البرنس في باريس

محمّد المقداد الورتتاني

البرنس في باريس

المؤلف:

محمّد المقداد الورتتاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-605-5
الصفحات: ٣٩٥

والأزهار مع الأطعمة عادة قديمة ، نقل المقريزي أن ذلك كان في أيام الفاطميين ، وأنهم كانوا يكتبون أسماء الناس على المصاطب التي يجلسون عليها في رقاع فيكون الجلوس بالترتيب مصطبة مصطبة. وقد تقدم أن من عوائد الصينيين في الضيافة تقديم المطعوم والمشروب والمشموم.

وذكر ابن عذاري أن في سنة ٤٤٢ وقع الصلح بين أهل القيروان وأهل سوسة ، وصنع الأولون للأخيرين دعوات غسلت فيها الأيدي بماء الورد. فيفيد هذا عادة استعمال الطيب مع الأكل من أنواع الكرامة كما يشهد هذا الخبر بكرم أهل القيروان من قديم : رأتهم يلاطفون أتباعهم وخادماتهم ويصرحون لهم بألفاظ الشكر حتى على مناولة صحن بلا طعام. وقد بلغ من أمر الخادمات أن طلبن أن لا يعبر عنهم في المستقبل بخادمات بل بمعينات على تدبير المنزل. وأشهرت بنات الدانمارك هذا الطلب على ألسنة الجرائد ونظمن له جمعية وأسسن جريدة لطلب هاته الحقوق ورفض هذا اللقب المشين ، يعني خادمات ، وصرن يطلبن من السيدات شهادات في حسن المعاملة مع الخادمات ، أستغفر الله «المعينات» بعد أن كانت السيدات يطلبن الشهادة من الخادمات في حسن سيرتهن السابقة. ويجب الإحسان للخادمات عقب موائد الاستدعاء وللأتباع متى قاموا لك بأمر ولو كان خفيفا ، أما سائق عربة المستدعي فلا بد أن تنفحه بما يقارب نصف الكراء. والقوم يشايعون الضيف أكثر مما يتلقونه. ومن توابع إكرام الفرنساويين لضيفهم إطالة السمر

معه بعد الأكل وتنقير نسائهم وبناتهم على البيانو ، ولا حرج عليهن في الغناء مع ذلك. ويتمدح نساؤهم وبناتهم بإتقان بعض آلات الموسيقى التي هي فن لذيذ محبوب ، وللعرب بها شغف واعتناء في اعتبارها من توابع ما يكرم به الضيف. ففي حديث أم زرع قالت العاشرة : زوجي مالك وما مالك. مالك خير من ذلك ، له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك ، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك. قال القاضي عياض : أي أنه مما كثرت عادته إنزال الضيفان وإطعامهم وسقيهم وضربه المعازف عليهم ونحره للإبل.

لذلك صارت الإبل إذا سمعت المعازف عرفت بجري عادتها أنها تنحر. وربما جمع بعض الأروباويين لضيفهم مع الموسيقى الرقص المعتاد في عرفهم والمرغوب فيه عندهم ، يعتبرونه من توابع الرياضة والمودة ولهم فيه أفانين يتبعون بها أدوار الموسيقى

٣٠١

ببراعة وخفة زائدة ، ولكن لا يضاهون فيها براعة الممثلين والممثلات في الأوبرا. وقد ذكرنا أساليب العرب فيه نقلا عن ابن خرداذبة عند الكلام على الأوبرا بباريز.

المجتمعات

مجتمعاتهم غالبا مكللة بالوقار ومزدانة بالتربية العالية ومفعمة بالآداب واحترام رأي المتكلم والإصغاء إليه حتى يستوفي كلامه ، وإذا اقتضى الحال التنبيه فبإشارات خفيفة أو الرد فبلطف وبرهان. وربما غضوا الطرف عن بعض هفوات المتكلم. بعيدون عن الخوض في تتبع عورات الناس أو ثلب الأعراض.

وبالجملة فليست لهم خائنة الأعين في المجالس ، ولا رفع الصوت في المحادثة ولا حديث في الخلوات يخالفون به رأيهم عند الاجتماعات ، ولا كثرة لغو ولا ضحك بلا موجب في الأحاديث الجدية ، ولا استمرار على التعصب في الرأي إذا ظهر خلافه أصح ، ولا مبالغة في الحديث الفارغ أو تساهل في الترامي على أحضان من لم يكن معه تعرف سابق عن ذلك المجلس ، ولا مخالفة الضمير في التنازل مع بعض الناس متى حضر على خلاف ما إذا غاب. وهم مستحضرون لأدوار التواريخ وواقفون على أحوال الحاضر فيخوضون في سائر أنواع الأحاديث والنوادر بدون تكليف.

والسبب في هذا هو التعليم الصحيح بصفة عامة للرجال والنساء.

وقد ذكرنا طرفا من تنكيتهم الخفي في مجاري الحديث في فصل جنوب فرانسا وقبل الكلام على طولوز. وصغارهم ذكورا وإناثا لا حرج عليهم في حضور اجتماعات المحادثات والجلوس على الموائد ، حيث لا تخرج الأحاديث عما ينافي الآداب غير أن الغالب عليهم الصمت ، ولا يكون كلامهم إلّا جوابا وبهذا تتلقى الصبيان دروسا عالية عائلية في حالة الانفراد والاجتماع. ومتى رجع الصبيان من المكاتب أو غيرها قبّلوا خدود الآباء والأمهات ، وكذلك قبل ذهابهم إلى غرف النوم ، ويقبل أفراد العائلة يد المرأة المسنة منهم عند الوداع المنزلي.

ومن آدابهم البشاشة والابتسام ولو مع عدم الرضى. وبالجملة فالأفراد عندهم يحترمون حقوق بعضهم ، والمعاملات فيما بينهم على أتم صفات الآداب سواء فيها

٣٠٢

الغريب والمستوطن والحاضر والبادي. ولهم عادات تدل على تمسكهم بأسباب السيادة كإكرام أهل العلم والغرباء وإنزال الناس منازلهم ، ويتجافون عن المكر والخديعة. وقد ذكر ابن خلدون كثيرا من الخلال التي إذا حصلت لقوم استحقوا أن يكونوا سادة ، وان ذلك خير ساقه الله إليهم. وإذا تتبعت هذا الأمر وجدت غالبه عند أمم أروبا الآن ، وفق الله المسلمين لأسباب الرقي والفوز الدنيوي والأخروي.

حدث الأستاذ سيدي سالم بوحاجب من عيون مسائل رحلته إلى إيطاليا منذ أربعين عاما تقريبا ، أن ما حدثونا به عن صدر الإسلام وجاءت به شريعتنا من محمود الخلال والخصال وجلائل الأعمال ، وجد شيئا كثيرا منه عندهم ملكة متوارثة بينهم.

شبه الفرنساويين بالأمم الغابرة في التمثيل

أملينا طرفا من شبه الفرنساويين بالأمة العربية ، ونذكر الآن طرفا من شبههم بالأمم الغابرة ، وقد مر بك شبه سكان باريز بالبابليين وشبه الفرنساويين بالرومان في تعميم النفع بخزائن الكتب ، وشبه البربر بالعرب في كلام موسى بن نصير في فصل نجدة السكان بعد آرل.

أشبهت الأمة الفرنساوية من الأمم قبلها مثل اليونانيين والرومانيين في عدة صفات كمكافأة الرجال وسن القوانين والتصرف فيها ، وإرخاء العنان في مجالس اللهو ومواطن الخلاعة وغير ذلك.

أهل أثينة نقشوا على عمود من الحجارة اسم أرسطوطاليس وتمجيده بما كان عليه من اصطناع المعروف وكثرة الأيادي والمنن ففعل الفرنساويون مثلهم.

فقد رأيت كثيرا من صور مشاهير الرجال قائمة في شوارع المدن وبالأخص باريز.

وكذلك أقواس النصر تخليدا لذكرهم واعترافا بجميل أعمالهم في الحياة الدنيا. وقد أفادت تلك الآثار أبناءهم تاريخ الوطن وفخار الرجال ، وساقتهم في آن واحد إلى التشبه بهم في جلائل الأعمال وإطراء أصحاب الأعمال النافعة ونوابغ الأمة ، وتمجيد ذكرهم في بطون الدفاتر وصفحات الجرائد ودروس التعليم وأحاديث السمر مع الاحترام في الحياة والحفاوة والمكافأة. وهذا يبعث في النفوس النشاط ، فتتسابق إلى

٣٠٣

ما تفوز به لدى الأمة والحكومة بعظيم الجزاء وطيب الأحدوثة.

وبعض الناس لا يفهمون لأعمال النابغين معنى ، ولا يقيمون لهم وزنا ، بل ربما ثبطوا العزائم بما يغمطون من الحقوق ، وارتكبوا بذلك في جانب الصالح العام أكبر عقوق. والسلطان سوق يجلب إليها ما يروج فيها من البضائع ، وقد يروج في بعض الأحيان زائف المبيعات ومذموم الصنائع. ومرجع سياسة التنشيط والإكرام. والمقصد المراد منها على الدوام ، هو التحصيل على ما تبرزه القوى البشرية مما يعود بالنفع العام.

اللباس

أما اللباس فهم فيه على المعروف منهم عندنا بالمملكة فالسواد للرجال في الأثواب الظاهرة ولبعض النساء أيضا ، وبالأخص في الحداد ، وغالبهن يلبسن المصبغات وأنواع المزركشات ويتغالين في أثمانها ويتناغين في أشكالها وألوانها.

وتقدم لنا طرف من هذا في كرونوبل والأوبرا وذكرنا أن للمرأة عندهم كل شيء.

وأكثر ما تختلف أشكال اللباس عندهم فيما يوضع على الرؤوس. وفي الجهات الجنوبية من فرانسا تجعل النسوة طاقيات بيضاء لطيفة بترتيب خاص على رؤوسهن.

ويستلفت أنظارهم الغريب ولباسه ، وبالأخص اللباس العربي الجميل ، وهم متهيئون للتعرف به ومجاملته بأدنى مناسبة على خلاف عوائد بعض الأجناس الذين لا يكلمون من لم يعرفوه إلّا بواسطة تربط بينهما التعارف.

واللباس العربي كاللغة العربية التي تقدم الكلام عليها في مدرسة اللغات الشرقية وتشعبها إلى عدة لهجات بحسب الأقطار والجهات ، فليس لباس العرب الآن على ما كان عليه في القرون السالفة ، ولا لباس الأسيويين كالإفريقيين ، ولا سكان شمال إفريقيا بمتحدين على طريقة واحدة. فقبائل المملكة الواحدة وسكان مدنها وقراها تجد لكل قوم منهم عادة متبعة في اللباس يخالفون بها غيرهم ويتميزون بها في عين الرأي المتبصر بأول نظرة ، كما تميز الأذن بين هؤلاء في لحن القول ، وبالمملكة التونسية لباس المدن يغاير القرى وهذان يخالفان لباس البوادي ، كل ذلك في الرجال والنساء وفي

٣٠٤

المدينة الواحدة تتعدد الأشكال والهيئات ، وفي الغالب بحسب العقيدة والمال والعلم والوظيفة.

قال الإمام مالك قلت لأمي : أذهب فأكتب العلم فقالت : تعال فالبس ثياب العلم ، فألبستني ثيابا مشمرة ووضعت الطويلة على رأسي وعممتني فوقها ثم قالت : اذهب فاكتب الآن.

وفي القيروان قال أبو العرب : كنت آتي إلى محمد بن يحيى بن سلام والطرطور على رأسي ونعلي أحمر في رجلي في زي أبناء السلاطين ، وكان الطلبة ينقبضون مني من أجل ذلك الزي ، فقال لي رجل يوما بجواري : لا تتزي بهذا الزي فليس هو زي طلبة العلم وأهله وزهدني ، فرجعت إلى أمي فقلت نلبس الرداء وثيابا تشاكل أهل العلم والتجار ، فأبت علي وقالت إنما تكون مثل آبائك وأعمامك. فاحتلت حتى اشتريت ثيابا وجعلتها عند صباغ في باب أبي الربيع ، فكنت إذا أتيت من القصر القديم أتيت بذلك الزي الذي تحبه أمي ووالدي ، فإذا وصلت إلى باب أبي الربيع دخلت حانوت الصباغ وخلعتها ولبست الثياب الأخرى. وأحيانا يكون من الضروري اجتناب الأشكال التي يخشى منها اللبس. ومن قديم العهد يختلف اللباس على حسب التقسيم الآتي غالبا : الملوك ، الجند ، القضاة ، الوزراء ، المتصوفون ، التجار ، أخلاط الناس. فكل حزب له شعار ولعل قول الشاعر :

أما الطعام فكل لنفسك ما اشتهت

والبس ثيابك ما اشتهاه الناس

هو الهيئات العامة المميزة بين هاته الأقسام ونحوها ـ وإن بشكل خيف لبس يجتنب. أما الجزئيات فالبشر ميال للتطور فيها وإنفاذ إرادته فيما يروق له منها. ومن الميل للتفرد في بعض الملابس أن سعيد بن العاص بمكة كان إذا وضع عمامة على رأسه لم يعتم أحد بمثلها ما دامت على رأسه وكذلك فعل الحجاج. ولباس الأمم السالفة كان بسيطا ، فقد كان عيسى عليه السلام لما مر بسفح المقطم عليه جبة صوف وقد شد وسطه بشريط. وسئل نبينا عليه الصلاة والسلام عن صحة الصلاة في ثوب واحد فقال أو كلكم يجد ثوبين. وفرض عمرو بن العاص على بعض أهل

٣٠٥

الذمة لكل رجل من أصحابه دينارا وجبة وبرنسا وعمامة وخفين. ولو كان غير ذلك مما اعتيد تحتم لبسه عليهم لفرضه لهم. وفي بعض الأزمنة والبقاع يضم إلى ذلك الملحفة والسراويل كما ذلك عند بربر شمال إفريقيا على ما ذكروه في القرن الرابع بقبيلة برغواطة. وكان البربر يشتملون الصماء بالأكسية المعلمة ويفرغون عليها البرانس الكحل ورؤوسهم في الغالب حاسرة ، وربما تعهدوها بالحلق ، نصّ على ذلك من كتب في أحوالهم. واختلاف ألوان الثياب يتبع العادات ، قالوا إن اللون الأصفر أشكل ، والأحمر أجمل ، والأخضر أقبل ، والأسود أهول ، والأبيض أفضل. وأهل الأندلس يتركون العمامة ورؤوسهم في غالب الجهات حاسرة ويعوضون عن لباس أعالي البدن الطيلسان يضعونه على أكتافهم.

وقال المقري : كثيرا ما يتزيى سلاطينهم وأجنادهم بزي النصارى المجاورين لهم ، فسلاحهم كسلاحهم وأقبيتهم كأقبيتهم ، وكانوا يطلقون شعورهم. ولأميرهم عبد الرحمان الداخل في أوائل القرن الثاني ضفيرتان ، والناس على دين ملوكهم. ومن قبل ذلك موسى بن نصير لما غضب على مولاه طارق فاتح قطر الأندلس ضربه سياطا وحلق رأسه لسبقه بالفتح. وقال ابن الرقيق ، وكان حاضرا عام ٣٠٦ : حلق باديس لحيتي بكار بن جلالة ويوسف ابن حبوس وجعلهما مثلة في العالم ، فعد الحلق عقوبة بحكم عادة إرسال الشعر الذي تفنن فيه البشر إباحة ومنعا في الرؤوس واللحى والشوارب وغير ذلك.

وتقدم الكلام في طولوز على النسوة ذوات اللحى بها ، وذكر ما كانت تقسم به السيدة عائشة رضي الله عنها وهو قولها وحق من زين الرجال باللحى. حيث قلت وحق من زين النساء بعدم اللحى.

وإفريقية التي دار سلطنتها القيروان أربعمائة سنة تماما ، والمهدية نحو مائة سنة ، وتونس زهاء تسعمائة سنة ، كم ظهرت على مراسح أزمنتها من أجيال وأجناس ، وكم تفننوا في أنواع الحلل وأطوار اللباس. فمن ينبئنا ما هي يا ترى؟ وما هي الأطوار في تلك الأدوار؟ وقل من عني من المؤرخين بهذا الموضوع الاجتماعي ، إلّا كلمات في عرض بعض الحكايات يلتقطها الباحث من بيداء المؤلفات وغابات المكتوبات.

ذكروا أن المامون لما استدعى القاضي يحيى وأربعين فقيها وجدوه جالسا على

٣٠٦

فراشه وعليه سواده وطيلسانه والطويلة وعمامته ، وبعد أن وقفوا وسلموا انحدر عن فراشه ونزع عمامته وطيلسانه ووضع قلنسوته وقال لهم : انزعوا قلانسكم وخفافكم وطيالستكم وحاورهم بعد ذلك.

ولما دخل عبيد الله المهدي عام ٢٩٧ رقاده جنوب القيروان بنحو أميال ٩ ، الباقية منها الآن أطلال وحياض. كان عليه ثوب خز أدكن وعمامة مثله وتحته فرس ورد ، وأبو القاسم ابنه خلفه عليه ثوب خزخلوقي وعمامة مثله وتحته فرس أشقر ، وأبو عبد الله الشيعي أمام عبيد الله وعليه ثوب توتي وظهارة كتان وعمامة ومنديل إسكندراني ، وتحته فرس كميت وبيده سبنية يمسح بها العرق والغبار عن وجهه ، والناس بين يديه يسلمون عليه. وقال ابن الرقيق فيباديس الصنهاجي عام ٤٠٦ مادحا له ومشيرا إلى عمامته الحمراء :

تجلو عمامته الحمراء غرته

كأنها قمر في حمرة الشفق

وفي الدولة الحفصية قال صاحب كتاب «مسالك الأبصار في أخبار ملوك الأمصار» المؤلف في النصف الأول من القرن الثامن ما نصه : وأما زي صاحب إفريقية القائم الآن في لبسه فهو عمامة ليست بمفرطة في الكبر تحنك ، وعذبة صغيرة وجباب ، ولا يلبس هو وعامة أشياخه والجند خفا إلّا في السفر ، وغالب لبسه ولبس أكابر أشياخه من قماش يسمى السفساري يعمل عندهم من حرير وقطن أو حرير وصوف ، إما أبيض أو أحمر أو أخضر ، وقماش يعرف بالجزيري وهو صوف رفيع جدا ، أو قماش يعرف بالتلمساني مما يعمل بتلمسان ، وهو نوعان مختم وغير مختم ، منها صوف خالص ومنها صوف وحرير. والسلطان يمتاز بلبس الخز ولونه بين الخضرة والسواد ، وهذا اللون هو المسمى بالجوزي والغباري وبالنفطي. قال ابن سعيد : وهو مما يخرج من البحر بصفاقس المغرب وأنا رأيته كيف يخرج ، يغوص الغواصون في البحر فيخرجون كمائم شبيهة بالبصل بأعناق في أعلاها زبورة فتنشر في الشمس فتنفتح تلك الكمائم الشبيهة بالبصل عزوبر ، فيسمط ويخرج صفوه ويغزل ويعمل منه طعمة لقيام حرير ، وينسج منه ثياب مختمة وغير مختمة. وهو أفخر الثياب السلطانية

٣٠٧

بتونس ويبلغ ثمن الثوب مائتي دينار من دنانيرهم المسماة ، فيكون ثمنه ألف درهم من نقد مصر والشام.

وأما لبس الأشياخ والجند والوقافين والقضاة والوزراء والكتاب وعامة الناس فعلى زي واحد لا تكاد تتفاوت العمائم والجباب ، ولا يتميز المشايخ والوقافون والجند إلّا بشيء واحد لا يكاد يظهر ولا يبين وهو صغر العمائم وضيق القماش. ولبس أهل إفريقية من الجوخ ومن الثياب الصوف ومن الأكسية ومن الثياب القطن ، فمن لبس غير هذا كان مما يجلب من طرايف الإسكندرية والعراق وكان نادرا شاذا.

وذكر في ترجمة أبي زكرياء ابن عبد الواحد الحفصي أنه يلبس الثياب الصوف الرفيعة ذوات الألوان البديعة ، وأكثر ما يلبس المختم الممتزج من الحرير والصوف وكمان طويلان من غير كثرة طول ، ضيقان من غير أن يكونا مزندين ، وثيابه دون شد نطاق إلا أن يكون في الحرب ، فإنه يشد المنطقة ويلبس الأقبية ، وله طيلسان من صوف في نهاية اللطافة كأنه شرب يتردى به ولا يضعه على رأسه. وله عمامة كبيرة من صوف أو كتان وفيها طراز من حرير ، ولا يعمم أحد من أهل دولته على قدرها في الكبر قد اختصت به ، وله عذبة خلف أذنه اليسرى وهذه العذبة مخصوصة به وبأقاربه ، وليس له أخفاف في الحاضرة ولكنه يلبسها في السفر.

وقال في لباس المغرب الأقصى : وأما زي السلطان والأشياخ وعامة الجند فهي عمائم طوال رقاق قليلة العرض من كتان ويعمل فوقها إحرامات يلفونها ، وعلى أكتافهم الجباب ويتقلدون بالسيوف تقليدا فداويا ، والأخفاف في أرجلهم وتسمى عندهم الأتمقة والمهاميز. ولهم المضمات وهي المناطق ولكنهم لا يشدونها إلّا في يوم الحرب أو يوم التمييز ، وهو يوم عرض سلطانهم لهم. وتعمل من فضة ومنهم من يعملها ذهبا ، ومنها ما يبلغ ألف مثقال ، ويختص سلطانهم بلبس البرنس الأبيض الرفيع لا يلبسه ذو سيف سواه. فأما العلماء وأهل الصلاح واسمهم عندهم المرابطون فإنه لا حرج عليهم في لبسها. هذا في البرانس البيض فأما سائر الألوان فلا حرج على أحد في لبسها كائنا من كان.

قال ابن خلدون الصغير في كتاب «بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد» بتلمسان وحوك الصوف يتغايون في عمل أثوابه الرقاق ، فتلفي الكساء والبرنس

٣٠٨

عندهم من ثماني أواق ، والإحرام من خمس ، بذلك عرفوا في القديم والحادث ، ومن لدنهم يجلب إلى الأمصار شرقا غربا. وكان الإحرام في القرون الوسطى أي مدة الدولة الحفصية من العادة أن يزال منه ما فوق العمامة عند ملاقاة السلطان. وبقي البرنس في الدولة إلى أوائل القرون الأخيرة ، وهي ما بعد الألف ، فإن رمضان باي المرادي في أول القرن الثاني عشر كان لابسا برنسا في بعض وقائعه ، ونزعه لما تمسك به أحد أتباعه وفاز بنفسه. أما محمد باي المرادي فلبس القفطان ، لما ولي أواخر القرن الحادي عشر. ولعل البرنس والقفطان صارا في تنازع فاقتسما الأمر ، فالبرنس للسفر وهو المناسب للركوب وكثير المنافع في الحر والقر ، واختص القفطان بالإقامة والحواضر.

والبرنس إلى الآن عام في طبقات المملكة التونسية ، حتى أن من كانت وظيفته تقضي عليه بلباسها الخاص بها فإنه يتبرنس في أوقات راحته وخلواته ، وهو في الحواضر يوضع على الأكتاف على ما فيه من المشقة وإشغال اليدين ، وفي غيرها يسلك في العنق على الطريقة الأولى له ، ولما كان هو الوحيد شهرة في المملكة عنونت به كتاب الرحلة ، ليعلم بمجرد سماع الاسم مرجع جنسية ووطن صاحب الكتاب.

وقد قام مقام الإحرام الشبيه بالأردية الرومانية في الحواضر الطيلسان ثم هجر وبقي شعار طائفة من أهل العلم خاصة كما سيأتي. وبعض سكان القرى وعموم البوادي متمسكون بالحولي وكذلك بعض أفراد بالحواضر. أخبر الشيخ ابن أبي الضياف أن العلامة المنعم الشيخ الطاهر بن عاشور قاضي القضاة وجد صديقنا العلامة النزيه وارث جده بجده في الاسم والعلم والوظيف ، أنه كان يلتحف في الشتاء بالحولي ، ويقول لعاذله دونك وقولي. وفضيلة الشيخ نعمه الله أجدر خبرا بما نقله ابن عساكر عن خالد بن سفيان القائل : عمود الجمال الطول وبرنسه سواد الشعر ورداؤه البياض. وما في هذا التشبيه من التنويه.

وكان حمودة باشا في أوائل القرن الثاني عشر يلبس الطيلسان من صوف جربة ، فاقتدى به أهل المجلس الشرعي فيه وخلعوا طيالسة الكشمير ، ولا زال الطيلسان إلى الآن شعارا رسميا لأرباب الوظائف الشرعية والخطباء. وعثمان باي ١٢٢٩ ـ ١٢٣٠ جرى على سنن من قبله في القفطان والطيلسان. ثم صار لباس رجال الدولة على الطريقة النظامية المعروفة الآن من عام ١٢٤٧ على ما شرحه شيخ المؤرخين ابن أبي

٣٠٩

الضياف برد الله ثراه. وذلك على عهد المنعم حسين باي الثاني الذي كان يلبس المحصور ، وهو ما كان بدون جبة ، وفوق باقي الثياب البرنس على الأكتاف.

بقي الكلام على العمائم وهي تيجان العرب تناط بعد إماطة التمائم ويدخل بها الشاب في دور الرجولية. قال الحريري : مذ ميطت عني التمائم ، ونيطت بي العمائم. وكانت عادة العرب إذا بلغ الصبي أزالوا التمائم عنه وهي الحروز التي توضع في رقاب الصبيان ، وفيها المعاذا والأدعية الصالحة توضع في محافظ من الجلد البسيط أو المزركش أو من الفضة أو الذهب وألبسوه العمامة وقلدوه السيف. وفد الرماح بن يزيد المعروف بابن ميادة على الوليد بن يزيد بن عبد الملك ومدحه ، فأمره بالمقام عنده فأقام ، ثم اشتاق إلى وطنه وقال من ضمن قصيدة التشوق :

بلاد بها نيطت علي تمائمي

وقطعن عني حين أدركني عقلي

فإن كنت عن تلك المواطن حابسي

فافش علي الرزق واجمع إذا شملي

فأعطاه الوليد مائة ناقة دهماء جعداء ، ومائة ناقة صهباء ، فجعلت هذه تضيء من جانب وهذه تظلم من جانب آخر.

وإلى الآن العادة في القيروان تحتم لبس العمامة على الشبان عند الزواج الذي يباكرون به أكثر من غيرهم لما فيه من المصلحة الدينية والعمرانية ما لا يخفى. كما أن لبس العمامة يوم الزواج عادة سائرة في حواضر تونس ، فيعرف العزب بلبس القلنسوة ويعرف المتزوج بلبس العمامة. ولذلك يسمون ليلة العرس ليلة التعميمة.

وجدت العمامة مرسومة في الحجارة على صور سكان إفريقيا قبل الإسلام وعليهم الجباب المعلمة.

قال ابن خلدون : إن العرب يرسلون من أطراف عمائمهم عذبات يلتثم قوم منهم بفضلها وهم عرب المشرق ، وقوم يلفون منها الليث والأخدع قبل لبسها ثم يلتثمون بما تحت أذقانهم من فضلها وهم عرب المغرب.

والبرنس بالضم كل ثوب رأسه منه ملتزق به دراعة كان أوجبة وهو من البرس

٣١٠

بالكسر : القطن ، والنون زائدة وقيل إنه غير عربي. والدراعة الجبة المشقوقة إلى نهاية مقدمها ، فهي من الثياب الموضوعة على الأكتاف كالدرع ، وهذا هو النوع المختص باسم البرنس عندنا. والجبة التي رأسها منها إذا أدخلت في العنق فهي القشابية ، واشتمال الصماء أن يرد الرجل كساءه من قبل يمينه على يديه اليسرى وعاتقه الأيسر ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن فيغطيهما جميعا.

والجبة ثوب مقطوع الكم طويل يلبس فوق الثياب أو الدروع والعباءات ، جمع عباءة ، وهي كساء من صوف بلا كمين أو ثوب مربع مطبق مشقوق من الوسط وله تقويرة في محل الرقبة وفتحتان من الجهتين ، يخرج منهما الذراعان وهي المعبر عنها عندنا بالصدرية الجزيرية.

والطيلسان كساء مدور أخضر لا أسفل له ، لحمته أو سداه صوف يلبسه الخواص من العلماء والمشايخ والطويلة؟؟ (١٣٣)

اللباس العربي

جرى حديث بعد رجوعي إلى تونس مع بعض الفضلاء الذين تكرر منهم السفر أكثر من غيرهم إلى ممالك أروبا وعواصمها وشغله يقضي بالتعرف بسائر الطبقات ، فأكد أن اللباس العربي محترم حيثما ذهب وأنه يسره أن يحافظ على لباس وطنه.

وكان معنا بعض الفضلاء ممن سافر إلى فرانسا ولبس العربي والأروباوي ففصل ما بينهما ، وفضل اللباس العربي في الاجتماعات الرسمية وفي مجالس الوداد.

واللباس الأروباوي في أوقات الخلاعة والتجول. وحكى لنا أنه سمع من المنعم الشيخ بيرم الرئيس الأول بجمعية الأوقاف والرحالة في الممالك الأروباوية الانتقاد على من يستبدل لباسه العربي بغيره في مدة سفره بأروبا.

قلت واختلاف الأزياء تابع لاختلاف الأذواق والشهوات والعوائد ، وهو قديم كالاختلاف في اللغات حتى أصبح لكل شعب أو قطر أو طائفة تجمعها رابطة اعتقاد

__________________

(١٣٣) كذا ولعل المؤلف أجل تعريفها فلم يعد لذلك.

٣١١

أو صناعة لباس مخصوص وشعار معلوم يتميزون به عمن سواهم ولا يرضون به بديلا. لكن أدوار الزمان لا تقف بالأمم عند حد في تنويع الأشمال والهيئات والألوان وأصبح من لوازم التمييز في الوظائف. فلكل إدارة شعار وهيئة تخصها ويظهر أن الرفاهية والفراغ من دواعي التأنق في تغيير الأزياء حبا لكل جديد وإغرابا في المجتمعات. بخلاف أرباب الأشغال وذوي الاعتناء بمهمات الأعمال فهم لا يعنون بذلك إما احتقارا أو لعدم الملايمة لما يشتغلون به. والمتأمل في أفراد الشعوب والطوائف يدرك ، من تقارب ملابسها في الألوان والأشكال وتنسيق الهيئات على ما يلائم معاطاة الأعمال واختلاف الفصول ، درجة الأمة في الرقي وحسن الذوق فيما يلائم.

إذ تباعد الأزياء والهيئات والأشكال والألوان بين أفراد الشعب الواحد بلا سبب ربما دل على تباعد آرائه وعدم وحدة الفكرة ونبذ مراعاة الجامعة ، مثل التباعد ما بين الشعوب والطوائف المختص كل منها بلباس لاختلاف التفكير. وأهل البادية الآن أكثر ما يحتاجون إليه في اللباس ثمانية أشياء (١) برنس «يسلك في العنق» (٢) رداء (٣) منديل «محرمة» (٤) شاشية «قلنسوة» (٦) عمامة (١) (١٣٤) «جبة» (٧) قميص (٨) نعل. بخلاف الحضري فيتجاوز في ذلك ١٥ (١) برنس على الأكتاف على خلاف وضعه الأولي ، ولذلك فوضعه الثاني لا يخلو من كلفة وأشغال اليدين معا كأنما خلقا لأجله خاصة ، خشية أن يطير في السماء أو يهوي للثرى (٢) شاشية (٣) عمامة (٤) جبة (٥) غلالة (٦) فرملة (٧) صدرية (٨) قميص (٩) درع داخلي من صوف أو قطن (مريول) (١٠) منديل (١١) سراويل (١٢) منطقة (١٣) جوارب (١٤) ربايط لها (١٥) خف (سباط).

البحث والسؤال

من عوائد الفرنساويين البحث والتنقير عن الحوادث والتنقيب على الأخبار والتعمق في السؤال ، فلا يقفون عند حد ولا يقنعون بالسطحيات ، لذلك كانت

__________________

(١٣٤) كذا ، فيكون العدد ٩.

٣١٢

العلوم عندهم دائما في رقي مستمر ودقائق أخبار الأمم هي سمرهم ، وتقلبات الدهر وتصرفات الليالي هي أحاديث أنديتهم ومجتمعاتهم. وأرسم هنا شيئا مما دار بيني وبين سكان فرانسا في هاته الرحلة : كانوا يباحثونني ويستطلعون مني عوائد مملكتي وأخلاقها ومعارفها كما يسألون عن أبناء جنسهم في المملكة التونسية ، وما هي معاملاتهم مع الأهالي ، وهل هم على وفاق مع أبناء الوطن التونسي. ومتى سمعوا التوادد مع رجال الحكومة وطيب المعاشرة تبرق أسارير وجوههم سرورا بأبناء جنسهم الذين بيضوا وجوه رجال مملكتهم في حالة اغترابهم وجلبوا الثناء الجميل لدولتهم التي تحميهم من وراء البحار ، وتنتظر محاسن أعمالهم على بعد الدار. وكثيرا ما سئلت عن السبب الذي ترك المملكة التونسية على اتساعها قليلة عدد السكان بالنسبة إلى غيرها لما أن مساحتها ٠٠٠ ، ٧٢١ كيلوميتر مربعا وسكانها ٠٠٠ ، ٠٠٨ ، ١.

فالكيلوميترو مربعا به نحو عشرة ١٠ فقط وهذا قليل جدا بالنسبة لما بيناه من سكان الممالك ، ومساحاتها عند الكلام على مجلس الأمة بباريز بصحيفة ١٥٠ «وقد وقع تحريف مطبعي في تلك الإحصائية تداركناه في جدول الإصلاح» (١٣٥). فكان جوابي لهم بأن عمران المملكة أخذ في التلاشي وانحط عدد النفوس إلى درجة مخطرة في القرون الخيرة ، أعني بعد الألف لأسباب كثيرة ، زيادة على النكبات التي أصابته في خلال القرون الأولى أي إلى القرن الخامس ، ثم في أثناء القرون الوسطى أي إلى الألف ، ومن تلك الأسباب : ١ ـ الحروب المستمرة بين القبائل. ٢ ـ ومنها عدم الأمن على النفس والمال. ٣ ـ ومنها الجهل بحفظ الصحة والعجز عن مقاومة الأمراض الوبائية. ٤ ـ ومنها فقد المعاش في سني الجذب. أما الآن فقد انخفضت شوكة القبائل بالمملكة سواء كانوا من البربر أو العرب ، وكلا الجنسين لعب دورا مهما في إفريقيا وأخذ حظا وافرا في التخريب والحروب المبيدة. فالكاهنة دهيا البربرية في النصف الثاني من القرن الأول خربت المداين والقصور ، وأفسدت الأشجار تنفيرا للعرب الفاتحين من الإقامة ، فتركت المملكة بلقعا تئن من ويلات الفقر حيث أبادت مساكن أصحاب المدر والصنائع الذين لا تكون العمارة إلّا بهم ، وذهبت بمتمعش

__________________

(١٣٥) أثبتنا التصحيح المذكور.

٣١٣

السكان وهي غابات الزيتون. ثم جاء أبو يزيد النكاري البربري صاحب الحمار الأبيض وملأ إفريقية حربا على العبيديين في أول القرن الرابع ، ثم في أواسط القرن الخامس جاء عرب هلال للقضاء الأخير على إفريقيا وهي في منتهى الشباب ونمو الثروة وكثرة الساكن وانتشار العمران وأمن السبل وبسطة العلم والحضارة. فتلاطمت أمواج العنصرين العربي والبربري وطما بحر الأول على الثاني وداسه وشرده وصير باقيه خولا وعبيد جباية. إلى غير ذلك من مثل حروب الميورقي يحيى بن غانية بإفريقية قائما بالدعوة المرابطية في أوائل القرن السابع ضد دولة بني عبد المومن بن علي أصحاب الدولة الموحدية ، وخلف المهدي ابن تومرت بشمال إفريقيا. وما الدولة الحفصية إلا من صنائع دولته ورجالها نواب عنه بتونس في أول أمرهم. قال ابن خلدون في شأنه ما مضمونه : ردد الغزو والغارة على بسائط إفريقية والمغرب الأوسط فاكتسحها ، وكبس الأمصار فاقتحمها ، وانتسف الزرع وحطم النعم إلى أن خربت وعفا رسمها لسني الثلاثين من المائة السابعة ه. ثم ثورات قبائل العرب وإجلابهم على الدولة الحفصية مرة بعد أخرى ، وأحيانا يجئجئون عليها ببعض قرابة الملك وأعياص النسب ، حتى قاسموها المملكة واستبدوا بمحصولات الضواحي ونالوا الإقطاعات من بعض القرى والواحات. وقد نبهنا في المقدمة بقسم السفر المالي وبفصل التغلب والاستيلاء ، على أن الحروب الداخلية من العيث والفساد وضعف الحكومة وانشقاق الأمة إلخ ما بصحيفة ١٤.

ومن أعظم الفتن في القرون الأخيرة المقارعات بين تونس والجزائر ، ثم عواقب الشقاق بين المراديين وأعمال مراد بوبالة وخليل باشا والي طرابلس ، وبالأخص في القيروان ، التي سبى نساءها وذراريها بعد ما استأصل رجالها بذراع التمار ، وحرثها بعد ذلك مراد بوبالة في أوائل القرن ١٢. ثم حروب يونس بن علي باشا في أواسط القرن ١٢ فمنيت إفريقيا جراء هاته الحروب بنقص الأموال والأنفس والثمرات. أما قبائل هلال وسليم والعرب الذين طمسوا معالم إفريقيا وانتزوا على كورها فليسوا كبقية العرب أصحاب المكارم وطيب الجوار ، بل هم من الشهرة بمكان في العيث والفساد ، وكانوا في نيل مصر تحت نير الضغط والمراقبة من العبيديين الذين جمعوهم في صعيد واحد وكفوا عاديتهم عن السكان ، إلى أن ألجأهم المعز بن باديس بكفران

٣١٤

النعمة والتهاون بهم إلى الانتقام منه ، فجاءت الضربة قاضية والمصيبة عامة لما أفاضوا عليه سيل العرم والجراد المنتشر من هاتيك القبائل السفاكة فكان ما كان ، وقد ألمعنا في المقدمة إلى هذا الحادث الجلل.

أما رجال الفتح وسراة الأمة العربية فليس هذا سبيلهم ولا من شيمهم ، ومع أنهم أباة ضيم فهم لا يتنازلون إلى الظلم الذي تنهاهم عنه شريعتهم وشرفهم ، وهم متى غلبوا أمنوا من تحتهم وعمروا الممالك. وفي إفريقية قاموا مقام الرومان في هذا المعنى وإن شئت امتزجوا بهم وبالبربر عند الفتح مثلما امتزجوا ببقية الأمم الأصلية في الممالك الراقية التي أبيح لهم فتحها وانتفعوا منهم في أخذ علوم الدنيا مثلما انتفع السكان الأصليون بحلاوة العدل منهم والتطهر من أدران الضلالات وبنشر حرية العمل والاعتقاد. عدا ما يزاحم سيادة الدولة أو يناكد دينها ، فإن الأمة الحاكمة لا تتهاون بها.

والعرب بإفريقيا وغيرها أوسع عارضة وأمتن رأيا في الإدارة وبالسياسة. والبربر أدمن عملا وأرضى بالقليل وأشغل للمهن البسيطة ، وهم أكثر تلقيا لعوائد الرومان من غيرهم ومتابعة لهم في مذموم الخصال ومحمودها لطول المساكنة وقوة الامتزاج والمعاشرة. غير أن الإسلام طهرهم كثيرا. كما أن قبائل هلال وغيرهم بطول الإقامة في إفريقيا ذات الهواء اللطيف والعيش المريء نقصت حدتهم. وبفضل امتزاجهم بالعناصر التي بها حسنت معاملتهم ، ولا زالت ذريتهم من بعدهم بإفريقيا محافظة على أنسابها وشيء من عاداتها ، وامتاز العرب بالوفاء بالعهد عن شرف ، ومقابلة الجميل بالجميل عن إخلاص. وصار هذا خلقا لعموم سكان المملكة التونسية التي أكثرها عرب من جيل القرن الخامس. أما عرب الفتح الأول وهم أمراء وقواد وأجناد فقد أبادتهم الحروب وابتلعتهم الأقطار الشاسعة ، ومثلهم ذريتهم من بعدهم في طلب العلى. وهي سنة في عائلات وشيعة الملك المنقرض ، حيث لا يبقى عليهم من يخلفهم من بعدهم. وهو سوء في السياسة وخرق في الرأي. وادعاء النسب وزعم الالتحاق بمثل عائلات الملك والشرف شنشنة معروفة من المتشبثين بأذيال السمعة ، فيركبون لها متن التدليس والتلبيس وتخادعهم أنفسهم بما تمليه عليهم من الأوهام ، إلى بناء القصور على الأماني والأحلام ، عجزا منها عن طريقة عصام ، وهم لا تخلو

٣١٥

منهم أرض على كر الأيام.

وربما راج بعض الأدعياء بتحمل الأوزار لنيل بعض الأوطار. ولما كانت من علاماتهم نصب المكايد وتدبير المفاسد ، فهم في الغالب لسوء نواياهم يفتضح أمرهم وتسوء عقابهم. وأفنت البربر أيضا الحروب والمجاعات وشردوا إلى الجبال العظيمة التي كانت في القرون الأخيرة أعشاشا للفتن ولتوليد رؤوس الثورة ، وملجأ لكل متشرد ، وداعية لكل ناعق.

وأشهر جبال المملكة التونسية جبل خمير بالشمال ومطماطة بالجنوب ووسلات بالوسط غربي القيروان. وجدت كثيرا من الفرنساويين الذين عرفوا أخلاق التونسيين يثنون عليهم ويعترفون لهم بالنباهة والاستعداد لقبول الحضارة وبكونهم مصدرا للمسالمة والحفاوة والمعروف.

٢. أما الأمن على النفس والمال فقد سهرت عليه أنظار الحومة الحالية بتقليم أظفار أهل الفتن وقطع أيدي أرباب التمعش من طرقات القفر وإخافة السابلة ، وأعان على سد الأبواب في وجه الطالبين للاسترزاق من غير الأوجه الطبيعية تمهيد الطرقات وتسهيل المواصلات وسرعة المخابرات بمستحدث الآلات. والجزئيات البسيطة والنوازل النادرة التي لا تخلو من مثلها مملكة فيقتلع جرثومتها نشر التعليم ويبيدها الولاة المخلصون المقتدرون.

٣. وحفظ الصحة ومقاومة الأمراض الوبائية فهو على نظام متين ، وفي تقدم سريع حيث انتشرت المستشفيات في غالب جهات المملكة ، وتقاطرت الأطباء مثلما انتشرت مكاتب التعليم والمعلمون. فانتفعت المملكة ونفقت أسواق التعليم والتطبب ، وامتدت إلى أربابهما أنظار الوجاهة وانساقت لهم خيرات الحياة الدنيا جزاء إحيائهم بدن الإنسان وروحه.

وبصفة كوني عضوا في مجلس مستشفى القيروان مع ما عرفته قبل من نظام المستشفى الصادقي بتونس الراجع لنظر جمعية الأوقاف ، اطلعت على ما نجم عن هاته الملاجىء الخيرية ونفعها للأهالي الذين كانوا يموتون فريسة الجهل بالمداواة ولو للأمراض البسيطة المنهكة للأجسام البشرية. وضحية الأمراض المخطرة القاضية على النفوس ، وتفشي العدوى الحاصدة لأجساد المخلوقات. ومن جمعية الأوقاف مدد في

٣١٦

هاته المبرة كما هو المقصود من الوقف في الإعانة على طرق سعادة الإنسان ، والأهالي يقدرون هاته المزايا حق قدرها.

خصوصا وقد شاهدنا ما قامت به الحكومة أحسن قيام في عام ١٣٢٩ لمقاومة المرض الوبائي الذي هاجم المملكة وطارت شرارات ناره إلى عدة نقط من الإيالة ، فجرى عليه الحصار في أماكن ظهوره وكبسته رجال الحكومة ، ولصديقنا السيد الهادي المرابط عامل القيروان يد طولى في ذلك واعتناء غريب ، كما حاربته حكماء الطب فقضى نحبه في أمد وجيز بعد أن رمى بسهام بلائه عددا من النفوس البريئة.

فلو أتى هذا العدو الفتاك والمملكة على الحالة القديمة لأباد الأمة وخرب الإيالة. ولا زالت السنون التي طمى فيها سيله سابقا على المملكة تاريخ أبناء الجيل الماضي ومن غرائب ما يقصونه ، سواء عن مشاهدة أو سماع على جيل أول القرن الرابع عشر.

ذكر أبو إسحاق الرقيق القيرواني المؤرخ الشهير والكاتب الشاعر أن عام ٣٩٥ كانت فيه شدة عظيمة انكشف فيها المستور ، وهلك فيها الفقير ، وذهب مال الغني ، وغلت الأسعار وعدمت الأقوات ، وجلا أهل البادية عن أوطانهم ، وخلت أكثر المنازل فلم يبق لها وارث ، ومع هذه الشدة وباء وطاعون هلك فيه أكثر الناس من غني ومحتاج ، فلا ترى متصرفا إلّا في علاج ، أو عيادة مريض أو آخذا في جهاز ميت ، أو تشييع جنازة وانصراف من دفن. وكان الضعفاء يجمعون إلى باب سلم فتحفر لهم أخاديد ويدفنون المائة والأكثر في الاخديد الواحد. فمات من طبقات الناس وأهل العلم والتجار والنساء والصبيان ما لا يحصي عددهم إلّا خالقهم تعالى. وخلت المساجد بمدينة القيروان وتعطلت الأفران والحمامات ، وكان الناس يوقدون أبواب بيوتهم وخشب سقوفهم ، وجاء خلق من أهل الحاضرة والبادية إلى جزيرة صقلية وكانت الرمانة بدرهمين للمريض في ذلك الوقت ، والفروج بثلاثين درهما ، وقيل إن أهل البادية أكل بعضهم بعضا. وفي سنة ٣٩٦ كثر الخصب بإفريقية ورخصت الأسعار وارتفع الوباء عن الناس.

ذكر لي راوية القيروان وواسع الخبر والبيان الشيخ سيدي محمد صدام باش مفتي القيروان ، أن عام ١٢٨٤ كان الأمر فيه على هاته الحالة في القيروان. ولا خلاف في نفع المقاومة وحصول الوقاية بالمداواة وصحة التحصن من مثل هذا المرض بحمية

٣١٧

الابتعاد عن المصاب به والعليل بجراثيمه. وكل ذلك بإرادة الذي خلق الداء والدواء ، وأما حديث من أعدى الأول عند السؤال على التفادي من خلط البعير الصحيح بالأجرب خشية العدوى فهو لائق بالسائل وتعليم له وتنصيص لمصدر الأفعال من الخالق القدير كيلا تنسب لسواه. وما سؤال السائل عن مثل هذا إلّا لما عرفه واعتيد عند قومه من تفشي العدوى بممازجة المريض. والحديث الشريف يقول :

فر من المجذوم فرارك من الأسد. وفي المملكة التونسية طبيبان مسلمان وهما السيد البشير دنكزلي والسيد حسين بوحاجب فقط ، وطائفة من الممرضين والمهيئين لبعض الأدوية علمهم المستشفى الصادقي ، فانتفعت بهؤلاء الشبان مستشفيات المملكة.

وحبذا لو اعتنى أغنياء المسلمين بتوجيه أبنائهم إلى أروبا لتلقي هذا الفن الجليل الذي برع فيه أوائلنا ودونوا الكتب في أنواع الأمراض وجزئيات العلاج ولم يشحوا بتعليمه على كافة أجناس البشر. ومن كتب اليونان انجر إلى بغداد وفاض على إفريقية ودخل جزيرة الأندلس وتسرب بين فجاج جبال البيريني إلى أروبا ، والعلم سريع الانتشار والتنقل كالنور ، غير أن شمسه لا ينتفع بها إلّا اليقظان ، وكثيرا ما تمر بأقوام وهم نائمون.

في أروبا لا يستنكف أبناء الأغنياء عن تكبد المشاق في طلب العلوم أو يستغنون عن زيادة الغنى الذي واسطته الكبرى ووسيلته العظمى هي العلم. فالعلوم العالية ينفق أغنياؤهم فيها على أبنائهم الأموال الطائلة وذلك ما لا يكون في وسع الفقراء.

وقد تغيرت طرق الحصول على العلم بنظام المدارس وصرف الأموال الذريعة خلافا لما مضى من فتح أبواب الدروس في سائر الفنون لكل وارد ، فكان السبق غالبا لأبناء الفقراء الذين يكابدون عناء الطلب ويفنون زهرة شبابهم في السهر والجد ويبيعون لذة حياتهم بطول الأمد ، ولو لا أبناء الفقراء لضاع العلم ، أما وقد أصبح قطع المسافات البعيدة والدخول في المدارس العليا يتوقف على الأموال الذريعة فصار هذا الواجب من متعلقات الأغنياء خاصة.

كنت اجتمعت في جنيف بثلاثة من شبان اليهود التونسيين يتعلمون الطب ، فسرني ذلك من أبناء الوطن بقدر ما ساءني قلة عددهم وخلو جمعهم من مشاركة أبناء الجنس.

٣١٨

٤. وما قررته الحكومة في سني الجدب من جلب الحبوب وتوزيعها على الأهالي سلفا للقادرين على الوفاء وصدقة على الفقراء من أحسن التدابير لإحياء النفوس ودفع المجاعة ، التي تعقبها غالبا الأمراض الوبائية لاستعداد الأبدان الهزيلة لقبول طلائع جيش الأمراض بسهولة ، لفقدها سلاح الغذاء الكافي الذي تقاوم به هجمات الطبيعة ـ والأمراض المريعة والعدوى السريعة. ولهذا قلت للباحثين على هذا الغرض إن عمران المملكة وعدد السكان أخذا في النمو بعد جيل من الدور الجديد للمملكة للأسباب التي قدمناها ، وربما ظهر النمو ظهورا بينها في الجيل الثاني ومتى تمت غراسة الزيتون وبالأخص في فسيح أراضي الجنوب الصالحة له نمى عدد السكان.

وضروري أن ثروة الأرض وانتشار الأمن من أسباب وفرة العمران ، وارتفاع إحصائيات الإنسان ، وكثرة الحيوان ، وأيام العدل يتوفر فيها عدد السكان. وتنتظم الإدارة وتتولد الحضارة وتحترم الشرائع وتكثر الصنائع ، وتزهر العلوم وتنبت من الأمة الرجال الأكفياء في كل طبقة وجيل. وتستدر الخيرات كما يقبل الناس على الأشغال ، وإتقان الأعمال ، ويبرع أصحاب الفنون وتظهر ثمرات الفكر ونتائج العمل فتؤلف الكتب وتعم الثروة. والدولة هي السياج لهذا البستان الزاهر والعمران الزاخر.

لهذا يعلو كعب الدولة بمثل هذا وينساق لها من الثروة العامة في الأمة الغنى. ويكون لها من الرجال الأكفياء في السيف والقلم الغنى. وهذا ما أخذت فيه المملكة التونسية في عصر الحماية ، فبعد أن كانت ميزانية دخل الدولة سبعة ملايين على عهد دولة أحمد باي في الربع الثالث من القرن ١٣ المنصرم ، وبلغت في دولة الصادق باي في أواخر القرن المذكور أحد عشر مليونا ، صارت اليوم خمسة وثمانين مليونا على ما ضبطه واسع الاطلاع المؤرخ سيدي محمد بن الخوجة في بعض الرحلات الدولية ، وذلك في دولة أميرنا كريم الشيم وواسع الكرم ، مجل أهل العلم والمرموق بعين الرفعة بين الأمم ، سيدنا محمد الناصر باي. فالله مولانا يسعد الأمة بطلعته ويؤيد في الصالح العام رجال دولته.

وعسى أن يزداد العمران وثروة السكان بالنعمة العظمى التي منت بها الدولة على الأهالي ، وهي منحهم إنزال أراضي الأوقاف العامة والخاصة التي بها منازلهم ومستقرهم أبا عن جد ، بمقدار زهيد وبدون إشهار أو مشاركة من ليس له حق معهم

٣١٩

في النزل والاستيطان ، فالأهالي لا يخشون بعد هذا فقد المركز الذي به حياتهم ، وإنما الخوف منا على أنفسنا في عدم القيام بواجب تعمير الأرض وبقاء ثمراتها وكنوزها في جوفها ، إلى أن تضمنا لتلك الكنوز التي في بطنها ونحن بطوننا فارغة. وستظهر إحصائيات السكان الحقيقية من ضبط الحالة المدنية وإحصاء المواليد والوفيات الذي اعتنت به الحكومة أخيرا. وكان من الفائزين بقصبات السبق في ضبط هاته المسألة والعناية بهذا الموضوع صديقنا السيد الهادي المرابط عامل القيروان. ونظير هذا كان في صدر الإسلام على عهد سيدنا معاوية بن أبي سفيان ، فإنه جعل على كل قبيلة من قبائل العرب بمصر رجلا يصبح كل يوم فيدور على المجالس فيقول : هل ولد الليلة فيكم مولود ، وهل نزل بكم نازل فيقال : ولد لفلان غلام ولفلان جارية فيكتب أسماءهم. ويقال : نزل بهم رجل من أهل كذا بعياله فيسميه وعياله ، فإذا فرغ من القيل أتى الديوان حتى يثبت ذلك. وفي دولة الرومان أسس سنس قاعدة كتب أسماء الرومانيين كل خمس سنين في دفتر لا يوجد إلّا في رومة ، ومن لم يرسم اسمه بدفتر تعداد الأنفس يقع عليه الرق. وظهر بالإحصاء الجديد وفي بحر السنوات العشرة الأخيرة أن سكان القيروان حسب التفصيل الآتي :

أسماء الرجال ـ فوق المائتين

 ٢٠٠

«النساء – نحو

 ١٥٠

«الأنساب – فوق

 ١٢٠

أنواع الوظائف والحرف والصناعات فوق المائة :

للرجال

 ١٠٠

النساء – فوق

 ٠١٠

أسماء اليهود ـ الرجال – فوق

 ١٥٠

««ـ النساء – نحو

 ٠٧٠

منازل المسلمين – فوق

 ٢٠٠٠

«اليهود – نحو

 ٠٠٥٠

٣٢٠