البرنس في باريس

محمّد المقداد الورتتاني

البرنس في باريس

المؤلف:

محمّد المقداد الورتتاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-605-5
الصفحات: ٣٩٥

والتطور من عهد آدم وحواء. فقد قال ابن خلدون أن شديد الكيس يقال له شيطان ومتشيطن وذلك في فصل : إرهاف الحد مضر بالملك ومفسد له ، الذي قال فيه ما معناه : إذا كان الحاكم قاهرا باطشا بالعقوبات منقبا عن عورات الناس لاذوا منه بالكذب والمكر للخوف والذل وفسدت النيات ، وإذا كان رفيقا بهم متجاوزا عن سيئاتهم لاذوا به وأشربوا محبته ، وهذا من حسن الملكة التي تستقيم بها الأمور.

قال ويتبع في حسن الملكة النعمة عليهم والمدافعة عنهم ، وأكثر ما يوجد الرفق في الغفل والمتغفل ، أما اليقظ شديد الذكاء فلنفوذ نظره وإطلاعه على عواقب الأمور في مباديها يكلف الرعية فوق طاقتهم إلخ. وقالوا في كلمة ديوان أنها فارسية ومعناها شياطين ، فأطلقت على الكتبة للذكاء والبراعة في العمل ، ثم أطلقت على مكان اجتماعهم وخدمتهم.

٥ ـ الصنايع وأنواع البضائع في باريز : لهم الأيادي الطولى في إتقان القسم الأول وترويج الثاني ، فالتحف اللطيفة والمخترعات الغريبة سوقها باريز. تستوقف الأنظار ، وتصيد الدرهم والدينار. وقصور التجارة مثل اللوفر والبرانطا. وقد دخلتهما ، فعاينت كل حاجات البشر بهما وكأنما الأموال لا تفي بأثمان بضايعهما. وغالب أقطار الدنيا فيما بلغنا لا تستغني عن مصنوعات ومبيعات باريز. والكتب قد ضاقت بها الدكاكين فطرحوها على أرصفة نهر الساين تمتد معه مسافات بعيدة ، وتباع بأثمان زهيدة ، وذلك فيما بين نهج بونبارت وكنسية نوتردام. ولعله انقضى الزمان الذي كان الصينيون يقولون فيه على ما نقله صاحب مسالك الأبصار : إنهم ، أي الصينيون ، بصراء والإفرنج عور وباقي الناس عمي. يعني أن صنايعهم صناعة بصير بعينين ، فهو يبصر ما يعمل والإفرنج صنايعهم صناعة من له عين واحدة ، وباقي الناس صنايعهم صناعة من هو أعمى. ويؤيد دعواهم في القديم أن الحكمة أنزلت على أيدي الصينيين وعقول اليونانيين وألسنة العرب. وعلى كل حال فالنزاع في المسألة بين الصين وأروبا أما نحن فلا دخل لنا في هذا الموضوع. ومن متعلقات التجارة قصر المصرف «البورصة» ، وهو مجتمع التجار تباع فيه التذاكر المالية ، وهو قصر عظيم واجهته للغرب أمامه درج كثيرة على اتساع الواجهة ، مررت به غير مرة وهو قريب من باساج جوفروا محل نزلنا ، وجنوبا منه فأقف متعجبا من أمر واحد لم أر له نظيرا في

٢٤١

باريز ، وهو اختلاط خلق عظيم أمام الواجهة الغربية وعلى درجها. وغوغاء بدون انتظام ولا فهم كلام. يذكرون أن التجار بها يربحون أموالا طائلة تفوق أعمال الكيمياء التي لها أسرار فيما أخبروا ، ولكن لا يعرفها إلّا أربابها. وحقيقة هم شياطين ، فلا عجب إذا كان ذلك السر مكتوما على بقية المتفرجين ، وكلما أعدت النظر إلى ذلك السوق يوما بعد آخر وما به من الهرج والمرج وفي ضمنه أرباح عريضة لبعض أناس وخسارة لآخرين وقوم لا يفهمون ، والبعض عن تلك الأسرار غافلون إلّا ولاح لي تشبيهه بالدنيا وأبنائها ، وموقفهم فيها وتكالبهم عليها ، فلو نظر إلينا سكان الكواكب بمرآتهم المكبرة أو حلق بعضهم على رؤسنا أو أتانا زايرا متى وصلت إليهم طياراتنا لرأونا على هذا البساط الترابي كجماعة البورصة ، وأخذهم العجب من شديد عناء البشر ومصارعة الدهر لسكان كوكب الأرض ومنافسة بعضهم لبعض.

وكنت أقرأ على سوق البورصة عند منصرفي نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)

٦ ـ أنواع العلوم والأمن ومنازل الراحة للغرباء في باريز أمر عرفته لها كل القارات ، فيقصدونها لاقتباس العلوم العالية والفنون المستظرفة ، فيلذ لهم المقام في مواطن الأمن ومنازل النعيم والراحة. وقد تكلمنا في فصل الحسبة والبوليس على اعتناء إدارة المحافظة بالغرباء وكف يد العادية عنهم ، يجد المسافرون في منازل السكنى بجوار العائلات أو بالأوتيلات ساير المرافق بأسعار تناسب كل نفس على حسب وسعها. فالزاير لباريز يمكنه العيش بالإنفاق فيها من سعته أو على حسب ما آتاه الله ، فأسعار المعاش ولوازم السكنى ليست بغالية.

وابن خلدون يقول إذا استبحر المصر وكثر ساكنه رخصت أسعار الضروري من القوت ، وما في معناه ، وغلت أسعار الكمالي ، وإذا قل ساكن المصر وضعف عمرانه كان الأمر بالعكس. وأكثر أكل السكان في المطابخ القائمة في كافة الطرقات ولا يتحرجون من استدعاء ضيوفهم لها حيث ما يعدونه بمنازلهم لا يكون أكثر مما يوجد بالمطابخ التي تملأ قائماتها أسماء المآكل ، حتى يضل الغريب في قاموس تلك الأعلام التي كأنها نحتت من لغة الصين ، ولا يهتدي لجيدها من رديئها ما لم يكن حافظا

٢٤٢

من قبل بعض أسماء يلائمه أكلها وأحيانا لا يجدها في بعض جرائد المطابخ ، فعلى الإنسان أن يتزود من أعلام المأكولات الفرنساوية حتى لا ينخدع بما لا يليق أو يتورط فيما لا ينبغي وأخيرا يدفع المال على كل حال. وكثرة المطابخ اللائقة عادة قديمة في الصين.

ذكر صاحب أخبار ملوك الأمصار ما مضمونه : حكي لي عن أحوال هذا القوم ما ينبئ عن عقول جمة وترتيب حسن وتأمل في الأمور ، فمما حكي لي عنهم أن في مدن الخطا مطابخ تطبخ فيها الأطعمة الفائقة والمشروب اللذيذ مما لا يوصف حسنه ومما يصلح أن يقدم منه للملوك ، معدة لمن يشتري منها من الأكابر حتى أن أحدهم إذا اهتم بضيافة كبير بعث إلى صاحب المطبخ من تلك المطابخ وقال له عندي ضيف وأريد له ضيافة بكذا في وقت كذا ، فإذا كان ذلك الوقت حمل إليه كل ما يناسب من بدائع المأكول والمشروب والمشموم كل شيء في وقته. وإن كان المضيف ما له مكان يصلح للضيافة أعد له صاحب المطبخ مكانا بكل ما يحتاج إليه من البسط والفرش والآلات والغلمان على قدر ما حد له المضيف من القيمة ، يحسب له صاحب المطبخ حساب مكسبه في مثل ذلك عن أجرة المطبخ والدار والفرش وكلفة الطعام والشراب وأثمان كل شيء بحسابه ، بقانون معلوم لا يزيد ولا ينقص من غير أن يحصل على المضيف تفريط ولا خيانة في شيء قل أو جل.

شرقي باريز

«غابات أركون» ، سافرت لها من باريز مع سكة قطار الشرق إلى شالون سور مارن ومنه تحولنا إلى قطار فيردان المدينة الفرنساوية الحربية التي بحدود ألمانيا. وصل بنا القطار غابة أركون في مقاطعة موز ، الممتدة هاته الغابة من الشرق إلى الغرب في نحو عشرة أميال وشمالا جنوبا نحو أربعين ميلا وهي بالحدود الشرقية من فرانسا. فنزلت بها في قرية كليرمون أنركون المستندة إلى جبل صانتان شرقيا منها ومجللا بغابة شعراء. وقد أرشدني رفيق في القطار «والفرنساويون أهل إرشاد لضيوفهم» إلى النزول بهاته القرية قبل محطة أوبريفيل لما بها من مرافق الإقامة وأدوات السفر إلى فاراين

٢٤٣

التي هي وجهة سفري ، وإن كانت أبعد مسافة عن فراين من أوبريفيل. أخذت عربة من أتيل فوباير ذهابا وإيابا إلى فاراين البعيدة غربا عن كليرمون بأربعة عشر ميلا ، وصاحبنا إلى فاراين شيخ كرسكي من شأنه تقضية مدة في هاته الغابات وآنسنا بحسن معاملته ، والغريب إلى الغريب نسيب.

سلكنا طريقا مظللة بالأشجار المثمرة من السوريز والتفاح الممنوع قطفهما عن غير الإدارة التي لها النظر في صرف أثمان تلك الغلال على مصالح الطرقات. لذلك صيانة تلك الغلال مما يشارك فيها السكان العارفون بمصالحهم ، لأن دخلها يعود على صالح وطنهم ، وطرق مواصلتهم في تلك المروج البسائط والمزارع الواقعة بين تقاطيع سحب غابات أركون المتلبدة على المرتفعات وحفافي الشعاب والمنخفضات. والأهالي هناك أرباب عمل وأبدان خصبة وعضلات قوية وأجسام ممتلئة ووجوههم مستديرة ومحمرة الوجنات إلى الأذنين. شاهدنا منهم الانكباب على أعمال الزراعة مع نسائهم وصغارهم بالفدادين بضواحي قريتي نوفيي وبرويو ، والبساطة بادية على مساكنهم ومعاملتهم ولباسهم.

كانت تحييني صبيتهم من المزارع على حفافي الطريق بقولهم «بونجور مسيو لوكوراي» ظنا منهم بأنني شماس لما كنت من برد الطقس في هذا الصقع مرتديا برنس أبيض. وهو شعار أهل الدين من قديم وتلبسه إلى الآن طائفة من رهبان المسيحية. وبعض السكان لجهلهم اللباس العربي ، «وربما لم يرفرف جناح البرنس على تلك المقاطعة منذ عهد بعيد حل فيه العرب ساحات فيردان في الفتوحات الأولى» ، كانوا يهمسون لبعضهم بأننا من رؤساء العساكر «ضباط». وعمالة نهر موز مدينتهم الكبرى الحربية فيردان ، قطعت تذكرة السفر إليها ثم اقتصرت لضيق الوقت على ما حواليها.

فاراين أنركون

قرية صغرى لها شهرة كبرى ملأت المسامع حيث بات بها لويس السادس عشر بعد ما قبض عليه بها عند فراره من باريز فكانت مصيبة الملك بها شهرة لها وسمعة.

٢٤٤

دخلنا القرية من شرقيها فكانت السكة التي سلكناها المسماة بنهج المجلس البلدي هي عينها التي بها العلو الذي بات به لويز ١٦ وعايلته ، وعليه كتابة تفيد أن ذلك في عام ١٧٩١ ، فصعدت له وكتبت اسمي في دفتر معد لضبط أسماء الزائرين له وربما كان أول خط عربي حفظ هنالك. وقيّمة المنزل امرأة تطلع الوافدين على بقايا من أثاث ذلك العلو الضيق الذي لا يرضى به أتباع أتباع الملك أيام كونه بفرساي :

والنفس راغبة إذا رغبتها

وإذا ترد إلى قليل تقنع

ويشق القرية نهر آير من الشرق إلى الغرب ، وفي أعاليه بالضفة الجنوبية بستان ودار وفدادين صديقنا رونز وماله من مخازن تربية الحيوان ومعامل غزل الصوف وعصر الزيت ، ورحا القمح تدير دولا بها وتحرك آلاتها قوة ماء الوادي المنتفع به في هذا الشأن ، والماء يعبر عنه بالفحم الأبيض لأن الاستفادة بالماكينات والآلات الحديثة متوقفة على البخار من حرارة النار المتأججة بالفحم. وقوة الماء المتدفق تقوم مقام ذلك وتولد الكهرباء في الأماكن التي ينصب فيها تياره انصبابا. والطحن بقوة الماء ينسب ابتداء أمره إلى الرومان في القرن السادس م. أما بواسطة الهواء فأخذته أروبا في القرن ١٣ من المشارقة في حروب الصليب.

وعلى صغر هاته القرية التي لا يتجاوز سكانها ألفا يوجد بها نزل للمسافرين وبها ما سواه مما أوجدته الحضارة الأروباوية السارية في دم السكان بأي مكان ، ولو في غيابات الغابات وضعف العمران. وقد علمت أن قرية كليرمون وهي أصغر من هاته ، بها أتيل وعربات للكراء.

جعلت رجوعي إلى كليرمون على قرية أوبريفيل وهي مركز لسكة الحديد بين كليرمون وفيردان. وقبل مبارحة كليرمون أخذت حظا من التجول بين الأدواح الملتفة في جبل صانتان المجاور لها ، وأخيرا شايعنا إلى القطار صاحبنا في غابات أركون ذلك الشيخ الكرسكي. ومتانة الود من علامات الشهامة وعزة النفس وهما من صفات نابليون بونبارت نسيب كرسكا التي تداولها كثير من أجناس الأمم الراقية.

كما وادعنا بعض سكان القرية الذين عرفناهم وعلامات الوداع بالمنادل كأجنحة

٢٤٥

الطير كادت أن تطير بهم معنا حتى غاب القطار عن الأبصار. فما أحب هذا الجنس للغريب وما أشدهم سرورا به وأسرعهم إلفا له ، وشأن العاقل أن يؤلف ويألف.

حول باريز

«فرساي» مدينة سكانها نحو ستين ألفا بالجنوب الغربي من باريز وبها قصور الملوك في عصر الرقي بأروبا في القرون الأخيرة ، شامخة البنيان ، واسعة الأركان. ضمت بين جدرانها من رياش الملوك ومقتنياتهم ما يحمل سكان باريز وضيوفها على زيارة هاتيك المصانع والبساتين. وأول أمرها قصر صيد أسسه لويس ١٣ واستقر فيه من بعده ابنه لويس ١٤ بحاشيته وصرف في البناءات عليه نحوا من ستين مليونا. ومن عهد لويز فيليب صارت من منازل الآثار العامة مباحا دخولها للعموم ، فهي تكاد أن تكون باردو بالمملكة التونسية في عناية من تقدم من الأمراء وسكناهم بها في ضاحية المدينة ، ثم اعتبارها من أحسن البناءات والرياش التي يشاهدها الزائرون وأبدع ما تركه الملوك السابقون.

ركبت لها من محطة صان لازار من شمال الأوبرا في قطار له درجتان أولى وثانية فقط ، يصل لها في نحو ثلاثة أرباع الساعة ويود الراكب أن تكون المسافة أكثر لما يشاهده في الطريق من البساتين والأدواح النضرة ، وأهم ما بفرساي (١) بيت الزجاج (٢) ساعتان فلكيتان (٣) البساتين والمياه (٤) الصور الدهنية (٥) بيوت الملوك وأثاثها (٦) العربات العتيقة ـ بعد مشاهدة كنيسة وعدة صور بالطبقة الأولى صعدت إلى الطبقة الثانية من سقيف مدهون السقف المعقود دهنا بديعا وعديم النظر.

١. ودخلت إلى بيت الزجاج وشاهدت اتساعها مد البصر وبها مرايا كثيرة ، وعلى يمين الداخل لها نوافذ كبرى مطلة على البساتين وحياض المياه التي يتصاعد منها الماء بالضغط في بعض الأيام بصفة يعجب بها كثير من الناس على ما بلغني ويقصدون مشاهدتها من كل فج ، ولم تتفق لي رؤية (١) ـ (٢) ، ذلك ، وتكفل بوصف هذا البيت والبستان كتاب الاستطلاعات الباريزية.

٢. وبالساعتين والموجودتين في علو هذا القصر ونظام سير الكواكب بهما.

٢٤٦

٣. والصور الدهنية كثيرة على الجدران أرشدنا الدليل إلى صورة من بينها ، بها رجل مستلق ومن كل جهة أتاه الناظر يحسب أبصاره وامتداده نحوه. وإلى صورة من مناظر معرض عام ١٨٨٩ بها رئيس الجمهورية المسيو كارنو وأعلام الطرق ترفرف على وفد الجزائر بلباسهم ، فسألت البركادي الذي كان مصاحبا لي من طرف إدارة فرساي التي أرسل بعض معارفنا كتابا إلى كاتبها بالوصاية بنا : وهل توجد صورة للاستعراض العسكري في عام ١٨٧٨ الذي أقامته الدولة الفرنساوية احتفالا بضيوف المعرض ، وتجاوز المتفرجون فيه نصف مليون ، وعند ما احتبك الموكب قدم رئيس الجمهورية مسيو مكماهون على حصان أشهب عربي يتقدمه ثمانية فرسان من عرب الجزائر ببرانيسهم وسروجهم العربية؟ فلم يعرف ذلك. وقفت ببيت الحرب على صورة هنري الرابع راكبا تقدم إليها مفاتيح ، فقلت للدليل لعله هنري الرابع عند ما منع من الدخول إلى باريس لما كان على اعتقاد البرتستانت إلى أن رجع إلى الاعتراف بالتعليم الكاتوليكي ، فدخل إلى باريس وقيل له اليوم نقدم إليك مفاتيح باريس.

فقال لي : أتعجب من اطلاع التونسيين على دقائق تاريخ فرنسا ، فأجبته بأن مثل هنري الرابع الملقب بالكبير «لوكراند» ١٥٨٩ ـ ١٥١٠ لا يجهل وهو صاحب الهمة العالية التي كان يصفح بها عن الأعداء حتى قال ، وهو من ألفاظه الحكمية في الحلم ما معناه : «إن لذة الانتقام تمر مر السحاب ولذة الحلم تبقى مدى الأحقاب» ، وهو المحب في العلم وإكرام العلماء والجيد الانتخاب في الرجال الذين يستخدمهم.

والشجاع الذي يستسهل الأخطار. وقد قيل في مدحه وذم المزاحم له : إن هنري الرابع يمكث في الفراش أقل مما يمكث عدوه على المائدة ، وهذا غاية المدح له والحزم منه.

توجد صورة كبرى بها نابليون الثالث والحاج عبد القادر الجزائري وبعض من قرابته واقفين أمامه ، ووالدة الأمير تقبل راحة نابليون كان ذلك إشارة إلى شكرها له عن العفو عنهم. وكان الأمير المذكور استسلم في عقد السبعين من القرن ١٣ للحكومة الفرنساوية ، وهي لم تعامله معاملة الرومان للأمير يوغورطه البربري الذي ألقته حكومة رومة سنة ١٠٦ قبل المسيح في السجن حتى مات جوعا. بل اقتصرت على إبعاده إلى دمشق الشام ورتبت له مائة ألف فرنك سنوية. بسط ذلك السيد

٢٤٧

البشير صفر في جغرافيته.

فنابليون يشكر على ذلك الحلم الذي لا زال يعترف به لدولته بعض من عرفناه من ذرية الأمير المنعم. وقد أكرم بلزار قائد الجيش الرومي آخر ملوك الفندال بإفريقيا المسمى جليمار لما تغلب عليه وأخذه أسيرا إلى القسطنطينية ، ولما مثل بين يدي القيصر (يوستنيانوس) فاه بعبارات في تقلبات الدهر وتصرفات الزمان دلت على تفلسفه في الدنيا ونعيمها الفاني وتجلده أمام المزعجات ، فرق له القيصر وأنعم عليه بضياع قضى بها بقية حياته. قرر ذلك محقق التاريخ السيد البشير صفر. وكذلك أحسن الجواب الحسن بن علي آخر ملوك صنهاجة بالمهدية لما سأله عبد المومن بن علي عن التفريط في الملك فأجابه بقوله : سبب ذلك فراغ الأمد ، وعدم الثقة بكل أحد. فحسن ذلك لدى عبد المؤمن وأكرمه. ومن حلم عبد المؤمن أنه لما قال له الإفرنج المحصورون بالمهدية : ما عسى تكون المهدية ومن فيها من الإفرنج بالنسبة إلى ملكك العظيم وأمرك الكبير؟ وإن أنعمت علينا كنا أرقاءك في بلادنا. فرأى منهم كمالا في الأجسام ، وتوادة في الكلام ، فأعطاهم ما أرادوا وجهزهم في سفن إلى بلادهم. قال عبد الله بن جعفر : اصنع المعروف إلى من هو أهله ، وإلى من ليس أهله فإن أصبت أهله فهو أهله وإن لم تصب أهله فأنت أهله.

يد المعروف خير حيث كانت

تلقاها كفور أو شكور

فعند الشاكرين لها جزاء

وعند الله ما جحد الكفور

وقد مر بنا أن هنري الرابع يقول إن لذة الانتقام تمر مر السحاب ، ولذة الحلم تبقى مدى الأحقاب.

ومن حلم ملوك القيروان أن أبا يزيد مخلد بن كيداد صاحب الحمار الأبيض والفتنة الدهماء في حروبه مع المنصور العبيدي لما فر مثخنا بالجراحة محمولا بين ثلاثة من أصحابه وسقط في مهواة من الأوعار ، وهز وسيق من الغداة إلى المنصور أمر بمداواته ثم أحضره ووبخه وأقام الحجة عليه وتجافى عن دمه ، وبعثه إلى المهدية

٢٤٨

وفرض له الجراية ، فجزاه خيرا ، وحمل في القفص فمات من جراحته سنة ٣٣٥.

كان النضر بن حارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار ابن قصي من شياطين قريش وممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة ، وهو الذي أنزل الله فيه (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً). فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر ونزل بالصفراء ومعه الأسارى من المشركين أمر بقتله فقتله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقالت أخته قتيلة لما بلغها قتله :

يا راكبا إن الأثيل مظنة

من صبح خامسة وأنت موفق

بلغ بها ميتا بأن تحية

ما أن تزال بها الركائب تخفق

مني إليك وعبرة مسفوحة

جادت بواكفها وأخرى تخنق

هل يسمعن النضر إن ناديته

أو كيف يسمع ميت لا ينطق

أمحمد يا خير نسل كريمة

في قومها والفحل فحل معرق

ما كان ضرك لو مننت وربما

منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

فالنضر أقرب من أسرت قرابة

وأحقهم إن كان عتق يعتق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه

لله أرحام هناك تشقق

فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشعر رقت نفسه الكريمة وذرفت

٢٤٩

عيناه لما طبع عليه من الرأفة والرحمة وقال : لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه.

وقواعد الإسلام تجيز للأمير القتل والمن والفداء.

غضب كسرى على النعمان بن المنذر وحبسه ، فأعطت ابنته هند عهدا لله إن رده الله على ملكه أن تبني ديرا تسكنه حتى تموت. فخلى كسرى عن أبيها فبنت الدير بالحيرة مما يلي الخندق بالكوفة وأقامت به إلى أن ماتت ودفنت فيه. ولما دخل عليها خالد بن الوليد أحد قواد عمر بن الخطاب عند ما فتح الحيرة قال لها لما عرفها : أسلمي وأزوجك رجلا شريفا مسلما ، فقالت له أما الدين فلا رغبة لي في غير دين آبائي وأجدادي ، وأبت التزويج فقال لها سليني حاجة فقالت : هؤلاء النصارى الذين في ذمتكم تحفظونهم. قال هذا فرض علينا أوصانا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

قالت مالي حاجة غير هذا فقال لها أخبريني بشيء أدركت. قالت ما طلعت الشمس بين الخورنق والسدير الأعلى ما هو تحت حكمنا ، فما أمسى المساء حتى صرنا خولا لغيرنا ثم أنشأت تقول :

فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقة نتنصف

فتبا لدنيا لا يدوم نعيمها

تقلب تارات بنا وتصرف

ثم قالت اسمع مني دعاء كنا ندعو به لأملاكنا : شكرتك يد افتقرت بعد غنى.

ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر ، وأصاب الله بمعروفك مواضعه ، ولا أزال عن كريم نعمة إلّا جعلك سببا في ردها عليه ، ولا جعل لك عند لئيم حاجة. ولما خرج من عندنا جاءها النصارى وقالوا ما صنع بك الأمير فقالت :

صان لي ذمتي وأكرم عرضي

إنما يكرم الكريم الكريم

قاله الحموي.

ومن أكبر صور القصر وأبدعها صورة الهجوم على حلل جيش الحاج عبد القادر

٢٥٠

الجزائري ، ويسمونها «الزمالة». رسم المصور فيها انزعاج الرجال والنساء والحيوان أمام ذلك الأمر المفاجئ ، فمن الناس من يقوض البيوت ومنهم من يحمل المتاع والبعض بادر بسلاحه لتلقي المهاجمين وفريق أعجله الأمر عن إسراج خيله فهو يحاول امتطاءها ليصلى حر لظى تلك الغارة الشعواء وكأنه ينشد : قرّبا مربط النعامة مني إلخ. وآخرون من العجز والشيوخ والصبيان مرجون لأمر الله ينظرون لهيب الهيعة وقد اختلط فيها الحابل بالنابل. وفي هذا المنظر ترى ظباء الوحوش والإنس نافرة :

روعوها فتولت هربا

أرأيت كيف ترتاع الظبا

والصورة خيالية لا واقعية ، ومقدرة المصور واتساع خياله هي التي استلفتت الأنظار. وعندي أن التصوير والتمثيل والقصص أحسنها ما كان مطابقا للواقع أما النسج في هاته الثلاث على حسب التخمين والاختراع فإبداع أرباب الصناعة ، وأعمالهم فيها أشباح بلا أرواح ، وأنت بالروح لا بالجسم إنسان.

٦. وفي خزائن فرساي عربات ملوك فرانسا في القديم غاية في الإبداع والتحلية بنفيس النقدين.

٥. تجولت في مساكن أثاث وفرش لويز الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر ، وشتان ما بين منزله هنا ومنزله في فراين. وما في فرساي من البناءات ، وإن لم تكن له فائدة ودخل مالي ، لكنه يدل على مقدرة الملوك المالية ودرجة الحضارة في البناء وعوائد الأثاث في ذلك العصر :

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها

من بعدهم فبشامخ البنيان

كما أن الصور الدهنية بها يحفظ التاريخ ، وتظهر منها مقدرة الخيال وأنامل الراسمين وتفيد أنموذجا من الرقي الصناعي في العالم ، وتحث بني الإنسان على المنافسة في إتقان الصنائع بالتقليد واختراع الجديد وتتابع الأفكار يزداد بها النفع في المآل. وفي جسد الإنسان الترابي وأعضائه وحواسه وعقله وتفكيره مجموعة معادن

٢٥١

وكنوز تستخرج بالتعليم وتستثمر بالعمل. ولا أضر بالبشر من الميل للراحة والخمول ، ومن احتقاره ما يكتب أو يصنع أو يقول.

فأولئك القوم ذهبوا وأما آثارهم وأثاثهم وملابسهم فلم تذهب فهي تحدثنا عنهم كلما زرنا فرساي ورأينا بناءها ومحتوياتها. بل يتخيل أن أربابها أحياء بها ، حيث الخيام فإنها كخيامهم إلا أن ذوات الحي غير ذواتهم. ولهذا يرى الزائرون يمشون الهوينى في هاته المنازل ينظرون لأنواع المصنوعات بغاية الهدو والاحترام. وهذا من فوائد علم الآثار الذي هو التاريخ السياسي والاجتماعي والصناعي المجسم وهو أدعى للاعتبار والتقليد من جهتين مختلفتين في آن واحد.

وبالجملة فإن فرساي تشهد بمنتهى الرقي في ذلك العصر للأمة وملوكها الجامعين بين السلطة والمال. وأنواع ما بها من الآثار البنائية والدهنية والنباتية والمائية والتاريخية مجموعة محاسن ، ونفايس تركتها يد المال الغزير والعلم المنوع والسلطة النافذة والذوق اللطيف من القرن ١٨ هدية إلى أمة القرن ٢٠. بعد استيفاء مشاهدة ما بفرساي خرجت إلى البطحاء الشرقية عنها وإلى مركز سكة الحديد على طريق العربات الكهربائية ، وكنت ألتفت من حين إلى آخر والطرف يستودع تلك القصور التي تملأ محاسنها الجفون ، ويقرأ ما سطرته يد الزمان على جبينها كم تركوا من جنة وعيون.

وداع باريز

أقمنا في هاته العاصمة الزاهرة اثني عشر يوما وهي أكثر من ثلث أيام الرحلة ، والثلث كثير ، إلا أن أمد الرحلة كله في باريز قليل. وهي مصر ، كما قال الحريري ، لنظافة مكانه ، وظرافة سكانه ، يرغب الغريب في استيطانه ، وينسيه هوى أوطانه.

ألفيت هاته العاصمة كما تصفها الألسن ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.

فشكرت يد النوى ، ولكن والحمد لله لم أجر فيها طلقا مع الهوى. فارقناها على نية الرجوع ، وخاطبناها عند الركوب من قطار ليون بقول الشاعر :

قولي لطيفك ينثني

عن مضجعي وقت الهجوع

٢٥٢

وسط فرانسا

بارحت باريز يوم الأحد ٢٩ من جوان وكنت أسافر في أيام الأحد لأرى اختلاف المدن والقرى في هيئات زينتها وتفاوت احتفالاتها بيوم عيد ، وقصدي التوغل في وسط المملكة وجنوبها بعد ما عرفت شرقها وعاصمتها ، فسلكت في الرجوع من باريز طريق نفاير الغربي عن طريق ليون وعرجت من صان كايز إلى فايزون ثم إلى إيسودان التي استدعانا لزيارتها بعض الأصدقاء. وقلب هاته المملكة مشهور بالصناعة وتربية الحيوان ، وقد رأيت من قطعان البقر الأبيض في فدادين كوسن ونفاير وصان كايز وصان جرمان دوفوسي شيئا كثيرا ومنظرا جميلا. مبثوثة على ذلك البساط الأخضر كأنها كواكب على أديم السماء. رأيت الحيوان في خصب من العيش تحت ظلال الأشجار حيثما مشى وجداول المياه ترويه وتحاذيه أينما ذهب فهو في نعيم الدنيا وظلها الممدود ومائها المسكوب. هذه منزلة الحيوان عندهم فما بالك برفاهية وعيش الإنسان. وحبذا لو أقبل سكان مملكتنا وبالأخص ملاكة الأراضي وأرباب البوادي الذين أمدتهم مواقع نزلهم ومنابت نطفتهم بصحة الأجسام وسعة الوقت وراحة البال على غراسة الأشجار وحفر الآبار ، حتى إذا لم ينتفعوا في بعض الأعوام بغلالها لم يفتهم الانتفاع هم وحيوانهم بمياهها وظلالها.

وفي فرانسا من البقر أربعة عشر مليونا ، وأول الدول في إحصائية البقر أميريكا فلها اثنان وسبعون مليونا. وما تحتوي عليه مملكة فرانسا من الحيوان هو حسب التفصيل الآتي :

١. غنم

 ٢٠٩ ، ٧٨٣ ، ١٧

٢. بقر

 ٥٥٢ ، ٣١٥ ، ١٤

٣. خيل

 ٢٢٤ ، ١٦٩ ، ٠٣

٤. معز

 ٠٠٠ ، ٤٠٠ ، ٠١

٥. حمير

 ٠٠٠ ، ٣٥٦ ، ٠٠

٦. بغال

 ٨٦٥ ، ١٩٨ ، ٠٠

٢٥٣

وأكثر الدول غنما استراليا فلها ثلاثة وثلاثون مليونا. وأكثر الدول خيلا الروسيا فلها ثمانية وعشرون مليونا ونيف ، وبقية الدول على التفصيل الآتي :

ملايين :

٢٨

الخيل مشهورة بها الروسيا

٢٠

أميريكا

٠٤

أرجنتين

٠٤

ألمانيا

٠٤

النمسا

٠٣

فرانسا

تناولت الغذاء في صان كايز. والعشاء في فايزون وحوالي الساعة ٨ وصلت إيسودان فتلقانا بها أقارب صديقنا الدكتور فيوم.

إيسودان

في فحص زراعي ، وسكانها نحو ١٤ ألفا يشقها نهر تيول Thioles وفي جنوبها معامل الصنع لجلود الأغنام بأنواع الألوان ، وقد شاهدت أساليب تهيئتها لذلك. وأمثلة زينتها مرسومة على قطع من حديد يضغط بها على الجلد بعد الدبغ والصبغ فتترك أثر تلك الزينة عليه كالنقش على الحجارة والألواح. وأغرب ما رأيت في هذا المعمل آلة يوضع على مبسوطها الجلد فيماسسه من أعلاه بعض أسنان من حديد كأنامل المتلمس تحيط بامتداداته ، وإذ ذاك تتحرك إبر في دائرة بأعلى الآلة على شكل الساعة فترسم وزن الجلد وقيسه بالميترو والقدم الأنكليزي. كل ذلك كلمح البصر فتتلقفه أيدي العملة لضبط ما رسمته الآلة ويوضع غيره ، وهكذا تمر العشرات والمئات في وقفة ناظر. ولا تكفي الساعات الكثيرة بدون تلك الآلة لقيس ووزن تلك الجلود المختلفة الأشكال بأجزاء القدم والصانتيميتر المربع واحدا بعد آخر. وأدوات

٢٥٤

النقل ومراكز الكمارك تحتم الوزن. والراغبون في الشراء لهاته البضاعة المشتهرة بها قرية إيسودان يطلبونها بالقيس وهو مختلف بالنسبة للأمم التي غالبها تستعمل قياس الميترو خلافا لدولة الأنكليز التي لا تقبل الحساب بغير القدم على عادتها في إلغاء كل ما ليس من خصائصها وعدم اعتباره حتى أنها تتجاهل لغات العالم وهي تعرفها ، ولا يكبر في عينها إلّا الناطق بلسانها. فوجب على مثل هذا المعمل الفرنساوي أن يقيس بمقياسين وأن ينقاد بداعي ترويج البضاعة «إلى الطاعة». وجملة القول إن هاته الآلة من عجايب الاختراع ، وأهم وسايل الإسراع.

اشتهرت في إيسودان صومعة عتيقة تسمى بلسانهم «لاتوربلانش» الصومعة البيضاء ، مستديرة من غالب جهاتها ، وفي قطعة من قوس الدائرة زاوية منفرجة رأسها خارج الدائرة. وبناؤها يرجع إلى أيام الأنكليز بهاته الجهة من عام ١١٧٦ إلى عام ١٢٠٠ ، وما تمت أعمال القصر إلّا أيام فيليب أوكيست. وشكل هذا القصر من النوع المعروف بناؤه على الشواطي للحراسة ، ويسمى «التور» ، يصعد إلى طبقته العليا بسلم يوضع عند الحاجة ويزال بعد ذلك حيث لا منفذ للطبقة السفلى ، ومن داخل الشبابيك تبتدئ الدرج المستديرة مع داخل جدران التور.

توجد كتابات عبرانية على جدران هذه الصومعة تشهد باستعمالها في غير ما وضعت له ، فبعد أن كانت حصنا للمدافعين والحراس ، باتت في بعض الأوقات سجنا لأشخاص مختلفي الأجناس. وإليك بعض هاته الكتابة التي ترجمها كوهين مدير المكتبة الإسرائلية في باريز : أخوان مسجونان إسحاق وحاييم أبقاهما الله وأعانهما وأنقذهما من الظلمات إلى النور ومن الأسر إلى الحرية آمين آمين صلاح وصلا في اليوم الثالث «براشا فايهي» (في ٦٤ الكوفير الصغير) ويوافق هذا التاريخ العبراني فيفري عام ١٣٠٤ م.

جوزاف بن دافيد ـ المنصف بورك فيه.

عزارياه بن يعقوب.

يعقوب بن يهودا.

صعدت لها بنحو ٤٥ درجة من خشب من الطبقة الأولى التي أحدثوا بها بابا

٢٥٥

ومنها إلى الأعلى بدرج من حجارة نحو ٨٠ ، فتراءت لي معظم بناءات القرية في الشرق والجنوب. وغالب آجر بناءاتها يميل إلى الزرقة ويرفرف على منازلها طير على قدر الحمام أسود فاحم ، يألف البيوت ويفرخ في أعاليها.

زرت مستشفى هاته القرية في ضاحيتها شمالا فوجدته كامل التأثيث والترتيب ، فسيح المنازل ، يضم بين جدرانه رحبة واسعة وفرشا ٢٤٠ وتكية للعجز أكثر ما بها نساء.

أطلعنا ناظر المستشفى على أقسامه وكانت بيت الأدوية أوانيها عتيقة ، منها الخزفي الذي مضت عليه عدة قرون ٣ من مصنوعات نفاير. وتلك الجهة شهيرة بهاته الصناعة مثل نابل الآن بالمملكة التونسية ، ومنها النحاسية المزوقة بطلاء براق ذي ألوان كالأزرق والأخضر ، قالوا إنها من مصنوعات ليموج منذ قرون وفقدت منها الآن هاته الصناعة جهلا بالأجزاء التي تتكون منها مادة تلك الألوان وبأساليب تركيبها. مثلما انقرض العلم بمادة طلاء الجليز الأندلسي الآن وإن حاول بعض الناس الآن في نابل تقليدها ومعالجة إحيائها. وأسباب فقد الصنائع قديما وحديثا كتم العارفين بها مع أنها علم يحرم كتمانه ، واحتكارهم لها حبا في السمعة وطمعا في المال الذريع. مع أن الرزق مقسوم ، والبخيل بجاهه أو بماله أو بعلمه مذموم ومحروم. إلى أن يأتيهم الموت بغتة وهم لا يشعرون. وكثيرا ما يطوف على المملكة طائف من ربك فيبيتها مرض العدوى أو يصبح بها صايح الحرب فيجرف الخصيصيين في العلوم والمحكرين للصنائع ومعهم ما علموه وما علموه ، فتصبح الأمة تبكي تلك الصناعة وأما صاحبها فتشكوه.

دخلت دار آثار هاته القرية وكنيستها المنسوبة لصان روك. وقد قلنا غير مرة إن قرى فرانسا لا تخلو من مكتب ١ للتعليم ومكتبة ٢ للمطالعة ودار للآثار ٣ ونزل للمسافرين ٤ ومحل للتمثيل ٥ ومعبد ديني ٦ ومستشفى للمعالجة ٧. واستوقف نظري في الأولى بقسم الحجارة كثرة النقوش العربية البحتة وهي الأشكال الهندسية المنتظمة والمرتبطة الأطراف على قواعد معروفة وقوانين معينة كيفما كانت الأشكال أو كثرت التفاريع. ولتفنن العرب في العصور ٥٠٠ الأولى وحتى الوسطى ١٠٠٠ في تلك الأشكال ورسمها على الحجارة والألواح والجبس والأوراق في فواتح السور وأوائل

٢٥٦

الكتب وخواتمها ، عرفت الأشكال بهم ونسبت إليهم.

وفي الثانية انتصاب محراب عربي في جدار الكنيسة إلى جهة القبلة. وفي زاويتها الشرقية أشكال الشجر والآدمي من حجارة مجسمة دقيقة الصنع غاية في الإتقان وبديعة في بابها تسمى شجر جايسي. عبارة دينية ونسبة لبعض أجداد عيسى عليه السلام وهو الذي كان له عدة أبناء أحدهم داوود. وكانت لهاته القرية سمعة دينية يحجها المسيحيون سنويا إلى أن أجلت الحكومة في السنوات الأخيرة الرهبان من هذا المكان.

في وسط القرية وببطحاء نهج الجمهورية حوض يملؤه ماء متدفق من فم أسدين مررت بهما فقرأت عليهما قول الشاعر :

أسد كأن سكونها متحرك

في النفس لو وجدت هناك مثيرا

فكأنما سلت سيوف جداول

ذابت بلا نار فعدن غديرا

وبقربها قصر في أعلاه ساعة تدق لإفادة القرية ، وأكثر الناس استفادة منها سكان ذلك القصر المحرومين من رؤية ظاهره الذي فيه الرحمة على عكس باطنه. قلت للسيد وكيل الدولة هناك : ما أحكم وضع هاته الساعة بهذا القصر لتخفف على الملزومين بالإقامة فيه أمدا معينا أو بضع سنين. كحكمة وضع علامات الأميال بالطريق لتهون على المسافر النصب متى علم ما قطعه منها فينشط لقطع الباقي. نسوة هاته القرية هن القائمات بكنس الطرقات صباحا وببيع الخضر في الأسواق والسكك. وذوات الأهالي مختلفة في الخلق فلا تجد البياض مطردا ولا الحمرة في أكثرهم ، ولا الجسامة في جميعهم ، ولا الكلثمة بقليلة ، أو الطول في العموم ، ولا النحافة في غالبهم ، ولا الصفرة أو السمرة بنادرتين ، فكل واحد شكل بانفراده حتى في العائلة الواحدة كالأب والابن والبنت والأم وما رأيت مثل هذا في بلد آخر.

يوجد في القرية قنال تتجمع به الأوساخ وتتصاعد منه روائح كريهة ، وبلغني أنه يختلط ببعض الأنهار التي يشرب منها السكان ولا أظن الأهالي ينفلتون من أمراض

٢٥٧

الجراثيم المتولدة من هذا القنال بل الوبال ، أو من آلام ما يتعفن بالباطوار «محل قتل الحيوان» الذي جاء بوسط القرية. وعدم الاعتناء بحفظ الصحة إلى هاته الدرجة لم أر مثله أيضا فيما مررت به من مساكن فرانسا. أما السويس فأمر كهذا لا يخطر بالبال ، ووجوده رابع معدودات المحال.

بستان ديزيكليز

بين صديقنا الدكتور وبين صاحب هذا البستان علاقة وداد أوجبت عليه إكرامنا لأجله ، فقبلنا في قصره الذي جاء غربي القرية بمسافة ميل في بستان ملوكي بمكان يسمى فربايل. وأطلعنا على مكتبته الكبرى بالقصر المذكور وبيت بالزاك الروائي الشهير ويسر هذا الشيخ الكريم أن يقصد مكتبته المطالعون مثلما يسره «على ما تقرؤه من وجهه قواعد الفراسة» أن يقرىء الضيوف بصدره الرحب وقصره الشاهق.

والفرنساويون أشبهوا الرومانيين في كثرة اقتناء الكتب وإباحتها للمطالعين ، فقد كانت في مساكن الأشراف الرومانيين مخادع جميلة بها مكتبات مباحة لمن يرغب الاطلاع عليها من الأدباء والعلماء ، مع أن الكتب في عصرهم نادرة الوجوه وغالية الثمن ، وهم مع ذلك لا يحتكرونها. وعلى هذا المنوال ، بالمملكة التونسية مكتبة صديقنا النحرير الشيخ سيدي الطاهر ابن عاشور قاضي قضاة المملكة التونسية المحمية.

وفي القيروان مكتبة العالم الشيخ سيدي محمد الجودي مفتي مدينة القيروان المحترمة.

ولا أكتم أن بعض الناس من جملة مكاسبهم كتب مهمة يشحون ولو برؤيتها على غيرهم ، وإن شئت على أنفسهم أيضا. كما لا ينكر أن الذي وسع لبعضهم العذر في ذلك من يستعير الكتب ولا يرجعها متمسكا ببيت ابن عاصم «ولكن بالمصراع الثاني منه فقط» :

وما استعير رده مستوجب

وما ضمان المستعير يجب

٢٥٨

أصحبنا السيد بابنه على عربته فطفنا بالبستان بين جداول المياه وظلال الأشجار وصفير نوع من الطير يسمى عندهم «ميرل». وحملنا صاحب هذا البستان أيادي الإكرام مع تحيات إلى بعض أصدقائه من أعيان الفرنساويين بتونس. بالزاك الروائي ، الذي دخلنا بيته في قصر السيد ديزفليز حول إيسودان ، ولد في تور في مبدأ الحرية بفرانسا سنة ١٧٩٩ ـ ١٨٥٠ وأكثر ما يكون النبوغ في الأفراد عند مبادي نهضة الأمة ومن الذين شبوا بلبان الدور الجديد ، وإنما العلوم تنضج في الجيل الثاني غير أن منفعة الجيل الأول أكثر ، ونوابغهم أشهر ، لما لهم من مضاء العزيمة والنفوس العصامية. انظر إلى الطبقة الأولى من تلامذة المدرسة الصادقية وكذلك الخلدونية واختبر أفراد الجيل الحاضر وهم الذين شبوا في التاريخ الجديد للمملكة التونسية تجد ما قررناه لك.

وأوضح من ذلك أن كل أمة وكل عائلة لها شباب وهو مبدأ أمرها وقوة سيرها ، والشباب بالنابغين والشيخوخة بالجامدين.

كان بالزاك كاتبا معينا لبعض العدول ثم ولع بالكتابة مثلما ولع الفقر المدقع بمصاحبته ليأخذ حظه منه قبل أن تدفعه عنه في آخر عمره علومه وسمعته. ومقابلة أمته له بتقديره حق قدره ، والنبوغ في التحصيل من قديم لأبناء الفقراء. ألف كثيرا في الفلسفة والروايات والانتقاد وأطوار الحياة في الحواضر والبوادي وفي الغرام ، ومبادي الدخول في معترك الحياة. ورغبت تآليفه وبذل فيها المال سلفا قبل إتمام إبرازها ، وذلك مما زاد في نشاطه إلى أن صار كأنما قلمه متخذ من الكهرباء وفيه ما فيها من المنافع مثل (١) السرعة (٢) وإضاءة الأفكار (٣) ونسمات الحرية في الصدع بما في الخاطر (٤) وحرارة التأثير على العقول. وكان مقداما على الأعمال والأقوال وأقام في هذا القصر من عام ١٨٣٥ إلى عام ١٨٤٠. وقد قدر لنا أن دخلنا بيته ورأينا صورته والقوم لهم عناية بحفظ الآثار. واعتبار أرباب الأفكار. سكان إيسودان أهل عناية بالغريب ومن أكثر الناس إكراما للضيف ، فإليهم الشكر عما صنعوه معنا وأخص منهم صديقنا الدكتور كيوم والسيد ديزيكليز ، ولا يشكر الله من لا يشكر الناس.

قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان أنشدنا من شعر الجاهلية ما عفا الله عنا فيه ، فأنشده قصيدة الأعشى التي يهجو بها علقمة بن علاثة ويفضل عليه عامر بن الطفيل حين تنازعا الشرف في الجاهلية. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا

٢٥٩

تنشدني مثل هذا بعد اليوم ، إني ذكرت عند قيصر وعنده أبو سفيان وعلقمة فأحسن علقمة القول ، وإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس ، وكان ذلك قبل إسلام علقمة.

حدث الأستاذ الأكبر الشيخ سيدي سالم بوحاجب أنه لم يدرك القطار في بعض مراكز الطريق أيام رحلته إلى إيطاليا منذ نيف وأربعين عاما فجنح ، إلى الجلوس في مطبخ المحطة ريثما يأتي قطار آخر ، وقد ذكرنا ما تمتاز به القطارات بأروبا عن قطاراتنا قبيل الحديث على باريز وأن من جملة ذلك المطابخ في محطات الطريق ، فاستضافه صاحب المطبخ وأكرم وفادته وأجلسه على مائدة عائلته وبين بناته. وقد أعجب فضيلة الأستاذ بحسن القرى وما جاملوه به من المصاحبة في أرجاء تلك القرية المسماة «كوكاليو» ، ووادعوه عند السفر بموجب التعارف في ذلك الوقت الوجيز حتى لقد أثر عليه ذلك الإكرام الغير المنتظر وما رآه في تلك العائلة من حسن الخلق والخلق بصفة لا تقصر عن التأثير الذي حصل لهم من الإعجاب للباسه العربي ، وهي الصبغة التي عرفوا بها كون الشيخ غريب الدار فاحترموه وأكرموه. فبادر الشيخ عقب الرجوع إلى ليفورنو بالثناء عليهم على لسان بعض الجرائد.

البحث من عوائد الفرنساويين

طالما سألني أهل هاته القرية عن عدة أشياء مثل غيرهم من سكان فرانسا حيث كان من عوائد الفرنساويين البحث. وقد عقدت فيما يأتي لما سألوني عنه وأجبتهم به فصلا في خلق الفرنساويين وخلقهم عند الرجوع إلى مرسيليا وقبل مبارحة تراب العدوة الشمالية.

فيشي

قصدتها بعد إيسودان على طريق بورج رأسا فصان كايز ثم صان جرمان دي فوسي ، وهي ذات شهرة بأنواع المياه المعدنية الصالحة للمداواة ومعالجة كثير من الآلام. سماها جول سيزا في القديم «فيكوس كلدوس» والكلمة الثانية معناها

٢٦٠