البرنس في باريس

محمّد المقداد الورتتاني

البرنس في باريس

المؤلف:

محمّد المقداد الورتتاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-605-5
الصفحات: ٣٩٥

«حار». ولعل تسميتها بفيشي جاءتها من الكلمة الأولى ـ وأحيى حماماتها هنري الرابع عام ١٦٠٣. والحديث الشريف الذي تلوناه في المقدمة بفصل السفر للمداواة وهو : العالم كالحمة يقصدها البعداء ويتركها القرباء ، فبينما هي كذلك إذ غار ماؤها فانتفع به أناس وبقي أقوام يتفنكون أي يتندمون. صريح في نفع المياه الحارة وشد الرحال لها من قديم لمعلومية الاستشفاء بها ، وتجربة فوائدها بإلهام من الخالق اللطيف بعباده إلى ما بهاته المياه من الخاصية الفعالة في شفاء الأجسام ودفع الآلام.

ومن أخص ما تنجع في معالجته مياه فيشي ما يأتي :

مجاري الغذاء من الفم إلى المعدة.

الكبد.

الكلى.

البول السكري.

الحصى.

البمين.

عرق النساء.

وعيون فيشي منها الدولية ومنها الخاصة ، والأولى بعضها ما يأتي :

أسماؤها

درجة حرارتها

ما تعطيه في ساعات

١ شوميل

٢ كران كري

٣ أوبيتال

٤ لوكا

٥ باك

٦ ميدام

٧ سيليستان

٤٣

٤١

٣١

٢٧

٢١

١٧

١٥

٠٠٠ ، ٠٢

٠٠٠ ، ٧٥

٠٠٠ ، ٦٠

٠٠٠ ، ٢٠٠

٠٠٠ ، ١٥

٠٠٠ ، ١٧٠

٠٠٠ ، ١٤٠

وغيرها. والقسم الثاني تضاهي عيونه هذا العدد ولا يشرب أحد من ماء العيون

٢٦١

إلّا بعد مراجعة الأطباء وتقريرهم مدة الإقامة «وفي الغالب أحد وعشرون يوما» وما يناسب المرض من تلك العيون ، ومقدار ما يؤخذ من الماء في الأوقات اللائقة.

والأجر عن هذا كله مع المراجعة مدة الإقامة ستون فرنكا. وعين سيليستان مباحة الشرب بلا قانون ولا ثمن للأصحاء والمرضى. كان صاحب النزل الذي أقمت به «أتيل ميلان» بنهج نيم ، ودلنا عليه النجيب السيد محمد جمال الذي لاقانا بكل بشاشة ، على عادة هاته العائلة في حسن الأخلاق والمجاملة. يرسل من يأتي لنا من ماء هاته العين ما يروينا ونحن على مائدة الغداء والعشاء ، وله طعم لذيذ لا تعطيه القوارير المجلوبة ، ولا الأتربة المنسوبة. ولمياه العيون نظام غريب في النظافة وسرعة المناولة ، تدور حلق الوراد وتجتمع طلاب الشفاء حول درابزون وراءها فتيات طوافات بأكواب يملئنها من الماء المتدفق في الحياض المحيطة بالعين من جميع جهاتها ، وقد ضربت عليها قباب البلور وبالأخص عين كران كري وعين الأبيتال «المستشفى».

تكاد قرية فيشي التي جاءت في وسط أراضي الزراعة وترتفع عن البحر بأمتار ٢٦٤ أن تكون كلها مساكن للوفود الكثيرة في أشهر المصيف جوان وجويليه وأوت ، فتتلقاهم بصدر رحب وعيش خصب. وأسعار المآكل والمساكن في فيشي أرخص من جميع ما نزلت به في بلدان الرحلة. وبها للخضر واللحوم والزبد والغلال سوق أكثر نظاما وأوفر بضاعة وأرخص أسعارا مما يعهد في فندق الغلة عندنا بتونس ، فلا ينقطع عمرانه صباحا ولا مساء. وجل البضائع في هذه السوق بيد النسوة يبعنها حسب رغبة المشتري صبرة ووزنا. وبقية المبيعات من غير الضروري كمستظرف المصنوع أسعارها مرتفعة. وقد أفاض على أسواق فيشي معمل بوهيميا النمساوي بمختلف الأشكال والألوان من البلور الجميل ، وكتب على نفسه أن يخلب بها الأبصار ، ويستنزف بها الدرهم والدينار من أغنياء الأقطار. يرجعون به زينة وذكرى لمنازلهم مع ما في حمله من المخاطرة به وارتفاع ثمنه. فيشي بها البضائع المختلفة حتى الشرقية التي قام بالمشاركة بها في معرض مصنوعات الأمم السيد محمد جمال بدكان واسع جوار أتيل ميلان الذي نزلناه ، مفعما بأنواع المنسوجات والمطرزات والعطورات التونسية والزرابي القيروانية. وفيشي مثلما هي معرض للبضائع هي معرض لأجناس البشر أيضا فتسمع بها اللغات المختلفة ، وترى فيها الوجوه المتباينة زيادة على صبغة الأمراض

٢٦٢

العارضة لها في غالب الزائرين الذين لا يقل عددهم سنويا عن مائة ألف ، مع السكان الذين عددهم نحو خمسة عشر ألفا. هيأت قرية فيشي ، التي عمرانها وما لها من الزائرين لها من جميع الآفاق ، سائر المرافق وأعدت لهم البساتين للنزهة والكراسي المبثوثة في البطحاء الكبرى بجنوب العيون لراحة قصادها مدة ترقبهم الأوقات المأذونين بالشرب فيها ، يؤدون عشرة صانتيمات على الجلوس فيها ، كما نصبت لأموالهم القهوات ومحلات التمثيل وأحمرة يركبونها ، على نحو ما يعلون بالقيروان. تعرفت فيها من الناطقين بالضاد بأبناء المغرب والمشرق ، عرفنا السيد عبد الرحمان برق الليل التاجر الشهير والمثري الكبير بالمغرب الأقصى مترددا بين الجديدة «مازغران» وغيرها ، وتقدر ثروته على ما حكوا بخمسة ملايين. والسيد محمد علي شريف عبد القادر الحسيني مراقب الدين المغربي بالجديدة المذكورة بمملكة فاس.

ذكر لي أنه يعرف القيروان وطلب الدعاء له بها. بلغه الله مقاصده الخيرية. وهو من ذرية ذلك الرجل العظيم صاحب الشمم والمنطاع ، له حد السيف والقلم الحاج عبد القادر الجزائري. وقد ذكرناه في الفصل الخاص بفرساي مع نابليون الثالث الذي امتن على هاته العائلة الكريمة ، فبقي ذكر جميله خالدا ما بقي نسل الحاج عبد القادر معترفا بالجميل ، ومثلهم من لا تضيع لديهم أعمال المحسنين. وعرفت السيد وديع العربي اللبناني محرر جريدة السعادة بالمغرب الأقصى التي انتقلت أخيرا من طانجة إلى رباط الفتح. المركز الجديد لحكومة الحماية ومستقر الدواوين المغربية والمقيم العام الجنرال ليوتي الذي حدث عنه السيد وديع حديثا طيبا ، ويتمنى دوام ولايته حيث كان محسنا للمتوظفين ومالكا لقلوبهم ، حتى إنهم يخدمون معه بقدر ما يسره ويرفع من ذكره ويقدم أعماله لا على قدر ما يلزمهم القيام به من أشغال الوظيف الضرورية فقط. قلت له وهاكذا كان نابليون وبذلك دوخ الممالك. وهي طريقة الخبيرين من قبله وبعده ، أطال السيد وديع بفصاحته العربية وخبرته السياسية في الحديث عن الجنرال ليوتي وما حصل عليه من رضى الأهالي ، وقد حافظ على عوائدهم وأوقافهم وربما نشطهم بما أحدث لهم من النظامات الكفيلة بحسن مستقبلهم ، وذلك ما لم يكن معتادا عندهم ولا مألوفا بينهم ولا يخطر وقوعه ببالهم. قضينا في السمر ليالي مع هذا الرجل الخبير المتوقد القريحة الحاضر الجواب السيد صاحب جريدة السعادة.

٢٦٣

فكان من بين ألفاظه التي علقت بالذهن ـ السياسة تضحي الرجال ـ ومنها أن السياسي لا ينبغي أن يكون محبا للأثرة وقاطعا سمعة غيره وبحيث تكون غاية أمله أن يبقى مسيطرا وحيدا ، لأن هذا مما تنفره القلوب وبالأخص أرباب النفوس العالية والأعمال العظيمة ، ولأقل حادث ولو كان سماويا يجد ذلك السياسي نفسه منفردا ولا عضد له في الدفاع لحوادث الدهر ، وهي كثيرة كما علمت.

ومنها أن بعض الأمم «قلت وكذلك بعض طباع الأفراد» من أخلاقها ستر الهفوة وإقالة العثرة والصفح عن الذنب ، وأن بعض الأمم على عكس هذا. وأن بعض الأمم «قلت كذلك الأفراد» من شأنها أن تطلب الاستفادة من حديث الغير ولا تريد أن تفيد غيرها بشيء. اطلع السيد وديع على أخبار المغرب الأقصى ووقف على حوادثه الأخيرة وتاريخه الجديد. وقرر عن النظام السابق وبيع الوظائف فيه ومصادرة المتوظفين واستباحة بيع الأحرار وعدم الأمن ما لربما سمعنا مثله من الجيل الذي سبقنا بالانفراد في مشاهدة الروايات التي ختمت أنفاسها مع القرن ١٣ ه‍. وشاركنا ذلك الجيل الآن في المشي على بساط الأمن ومشاهدته معنا الدور الأول من رواية التاريخ الجديد بالمملكة التونسية. آنسني هذا العربي بالهيئة العربية ولغتها الفصحى وشعرها الرائق. وقال إن عادة الإنسان ونسبه ولغته لا يخفيها ولو في الممالك القاصية وإن ذلك مما يكبر به في عين الغير ، وأثنى على محافظتي على لباس الوطن. ولما كاشفته بما عاينت من احترام الفرنساويين للتونسي وجميل معاملته ، وأن البرنس في باريز ، محترم وعزيز ، اهتز سرورا وتمنى أن نوجه له ما عسى أن نخطه في هذا الموضوع لينشره على صفحات جريدته العربية.

ليموج

في مقاطعة هوت فيان «أعلا نهر فيان» المار بشرقي المدينة من الشمال إلى الجنوب. وسكانها نحو مائة ألف. بلغناها مساء ، وعند الأصيل نزلنا من محطة بينديكتان ، وصعدنا مع الطريق الذاهبة إلى الجنوب الغربي حتى دخلنا المدينة التي جاءت في سفح متجه إلى الشرق. وكانت لذلك طرقاتها مختلفة الارتفاع وبعضها مما

٢٦٤

يصعب صعوده. واستصحبت من محطة سكة الحديد أحد العملة بها دليلا على مهمات البلد حيث عزمت على تقصير الإقامة في هاته المدينة التي لم يسبق لنا تعارف مع بعض سكانها. ومعرفة بعض الأفراد في البلدان مما تفيد المسافر جدا في الكشف عما يهم ، والمعاضدة فيما يلم. ويكون للمسافر مزيد اعتبار في نظر السكان متى كان له صاحب منهم. عند الوصول لهاته المدينة رمقتنا العيون من كل جانب حتى كأنما نزلنا لهم من السماء. وأحيانا تحيط بنا أقواس من الأشخاص كبارا وصغارا وبالأخص النساء بلباسهن الملون كقوس قزح في الاستدارة والألوان الكثيرة ، ولكن مع التعجب الاحترام الناشئ عن الآداب العلمية والتربية الصحيحة. فتغافلنا عنهم وتركناهم وشأنهم حتى تركونا وفسحوا لنا في الطريق. أسرعت إلى معمل الفخار الملون الشهيرة ليموج بحسن طلائه منذ قرون ، فصادف وصولي خروج العملة وغلق أبواب المعمل. ثم استعنت بركوب الطرمفاي على رؤية أرجاء المدينة وبساتينها الأنيقة. ورأيت بطحاء كارنو وفضاءها المتسع كأنه مهيأ للبناء أو الغراسة. وتناولت العشاء في جنوبها ، وقضيت السمر في بطحاء الجمهورية. ودخلت محل التمثيل هناك فظهر لي ضعيف الحركة ناقص التأثيث والتنظيم حيث كنت حديث عهد بمشاهدات باريز وفيشي. ولما أردت الدخول إلى دار الصور المتحركة «السينيماتوغراف» فلم أجد فيها مجلسا في سائر الطبقات ، فعلمت شغف القوم بالحوادث الجديدة التي تمثلها للأعين هاته المخترعات المفيدة ، خرجت من المدينة إلى مركز سكة الحديد مع الدليل بعد نصف الليل وأخذت الحقيبة التي أمنتها بالكار وسافرت في القطار الذي أقلع في ذلك الوقت إلى طولوز بالجنوب الغربي من فرانسا فصبحناها بكرة.

جنوب فرانسا

أهل الشمال من فرانسا يظهر أنهم أبيض أجساما وأرصن عقولا وأميل إلى الهدو وأتقن حرفا ، ولعلهم أرباب دقة في أنواع الصناعة واعتناء بالتجارة. وأهل الجنوب أنبغ ذكاء وأخف أرواحا وأحمر ألوانا وأكثر دعابة وربما كانوا أصحاب زراعة «فلح وماشية» في غالب أحوالهم. وهذا مشاهد لكل متبصر شأن الفرق بين سكان المناطق

٢٦٥

الحارة والباردة وتباين طبايعهم. ولاختلاف الطقس ما بين جنوب المملكة وشمالها لاقيت بردا لم يكف فيه برنس الصيف في غابات أركون في الشمال الشرقي من باريز وحوالي فاراين وفيردان. ولشدة الحر في طولوز الذي بلغت درجته فيها ٢٣ ـ خفت ثياب المصيف. وفي أول شهر جويليه كانت الحرارة بالجهات الجنوبية مثل طولوز ومونبيليي ونيم وآرل ومرسيليا على التقريب توازي أول شهر مايه عندنا وبحيث يكون الفرق نحو شهرين بيننا وبينهم. وبينما درجة الحرارة هناك ٢٢ بلغت في القيروان بأوايل جويليه ما يزيد على ٤٤ درجة من ميزان صانتكراد. لذلك حصل لي أرق وقلق من الحر بمجرد رجوعي في أوايل جويلية من فرانسا إلى القيروان ، ولم أجد له موجبا غير التنقل السريع من البرد إلى الحر مثل الداخل إلى الحمام على غير صفة تدريجية أو الخارج منه كذلك. والسير من قطر إلى قطر فيما مضى لا يضر بالمنتقل من البرد إلى الحر والعكس لبطء السير والتدرج في الأهوية المختلفة. أما الآن فبسرعة المواصلة صارت الأبدان تتضرر باختلاف طقس الأقطار المتباعدة جدا. وجدت لاختلاف الطقس فرقا خفيفا بين سكان الجنوب والشمال حتى كأنهم في باطن الأمر سكان قطرين أو أبناء عنصرين. ويظهر ذلك في مجاري الحديث والتنكيت الخفي يتوفق لإدراكه الناقد والمهتم بحفظ الإشارات في غضون الكلام من سكان إحدى الجهتين في مقام التعريف والإخبار عن سكان الجهة الأخرى. وأبناء هاته المملكة كما علمت في فصول باريز ، لهم براعة في صوغ الكلام وسبكه في قوالب تناسب مرادهم وتودي مقاصدهم إلى السامع ، بأسلوب سهل ترتاح إليه النفوس وتتلقاه الآذان بالقبول إلى أن يستوفي المتكلم أغراضه بالحجج اللايقة بمقام الخطابة وينتقل في المواضيع التي يرومها بالتماس مناسبات حتى تكون أنواع الكلام آخذة برقاب بعضها بعضا. فلا يتخلص من التصديق بها ويميز غثها عن سمينها ويرصد مكامن النكات التي تتخللها إلّا من وفر إلقاء السمع ، واستعان على التمييز بسلامة الطبع. وربما زهدوا فيمن لم يحفل أو لا يفهم هاتيك المغازي والمرامي ، والحق في جانبهم إذ كل متكلم يقول أنا عبد من يفهم كلامي. قال بعض المؤرخين إن بعض البلدان الجنوبية من فرانسا مشهورة في تاريخ الأندلس حيث كانت مواطن لكثير من الوقائع الحربية بين العرب والإفرنج ، فمنها نربونة واسمها في تاريخ العرب أربونة.

٢٦٦

وكركسونة وتسمى قرقشونة. وطولوزة واسمها في الكتب العربية طولوشة ، وأفينيون وتسمى صخرة انيون. وبواتيي وتعرف ببلاط الشهداء إذ بها كانت الوقعة الكبرى بين عبد الرحمان الغافقي أمير الأندلس وشارل مارتيل أمير الإفرنج سنة ١١٤ هجرية فانهزم بها المسلمون. وإن تقدموا بعدها في مملكة فرانسا. وفي الحرب الثانية بين قرطاجنة ورومة من سنة ٢١٩ إلى سنة ٢٠٢ ق ـ م عزم هنيبال على محاربة الرومان في بلادهم ، فاجتاز جبال البيريني وسار على جنوب «غليا» فرانسا وكان أهلها أعداء للرومان فانخرط منهم جم غفير تحت لوائه.

طولوز

يقال إن تأسيسها قبل رومة ، وفي القرن الخامس استولى عليها الفاندال حتى أخذها كلوفيس بعد الخمسمائة. والآن سكانها ١٥٠ ألفا ، وهي في الرتبة السادسة من المدن العظمى بفرانسا من جهة عدد السكان فقط ، وهي مركز مقاطعة أعالي نهر الكارون الذي يشق المدينة آتيا لها من الجنوب ، ويظهر من اتساعها وفراغها عظمة ماضيها وانحلال حاضرها وتقرأ من خطوط رسمها المستطيلة وقلة السالكين في سككها أنها أخذت حظا عظيما في الماضي ، شأن العواصم ذات الضواحي المتسعة المترادفة القرى في زمن مضى ، ثم أتاها زمن لا عاصم فيه من أمر الله ، فترى ممططة الشوارع المتسعة بلا ساكن يملؤها أو عمران يزينها. وهذه سمة الطاعن في السن الذي سبق له شباب أفعم الأديم وكساه رونقا وجمالا ، ثم امتصه الدهر وأكل منه وشرب ، فكانت آثار الشباب والجمال مما تزيده إيحاشا. وما أوحش العواصم في أدوار انفلات السيادة منها وتجافي القصاد عنها. وما أنكد حظ سكانها في ذلك العصر فهم يحلمون بما كان ، ولا يجارون الزمان. فيمسون في أخسأ المراتع ، ويصبحون أقل من القليل في عين الناظر وأذن السامع. وإن ملأت أحاديث عظمتهم الحقة والفارغة بطون الدفاتر وسمر المجامع :

وأنكد الناس عيشا من تكون له

نفس الملوك وحالات المساكين

٢٦٧

من أجل ذلك تصير المدينة أكبر من الساكن كثوب الرجل يتمشى فيه الصبي.

هذا ماديا ، وأما أدبيا فإن الخبر يكون أقل من الخبر ، والنفس عندها منزلة السمع دون البصر ، فلا يرضيها ما كان الحديث عنه أكثر مما يشاهد. موقع طولوز في فحص متسع وارتفاعها ١٣٣ م على البحر ، ونهر كارون يأتيها من الجنوب الغربي ثم يذهب في الشمال ما بين قنطرة صان ميشيال والقنطرة الجديدة ، ثم يتجافى عن المدينة إلى الشمال الغربي وقد اقتطع من غربي المدينة ربض صان سيبريان ، وفي شمالها وشرقيها قنال كالهلال جزناه لما نزلنا من محطة سكة الحديد الشرقية الشمالية من البلاد وقصدت بطحاء لافايايت حيث نزلنا أتيل كابول. بناءات المدينة بالآجر الأحمر ولهذا يشبهونها بالوردة. وفي وسط المدينة بطحاء الكابيتول الشهير تتصل بها الشوارع العظمى. وجدنا في البطايح بايعات الخضر وغيرها نسوة والمبيعات ملقاة على الأرض. مرت بنا في سكك المدينة عربات بها شبان يحملون أزهارا كثيرة يوزعونها على الديار ويجمعون بذلك مالا يصرفونه في إحياء بعض الليالي باللهو والرقص والقصف. فقلت ليتهم أنفقوا هذا المال على بناء أو مظلات تقي من الحر والقر هؤلاء النسوة البائسات البايعات وحفظا أيضا للمبيعات. شرحت لي هاته العادة في جمع المال عائلة دوبورداين الذين تلقوني وأطلعوني على المهم بالمدينة وأكرموا نزلي فلهم مني الشكر الجميل.

النسوة في طولوز على خلاف بقية البلدان ، فيظهر عليهن الفقر والتعاسة بتعاطيهن الأعمال المبذولة البسيطة فيبعن الخضر تحت حر الشمس وكذلك الأقمشة وأدوات الخياطة كالبايعين بالشارع الجوفي من فندق الغلة بتونس. وتستعمل النسوة مظلات كبرى بيضاء وأرباب العربات مظلات كذلك زرقاء وقاية من حر درجته ٢٢ ، فلو أتاهم حر بلادنا ضعف ذلك أربعة وأربعين درجة للازموا الإقامة تحت السقوف ، وانحجروا في الكهوف. وتباشر النسوة غسل الثياب بالأرض على شفير نهر الكارون وصيد حيوانات البحر من الخلجان القذرة جوفي المدينة. وهن على أبواب الكنائس سائلات وينسجن الجوارب السود في الطرقات. وأغرب من ذلك «وشأن المرأة غريب في طولوز» أن نساء طولوز ممتلئات الأجسام لحما وثيابا يظاهرن بينها ويظهر العرج فيهن كثيرا ، فتراهن ظالعات ضليعات ولهن شوارب كالرجال ولحى يخلفن فيها كثرة

٢٦٨

وقلة ، ولما في عوائدهن من إعطاء الحرية للشعر وإعفائه من الأذى فتبدو وجوه ذوات الشوارب واللحى. وهن كثيرات ، كالسعالي. كانت تقسم السيدة عائشة رضي الله عنها بقولها لا والذي زين الرجال باللحى ، وقد جاء أنه قسم الملائكة. وأنا أقول لا والذي زين النساء بعدم اللحى. عرفت بهاته الصفة عدة نسوة في كثير من بلدان المملكة التونسية لما وجدت أجسامهن وشعورهن على ما رأيت في طولوز فاستغربن مني ذكر نسبتهن إلى طولوز بدون سابق معرفة. فما أشد تأثير ماء الكارون في خصب الأرض وأجساد البشر وتوليد النبات. والشعر يظهر أن الأسعار رخيصة والمهن بسيطة مع بقايا من الميل لملايمات الحضارة من آثار السمعة الماضية ، وربما بقيت أيضا في هذه العاصمة العائلات الماجدة والنباهة الفطرية وعلو الهمة الماضية والأريحية المتوارثة. والآن لها شهرة بالتعليم وبها على ما بلغني بعض الصنائع الجيدة كالنقش والدهن وغيرهما بقية ممن سلف. وهكذا شأن العواصم في أدوار تأخرها تبقى بها آثار جودة الصنائع التي تمكنت منها ، يتوارثها الأبناء عن الآباء لا يتحولون عنها لما لم يجدوا سواها وسيلة للتمعش ، فينساقون إليها بحكم الضرورة وتسهل عليهم من عهد الفطرة ويحنون إليها بالإلف والمشاهدة من عهد الآباء الذين ربما كتموا سرها وضنوا به عمن سواهم وتركوه لهم كنزا نفيسا بزعمهم لا يعتريه كساد أو نفاد. أو لم يعلموا أن الله يفعل في البلاد والصنائع والعباد ما أراد؟ لذلك تجد بعض الصنائع خاصة ببعض العائلات ومتسلسلة متوارثة في أفرادها وإن لم ينتفعوا بها حتى تقتلهم لاقتصارهم عليها ويقتلونها باقتصارها عليهم. حياة طولوز الآن ، فيما يظهر بالفلاحة وتجارة الحبوب والحيوان ، ولم أر فيها معامل أو حركة في تجارة المصنوع. وشاهدت كثيرا منهم يشتغلون بصيد حيوانات الماء العفن بالخلجان في أحواز المدينة.

المعابد

دخلت كنيسة دوتورو «الثور» وبها صورته وكنيسة صان سيرنا العتيقة من القرن ١١ م وطولها أمتار ١٥٠ ، وعرضها نحو ثلث ذلك ، وارتفاعها يقرب من عشرين ميترو.

حدثوني بأن لها سمعة ، وأرباب الديانة يقصدونها من شاسع البلدان. رأيت بها

٢٦٩

بعض عجايز ورهبان لا يشتغلون بسوى أعمالهم ولا يهمهم أمر من سواهم.

ديار العلم

أتيل داسيزات ـ دار عتيقة ذات ثلاث طبقات بها صحن لطيف وأعمدة كبرى.

وقصر السكنى يطلق عليه لفظ أتيل ، وبحيث لا يختص هذا اللفظ بالفنادق ـ قالوا إن بناءها يرجع إلى القرن ١٦ م وأن مالكها وهبها في أواخر القرن التاسع عشر م إلى جمعيات كثيرة علمية مثل جمعية الجغرافيا ١ الآثار ٢ الأطباء ٣ الأحرف والكتابة ٤ الأدب ٥ التشريع ٦ إلخ إلخ.

المكتبة العمومية

لم أجد بها ما يهمني ومجلداتها ٢٦٠ فقصدت المكتبة الخطية ببطحاء صانت إتيان عسى أن أرى بها بعض المخطوطات العربية «والقوم لهم ولع بكتبنا» فوجدتها على الساعة ٣. ٥٠ مفتحة أبوابها فصعدت إلى علوها فلم أجد بها حارسا أو ناظرا ورأيت عصا وقبعة ولكن لم أظفر بصاحبها حتى ظننته اختفى مني خوفا من شخص غير معروف اللباس أتاه في الهاجرة ، فطفت في عدة بيوت مفعمة بالأوراق والمجلدات كما أردت بدون أن أمس شيئا وانتظرت دقايق كثيرة بدون جدوى ، ولم أجد وقتا للانتظار ساعات حيث كانت العربة تنتظرني في البطحاء ، فخرجت مأسوفا لا على عدم الظفر بمرادي من المخطوطات العربية فقط ولكن على مكتبة بلا حارس.

الآثار

كثيرة في طولوز لما لها من الاعتبار في القديم وطول الأمد في غابر الدهر. وقد ضم لمصنوعاتها العتيقة المسيو كليني الطلوزي الموظف سابقا في مادكسكر والمقيم الآن في باريز عدة مصنوعات إفريقية من سلاح وغيره هدية منه لمسقط رأسه. دخلت متحف

٢٧٠

صان ريمو بقرب كنيسة صان سيرنا مجانا أي بلا شي زايد على الإحسان للقيمة ، وبه فاضل المتحف الأكبر ووقفت فيها على جثة بشرية «موميا» مسودة الجلد من ليالي أربعة آلاف سنة ومن عقاقير التصبير الفعالة المجهولة التركيب حتى الآن وحوض الجثة وغطاؤها عليهما ألوان دهنية وكتابة مصرية.

قرأت كتابة بالخط الكوفي في بعض أدواره بالقرن السادس تقريبا على قطع ٩ نحاسية من إسطرلاب ذكرني في شعر أبي الفتح :

ومستدير كجرم البدر مسطوح

عن كل رائقة الأشكال مصفوح

ملء البنان وقد أوفت صفايحه

على الأقاليم من أقطارها الفيح

وإن مضت ساعة أو بعض ثانية

عرفت ذاك بعلم فيه مشروح

وفي الدوائر من أشكاله حكم

تنقح العقل منا أي تنقيح

لا يستقل لما فيها بمعرفة

إلّا الحصيف اللطيف الحس والروح

نتيجة الذهن والتفكير صوره

ذوو العقول الصحيحات المراجيح

ذكروا أن أبا القاسم هبة الله المنعوت بالبديع الأسطرلابي الشاعر المشهور المتوفى سنة ٥٣٤ هجريا كان وحيد زمانه في عمل الآلات الفلكية ، متقنا لهذه الصناعة وحصل له من جهة عملها مال جزيل في أيام خلافة المسترشد ، ولما مات لم يخلفه في شغله مثله. والأسطرلاب كلمة يونانية معناها ميزان النجوم ، ينسبون وضعه إلى بطليموس صاحب المجسطي.

أثنينا على صانع الأسطرلاب بأبيات من شعر أبي الصلت أمية بن عبد العزيز مادح يحيى بن تميم ابن المعز بن باديس بالمهدية في القرن ٦ هجري :

٢٧١

أفضل ما استصحب النبيل فلا

تعدل به في المقام والسفر

جرم إذا ما التمست قيمته

جل على التبر وهو من صفر

تحمله وهو شامل فلكا

لو لم يدر بالبنان لم يدر

مسكنه الأرض وهو ينبئنا

عن جل ما السماء من خبر

أبدعه رب فكرة بعدت

في اللطف عن أن تقاس بالفكر

فاستوجب الشكر والثناء له

من كل ذي فطنة من البشر

أصبحت آلة الإسطرلاب في المملكة التونسية من الأسرار المكتومة والطلاسم المعقدة فلا تستعمل للانتفاع بها ولا يفهم المراد منها بين أبناء العلوم تبعا لفقد علمي الفلك والهيئة وا أسفاه.

متحف النقش والتصوير

بنهج من الجنوب إلى الشمال يسمى لالزاس واللورين يمر ما بين بطحاء لافايات شرقا وبين بطحاء الكابتول غربا ، وهو من أكبر ديار الآثار وأغناها من الصور الدهنية والمصنوعات الحجرية المختلفة الأنواع والنقوش ذوات الأشكال العربية ، دواير متوازية ومتداخلة وخطوطا مرتبطة متساوية الرسم والتقسيم على المعروف بألواح منبر جامع عقبة بالقيروان والرسوم الذهبية بأوراقها العتيقة. قأت على قطعة من حجر في الدور الأسفل من دار الآثار ما نصه «هو الخلاق الباقي» ، كلييوللي بربر على كوزنيك.

والده سي مرحومة عائشة ـ خاتونك روحي إيجون ـ الله رضى سي إيجون فاتحة سنة ١٢٢٥. وبدرج العلو صورة المسيح عليه السلام مخرجا من القبر «بناء على معتقدهم»

٢٧٢

وحواليه ستة أشخاص وجميعها مجسم على مقدار الآدمي مختلفي الهيئات على غاية من الإتقان والإبداع ، يعملون أعمالهم من التقبيل والانحناء عليه ومسكه ، فالبعض تبدو عليه الكآبة والبعض عليه الدهشة وفيهم الباكي ومنهم المتصبر. بالمعلقات الدهنية صورة مولاي عبد الرحمان على فرس ووراءه تابع راجلا يظلله ، وفي يد الأمير اليمنى سبحة ملتوية على رسغه كالسوار. من بين الصور الدهنية شيخ معمم قائما ، واضعا يده اليمنى على شابة وأخرى بجانبها أكبر منها تباشر النسج ، وعلى يساره شاب بيده عصا ، فسرى لذهني أنها تمثل سيدنا موسى وسيدنا شعيب عليهما السلام ، وحال تزوج الأول بإحدى ابنتي الثاني على ما قصه القرآن المجيد ، وباستفسار إدارة الآثار بعد رجوعي بواسطة عائلة دوبوردايز بلغني أنها صورة لابان وابنتيه ليئة وراحيل ، والشاب ابن أخته يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام. والمسألة شرحتها التوراة في سفر التكوين بالإصحاح ٢٩ ، ومضمونها أن يعقوب سافر إلى خاله لابان بأرض حاران ، فوجد راحيل ابنة خاله ترعى غنما فسقاها لها من البير ، وتعاقد مع خاله على رعي الغنم سبع سنين في مقابلة زواجه براحيل التي أحبها يعقوب حيث كانت حسنة الصورة ، وعدل عن أختها الكبرى ليئة لضعف في عينيها. وبعد السبع سنين أولم لابان وزف إلى يعقوب ليئة ابنته الكبرى عوض الصغرى ، وفي الصباح لما رآها يعقوب قال لخاله ما هذا الذي صنعت بي أليس براحيل خدمت عندك فلماذا خدعتني؟ فقال لابان : لا يفعل هكذا في مكاننا أن تعطى الصغيرة قبل البكر «وهاته العادة تراعى إلى الآن غالبا وبقدر الإمكان في المملكة التونسية» أكمل أسبوع هذه فنعطيك تلك أيضا بالخدمة التي تخدمني أيضا سبع سنين أخر ، ففعل يعقوب ودخل على راحيل أيضا (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ). وأحبها وعاد فخدم سبع سنين أخر وأولدها يوسف عليه السلام ، وأحبه أبوه إسرائيل «يعقوب» أكثر من سائر بنيه لأنه ابن شيخوخته وصنع له قميصا ملونا.

منازه المدينة

بستان الحيوان بجنوب المدينة متسع جدا والحيوانات الغريبة قليلة فيه مثلما يظهر

٢٧٣

سكان طولوز قليلين أيضا في الشوارع الكبرى ، ونطاق البناءات المتسع وبين أطراف البلد المترامية. ويذم في هذا البستان صورة رجل من رخام مكشوف السوأتين كأصل الخلقة ، مع أن ثيابه منحازة إلى جانب منه ، فلم أدر لما ذا أبعدت عنه ولا لأي شيء أقيمت هاته الصورة المشوهة في بستان عام للنساء والرجال كبارا وصغارا. وبين هذا البستان والمدينة بستان مستدير لطيف به بناء على شكل المظلة تترنم به الموسيقى في بعض الأحيان.

وفي ضاحية المدينة بالشمال الغربي مكان به ثلاث قناطر على خلجان متسربة هناك ، وبجانبه محل لهو تركض في ميدانه طلقا الشبان والشابات على قباقب من حديد.

بين طولوز ومونبليي

تظهر تربة القسم الجنوبي حجرية وكثيرة المرتفعات وسلاسل جبال صغرى كلما غاب منها سياج ظهر من ورائه آخر ، وأكثرها مغروسة عنبا ، وفي أوائل جويليه أخذوا في حصد الشعير. أما القمح فلا يزال مخضرا ناعما على المعروف عندنا في أوائل شهر مايه ، فالفرق ما بين عدوتي البحر الأبيض نحو الشهرين على التقريب يسبق بهما الجنوب الشمال.

ومن أحسن ما جعلوه بالحدود علامة بين أراضي الملاكة والقطع المتجاورات أسطر من الأشجار العظمى ، تحفظ بها الحدود وتزدان بها الأرض وينتفع بظلها. وحبذا لو غرست الأشجار في حدود أراضينا التي يتكرر فيها النزاع سنويا وتصرف الأموال وتراق الدماء ويطول الجدال ، غير أن إهمال الحيوان عندنا على الأشجار ربما تضاعفت به الخصومة وازداد النزاع وتجاوز الحدود.

تعرفت في القطار يبن مدينة نربون ومونبليي بمستعرب رتبته قبطان في العسكرية تظهر عليه علامات الشهامة واسمه سينيوبوسك من مدينة نربون ، وهاته الجهة الجنوبية من فرانسا كما هو مقرر في التاريخ ممتزجة بالغاليين سكان فرانسا الأصليين وبقبائل البربر من شمال إفريقيا «الباسك» الباقية لغتهم إلى الآن ، وأخيرا امتزجوا

٢٧٤

بالعرب الذين أتوها من جهات الأندلس. ولا تزال هناك بقية من بناءاتهم ومسحة من جمالهم وسماتهم. صرح لي هذا المستعرب بإعجابه وابتهاجه بالخصال العربية ، عرف ذلك من الامتزاج بهم في شمال إفريقيا وفهمه لغتهم «واللغات نعم العون على اكتشاف الحقائق». وكانت زوجته آخذة في مبادي اللغة العربية فشجعتها على الاستكمال فيها ، عسى أن تشكرني على ذلك يوما ما عند ما تستفيد من الكشف عن عوائد العرب وآدابهم مثل ما شكرت من شجعني على الأخذ في تعلم اللغة الفرنساوية. أخبرني زوجها بأنها تحسن ركوب الخيل جدا فقلت له إنها كجان دارك الفرنساوية صاحبة الفروسية والوقائع الحربية مع دولة الأنكليز التي كانت أضرت بالمملكة الفرنساوية في حرب المائة عام من أواسط القرن ١٤ إلى أواسط القرن ١٥ م وما كدت أستوفي عبارتي حتى بادر هذا المستعرب غير متمالك إلى تصفيق الاستحسان ، وقال قد سرني ذلك منك بقدر ما سرني اطلاعك على تاريخ فرانسا.

مر بنا القطار مجدا على كركسون وسباخ نربون حيث تراءت لنا ربى هاته المدينة شمالا وشاطئ البحر الأبيض جنوبا وبلغنا عند انصراف الهاجرة إلى مونبليي.

مونبليي

بناءاتها على ربى وانحدار. ضيقة الشوارع في البلد القديم ، أما محطة سكة الحديد التي جاءت جنوبها فساحتها بها البناءات الجديدة والطرقات المتسعة والأشجار المرتبة. سكانها فوق السبعين ألفا.

الطب

زرت المكتبة الطبية مع الدكتور إمان الذي أطلعنا بواسطته على أحوال المدينة.

والمدرسة الطبية في مونبليي عتيقة ومبدؤها يرجع إلى ما طفح به كأس الأندلس من العلوم الحكمية على جنوب غلية ، وبها مخطوطات عربية ، من بينها كتاب عليه «كتاب بحر الوقوف في علم الأوفاق والحروف» ألفه عبد الرحمان ابن محمد

٢٧٥

البسامي. وبالفهرس : بحر الوقوف في علم الأوفاق والحروف ، خواص أسماء الله الحسنى ، لطايف الإشارات في معرفة السيارات ٧ صافية «كذا» الحكيم أرسطاطايس كتاب في رسالة على ربع الأرض وسكانها ، فك الأقلام القديمة والمشكلات ، فك الطلاسم والكنوز ، السر المكتوم في علم النجوم ، مجموع من الحكمة وعلم الصنعة صفة الأعشاب السبعة ، وبه صور كثيرة وأشكال أحرف الأقلام القديمة من صحيفة ٢٥٧ إلى صحيفة ٢٧٩ ، والبروج من صحيفة ٦٣ إلى ٦٧ ومن ٩٤ إلى ١٦٨. ولم يسعف الحظ بأخذ أمثلة بالفوتغرافيا من صور الكتاب ولا بالاطلاع على جميع المخطوطات العربية.

دار الآثار

بها مجموعات دهنية متقنة ، وواسطة العقد صورة امرأة متكئة على أريكة أبدعتها أنامل وخيال كابانايل عام ١٨٨٠ ، وبسطت عليها رداء شفافا ينم عن جمالها ومقدرة صانعها ، وهي تمثل فايدر ابنة ملك كريت وزوجة تايزي التي تسببت في غضب زوجها على ابنه إيبوليت من امرأة أخرى. وبسبب عدم رضاه عنه سقط الابن من عربته فتقطعت أشلاؤه فندمت فايدر على اختلاق أسباب الغضب وهلاك إيبولت وقتلت نفسها خنقا. وذكروا أن الرسام كران اختراع لها صورة أيضا باللوفر عام ١٨٠٢.

بستان بيرون

جاء في مرتفع بالطرف الغربي من المدينة وهو من المنتزهات المشهورة عندهم يرجع تاريخه إلى أواخر القرن الثامن عشر م ، وبه صورة لويز الرابع عشر على فرس. وقصر ماء وبطحاء مطلة على البحر جنوبا وعلى حنايا ماء المدينة المجلوب من مسافة بعيدة على أسواق ذات طبقتين بنيت أواسط القرن ١٨ م. والقوم مثل الرومان أهل عناية بالمياه مع أن بلادهم ليست في حاجة كبرى كمملكتنا التونسية التي أمطارها نادرة ومدنها في الغالب بعيدة عن مجاري الأودية ومنابع العيون. تمر عليها عدة قرون

٢٧٦

وسكانها يذوقون آلام العطش ووخيم الماء الراكد ومرارة طعمه وأمراضه ويتجشمون غلاء الأسعار وانتظار الأمطار ، وهو نقص في التدبير من عهد التأسيس وعجز من القاطنين على ذلك الخسف. وأعمال الرجال العظام في سائر الأمم من قديم متجهة إلى جلب المياه التي جعل الله منها كل شيء حي ، فأدريانوس الروماني الذي زار مستعمرة إفريقيا في القرن ٢ كانت من أعماله الخالدة بها جلب ماء زغوان إلى قرطاجنة على الحنايا الماثلة إلى اليوم من أمتن المصانع وأعظم الهياكل. ولا أدري كيف كانت حياة الفنيقيين قبل ذلك من عهد تأسيس تلك المدينة الجميلة المنظر والغريبة الموقع الذي حمل الرومانيين على امتلاكها وأن لا يحيدوا عن سكناها لما لم يجدوا أحسن منها حصنا وحسنا؟ ولأهمية هاته المبرة من هذا السلطان المصلح وعظيم نفعها وشهرة سمعته بها ، أن كان الرمز العظيم الذي يعبر به عن الرومان في إفريقيا تلك البناية الكبرى حتى صورتها إدارة البوسطة بتونس على تنابر الرسائل رمزا عن دور تلك الأمة التي أخذت حظها من هاته المملكة واعتبرتها ذخرا وخزينة مواد حياتها. وكان رمز الدولة التي قبلها وهي الفنيقية صورة سفينة ذات قلاع مربع مستطيل ومرتفعة المؤخر ، لأن هاته الأمة عرفت بالمهارة في البحر والفروسية على صهوته الصعبة وبما خبرته من طرق البحار. وملكته من نواصي الأقطار. واكتسبته من ثمرة الاتجار. أمكن لها أن تؤسس مدينة قرطاجنة بشمال إفريقيا المخضر أديمي الأرض والسماء بالخصب والصفاء. وكان الرمز لدور العرب هو صومعة جامع القيروان التي هي من آثار زيادة الله بن الأغلب ٢٠١ ـ ٢٢٣. ولقد أصاب صاحب تقسيم هاته الأدوار والمصور لهاته الرموز ، فإن أمة العرب كانت تعتني ملوكها بتخليد الذكر في البناءات العظيمة الفائدة والمتينة الهندسة. وزيادة الله لما افتخر بأربع وقال لا أبالي بما ذا فعلت بعدها كانت ثلاثتها في البناء والرابعة في العدل ، وهو من آثار العلم.

وتلك الأربعة هي جامع عقبة وقنطرة باب أبي الربيع قبلي القيروان ، ولم يبق لها الآن من أثر ، وحصن سوسة ، وولايته ابن محرز قاضيا بالقيروان لعلمه ونزاهته. والقضاة الذين لهم هاته الحلية الجميلة ممن تفتخر بهم الملوك ، بل الأمة ، بل الإسلام. وقد ذكرنا في صدر الكتاب فخر تونس بقاضيها النزيه المقتدر فضيلة النحرير الشيخ الطاهر ابن عاشور ، ومنذر بن سعيد قاضي قرطبة ومقامه عند الملك الناصر. أما مصر فإن

٢٧٧

القاضي الفاضل كان بها ذا سمعة وجلالة ووجاهة تقارب الصحبة بل الأخوة مع صلاح الدين الأيوبي صاحب المنزلة المعروفة في جلايل الأعمال وإكرام الرجال.

والقيروان الآن فخرها بقاضيها المتفنن ، وجذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب ، الشيخ سيدي محمد العلاني الأنصاري. حدث ما شئت عنه في الأخلاق والرفق والتبصر. وقالوا من قديم فيما فاقت به مدينة قرطبة غيرها من العواصم :

بأربع فاقت الأمصار قرطبة

منهن قنطرة الوادي وجامعها

هاذان ثنتان والزهراء ثالثة

والعلم أنفع شيء وهو رابعها

ففي الأربعة ثلاثة من نوع البناء أيضا والرابعة هي العلم ، وقد فازت بقصب السبق عن مدينة قرطبة لهاته الخصال الفاخرة مدينة القيروان بأجيال وأكثر من مائة عام حيث لم توجد الزهراء بالأندلس إلّا على عهد الناصر ٣٠٠ ـ ٣٥٠.

وكانت الإشارة في تنابر البوسطة إلى دولة الحماية التي لها في المملكة نحو جيل من سنة ١٢٩٨ ه‍ ـ ١٨٨١ م بفلاح عربي وبجانبه فرنساوي يشقان الأرض لبذر الحبوب التي بها الحياة المادية ، وإشارة إلى أن انتفاع سكان المملكة الواحدة كالعائلة الواحدة لا يكون إلا بالاتحاد والتشريك حتى في طرق الاقتصاد. وخلاصة ما يستفاد في الحال والاستقبال من ذلك الرمز أن الأمة التونسية لما باتت فقيرة ماديا وأدبيا أصبحت دولة الحماية معلمة لها ومعينة على طرق الحياة وهو عمل كبير وأثر بالاعتبار جدير. ولم يوضع لدور البربر رمز ولا ذكر لدولة الفاندال أثر ، ولعل ذلك لكون الأمة الأولى ساذجة محكومة والثانية مغتصبة سفاكة. وإحياء الذكر أو الذكر الحي إنما يكون لأصحاب الأعمال المفيدة ، والتدابير السديدة :

إنما المرء حديث بعده

فكن حديثا حسنا لمن وعى

والعائلات والأمم كالأفراد بل لا يقام للعائلات شأن ولا للأمة ذكر إلّا ببعض

٢٧٨

الأفراد الذين يكسبونهما سمعة وفخرا. مدح حازم في مقصورته المستنصر الحفصي في القرن السابع بتجديد حناية أدريانوس المجلوب عليها ماء زغوان بقوله :

وطود زغوان دعوت ماءه

فلم يزغ عن طاعة ولا ونى

وعاد في عصركم كعهده

في عصر من شاد الحنايا وحنى

والأمير المنعم والد أميرنا الحالي أطال الله بقاءه هو الذي أتى لمدينة تونس بهذا الماء نفسه بعد أن انقطع عنها أمدا طويلا. والمعز لدين الله صفوة الدولة العبيدية بالقيروان فحل عائلتها بالقرن ٤ قال فيه ابن الخطيب في نظمه التاريخي رقم الحلل :

وجلب الماء على الحنايا

لو أن حيا سالم المنايا

ولعل الأقواس الجاثمة الآن بشعب جبل عين الشريشيرة «بالتصغير» هي بقايا من تلك الحنايا المشار لها في النظم. ينطبق عليها ما قيل في حنايا تونس قديما :

تمتع من بقايا للحنايا

بأبدع منظر تصبو إليه

تأمل حسن أرسمها البواقي

وقد مد الفناء لها يديه

كسطر بعض أحرفه تمحى

وبعض لاح مضروبا عليه

ذكر ابن ناجي في ترجمة أبي الحسن القابسي المتوفى ٤٠٣ أنه لم يشرب من ماء العين الذي يأتي صبرة وهي المنصورية التي بناها المنصور ثالث العبيديين بالقيروان لما انتصر على أبي يزيد النكاري صاحب الحمار عام ٣٣٧.

كانت مدينة القيروان شربها من حياض خارج المدينة من آثار الدولة الأغلبية ،

٢٧٩

وقد جددت جلب هذا الماء دولة الحماية إلى القيروان من مكان يبعد غربا عن المدينة بنحو أميال ٣٠. كما جدد على عهدها الحوض الكبير المنسوب لابن الأغلب الذي تمم بناءه عام ٢٤٨ ، وهو بديع الشكل كثير الأضلاع ، بجانبه الغربي حوض آخر صغير على مثاله يتسرب إلى الصغير أولا ماء شعبة من وادي مرق الليل ثم يسلك إلى الحوض الكبير. ويوجد على مثاله شكلا وأقل حجما حوض بالطريق التي بين القيروان وسوسة وعلى بعد من المدينة الأخيرة بنحو أربعة أميال. وهو قطعا من آثار الدولة الأغلبية التي مصانعها الكبرى بمدينة سوسة مثل السور وحصنه والجامع وقصر الرباط.

وقد التفتت دولة الحماية إلى جلب المياه لبلدان المملكة مثل سوسة التي أفاضت عليها مياه وادي مرق الليل من غربي القيروان بنحو خمسين ميلا ، ومن شمال جبل طرزه ما بين مغارس العلا غربا وثنيات مركز بيشون شرقا في قناة تحت حصباء الوادي تمتلئ بالرشح من طبقات الرمل الذي ظاهره في الغالب لا يرى به ماء.

والأعمال جارية بهمة كبرى وأموال عظمى مصروفين في إيصال ماء سبيطلة عاصمة الروم العتيقة ، التي بنيت القيروان من أطلالها وابتدأت حياتها بموتها إلى مدينة صفاقس ذات الزياتين الجميلة والثروة الجليلة ، وهي في حالة تعطشها تزهو بثمارها وأزهارها على جميع بلدان المملكة التونسية لاعتناء أبنائها وبراعتهم في الأعمال الزراعية والتجارية ، وممن يفتخر بهم ابن المملكة التونسية في ممالك أروبا إذا جرى ذكر أحاديث الثروة والعمل. ويجد في تعداد مزايا أبناء هاته المدينة ما ينفى به عن التونسي وصمة العجز أو الكسل.

وكأنك بها قد اهتزت وربت متى وصلها ماء مدينة الرومان وتسربت إليها ثروة سبيطلة المالية والزراعية مع مائها. والتاريخ يقص علينا ما كان لتلك المدينة الغابرة من الثروة الغزيرة والأموال الذريعة حتى أنها صالحت عبد الله بن أبي سرح عام ٢٧ بثلاثمائة قنطار من الذهب الوهاج ، وعند ما استغرب العرب ما عندهم من هاته الكنوز أشاروا إلى حب الزيتون الذي استفادوا منه الثروة واحتجنوا به أموال الأمم البعيدة عنهم يتسرب إليهم ثمنا لدهن الشجرة المباركة إداما لذيذا ودواء مفيدا.

أما المدن الرومانية التي عمرها الإسلام من بعدهم مثل شقبنارية «الكاف» وباجة

٢٨٠