد في أقل من لمح البصر ، ولا كثرة مصاريف في ثمن البلور وكاغد النقل.

٩. وتخفيف الرحل وتقليل المتاع والاقتصار على قليل الحاجات مما يريح بال المسافر ، ويوفر عليه الوقت في انتظار الكشف عنها بالكمارك ، والمال في أجور النقل للحمالين والعربات التي تأخذ أجرا زايدا عليها من الركاب على حسب تعدد الحقايب. وفي إدارات القطارات محل لحفظها بأجر زهيد. ويليق بالمسافر أن يترك

٣٣٧

متاعه به إذا كانت إقامته لبلد وجيزة ، أو حتى يختار نزلا مناسبا لا يتطلب عليه سعرا وافرا. أما إذا كان مصحوبا بأثقاله فصاحب النزل يزيد في القيمة علما منه بأن المسافر لا يرفض ما عين له لمشقة الطواف على المنازل ، وحقائبه من ورائه تغري رب كل نزل بأن يرفع الأسعار في وجه صاحبها.

١٠. يختار المسافر اللون المناسب في اللباس القابل لتحمل عوارض الطقس وأهوية الأقطار المقصودة والملايم صحة وترحالا.

وفي أروبا يناسب اللون الداكن الذي لا تغيره بسرعة قتام الماكينات ولا دخانها أو كثرة الأمطار ، أو سواد الفحم الحجري المتطاير من القطار أكثر مما بقطارات إفريقيا.

والسواد هناك أكثر التصاقا بالثياب العربية التي هي في الغالب بيضاء أو زاهية. ولعل برد الهواء بقطرهم يقضي على دخان القطارات ، وكذلك سائر الماكينات الكثيرة عندهم ، بالبقاء متكاثفا والتحليل إنما يكون بالحرارة كما أن الرطوبات التي في الهواء يصل بها الدخان وفتات الفحم الحجري إلى الثياب نديا فتتلوث سريعا وتحتاج أطراف البدن إلى تجديد الغسل. وأكسيتهم وجب أن تكون سوداء طوعا أو كرها مثل جدران بناءاتهم ، فلهم العذر في اختيار لون السواد لباسا. وبالجملة فالمسافر يستصحب ثيابا من اللون الملايم لهذا الصقع ، وإذا قدر أن يلبس الثياب التي ألبسها المعز بن باديس في القرن الخامس للقيروان فليفعل. حدث ابن شرف أن المعز بن باديس في ٢ جمادى الأولى عام ٤٤٣ أمر بإحضار جماعة من الصباغين وأخرج لهم ثيابا بيضا من فندق الكتان وأمرهم أن يصبغوها سودا فصبغوها بأحلك السواد ، وجمع الخياطين فقطعوها أثوابا ثم جمع الفقهاء والقضاة إلى قصره وخطيبي القيروان وكساهم ذلك السواد ونزلوا بأجمعهم وركب السلطان بعدهم حتى وصل إلى جامع القيروان ثم صعد الخطيب المنبر وخطب خطبة أتى فيها على جميع الأمراء بأجزل لفظ وأحسن معنى.

مرت بنا السفينة إثر تحرير لوازم السفر على شاطئ المرسى وجبل سيدي أبي سعيد ومدينة قرطاجنة فتراءى لنا بياض البناءات غريبا فعلمت سبب وصفهم تونس بالبيضاء ، كما ظهر لنا أديم الأرض قاحلا موحشا كل ذلك لما اعتدناه من النظر لبناءاتهم وأرضهم.

٣٣٨

رفرفت على السفينة كالمرحبة بها طيور الخليج الموصل إلى تونس ، وهي أم البلاد كما سماها حازم في مقصورته ، فاستبشرنا بقرب الوصول إلى الرصيف الذي تأسس بباب العاصمة منذ عشرين عاما ١٨٩٣. فما هي إلّا نصف ساعة من قرية حلق الوادي إلى الرصيف حتى رأينا بعض الأقارب والأصدقاء في انتظارنا وأول من تمثل للبصر من بينهم صفي ودنا سيدي محمد بن الأمين الخلصي صاحب الحديث مع الراية ، ومن له في نادي المكارم أعلى راية. وهو من الذين يعلمون جيدا قول أبي بكر الخوارزمي من لم يذكر أخاه إلّا إذا رآه فوجدانه كفقدانه ، ووصاله كهجرانه.

ومما كنت أدرجته في بعض الرسائل له :

أقلامكم تهدي الأنام دروسا

وعطاؤكم يحمي النوال دروسا

بعد الإياب

كان الفرنساويون يسألونني كثيرا مشافهة وكتابة عقب رجوعي من السفر عن أهم ما رأيت في فرانسا ، وبالأخص عاصمتهم المحبوبة عندهم مدينة باريز وهم يعتبرونها جدا ويبالغون في مدحها ولا يغارون من رقي وكمالات سكانها ، وهذا على خلاف بعض الممالك في منافسات بعض البلدان لمدن العواصم ، وما هو الأمر الذي بقي في مخيلتي مما يعجب به الغريب ويؤثر عليه؟ فكان جوابي لهم واحدا سواء في مدة إقامتي بفرانسا أو بعد الرجوع منها.

١. وهو الإعجاب بعمران الأرض المخضرة الأديم بسائطها وجبالها غورها ونجدها ، وذلك أول شيء يستغربه الغريب وآخر شيء يبقى مطبوعا في مخيلته ترفرف عليه روحه في أوقات خلو البال وتتنزه فيه ، بلا مشقة أو ثمن برهة من الزمن تمر لذتها كأكل النائم :

لم يكن وصلك إلّا حلما

في الكرى أو خلسة المختلس

٢. وكمال التربية وانتشار المعارف بين سائر الطبقات.

٣٣٩

٣. والانكباب في عموم الجهات على العمل في الليل والنهار ، وكأنهم كتبوا نصب أعينهم ما حكاه الشيخ رفاعة «الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما». وذلك ما أغناهم عن السفايف ، وأشغلهم عما لا يعنيهم ، وقد صار كل ذلك ملكة راسخة يتلقاها الخلف عن السلف.

٤. بشاشتهم في وجه الغريب ومجاملتهم للتونسي.

١ ـ أما في باريز فالحركة العظمى من كثرة الساكن وتلاطم أمواج المخلوقات وأنواع أدوات النقل.

٢ ـ حسن الترتيب والتحسين في كل شيء سواء في ذلك الإدارات العامة والخاصة والمنازل واللباس.

٣ ـ الحضارة المنتشرة والثروة المحسوسة والبذخ المجسم.

٤ ـ نباهة البوليس الساهر على حفظ النظام المعتني بالغريب قياما بالواجب. وعلما بأن هذا مما يعود عليه بالشكر وعلى بني جنسه بحسن الذكر.

الخاتمة

نجز بعون الله في مثل شهري الرحلة «رجب وجوان» من العام الموالي سنة ١٣٣٢ / ١٩١٤ ما توخينا رسمه وانتخبنا رقمه مما جمعناه بمفكرة السفر واستحضره الفكر مما سمعته الأذن أو وقع عليه البصر ، وكذلك ما نفثته القريحة أو جادت به الحافظة مما له علاقة بالموضوع ، أو مناسبة تهم المشروع ، والحديث شجون ، والتوسع في الكتابة يجر إلى إدراج مسايل جمة من عدة فنون. وأرجو أن يجد القارئ في هذا الكتاب مبتغاه ، ويصادف به ما يطابق هواه. والله أسأل أن ينفع به كل من طالعه أو خطر له أمر فراجعه وأن يكفيه نظرات التعسف ، واعتراضات التكلف. وهو حسبنا ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

٣٤٠