البرنس في باريس

محمّد المقداد الورتتاني

البرنس في باريس

المؤلف:

محمّد المقداد الورتتاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-605-5
الصفحات: ٣٩٥

واصطفورة «تبرسق» وفريانة وقفصة ، فهي من أحسن مراكز العمران المراعى فيها مستقبل الساكن عند التأسيس وربما لاحظوا دائما هاته المسألة الحيوية في جميع مدنهم.

ساقنا إلى هذا الحديث وذكرنا ما ذكرنا من أحوال المياه بالمملكة التونسية ما شاهدناه في مدن فرانسا الجارية من حولها وخلالها الأنهار الجميلة والمياه العذبة ، وقد مر بك حديثها في كرونوبل وجنيف وباريز وفراين وإيسودان وطولوز وليون التي قلنا فيها إن الأنهار تعشق المدن في فرانسا.

نيم

عجلنا لها السير من مونبيليي شأن المسافر في أخريات أيامه والعامل في بقية أشغاله. فأمد الرخصة الإدارية يحثنا ، والشوق للشاطئ الأيمن من البحر الأبيض يقودنا. خصوصا وقد رأينا شاطئه الأيسر في هذا اليوم بجنوب نربون ومونبيليي ، وما غابت شمس هذا النهار الذي ركبنا قبيل منتصفه من طولوز وقضينا مساءه في مونبيليي حتى نزلنا في مدينة نيم الغنية بآثار الرومان ، والباقية بها بعض صفاتهم وعوائدهم التي منها الاحتفال بمصارعة ذكران البقر في الانفيتياترو «ليزاراين» الجاثم في هاته المدينة هيكلا عظيما وبناء متينا على شكل بيضي ، داخله مدرج لجلوس المتفرجين ، وفي وسطه فضاء للمصارعة. ولفظ الانفيتياترو مركب من كلمتين من لغة الإكريك أنفي ـ معناه حول وتياترو معناه اللعب. وهو في نيم له سطران من الأقواس ، أحدهما فوق الآخر من جميع جهاته وحجارته بيضاء على خلاف لون الحجارة الصفراء بقصر الأجم. ويظهر أنه أقل حجما أيضا وأقصر ارتفاعا وأنقص طبقات من انفيتيارو المملكة التونسية ، ولكن هذا حياته تجددت دون قصر الأجم ، باستعماله فيما أسس له ، فقد رمموا خارجه ووضعوا الكراسي فيما نقص من داخله وأضاءوه بالكهرباء للتمثيل به ليلا زيادة على النهار. وبلغني أنه يسع عشرين ألفا من المتفرجين الذين يأتون من البلدان البعيدة. أما المدينة فسكانها نحو ثمانين ألفا ، وصور مصارعة الرجال والثيران مجسمة تباع بكثرة في هاته المدينة يرجع بها الزائرون تذكارا شهيا. والتجار يضعون على أبواب حوانيتهم رؤوس الثيران ولعا بالألعاب مع

٢٨١

هذه الحيوانات وإشهارا لها وإشعارا للزائرين بكونها من مميزات بلادهم التي تنساق لها سوق عظمى وأرباح كبرى من إقبال الناس على حضور هاته الألعاب. ومن بناءات الرومان في نيم الدار المربعة «لا ميزون كاري» بناؤها بسيط حسن الشكل متين القواعد منقوش الحجارة رفيع السماك ، طوله نحو الخمسين ذراعا وعرضه نحو النصف. يصعد إليه بدرج كثيرة من باب في الشمال وأعمدة الرخام المقام عليها الحايط الخارجي من هاته الدار ترى ذات خطوط مع الطول حفرا كالثوب المعلم. وداخل هذا البيت العتيق الباقي من أحسن ما صنعته يد الرومان ، وتفضلت بالإبقاء عليه ليالي الزمان. خزاين أفقية وقائمة مع الجدران بها مصنوعات عتيقة من سلاح ونقود ، منها نوع من الفخار الملون ينسب التعامل به إلى الصينيين. ومصوغ وآنية من البلور النفيس والخزف اليوناني المخطط بالسواد اللطيف الشكل وحسن التزويق.

حياض الماء الرومانية

وفي شمال المدينة بستان المياه الجارية من قديم في الصهاريج العتيقة ، دخلته من الشرق فأفضى بي الطريق إلى بطحاء كبرى بها صور أشخاص من رخام وحياض ، تظهر بها آونة وتخفى أخرى في سواقي تحت الأرض ، وتحيط بالحياض «درابزون» قوايم من رخام منجور. صاحبتنا لها بنت منزلها بالباب الخارجي تدل الزائرين وتعرب لهم عما في البستان ، فكانت تسرد علينا الحديث سردا بلا فتور تخبر عن مبدأ ذلك البناء عن تقاسيمه وأسماء تماثيله ، كأنها تملي كتابا عن ظهر القلب من كثرة إعادة تلك الأخبار وتكرار روايتها على الزائرين الكثيرين بالضرورة ، والمياه والآثار. يجد فيها اللسان مجالا لتزويق الأخبار.

لاتورماني ـ صومعة ماني

بالغرب الشمالي من البلد وفي مرتفع من الرّبى التي جاءت المدينة في انحدارها الجنوبي. ومن أعلى هاته الصومعة التي كانت أحد حصون الرومان حول المدينة تظهر في الغرب والجوف ربى وهضاب حجرية وغابات وبساتين الأشجار المثمرة. وفيها رأيت شجر الزيتون قصيرا جدا. وديار العمارة ومنازل السكان قائمة خارج المدينة في

٢٨٢

تلك الرّبى وفي ظلال الأشجار. صعدت إلى أعلى هاته الصومعة بنحو مائة وأربعين درجة وذكرت لنا حارسة الباب أن ارتفاعها أمتار ٢٨. ولما رجعت من الجبل في العربة قبيل الزوال كان الحر شديدا ومع ذلك عزمت على السفر إلى آرل لأحضر مصارعة الثيران في عشية هذا اليوم «الأحد».

آرل ـ في يوم الأحد ٦ جويليه ١٩١٣

وصلتها بعد السفر من نيم على طريق طراسكون بعد الزوال. وتناولت الغذاء على الساعة ٢ في مطعم بالشارع الذي يصعد إلى الأنفيتياترو. وكانت هاته القرية التي بها من السكان أربعة وعشرون ألفا غاصة بالوافدين للفرجة على مصارعة الثيران في هذا المساء ، والقهوات مكتظة والمطاعم مفعمة والطرقات مزدانة بأوراق صور الثيران.

بحيث رأيت على القرية زينة المواسم وعلى النساء شكلا ممتازا من اللباس ومسحة من الجمال العربي ، الذي مازج السكان من القرن الثاني. قرروا أن يوسف بن عبد الرحمان والي نربون استولى في أواسط القرن ٢ ه‍ على آرل وأقام على مرسحها الروماني أربع صوامع للحراسة لا تزال منها صومعتان إلى الآن. أما تأسيس المرسح فهو من القرن الثالث م وقد قدمنا في نيم أن الأنفيتياترو ، معناه حول اللعب لفظة مركبة من كلمتين من لغة الإكريك.

وللأمم السالفة ولع ببناء هاته الهياكل وعناية بحضور الألعاب بها. والكتب العربية في القرون الأولى تعبر عنها بالطياطرا محرف «تياترو» وتفسرها بدار الملعب وقالوا في وصفها بقرطاجنة ـ أقواس على سواري وعليها مثلها ما أحاط بالدار وقد صور في حيطانها جميع الحيوان وجعلت فيها صور الرياح ، الصبا : وجه مستبشر ، وصورة الدبور : وجه عبوس إلخ.

مصارعة الثيران

دخلت الأنفيتياترو صعودا إليه من الشمال فصادف موضع جلوسي بالجانب

٢٨٣

الشرقي منه. وكانت هيئة جلوس الناس به تشغل حصة غير قليلة نظر الغريب الذي يرى هذا الحشر أول مرة ، فيستحسن الطرف جلوس اثني عشر ألفا نهارا رجالا ونساء كبارا وصغارا على دواير الدرج المتصاعدة ، وكل دائرة من الجلاس أعلى إلا وهي أوسع من السفلى وأبعد في رأي العين ، وهاته الألوف متقابلة يرى بعضها بعضا وبطحاء الملعب «المصارعة» بين جميعهم. إلا أن أرباب الدوائر الصغرى وهي السفلى لا يخفى عليهم من البطحاء شيء ، وينظرون لما يجري بها أفقيا ، ولذلك مجالسها أغلى سعرا وأكثر اعتبارا ، بخلاف الدوائر العليا فإنها زيادة على البعد لا تظهر منها على مقتضى النظام الهندسي مساحة البطحاء كلها وأشعة البصر تنزل عموديا على البطحاء فمنظر ما بها يكون على خلاف المعتاد كالناظر في بير. ومن عهد الرومان كانت مجالس الأعيان في الطبقة السفلى والفرسان في التي فوقها. والعبيد في العليا حسا لا معنى. ولا ينتقد على نظام هذا البناء إلّا فقط مظلة تقي الناس من الحر والمطر ، فقد رأيت مظلات صغرى من الكاغد على شكل جابوني بلغت الواحدة منها في آخر الأمر إلى فرنك لما ألحت الشمس على الجلاس عدة ساعات وليس لهم محيص من الاتجاه لها. اطلعت على برنامج اللعب فإذا به أسماء الرجال المصارعين.

كارونا ـ من المكسيك. شيكيتو دوبكونا ـ من باسك البيرنيي. لويس فرق ـ من المكسيك.

أسماء الثيران ـ لوراينو ـ فرطونا ـ بولانديرو ـ برليتو مالكوايمو إيريزو ـ من تربية إدوارد ميورا.

البداءة من الساعة ٤ يوم الأحد ٦ جويليه ١٩١٤ ـ السعر ٢٠ ـ ١٨ ـ ١٢ ـ ٩ ـ ٦ ـ ٥ ـ ٣ ـ ٢ للصغار والعساكر ـ والدخل منه عشرة في المائة للفقراء.

على الساعة الرابعة خرج من الباب الشمالي من دائر الألواح المحيطة ببطحاء الملعب فارسان فحيتهما الألوف بالتصفيق ، وسلم هذان برفع القبعة وجالا في البطحاء ، وبعد أن طلبا الطعن والنزال في أرض خالية خرجا من حيث أتيا. ودخل إلى البطحاء بعدهما سبعة فوارس ففعلوا مثلهم كأنهم اغتنموا فرصة قبل خروج الثيران ليظهروا للناس فروسيتهم وشجاعتهم لما خلوا بهاته البطحاء ، وستراهم لا يفعلون مثل ذلك عند ظهور الثيران.

٢٨٤

ثم دخل أربعة أفراس عليها عدد كدواب العربات وبعد خروجها دخل عدة شبان بلباس ملون.

وفي أثناء ذلك فتح باب من جنوب البطحاء ، فخرج منه ثور عظيم الخلقة وهجم كالأسد في فضاء البطحاء وظهر عليه الفزع من جيوش المتفرجين ، وكأنما تخطفت بصره هيئة إحاطتهم به ، فاندهش من هذا الفضاء الضيق والعالم المحدق ، ثم نظر في أطرافها فظهر له أولائك الشبان وبأيديهم المناديل الملونة. فصمم عليهم واحدا بعد آخر ، فطاروا من أمامه إلى ما وراء الألواح المحيطة بالبطحاء ، فشفى غليله بنطح تلك الألواح ليوهنها ، ثم ظهر له بعض منهم في جانب آخر ففعل بهم مثل الأول ، وعند ما ضعفت حدته وثقلت جريته ثبتوا له ثبات الأبطال وأشاروا له بالمناديل الكبرى دعوة للبراز. وكلما هجم على واحد تلقاه بذلك المنديل ومال إلى اليمين أو اليسار فيكون النطح في المنديل وتيار الهجوم يذهب في الفضاء فيتعرض له رجل آخر وآخر ، يقودونه للمحاربة فتراه يجري بين هذا وذاك بلا طائل. ثم وقف فارسان بالجانب الغربي من البطحاء وبيد كل واحد رمح غليظ طويل وقد غطوا عين الفرس من الجهة التي يأتي منها الثور ، وجللوا بطنه بالجلود حتى لا ينفذ فيه سلاح الثور ، وربما كان الفارس مدرعا أيضا تحت الثياب حيث يظهر ثقيل الحركة وقليل التصرف فوق السرج ، ويحيط بالفارس رجلان أحدهما ماسك بعنان الفرس يقدمها جهة الثور والآخر وراء الفرس مستعدا لإغاثة الفارس عند الحاجة. يهمز الفارس بركابه الطويل جنب فرس هزيل نحو ثور عظيم ويغرز حديدة الرمح في رقبته ، فيسيل دم الثور الذي يقتص لجرحه من الفرس ، فيرفعه مع فارسه على رأسه ويضرب بهما الأرض ، فتتلقف الرجل أيدي الأعوان وتعيده إلى سرجه. ويجري بينه وبين الفارس الثاني مثل ما ذكر ، وكثيرا ما تنكسر الرماح فيعوضونها بأخرى ، ومتى سقطت أمعاء فرس قضوا على حياته وأتوا بآخر هزيلا مثله ، ثم تبعد الأفراس ويأتي رجال بأيديهم السهام فيخاتلون الثور ويغرز كل واحد سهمين في أعلى رقبته بخفة غريبة ، ويتباعدون عنه فتشغل باله تلك النبال الثابتة كريش الطير في قفاه ويغضب لوخزها ، ولا يجد سبيلا للخلاص منها ، فيجري ويضرب برأسه في الهواء حتى تخور قواه ثم يقف وينبش الأرض بظلفه ويحثو التراب على رأسه كالمستغيث ، ولكن لا من مغيث من بين تلك الألوف. ولو

٢٨٥

من جمعية الرفق بالحيوان. كقصر لاهاي فلا يصد الحروب ، ولا يجدي إليه الهروب.

يأتي إلى البطحاء رجل يركن إليه الثور قليلا في مبدأ الأمر ولعله يحسبه مغيثا لينزع منه تلك السهام ويريحه من الآلام. وأخيرا يجد نفسه معه مثل :

المستغيث بعمرو عند كربته

كالمستغيث من الرمضاء بالنار

فيتقدم إليه الرجل بمنديل يخفي تحته سيفا فيضرب الثور ذلك المنديل ضربا خفيفا مرة بعد أخرى ، حتى لا يكاد يتحرك إلى أن يهتبل الرجل الغرة في جانبه الأيمن فيغمد فيه كامل السيف طعنا في لبته إلى جهة القلب ، ويتركه في جسده فيتقيأ الثور نهرا من الدم العبيط تنطلق عند مرآه مدافع التصفيق لذلك المنظر الغريب إلى أن يسقط الثور على الأرض من ضرب الخناجر في الحناجر. وعلمت ما جاء في شعر المعز لدين الله العبيدي خليفة القيروان وهو :

تلك المحاجر في المعاجر

أمضى وأقضى في النفوس

تعب المهاجر في الهواجر

لله ما فعلت بنا

من الخناجر في الحناجر

ولقد تعبت ببينكم

يجهز الأعوان على الثور بالخناجر في دماغه ، ويربطونه بحبال تجره بها الخيل التي كانت دخلت في مبدأ الأمر كما تجر أموات الأفراس ، ثم يتماشى القاتل في البطحاء كالبطل الفاتح والناس ترميه بالأزهار وتطريه بالتصفيق. فعلوا مثل هذا بخمسة ثيران أخرى دامت مصارعتها إلى الساعة السادسة ، وكلما برز ثور وهجم على المصارعين نادى الناس بيكا. بيكا «رشقا رشقا». وأحيانا يصيحون عند الهجوم على الفارس ترايلو الكاما؟ «إلى الفراش». ومتى كانت ضربة السيف الأولى غير قاتلة سخر الناس بالقاتل وصفروا له ، وكلما هم بإعادة ضربة أخرى بالسيف صاحوا به سكبادو او ـ

٢٨٦

أسي. أسي «كفى كفى». وغالب هاته الألفاظ باللغة الإسبانيولية ـ كما أن أسماء المصارعين وأعوانهم وخيلهم باللغة الإسبانية فرشاق السهام يسمونهم : باندري ليروس. والسهم : بانداليرا. وركاب الخيل : بيكادور. والأعوان المكلفون بالتنظيف والرفع : شولوص. يجهزون على الأفراس والثيران ويمسكون الفرسان عند الميلان.

والقاتل يسمى : ماتادور ـ والمنديلة التي بيده مولاتا. والسيف : سبادا. والجميع يقال لهم : كوادريا. والإسبان هم أهل الولع والمحافظة على هاته اللعبة ، يتمعشون منها ويرون فيها شجاعة وشطارة كما حافظوا على المعروف من هيأتهم في الحروب. فقد رأيت فرسانهم بالرماح الغليظة والأركبة الطويلة ولا تصرف لهم فوق السروج ويلبسون خيلهم الجلود كالدروع. على ما وصف بهذا كله أهل الأندلس الذين اكتسبوا عوائد الإسبان بالمجاورة أو ورث الإسبان عوائدهم ـ ففي كتاب «مسالك الأبصار في أخبار ملوك الأمصار» : ويكون فارس الأندلس مدرعا وإن كان غير ذي همة وقدرة ، فيكون لفرسه درع واعتماده على الرمح الطويل الغليظ والترس على عادة النصارى الذين يقاتلونهم ، ولا يكون مدرعا ، من فرسان بر العدوة إلّا أولو الهمة والقدرة ، ولا يقاتلون بترس ولا برمح طويل غليظ بل بالسيوف والرماح الخفيفة يزرقون بها زرقا عظيما عجيبا لا يكاد يخطئ ، ويكون لهم بدل التراس درق تصنع بالمغرب من جلد حيوان يعرف باللمط تنبو عنها السيوف والرماح وأكثر السهام. وفرسان بر المغرب البربري أحسن تصرفا على الخيل من فرسان البر الأندلسي ، لأن الأندلسي يثقله الترس والرمح الطويل الثقيل والدرع ، فلا يستطيع التصرف وإنما يحرص على الثبات فيكون مثل الجوسق على فرسه ، وربما كان له في السرج مخاطيف ينشبها في وسطه حتى لا يسقط إذا طعن. وسروج جند الأندلس عالية المؤخر حفظا من الطعن ، وليست كذلك سروج البربر. وركاب الأندلسي طويل وركاب البربري قصير. وقال السيد البشير صفر في كتاب جغرافيته المفيد : أما الروم فكانوا يقاتلون صفوفا منتظمة على أكمل تعبئة اقتضاها ذلك الزمن مع مهارة في الهندسة الحربية والحركات العسكرية.

وكان الواحد منهم كقطعة من حديد يحمل خوذة على الرأس ودرعا على الصدر إلى الساقين ، وسلاحه السيف والرمح والسهام ، فكان يرمي البربري من بعيد ولا يقدر البربري أن يناله من قريب. وبالجملة فقد كان البربر أخف حركة من الروم يتعبونهم

٢٨٧

بمناوشاتهم وكثرة تنقلاتهم ، لكنهم كانوا عاجزين عن الوقوف والثبات أمام الحديد ومتقن الحركات العسكرية. ومن كتاب «الحلل الموشية في الأخبار المراكشية» فيما يتعلق بعدم الثبات أمام متقن الحركات الحربية ولو في أدوار البساطة في السلاح : قال ابن اليسع : حدثني غير واحد من الموحدين قال : لما نزلنا من جبال تلمسان نريد بلاد زنانة اتبعنا المرابطون فتلاقينا معهم ، فصنعنا دائرة مربعة في البسيط جعلنا فيها من جهاتها الأربع صفا من الرجال بأيديهم القنا الطوال والطوارق المانعة ، ووراءهم أصحاب الدرق والحراب صفا ثانيا ، ووراءهم أصحاب المخالي فيها الحجارة ، ووراءهم الرماة نفوس الرجال وفي وسط المربعة الخيل. فكانت خيل المرابطين إذا دفعت عليهم لا تجد إلّا الرماح الطوال النازعة والحراب والحجارة والسهام ناشرة ، ولحين ما تولي من الدفع وتدبر تخرج خيل الموحدين من طرق تركوها وفرج أعدوها ، فتصيب من أصابت ، فإذا كرت عليهم دخلوا في غاب القنا وكان ذلك اليوم يعرف بيوم منداس ، فقد فيه من جيوش المرابطين ما لا يحصى ، وفي ذلك اليوم ظهر أمر عبد المومن وكثر جمعه. وبالجملة فالفرسان الذين رأيتهم في هذه الألعاب ليس لهم دور مهم ولا أعمال تذكر ، وإنما يجنون على خيلهم بتقديمها ضحايا لشفاء غليل الثيران ، ويثبتون عليها بذلك حجة الجناية فيحكمون فيها سيف القصاص من بعد. وأهم الأدوار هو الأول الذي يظهر فيه الثور بكامل قواه ثم مناوشة الرجال له بالمناديل وإشغاله والانفلات من بين يديه بها. ثم دور أصحاب السهام وشطارتهم في تثبيتها بين كتفيه. أما دور الختام وهو قتله فالغريب أن الناس إذا رأوا الضربة قاتلة صفقوا للقاتل ، ومتى شاهدوها غير كافية أشفقوا على المقتول وطلبوا الكف عنه. فما أعجب أحوال الإنسان! انظر لأعماله في الحروب أيضا تجده كذلك ، تراه صباحا يصب النيران في صفوف القتال ليبيد بها إخوانه بني الإنسان ، وفي المساء متى عثر على جريح منهم أسعفه بالدواء وتمنى له الحياة والشفاء ، كمثل من قال في حسن الاعتذار عن بعض ملوك الدولة العباسية حين اتخذ سهاما من الذهب :

ومن جوده يرمي العداة بأسهم

من الذهب الإبريز صيغت نصالها

٢٨٨

لينفقها المجروح عند انقطاعه

ويشتري الأكفان منها قتيلها

وبعد أن رأيت جلوس تلك الجموع على حجارة درج البناء الروماني تحت أديم السماء وهو تذكار جميل لأدوار البساطة ، وشاهدت الألعاب الموروثة من الأمم الساذجة ورواجها حتى في عصور الرقي الفكري ، وقد ألمعت إلى شيء من هذا في رواية بل خرافة الفارس الأبيض بالأبرا ، وعاينت تغلب الذكاء البشري والعلم من الإنسان الضعيف على توحش الحيوان القوي المسلح بالخناجر المركوزة برأسه المتين خرجت وأنا أنشد :

فدع المشوق إليه أول مرة

ولك الأمان بأنه لا يرجع

نجدة السكان من قديم الزمان

سكان أروبا عموما وفرانسا خصوصا من قديم على ما يقتضيه الإنصاف أهل منعة وبسالة وبمكان من إباية الضيم ، فانظر لأحوالهم حتى في أدوارهم الأولى وتاريخهم القديم وهم في شظف من العيش وبساطة من لوازم الحياة وبعد عن المعارف ، ومع ذلك فقد دافعوا الدول القوية وطاردوا الأمم الراقية وذبوا عن أوطانهم وأبوا نزول الأجنبي بها وواقعة شارل مارتيل مع عبد الرحمان الغافقي في أراضي بواتيي من فرانسا الغربية الجنوبية وتسمى تلك الواقعة ببلاط الشهداء عام ١١٤ ه‍ تنبئك عن بسالة القوم ودفاعهم عن تراب وطنهم ، ولذلك قال موسى بن نصير في حقهم حديثا مع سليمان بن عبد الملك في موفى المائة الأولى من الهجرة عند ما قال له أخبرني عن الإفرنج : هنالك العدد والعدة ، والجلد والشدة ، والباس والنجدة. وكذلك خرج العرب من جنوب فرانسا وجنوب إيطاليا وجزائر البحر الأبيض مثل صقلية ومالطة وكرسكة وغيرها ، رغما عن طول أمد الاحتلال في مثل جزيرة صقلية التي دامت سلطة الإسلام فيها نحو مائتين وسبعين عاما. وأكبر من هذا برهانا على ما قررناه

٢٨٩

جزيرة الأندلس بالإسبان ، فلم يناموا عن الأخذ بالثأر من المسلمين الذين سلبوا ملكهم وسكنوا أرضهم وتربصوا بهم الدوائر وهم في الجبال النائية عن بسائط الأندلس بعد قرون عديدة وسلطان قوي وعلوم زاهرة ، وحضارة باهرة ، وعمران مستبحر. فكل ذلك لم يغن شيئا ، فكيف بك وأوروبا الآن هي سيدة القارات وأممها بلغوا من الحضارة منتهاها وفي المعارف غايتها وفي نظامات الحرب أقصى المهارة ، وفي الصنائع غاية الدقة ، وفي عمران الأرض أحسن إجادة ، وفي التجارة أصبحت كل العوالم عالة عليهم في الملبوسات وسائر المقتنيات ، وفي الثروة باتت في ممالكهم خزائن المجوهرات النفيسة التي لا توجد عند سواهم. والمكاتب الواسعة المفعمة بغرائب الكتب ومئات آلاف المؤلفات وملايين المجلدات ، وديار الآثار ومصنوعات الأمم الغابرة بما يقصر القلم دون قيمة تلك المجموعات الغريبة. أما الذهب والفضة فيكفيك أنهم استعملوهما في الماعون والآلة والتحف ، وما بقي احتكروه في ديار البنوك والمصارف بقارتهم وعوضوه بالأوراق للمعاملة في أقطار الأرض. وحدثوا في الإحصائيات عن خزائن الدول ما يفوق خزائن قارون. فأروبا الآن هي معدن النقود وكنز الجواهر ، وخزينة كتب العالم ومجموعة آثار الأمم ، ومعمل لأكسيتهم وآنيتهم وأسلحتهم ولقطارات برّهم ، ولسفن بحرهم وأستاذهم الملقن ، ومالكهم المتمكن.

فهي القارة القديمة الحية في هذا الدور ، والتي لا يضرها ما تقدم من الأدوار السابقة فإنها ، ولئن تعلمت ذلك من أمم الشرق بالأندلس وإفريقيا وآسيا ، فإن هاته الأمم قد تعلمت أيضا ممن سبقها من أمم الشرق بالأندلس وإفريقيا وآسيا ، فإن هاته الأمم قد تعلمت أيضا ممن سبقها وارتقت بعدما زاحمت وتغلبت بعد ما غلبت. فأمة البربر بإفريقيا أتتها الحضارة وحسن السمعة من القرطاجنيين جالية الشام ، من الرومان البيزنطيين ، ولا أذكر الفندال وإن كنا نعلم أنهم شجعان أبطال ، إلّا أن مواطنهم «في جهات الدانمارك الآن» في ذلك العهد لا تعرف لهم حضارة ، وإنما هم رجال فتح وجسارة. حتى انهم يلقبونهم بربر أروبا لاكنهم أقدر على الأسفار وركوب الأخطار من برابرة إفريقيا الذين يألفون الجبال ، ولا يتجاوزون حدود أوطانهم في النزال.

وكذلك تسربت الحضارة لبرابرة إفريقيا من أمم آسيا فدافعوا أولا على البقاء في همجيتهم ومجوسيتهم وعيثهم وغيهم. والجاهل لا يحب التعليم فهو كالصبي لا بد

٢٩٠

من تأديبه حتى ينقاد كرها ، ثم لا يلبث أن ينقلب طائعا ثم يصير طالبا ويحمد عند ذلك عاقبة أمره وينظر إلى أعطافه فيجد نفسه ارتقى إلى ما هو أحسن ، وينفر من سابق معيشته وتصغر في عينه منزلة النفوس الباقية على غباوتها حتى من ذوي قرابته ، وربما ساق تيار التمدن بعض الناس إلى العقوق والمروق. والعاقل يكرر شكر المعلم الذي ساق بنفسه إلى منجاتها وألبسها حلل كمالاتها. ويحمد الله الذي هداه ، ويعذر بالجهل من سواه ، وما التوفيق إلّا من عند الله. ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وأخيرا ألقى البربر بأيديهم إلى الغلب والانصياع ، وقلدوا العرب وامتزجوا بهم حتى عرفوا منهم قيمة الاجتماع. وذاقوا لذة الآداب من اللغة العربية ونالوا بواسطتها العلوم وساسوا بها دولهم ودونوا فيها كتبهم ، فامتازوا عن السائمة من ذلك العهد. مثلما أن السمعة في الأمم قبل الإسلام لليونان والهند وكل ذلك لا ينفي عن البربر الشهامة الفطرية والنجدة الموروثة والشجاعة الدائمة ، فكم قاوموا من أمم وكم نجبت فيهم من قواد ، وكم برعت فيهم من علماء ، فهم جيل قديم ثابت الفخر في سائر أدوار الأمم وتقلبات الدهر ، أشبه العجم بالعرب لقاء ونجدة وصبرا وفروسية. غير أنهم أغدر الناس لا وفاء بهم ولا عهد ، كما حدث عنهم موسى بن نصير في بعض مجالسه مع سليمان بن عبد الملك بن مروان. ولأروبا الفخر بزيادة الاعتناء ومداومة العمل والمحافظة على ما اقتبسته وترقية ما استفادته والزيادة على ما تعلمته.

قال السيد البشير صفر في جغرافيته : إن الرومان صاروا إسوة لممالك أروبا في أعمالها السياسية ، كما أن اليونان والعرب من بعدهم كانوا أساتذة أروبا في العلوم الرياضية والفلسفية. والآن اضمحل الرومان وانحط العرب واليونان وأصبحت أروبا أستاذ الجميع.

قلت فقد أحيت علوما لولاها لكانت في خبر كان ، بل لأغفلت وتنوسيت ولم تذكر على لسان. وأوجدت فنونا واخترعت صنوفا لولاها ما كانت تخطر بالبال أو ينتفع بها الإنسان. نعم إن العمل نتيجته السعادة ، والرقي ثمرته السيادة. مثلما ذكروا بأن العدل إن ساد عمّر ، والظلم إن دام دمّر. فأروبا من بين القارات القديمة هي الوحيدة القائمة دعائمها على أساس ، وتلك الأيام نداولها بين الناس.

٢٩١

كان هذا الحديث مع النفس هو موضوع السمر وتقصير حصة السفر فيما بين آرل ومرسيلياء آيبا في قطار خصوصي للمتفرجين عن ألعاب الثيران يوم الأحد في التياترو الروماني بآرل. ثم راجعت حافظتي في مرسيليا ، وقبل مبارحة تراب العدوة الشمالية عما ظهر لي من خلق وأخلاق وعوايد هاته الأمة لأرسم شيئا منه في كتاب الرحلة وحررت ما يأتي.

خلق الفرنساويين

سكان الحواضر على المتعارف عندنا والمعهود من قديم أكثر جمالهم مجلوب ومؤيد بالحلل والمصوغ. وفي البادية متى وجد الجمال فهو موهوب وفي غنى عن المحسن وما يحمر منه وجه الحقيقة. غير أن باريز وجهة ربات الجمال من كل بلد ، وبادية وصقع للتمعش والرفاهية التي لا تنال في غير باريز ، التي تقدر كل الكمالات حق قدرها ولا تبخس الناس أشياءهم. والسبب في ذلك الذوق اللطيف في سكانها والجدة واستبحار العمران والتغالي في لذات الحياة الدنيا. ذكرت لي سيدة في قومها روسية أن نساء باريز يضعون على وجوههم الأصباغ المبيضة والمحمرة. وأثنت على جمال الجراكسة وأخبرت بأن مسلمات القوقاز وجوههن مغطاة متى خرجن إلى الطرقات.

أما في منازلهن فكثير من أجسادهن غير مغطى. وأخبرني زوجها وهو حاكم إحدى مدن الروسيا ، بما يدل على ما انفردت به باريز من بين العواصم. كان نزل معنا في أتيل دوفمي ويجمعنا في بعض الأحيان السمر ليلا في كافي روايال بجوار باساج جوفروا. وجلوس القهوات في أروبا غير محظور. وقد قال الشيخ رفاعة المصري في رحلته إلى باريز : والقهاوي عندهم ليست مجمعا للحرافيش بل هي مجمع لأرباب الحشمة ، إذ هي مزدانة بالأمور النفيسة وأثمان ما فيها غالية جدا ، فلا يدخلها إلّا أهل الثروة ، وأما غيرهم فيدخلون بعض قهاوي خاصة بهم. قلت فهم لذلك لا يجلسون في مخازن البضائع ، أو تشتكي منهم دكاكين أرباب الصنائع. وكانت آلاف الرجال والنساء تمر أمامنا في شارع موتماتر المتصل بشارع الطليان ، وهما من أحسن مراكز العمران وحركة السكان بباريز. والنساء تظهر أكثر عددا من الرجال.

٢٩٢

وكان هذا الروسي السيد في قومه منذهلا ومعجبا بما يرى من العمران والرفاهية بباريز ، ولما سألته أجابني بأن هذا الجمال وهاته الحضارة لا توجد في غير باريز وأنه لا يعرف مثلها لا في مملكته ولا في غيرها. وسألتني زوجة هذا السيد قائلة ما بالك لا تنظر كثيرا إلى النسوة مثل زوجي المعجب ، وقد فهمت من قرائن الحال ما هي غير مرتضية له من زوجها وقد امتلأت عينه من المحارم. فقلت لها إن تعاليمنا لا تسمح للإنسان أن يمد عينيه أكثر مما به الحاجة إلى ما متع الله به غيره ، والواجب أن يقصر نظره على زوجته ، فلم تتمالك عن إبداء إعجابها واستحسانها لهذا التعليم الإسلامي ونبهت زوجها الذي كان يسمع ما قلته. فقال إنما أنظر فقط ووجه هذا الجواب لي خجلا من تعريضها به ، فكأنه يعتذر بقول الشاعر ، ويا ليته وجد هذا الشعر ليبيض به وجهه بين عينيها ويغسله من حمرة الخجل :

أصبو إلى كل ذي جمال

ولست من صبوتي أخاف

وليس بي في الهوى ارتياب

وإنما شيمتي العفاف

ورأيت حسن الذوات في كرونوبل وهي بمثابة العين من الرأس في فرانسا وكل شيء في كرونوبل وما حواليها جميل. ويوجد الجمال ببعض العائلات في باريس لا كلهم ، والغالب من السكان البياض ونعومة الجسم ، ولين البشرة وتناسب الأعضاء ، وشكل الوجوه بيضى وفيهم طول القامة ونحافة الجسم ، والغالب على العيون الشهلة والزرقة واحمرار الشعر ، وقد يوجد السواد في الشعر والعيون ، وفي بلدان الجنوب يوجد احمرار الخدود والأدمة لحرارة الطقس. ويكثر في هذا الإقليم الجنوبي صفاء الثغور وطول الجيد ، بما ينطبق على الشمايل العربية من بعض الوجوه مع استدارة الوجوه.

وأهالي الشرق من باريز في غابات أركون مقاطعة موز وعلى حدود ألمانيا وجوههم مستديرة ، وملطخة باحمرار يمتد إلى الأذنين وأبدانهم ممتلئة ، وعضلاتهم قوية.

٢٩٣

الأخلاق والعوائد

أهالي فرانسا أشبه الناس بالعرب في كثير من الخصال والصفات كالحرية وإباية الضيم وفصاحة اللسان وإكرام الضيف وغير ذلك. أما الحرية فإن العربي يصرح بما في ضميره ويصدع بالحق ولو كان السيف على رقبته. والنعمان ابن المنذر بين حسب قومه وشرف أمته وفضلها على سائر الأمم ، وجادل في ذلك مع كمال الأدب ووضوح الحجة أعظم رجل في عصره بين أمم العالم ألا وهو كسرى أنوشروان ، وما أدراك ما كسرى في مجلسه وبمحضر وفود الأمم ونوابها. وذلك لما هضمت أمة العرب في ذلك المجلس وتنقّصها من لا يعرف حقيقة أمرها. وبعد أن ترقب السامعون سخط كسرى عليه رأوا إعجاب كسرى به وإكرامه له ، شأن الرئيس الحكيم والمخاطب العاقل إذا سمع صواب القول ومتانة الحجة. وهذه الصفة المعتبرة عامة في سائر طبقات العرب لا فرق بين خاصتهم وعامتهم ، ونحن نعلم أن من بعض أطراف مجلس عمر بن الخطاب من قام وخاطب عمر بن الخطاب ، وما أدراك ما عمر بن الخطاب ، بقوله : «لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا».

يذكرون أن كلوفيس الأول أحد ملوك فرانسا رام أن يأخذ إناء من غنائم كنيسة سواسون ليرجعه إلى الكنيسة لما رغب منه ذلك ، فقام أحد الجند وضرب الإناء بسيفه فقال للملك : ليس لك إلّا منابك ، حيث كان من عادتهم قسمة الغنائم.

رأيت المؤرخين ينتقدون على هذا الجندي الحر وأنا أبرر عمله لأنه في الصدع بالحق بمثابة من قام لعمر بن الخطاب وقال له : لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيفنا. بل الذي ينتقد هو عمل كلوفيس الأول حيث قتل هذا الجندي الحر المحق فيما بعد انتقاما لهاته المعارضة المرة. والحقيقة تجرح ، متعللا عليه في يوم تفقد الجند بأن لباسه على غير ما ينبغي.

ومن حريتهم في الصدع بما في الضمير أن كانوا يقولون لي : ما أحسن اللباس العربي وما بال التونسيين لا يحافظون عليه متى أتوا إلى قطرنا حتى يعرف السواد الأعظم في مملكتنا إنسانية التونسيين وآدابهم ورقيهم «وفي الواقع غالب سكان أروبا لا يتصورون التونسي إلّا من همج القبائل بأواسط صحراء إفريقيا» ، فكنت أذهب في

٢٩٤

الاعتذار بأن الغريب يود التستر حتى لا يجلب الأنظار التي ربما كان من بينها لحظات الاستخفاف أو رفع الأسعار في وجه الغريب المضطر للتعامل ، فينكرون صدور هذا الأمر من بني جنسهم في وطنهم مع الضيوف الذين يجب اعتبارهم ومساعفتهم.

وفعلا لم أر الفرق بين الزي العربي والإفرنجي عندهم إلّا بالمجاملة لصاحب اللباس الأول فحافظت على اللباس العربي. ولئن عجبوا بما لم يعرفوه من قبل فمع الاحترام والأدب يقابلون ضيفهم الغريب في الجنس واللغة والدين واللباس. ولما كانت جل إقامتي في باريز وهي مجمع أجناس العالم وقاعدة المملكة قلت : إن البرنس في باريز ، محترم وعزيز. وأتذكر أن بعض ذوات النباهة في باريز من بعض العائلات الكريمة قالت لي إن لباسك العربي صالح لعدة أشياء حتى أنه يحفظك من السراق الذين يجهلون منك مكامن وضع المال والحاجات. فعجبت من حذقها وجمعها بين المدح والوصاية بالتحفظ في جملة واحدة.

فصاحة اللسان

تجد الفرنساوي يلقي على مسامعك جملا بليغة في حصة وجيزة يلم لك فيها بأطراف الحديث ومهمات الغرض ، بدون مقدمات فارغة ولا تحليات باردة ، ولا يخرج عن الموضوع إلّا لأسباب وبمناسبات ، كما لا يمزج الجد بالهزل كثيرا أو يتعرض للسفاسف وما عسى أن يكره المخاطب السؤال عنه ، كالسن والمال وفي الغالب الدين أيضا ، والحكيم العربي يقول :

احفظ لسانك لا تبح بثلاثة

سن ومال ما استطعت ومذهب

فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة

بمعاند وبحاسد ومكذب

وفي أوقات الشغل ، وبالأخص في مثل الإدارات ومحلات التجارة ، خطابهم مختصر ينطق أحدهم بكلمة أو جملة هاديا ليس له رأي سواها ، ولا يتردد السامع

٢٩٥

في العمل بها أو فهم معناها كأنها اللغة العربية في مواطن الإيجاز متى اقتضاه الحال ، أو على لسان صياد يقول : «غزال». فيوجزون مع الفائدة ويسمى عندهم هذا الكلام «لاكونيك» ، حيث أهالي لاكونيا «إقليم إسبرطة باليونان» أصحاب إيجاز في التخاطب. رأيت أبناء هذا الجنس يهجمون على مواضيع الكلام بدون مقدمات طويلة أو خروجات فارغة ، وأكثر مفاهماتهم في النوازل وقضاء الحوائج وإبرام الاتفاق على الملاقاة بالرسائل التي تصل إلى المخاطب بها بسرعة إذا كانت عليها تنابر ذات سانتيمات ٣٠. والقوم يكتب رجالهم ونساؤهم لعموم التعليم ومراعى عندهم احترام الكتاب برد الجواب ، وسائر الطبقات سواء في مراعاة هاته الآداب. وبذلك يختصر الوقت في الذهاب والإياب ولا يضيع بتعذر الملاقاة وتقضية وقت ثقيل في الانتظار بدون سابقة اتفاق على الاجتماع. ولما يعلم الجميع من نفاسة الوقت تجدهم يوجزون في الحديث ويقتصرون على المهم المفيد في ذلك الموضوع. وأبو الحسن المزني يقول : من دخل على السادة فعليه تخفيف السلام ، وتقليل الكلام ، وتعجيل القيام. ولا يقطعون حديث متكلم حتى يستوفي غرضه ، ولا يباشرون من غلط بمكروه وإنما يشيرون لذلك بلطف ، أما المتعنت فلا يجادلونه ويضيعون أوقاتهم معه. ولهم مواضيع خاصة يطيلون فيها الكلام مع الإفادة في مثل أوقات السمر ومجالس العلم وحديث المائدة. وهذا من قواعد اللغة العربية وبلاغتها في إطالة النفس وجلب ما يستحسن والإطناب بما يناسب المقام حيث الإصغاء مطلوب. وهي لا تعدم أنصارا إلى الآن «والحمد لله» في الهجوم على المقصد والإفصاح عن المراد والإعراب عما في الضمير بألفاظ عذبة وجمل قليلة ، وهاته الملكة ليست من العلم باللغة فقط ، بل من آداب الاجتماع أيضا ومروءة المتكلم والاشتغال بما يعني واعتبار قيمة الزمان. والذي أعانهم على سهولة التفاهم بين سائر الطبقات هو التعليم الصحيح لقواعد اللغة وحسن الأسلوب وتعميم القراءة والكتابة على الذكور والإناث. فمعلومات سائر الأفراد في قواعد اللغة واحدة ، وبذلك سهلت المفاهمة باللسان والقلم بدون خفاء ولا لبس.

وحفظت اللغة بذلك من التحريف الذي يطرأ على اللغات حتى من ألسن أبنائها إذا كان أخذهم لها من الأم والأب فقط بدون تعليم صحيح بعد ذلك. والآفة الكبرى على اللغة لسان الدخيل الذي يلوكها كما شاء وينطق بها كما أراد ، فيضيع لهجتها

٢٩٦

ويطمس بلاغتها ويتنقصها من أطرافها ويصحفها ، فيستمر على ذلك من أتى من بعده. والعجب أن يجاريه على لحنه ابن تلك اللغة نفسها في النطق بها محرفة ، إما لتعوّد سماعه ذلك وانطباع تلك الأوزان في حافظته «واللسان ترجمان» ، وإما أن يتعمد مجاراة الدخيل على التحريف ومحاكاته رجاء أن يفهمه المراد بسهولة. وذلك ما أودى باللغة العربية وصيرها في السنة العامة لغة أخرى ، وكاد أن يقيم على أطلالها أشباح تلك الكلمات المحرفة لو لا متانة بنائها الذي لا يزال يقاوم طول الزمان وعادية الإنسان. واحتماؤها من مقذوفاتهما بسلاح الدين وتاريخ الناطقين بالضاد.

واللغات صعبة النطق في المبادي على الدخيل بالمشاهدة. وبدون تعميم قواعد اللغة على كافة الأفراد وعدم تلقين الدخيل ما يراد استوى في التهاون والتلاعب بها الحاضر والبادي.

وإحياء اللغة واتفاق الناطقين بالضاد في النطق والكتابة يتوقف على تعميم التعليم وتمرين التلامذة على التخاطب بالتراكيب العربية. وانتشار المطبوعات في كل موضوع وحضور التمثيل المرتب وقاموس مختصر تؤخذ مفرداته من الكتاب والسنة ولسان العرب ، ويوضع فيه لكل معنى لفظ واحد وتؤلف من تلك الألفاظ رسائل في مبادي العلوم تلم بما في ذلك القاموس من المفردات ولا تتجاوزه حتى تتحد معلومات التلامذة وطبقات الأمة بما فيه ، ويكون مرجعا حتى في المكاتبات. ومن أراد التوسع في غريب اللغة فعليه بالمطالعة حيث لا يضر في بعض الأزمنة الجهل بكثير من مفردات اللغة التي عوضت بغيرها أو الاقتصار على بعض المواد في الدلالة على المعنى المراد. فقد هجرت ألفاظ كثيرة عربية وصعب فهم معانيه الاستعمال غيرها واشتهاره في بعض العصور.

وتحتاج هذه التآليف إلى لجنة علمية ، وعلى كل حال فاللغة العربية هي حية ، وحياتها باقية ما بقي الجنس العربي حيا ، كما أن حياة الجنس الأدبية باقية ما بقيت لغة دينه وتاريخه وآدابه في رواج. والعوام الآن من أطراف البادية يفهمون ألفاظ العالم اللغوي ومقاصد الكتب العربية ، لكن بقوة الفهم لتقارب غالب الألفاظ العربية والعامية ، وغاية ما يعوزهم بعض المفردات وأسلوب التركيب. أما رجوع رونقها البديع بهمة حملة العلوم ورجال المعارف فليس بصعب المنال على عزائم الرجال.

٢٩٧

الضيافة

رأيت من كرم الفرنساويين ما لم أتوقعه من قبل المشاهدة فلا يقتصرون في الإكرام على القول ، بل يشفعون ذلك بالفعل ، فيؤدبون المآدب ويبذلون ما في الوسع المالي على ضيفهم وينزلونه في منازلهم بغاية السرور والاحترام. وبالضرورة مع أودائهم لا مع سائر الناس ، وهذا ما لقيته في كرونوبل وباريز وإيسودان وطولوز وفيفي بالسويس من أفاضل وفاضلات القوم ، فكأنهم يعملون بحكم الشعر العربي :

ما ودني أحد إلّا بدلت له

صفو المودة مني آخر الأبد

ولا جفاني وإن كنت المحب له

إلّا دعوت له الرحمان بالرشد

ولهم عناية كبرى بالاقتصاد ، وضيافتهم في المدن الكبرى قليلة على المعروف عندنا ، وسكان قراهم يكثر قراهم «ولا خير في أخ لا تجتمع الإخوان على خوانه ولا تمر الجفون على جفانه». وأصناف الطعام عند القوم في منازلهم قليلة جدا لا تتجاوز ثلاثة أنواع ، والغلال عندهم والمشروبات الحارة عقب الطعام أمر محتم.

ينتقد بعض الناس أو يذكر من مخالفات العوائد عندنا عدم إكثار الفرنساويين لأنواع الأطعمة على المائدة مثل ما عندنا ، وإقلالهم الرغيف والتوفير من أنواع الخضر. والصواب أن الاقتصار على بعض الأطعمة أنفع للبدن وأبعد عن التبذير على مقتضى قواعد علمي الصحة والاقتصاد ، أما كثرة أنواع المآكل والملابس فهي من مهلكات الشرف ومفقرات السرف.

وقد أعجبني جواب بعض الأصدقاء عند ما سئل عن طعام الأروباويين وطعامنا ، فقال طعامهم أنفع للبدن وطعامنا أدعى لكثرة الأكل. قلت وفي السنة : ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن ، حسب المسلم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان ولا بد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه. وكرم العرب ليس من لوازمه كثرة المآكل. وحاتم الطائي يقول :

٢٩٨

أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله

ويخصب عيشي والمكان جديب

وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى

ولكنما وجه الكريم خصيب

وأكثر من حاتم الطائي عامر بن الطفيل الذي كاد أن يكون رئيسا لجمعيات الإعانات العامة. ولجمعيات الفرامسون التي من قواعدها الواحد للكل والكل للواحد ، ولجمعيات حقوق الرجل ، فإنه كان يكلف من ينادي في سوق عكاظ هل من جائع فأطعمه ، أو خائف فنؤمنه ، أو راحل فنحمله. وبالجملة فالقوم أهل بشاشة بالضيف وإكرام بمقدار ، وهذا هو المناسب في المجتمع البشري حتى لا يتكل الناس على الكرم ومال الغير واغتصاب أعماله ، وإقلاقه وإضاعة وقت أشغاله ، فتذهب من الضيوف روح المروءة وإحساس العمل وخصلة الاعتماد على النفس. كان وزير الناصر محمد بن قلاوون ملك مصر في أوائل القرن الثامن هجري ، وهو سيف الدين يكتمر سمحا بجاهه بخيلا بماله ، ومع ذلك أثنوا عليه لمجرد المعونة الأدبية فقط دون المادية : فقالوا لم ير مثله في حق أصحابه لكثرة تذكرهم في غيبتهم والفكر في مصالحهم وتفقد أحوالهم ، ومن جفاه منهم عتب عليه وكان بصيرا بالأمور ، خبيرا بالحوادث طويل الروح في الكلام ، لا يمل من تطويله ولو قعد في الحكم الواحد ثلاثة أيام ولا يلحقه من ذلك سآمة البتة. وربما كان من هاته الخصال في رجال أروبا كالمحافظة على حسن الوداد على البعاد والسماحة بالجاه دون المال ، والمقدرة على إطالة الروح في الحديث والصبر على تحمل المشاق في مباشرة الأشغال بلا ضجر قبل الإتمام.

وبعض سراة أمتنا يتدبرون هذا الأمر ويعملون به ، وقد قالوا في ترجمة الوزير ضرغام في أواسط القرن السادس بمصر في سياق الثناء عليه : كان كريما لا يضع كرمه إلّا في سمعة ترفعه أو مداراة تنفعه ، فارس عصره كاتبا جميل الصورة فكه المحاضرة عاقلا إلخ.

فقد عدوا التحري في وضع المال في منازله من صفات الكمال ولم يحسبوه مما ينتقد به على صاحب الترجمة عند ما عدوا مساويه بقولهم. إلّا أنه كان أذنا

٢٩٩

مستحيلا على أصحابه ، وإذا ظن في أحد شرا جعل الشك يقينا وعجل له العقوبة.

وهاته الصفات مما يتحاماها الأروباويون مثل رجال العرب. ولهم آداب في الأكل منها التأني والأحاديث اللطيفة ، ويعبرون عنها بالحديث على المائدة وينتظرون البداءة في كل نوع وتنهية الأكل على استيفاء الجميع ، ويغسلون أيديهم بماء حار ، كل واحد في إناء خاص عقب الطعام ، وكثيرا ما يغسلون قبله ويجتمعون كبارا وصغارا على المائدة. وكل هذا مما للمسلم فيه آداب سابقة. يقول ابن العماد في لاميته المتعلقة بآداب الأكل :

واغسل يديك ولا تمسح بمنشفة

قبل الطعام ففيه الأمن من علل

ولا تكن في حضور الأكل ذا نظر

إلى جليسك يغدو منك في خجل

وإن سعلت تحول عن وجوههم

نحو القفا وعلى ذي الحول فاتكل

ولا تنخم ولا تبصق بحضرتهم

ولا بمستقذر تنطق لذي أكل

وإن أتتك سنانير تصيح فلا

ترمي بها لقمة تسلم من الثقل

ووافق القوم حتى يكتفوا شبعا

ولا تقم قبلهم تفضي إلى خجل

وآنس القوم بالتحديث في أكل

ولا تكن ساكتا كالبهم والهمل

ولا تكلف لضيف ما ستطعمه

ضع ما تيسر ليس البر في الثقل

وكل مع الزوج والمملوك وادعهما

وكل مع الطفل والزم سنة الرسل

ولهم ولع بوضع الأزهار على المائدة وكتب أسماء الجلاس حولها عند الضيافة.

٣٠٠