البرنس في باريس

محمّد المقداد الورتتاني

البرنس في باريس

المؤلف:

محمّد المقداد الورتتاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-605-5
الصفحات: ٣٩٥

تباعدا عما ينافي الشمم. والوشاية إنما تروج عند سخيف الفكر ويتقبلها ضعيف الإرادة. والأول يعتبرها صدقا متى لم يتدرب على أطوار وحقائق أبناء الدهر ولم يتدبر عاقبة بطانة السوء. وهذا يحمل على الغفلة والتفريط. والثاني يداري بقبولها أغراض حاشيته أو أقاربه ويجاملهم بما لا يعتقده ضميره وبحيث يستسلم لإرادتهم ، وهذا يحمل على التغفل والإفراط.

ومن لم يطرد الواشين عنه

صباح مساء يردوه خبالا

شاهدت من مجموعات القصر أو الملجأ أو قبر نابليون كثيرا من المدافع والرايات المأخوذة من الأمم وعلى بعض المدافع كتابة عربية : هذا مما أمر بعمله الأمير المفخم جعفر باشا أيده الله تعالى ٩٨٩ بتاريخ أوائل رمضان السلطان مراد الثالث «عمل المعلم جعفر».

وعند مبارحة قصر نابليون قال لي صديقنا الدكتور قد زرنا رجلا قتل كثيرا وسنزور رجلا أحيى كثيرا. ولما سألته عنه قال إنه باستور الطبيب ، فلاحظت له بأن هذا الكلام شعر. وتلقيت إذ ذاك رسالة وردت لي من صديقنا الفاضل السيد صالح سويسي بها قصيدة دخلت معي إلى بعض الأماكن التي اشتملت عليها أبياته وإشاراته ونص ما يخص قصر نابليون :

«ليزانفليد» كن إليه مسارعا

فدخوله قطعا عليك تحتما

واقصد «لنابليون» عند ضريحه

رجل الشجاعة من به الملك احتمى

فلكم تفرقت الجيوش ببأسه

ولكن أسيلت من قواضبه الدما

رد الألوف بعزمه لاكنه

بالعزم لم يردد قضاء مبرما

٢٢١

مستشفى باستور

به مداواة مرض الكلب وأمراض الجراثيم على اختلاف أنواعها وتتناسل به حيوانات التجربة. ولتربيتها قواعد معلومة ومعيشة خاصة ودرجة من الهواء معينة.

دخلت الأقسام المخصصة لها وشاهدت معيشتها وأعمالها. توفي باستور الذي استقر بهذا المستشفى بعد أن نقل إليه أعمال الخدمة ١٨٩٥. وهو من عائلة بسيطة وقرأ على نفقة الحكومة ، ثم استخدم معلما ولم ينقطع عن التعليم واكتساب المعارف التي أنفق على مباديها زهرة شبابه ، وذاق مرارة الانقطاع وبعد الدار عن عائلته وأحبابه. ومن واصل السير وصل ، ومن ثابر على ازدياد المعارف جل. وأخذ في التجارب في معمل الكيمياء ، وفعلا كان بالآخرة عمودا وعمادا حتى اكتشف ميكروب تخمر الخل ، واطلع بأخذ الأهوية من البيوت والشوارع وأعالي الجبال في قنينات وبتحليلها ، حسب قواعد الفن الحديثة ، على أن الميكروب في البلدان أكثر منه في الجبال.

وعالج دود الحرير الذي اعتراه الفناء ونجح في مداواته واقتدر على الأدوية المفيدة ضد فساد الجراح.

يؤخذ من كلام هبة الله الطبيب البغدادي المتوفى ٥٦٠ ما تفسد به الجروح من جراثيم الذباب وهو قوله :

لا تحقرن عدوا لان جانبه

ولو يكون قليل البطش والجلد

فللذبابة في الجرح المديد يد

تنال ما قصرت عنه يد الأسد

واستمر خمس سنوات في البحث عن دواء الكلب الذي يموت به كثيرون في فرانسا ولعل ذلك لكثرة الامتزاج وتربية الكلاب ، ونجح في تجربة ذلك في غلام استغاثت به أمه لعلاجه من جراحات كلب كلب في جويليه ١٨٨٥ ، فصار يوفر على فرانسا نحو مائة ألف نسمة باكتشافاته المفيدة ، وتخرجت عليه فحول العلماء مثل الدكتور روا الذي اكتشف تطهير الثياب من العدوى. قلت وقد قرر مجلس إدارة

٢٢٢

المستشفى بالقيروان أخيرا إحداث بناء بجوار مستشفى ابن الجزار لتطهير الثياب ولخصوص المصابين بأمراض العدوى ، من المال الذي جادت به همة مسيو بلان في أوقات مختلفة وتوفر بفضل المناطة بهم شئون المستشفى ، ومتى نجز هذا البناء ولوازمه صار مستشفى القيروان من أهم مستشفيات المملكة تنظيما ونفعا. وتأسيسه غير بعيد العهد على يد كاتبه ، وابتدأت أشغال بنائه في شعبان وسبتامبر عام ١٣٢٦ ـ ١٩٠٨. كلفت بذلك من طرف الكتابة العامة وحضر افتتاحه جناب المقيم العام الهمام المسيو لابتيت وجناب الكاتب العام مسيو بلان ، وقام بأعباء أعمال المستشفى المراقب المدني المسيو منشكور وبتنفيذ رغائب الدولة ومنافع الإنسانية حسب عادته في الأعمال الجليلة وحسن المجاملة التي يشكره عنها البشر ويحفظها التاريخ. وقد نشرت جريدة الزهرة تحت عدد ١٨٣ المؤرخ في ١٥ ربيع الثاني وفي ٦ مايه عام ١٣٢٧ ـ ١٩٠٩ تفاصيل حفلة افتتاح المستشفى في هذا الشهر ، التي حضرها المتوظفون والأعيان ، وخطبة المراقب المذكور الذي أثنى على الطبيب القيرواني في القرن الرابع مدة المعز العبيدي ، وهو أبو جعفر أحمد ابن الجزار. وأمل من العائلات المثرية بالقيروان الميل إلى تعلم فن الطب. ورحم الله كشاجم إذ يقول في هذا الطبيب العظيم الذي بقي ذكره فخرا للقيروان تعترف به سائر الأمم :

أبا جعفر أبقيت حيا وميتا

مفاخر في ظهر الزمان عظاما

سأحمد أفعالا لأحمد لم تزل

مواقعها عند الكرام كراما

وخطبة جناب المقيم التي جاء فيها أن قدوم فرانسا أكسب المملكة الأطباء والمستشفيات وأن الأوقاف أعانت بالمال على تأسيس هذا المستشفى الذي جاء بناؤه على ما يرام ، بفضل السيد المقداد نائب الأوقاف الذي كان في إنجاز هذا المشروع من أنفس أعوان الحكومة. وإن الكتابة العامة اعتنت بهذا المشروع ، فالمسيو روا خاطب جمعية الأوقاف بشأن إعداد المال اللازم في أكتوبر عام ١٩٠٧ وفي الشهر بعده تولى المسيو بلان أمر هذا المشروع إلخ.

٢٢٣

كما نشرت الزهرة قصيدة السيد صالح سويسي التي ألقاها في تلك الحفلة. ببيت قبر باستور صور الحيوانات التي اكتشف أمراضها واستعان بالتجربة في بعضها وفيه كتابة معناها ، الإيمان ، الرجاء ، العلم ، الصدقة. وكلها بقطع الحجارة الملونة. وجدت الطبيب مانويليو الأرمني مشتغلا بخصوص جراثيم السل وأطلعني على زجاجة صغرى بمقدار طول الخنصر وبها دواء أصفر ، وقطعة كأنها من البطاطس عليها حبوب صغرى بيضاء قال إنها جراثيم السل. وعند ما قدمها لي كرر الوصاية في التحفظ عند مسكها ، قائلا إن الدواء الذي بها مخطر جدا يمكن أن يقتل عددا يساوي سكان المملكة التونسية. سألته عن الدواء النافع لهذا المرض هل أمكن الكشف عنه؟

فأجاب بأن الحصول عليه لا يزال صعبا. قلت والأطباء يذكرون أن من أقوى أسباب أمراض العقل والصدر بالسل الخمور. وأخيرا كتب شيخ مدينة ليون إيدوار ليريو والعضو بمجلس الشيوخ بنهر الرون ما مضمونه : مرض السل يهجم على كافة البدن ومقاومه كالمصلح الذي يعاني المشاق في شأن مملكته بجلب المصالح ودفع المضار وتقويم المعوج ، والله يعلم ما يلاقي ذلك العاني. وفي أروبا قرروا انتشاره على النسبة الآتية فيموت بسببه في العشرة آلاف كما يأتي :

وينقص في فرانسا في العام نحو مائة ألف بهذا المرض الفتاك ، وربما كان من أسباب انتشار هذا المرض وإعانته على هدم الهياكل البشرية شرب الخمر فهو كالبارود في قذف قنابل الميكروب على البشر. وقد تنبهت الأمم العصرية إلى مضاره بعد أن عرفها الإسلام منذ ثلاثة عشر قرنا ، فمتى يظهر تعميم تحجيره وإراقة هذا السم في الفلاة حتى تصح الأجساد وتحفظ الأموال والعقول ، وتفرغ السجون وتقل الجرائم من

٢٢٤

هذا العالم؟ قرروا أنه بكثرة الشرب للخمور تتفشى أمراض أخرى حتى تكثر العجز في الأمة ولا يجدون مالا ولا مقدرة على العمل.

ذكر ابن ناجي أن رجلا كافرا التزم دفع مال للمخزن يؤديه كل يوم أو في العام على أن يبيع الخمر بالقيروان ، فخرج له الأمر بذلك ، فعمد إلى دار بالحومة المسماة الآن بالنباذية ، سميت بذلك لبيع الخمر بها ، وكان يؤتى له به في البحر من صقلية إلى سوسة ، ثم يوتى به في البر للقيروان. وكتب شيوخنا إلى السلطان بتونس في ابتداء الأمر فأبى أن يقضي فيه لهم حاجة وسد الباب في وجوههم ، وقال هذه تونس وفيها الصالحون ، يعمل هذا فيها ، فأتى الشيخ إبراهيم بن عبد السلام المسراتي المتوفى عام ٧٠٤ إلى قبالة تلك الدار وجلس هناك في الزقاق ، ويقال إنه كان يعمل الميعاد «حلقة الدرس» هناك وأكثر الملازمة لذلك ليلا ونهارا ، فكان كل من يريد دخولها لشربه أو لشرائه من الناس يجد الشيخ ومن معه من أصحابه هناك فيستحيي أن يدخل وهم ينظرون إليه فيرجع ، فتعطل الدخول عنده لما ذكر.

والآن الدكتور صانتشي السويسري في تلك الحومة نفسها بالقيروان يجمع المجالس وينشر فكر التباعد عن الخمور التي حجرت بالجهات القبلية من المملكة ، وظهر أخيرا منعها أيضا في المغرب الأقصى وذلك من حسنات الحكومة واعتنائها بمصالح وصحة بني الإنسان. في أثناء طبع هذا الكتاب حجر قائد جيش الاحتلال الجنرال فيران بيع غالب أنواع الخمور إلى المسلمين وشربها مدة أيام عيد الفطر ١٣٣٢ فكتب العبد بيتين نشرتهما جريدة الزهرة بعددها ١٩٥٤ وشطرهما كثير من أهل الأدب والعلم ، وهما :

يا قائد الجيش المصون ومن سما

بالسيف والرأي المدبر للحمى

حرمت مسموم الخمور بموسم

فاجعل بحقك كل عصرك موسما

فأصدر هذا القائد المنع لمدة الحرب الأروباوية التي شاركت فيها المملكة التونسية.

فنظمت أبياتا ٤ من البحر والقافية التزمت فيها الاكتفاء ، وهي تتضمن الثناء على

٢٢٥

الحاكم العسكري وترجي المنع المستمر بالإشارة إلى التدريج في منعها بصدر الشريعة وهي :

شكر البرية صنع بطل أنعما

بالحرب للخمر العدوة مثلما ...

لبيت يا سيف الحكومة سؤلنا

والسيف أسرع في الإجابة حيثما ...

قطع العلائق للحميا صحة

وسلامة في كل قطر كيفما ...

والمنع بالتدريج سنة شرعنا

في تركها حال العبادة ريثما ...

وكان كورش ملك الفرس «قبل م» يعتبر الخمر سما ناقعا. وكان فرنسوا الأول في أوائل القرن السادس عشر يحكم على السكيرين بالجلد وإذا عادوا فيصلم آذانهم.

وفي «البيان المغرب في أخبار المغرب» لابن عذاري المراكشي : ولي إسماعيل ابن أبي المهاجر إفريقية من قبل عمر بن عبد العزيز وأسلم جميع البربر على يده ، وكانت الخمر بإفريقية حلالا حتى وصل العشرة الذين أرسلهم عمر بن عبد العزيز من التابعين أهل العلم والفضل فبينوا للناس تحريمها رضي الله عنه. وعبد الله بن أبي حسان اليحصبي الفقيه بإفريقيا الذي لقي مالكا وسمع منه ومات ٢٢٧ ، سأله زيادة الله بالقيروان عن النبيذ فقال له كم دية العقل ، قال ألف دينار ، قال أصلح الله الأمير يعمد الرجل إلى ما قيمته ألف دينار فيبيعه بنصف درهم ، فقيل له أنه يعود ويرجع ، فقال : أصلح الله الأمير بعد كشفه سوءته وضرب هذا وشتم هذا. وكان أهل الكوفة يقولون من لم يرو هذه الأبيات فإنه ناقص المروءة وهي :

أتاني بها يحيى وقد نمت نومة

وقد لاحت الشعرى وقد طلع النسر

فقلت اصطبحها أو لغيري فأهدها

فما أنا بعد الشيب ويحك والخمر

٢٢٦

تعففت عنها في العصور التي مضت

فكيف التصابي بعد ما كمل العمر

إذا المرء وفى الأربعين ولم يكن

له دون ما يأتي حياء ولا ستر

فدعه ولا تنفس عليه الذي أتى

وإن جر أسباب الحياة له الدهر

وما خرجت حتى ناجتني نفسي بما حدثوا به عن أبي يوسف يعقوب المنصور حفيد عبد المؤمن في القرن السادس من أنه بنى في مراكش بيمارستانا عظيما في أعدل مكان وأكمل زخرفة ، وغرس به الأشجار والأزهار وأجرى في بيوته المياه وبسط فيه الفرش النفيسة من صوف وكتان وحرير وأدم. ويقال إنه خصص للمرضى لباسا في الليل ولباسا في النهار. وجعله عاما للفقراء والأغنياء وأجرى لنفقة الطعام فيه خاصة يوميا ثلاثين دينارا عدا ثمن ما جلب إليه من الأدوية ، كما أقام فيه الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال ، وفي كل يوم جمعة بعد صلاته يعود المرضى ويسألهم عن أحوالهم.

مستشفى الصدقة بباريز

زرته ومعي صديقنا الدكتور شايو الخصيصي في أمراض العين ، والقوم خير الناس لمسكين ويتيم وضعيف. فوجدنا به عدة منازل متفرقة وبستانه فسيح وبه من الفروشات نحو ألف. وأطلعتنا الآنسة الباريزية النشيطة ناظرته على المطبخ فرأينا بدائع التقاسيم والتنظيم والنظافة والاستعانة بآلات البخار لتسخين بعض البيوت وآلات الثلج للتبريد ببعض آخر. وهاته المخترعات مع الكهرباء أسرعت بالأعمال وقللت من أيدي العمال. رأيت إداما أبيض يطبخون به مثل الشحم ذكروا أنه دهن نباتي أنفع من شحم الحيوان ، وأنه المستعمل الآن في أطعمة الأروباويين مثل الزبدة.

٢٢٧

حياة المدن وموقع باريز

يراعى في تأسيس المدن ما يدوم به عمرانها ويسعد به سكانها وأول ما يعتني به :

١ ـ مواد المعاش والشراب وسهولة تناولها وملايمتها. ٢ ـ ثم تحصينها من كل عادية وعدو. ٣ ـ ثم تحسينها بالقصور الشاهقة والبطائح المتسعة والبساتين المظللة والبناءات المرتبة في مثل الطرقات والأسواق وديار التمثيل وكل ما يرجع للمجتمع العام ، والنظافة والتنوير. ٤ ـ ثم ترقية أدوات النقل راحة البشر وتوفيرا للوقت. ٥ ـ ثم إجادة الصنائع. والتجارة بسائر البضائع لتتوفر الآمال لسكان المدينة بما يشترى منها مما يعز وجوده في الضواحي وأقطار البساطة. ٦ ـ وأهم شيء لاستدرار الأموال بالمدن ترقية العلوم والأمن وإعداد ما تتوفر به راحة الغرباء ، ويتطلبه منها البعداء ، فتتزاحم الآمال على قصدها وتشد الرحال لساحتها وذلك هو عين الحياة للمدينة وطريق الثروة وزمن الرفاهية ، فتأتيها إلى منازلها الرجال والأموال ، وتفوز في مكانها بجميع الآمال.

١ ـ جمعت هذه الصفات مدينة باريز فيمدها نهر الساين بالماء العذب ويسقي سكانها ، سواء منهم من كان في شرقي المدينة أو وسطها أو غربيها ، وقد تقدم لنا في الكلام على مدينة ليون أن الأنهار تعشق المدن في فرانسا وبينا أن ذلك من حسن الوضع والتدبر لها عند التأسيس. أما ضاحية باريز فهي أراض جيدة للزراعة وبها الغابات والبساتين ، فمواد الغذاء والوقد متوفرة وقريبة من المدينة.

قال المؤرخ الخبير بطرق العمران ابن خلدون ما معناه : يراعى في البلد أن يكون على نهر أو بإزائه عيون عذبة ثرة لتسهل على الساكن حاجة الماء الضرورية حيث وجوده مرفقة عظيمة عامة. وقال : قد يكون الواضع غافلا عن حسن الاختيار الطبيعي أو إنما يراعي ما هو أهم على نفسه وقومه ولا يذكر حاجة غيرهم ، كما فعله العرب لأول الإسلام في المدن التي اختطوها بالعراق وإفريقية ، فإنهم لم يراعوا فيها إلّا الأهم عندهم من مراعي الإبل وما يصلح لها من الشجر والماء الملح ، ولم يراعوا الماء ولا المزارع ولا الحطب ولا مراعي السائمة من ذوات الظلف ولا غير ذلك كالقيروان والكوفة والبصرة وأمثالها ، ولهذا كانت أقرب إلى الخراب لما لم تراع فيها الأمور الطبيعية.

٢٢٨

٢ ـ باريز محصنة بسور وقلاع وثكنات العساكر في ضواحيها ، وموقعها علمي يسهل وصول كل الناس إليه ، بخلاف ما لو كانت دونها قمم الجبال وخلجان البحار ، لكانت أشبه بمعقل حربي فتضيق بالمقيم وتشق على المستطلع. وعلى كل حال فدرجتها بالنسبة إلى سطح البحر ليتها كانت بمكان أرفع ، وفي خبايا جبال أمنع لما علم من أن ارتفاعها نحو الأربعين ميترو فقط وأن هواءها متغير وربما كان راكدا ثقيلا يصعب معه التنفس.

٣ ـ غير أن التحسين بلغ فيها حدا من العناية لا تدركه عواصم الممالك فيما بلغنا وتحدث به الغرباء الذين عرفناهم فيها وأقروا بمنتهى نظافتها وإبداع تنويرها وارتفاع قصورها وإحكام هندسة بناءاتها. وصرح إيفل أو صومعة باريز سما على جميع بناءات العالم ، وبلغ ارتفاعه إلى ثلاثمائة ميترو ، ويذكر ناظره بمضي مائة سنة عند تأسيسه ١٨٨٩ على الثورة الكبرى والجمهورية الأولى لفرانسا التي كانت سنة ١٧٨٩ ، وبه ثلاث طبقات يصعد إليها برافعة وبفرنكات ٣ معدودة.

وللسيد صالح سويسي :

فالصرح مد إلى الكواكب كفه

فصبا عطاردها إليه وسلما

أوحى لإيفل علمه أن ابن لي

صرحا يكون على العلوم مترجما

لم نر عند الصعود إليه أطراف المدينة لتكاثف دخان الماكينات وركود الغيم على جوها ، حيث يد الهواء بالمد ضعيفة في جو باريز وبالقصر قوية في أرضها على ما ذكروا. أما التنفس فهو ثقيل بهاته المدينة القاهرة كثيرة النفوس والأنفاس ، ولكن تتسلى حاسة الشم هناك بما تتنعم به فيها بقية الحواس. يساوي هذا القصر في الارتفاع مئذنة دلهي بالهند التي حدث عنها المؤرخون قديما ، فقد نقل صاحب مسالك الأبصار في أخبار ملوك الأمصار عن أبي بكر برهان الدين بن الخلال أن في مدينة دلهي بالهند الجامع المشهور المئذنة ، التي ما على بسيط الأرض لها شبيه في سمكها وارتفاعها ، وعلوها ستمائة ذراع في الهواء ، والهند والصين لهما الحضارة

٢٢٩

الغريبة منذ آلاف من السنين. بلغني أن المخابرة تجري بين أعلى الصرح وبين بحيرة تشاد في دواخل الصحراء الكبرى بسودان قارة إفريقية بواسطة التلغراف اللاسلكي في مدة ست ساعات. أما المغرب الأقصى فالحديث معه فيه ، أسهل وأقرب من احتلال أراضيه. لما لأمة فرانسا من البراعة في العلوم والتقدم بين الدول في الفنون ، وكانت سرعة المخابرة بواسطة البناءات الرفيعة معروفة ومستعملة في شمال إفريقيا وسلطنة القيروان.

قرروا أن إبراهيم بن أحمد بن الأغلب لما ولي إفريقية في سنة إحدى وستين ومائتين بنى الحصون والمحارس على ساحل البحر ، حتى كانت توقد النار من مدينة سبتة إلى الإسكندرية فيصل الخبر منها إلى الإسكندرية في ليلة واحدة وبينهما مسيرة أشهر.

والبساتين والرياض في المدينة كثيرة منها شأن زيليزي والتويلري ، والأول غربي بطحاء كونكورد والثاني شرقيها. وبستان مجلس الأعيان وأكثر ما رأيت فيها الصبيان يمرحون بعدا عن المزاحمة بالطرقات وخطرها. والطيور في هاته البساتين تألف المتجولين لإحسانهم لها ، ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا. تراهم يمدونها بالمطعومات فتتلقفها هذه من أيديهم ولا يتعرض لها كبير أو صغير بأدنى أذى :

تسقط الطير حيث تلتقط الح

ب وتغشى منازل الكرماء

وأكبر البساتين ما كان غربي المدينة ويسمى بواد بولونيا. وهو غابة عظمى بها بحيرات وطرقات بعيدة الغاية يقصدها أغنياء باريز في العربات على اختلاف أشكالها وأنواعها ، ومشيا على الأقدام للتجول في رياضها بأكمل زينة وأحسن هندام واستنشاقا للهواء النقي. وأما محلات جلوسهم ومجامعهم ليلا فديار التمثيل ، التي سيأتي الكلام عليها في فصل خاص ، والقهوات الكبرى ، ومن بطحاء اللبيرا وقهوة السلم «كافي لا باي» وشارع الطليان إلى شارع مونمارتر وكافي روايال ، التي هي مجتمع المشارقة ، يستمر التجول والسهر غالب الليل.

٢٣٠

حادثني رجل روسي وظيفه قاضي صلح في بلده ومعه زوجته ، وكان ينزل معنا في أتيل دوفمي في شئون باريز ، وإعجابه بما رأى فيها مما لم يعرفه في مملكته أو غيرها ، وحادثتنا امرأته في عوائد المسلمين رعايا الروسيا من ضرب الحجاب في خارج منازلهن ، وأنهن في راحة كبرى بداخل المنازل ، وسيأتي بسط خبر وسمر هاذين الزوجين عند الكلام على خلق الفرنساويين وخلقهم.

ديار التمثيل والملاهي في باريز

التمثيل يصور التاريخ وينشر الآداب ويحيي اللغة. واستحضار الصورة الغريبة له تأثير في ذوق اللسان العربي وترتاح له النفوس وتوده ، والمسألة التاريخية إذا شكلت على ما يوافق مجاري الأخبار ، ويناسب الأطوار ، استلفتت الأنظار وعلقت بالأفكار ، وكانت ادعى إلى التدبر والاعتبار. ولا أعون على علوق المسائل التاريخية بحافظة طلاب هذا العلم ، وبالأخص تلامذة المكاتب ، غير تمثيل الوقائع التاريخية الصحيحة بأسلوب أبعد عن الهزليات وأرقى عن الوهميات. وإذا وضحت المسائل الكبرى سهل ربط حلقاتها في الفكر وأمكن إلحاق فرع كل موضوع بأصله. اعتنى الأروباويون بديار التمثيل للغاية التي ذكرناها ومحاربة النقائص ونشر الفضائل. وأصل التمثيل عندهم للاحتفالات الدينية في القديم ، وتمثيل القسيسين هيئة القصص الدينية وتقريبها للعقول عيانا كإظهار بعض الصبيان بلباس مخصوص كأنهم ملائكة ، أو بعض أشخاص يوهمون الناظرين أنهم القدماء المذكورون في القصص التي يلقونها في الكنائس ، ثم ترقوا في ذلك لإقبال الناس على المحسوسات حتى مثلوا الجنة والنار وغير ذلك. ثم كتب جان بودال ألعاب صان نيكولا ، وهي تمثل بعض أدوار الحروب الصليبية في القرن ١٢. ثم راجت صناعة التمثيل الديني والفكاهي واعتنى به الكاردينال ريشليو وأسس له جمعية. وفي باريز كثير من هذه الديار ، وكذلك في بلدان المملكة ، وقد قدمنا أن القرى بفرنسا لا تخلو من محل للتمثيل ومكتب ومعبد ومستشفى ودار آثار.

ترددت في باريز على عدة ديار منها ، والمسافرون في كل واد يهيمون ، فولى

٢٣١

بيرجاير : بشارع ريشار مثلوا به ليلة حضوري عدة أساليب من اللباس والغناء والرقص العربي. الأبرا : حضرت التمثيل بقصر الأبرا الشهير وكانت الرواية تسمى «لو أن كرين» بها ثلاثة فصول ، والشعر والألحان من تأليف ريشارد فانيار الألماني ، ترجمه إلى الفرنساوية شارل نويتار. وأصلها حكاية الفارس الأبيض شخصت عام ١٨٥٠ في فالمار بمناسبة احتفال بالشاعر كوت بنجاح باهر بعد أن رفضت في التشخيص وزهد فيها عدة سنوات. وهكذا الأمور في مباديها تنبت على أديم الزهد وتحت أشعة الازدراء ، وليس لنجاحها إلا ماء الثبات وعزيمة الصبر. وعام ١٨٨٧ ـ ١٨٩١ شخصت في فرانسا واحتقرت في أول الأمر وقوبلت بالصفير عند الشروع في العمل ، ثم أعقب ذلك قبول العموم في باريز وغالب مدن أروبا وأمريكا وترجمت إلى كثير من اللغات بصفة خارقة للعادة في الإقبال والولوع بها.

اعتبر المؤلف أن «لو أن كرين» أحد الآلهة «على عادة الأمم السالفة البعيدة عن التعاليم الإلهية الحقة» نزل إلى الأرض في صورة رجل باحث عن امرأة لا تسأله عن اسمه ولا من أي جهة أتى ، غير أنه يلزم أنها تحبه محبة عمياء بلا شرط ولا يريد إظهار مقامه العالي للمرأة حتى تكون المحبة منها غير معللة. كما يريد من جهته أيضا أن يكون محبا ومحبوبا في آن واحد بلا سبب آخر غير الحب. ولبعض أسباب طرأت على المرأة في ملأ من الناس صاحت كأنها مستغيثة فظهر بعض الشيء من ألوهية لو أن كرين فخالج الشك بعض الناس في ألوهيته وحقره قوم وحسده آخرون ، وامتدت هاته الأسحبة على أديم المرسح البشري حتى بلغ ظلها قلب المرأة نفسها فلاحظ لو أن كرين للملأ بأنه لو عرفت المخلوقات حقيقته لعبدته أو على الأقل لم يهن. وبالإخارة أوضح لهم حقيقة أمره ورفع ستار الشك عن تمثيل الحقيقة ، وزالت ظلمات السحب ببرق الكهرباء ففارقهم وطوى بساط أمره ولسان حاله ينشد «الطلاق والانطلاق».

أطلت في شرح هاته الرواية ليعلم أن أوهام الأمم السابقة وخرافاتهم تتجدد قصصها ويلذ سماعها حتى في أدوار الحضارة. كانت الأبيرا مفعمة بالأغنياء والغانيات ، وبها ترى الحلل الفاخرة والمصوغ النفيس على نساء باريز. بنات العائلات الكبرى وزوجات الأغنياء وصاحبات المال والجمال يرفلن في الديباجيات ، وقد

٢٣٢

ظاهرن بين المصبغات التي ينطبق عليها قول الشاعر :

كأذيال خود أقبلت في غلائل

مصبغة والبعض أقصر من بعض

وكما قال الأديب الشريف السيد صالح سويسي في قصيدته التي أرسل لي بها في باريز :

يرفلن في حلل الحرير ترفها

ويمسن كالأغصان في ذاك الحمى

فالجفن ريشت للقلوب نباله

ولكم أصاب مقاتلا مهما رمى

والمرأة في فرانسا هي كل شيء ولها كل شيء ، فالجوهر والحرير والزينة وإن شئت قلت المال للمرأة ، والاحترام للمرأة ، والتقدم للمرأة ، والفؤاد للمرأة ، والمنزل للمرأة ، ونفوذ الكلمة للمرأة. والحرية للمرأة إلخ وبالجملة فمن لم يحضر التمثيل بالأبرا لم يعرف درجة الاعتناء باللهو والانهماك فيه والاحتفال بمجامعه في باريز.

يذكرون أن الموسيقيين هناك من أبرع أرباب الصناعة وكذلك الممثلات ، وفعلا ترى لهن حركات في المرسح غير مألوفة ولا سهلة العمل ، حتى يتخيل لخفة الأجسام وتنوع الحركات والانفتال والجري على أطراف الأصابع وسرعة الدوران أنهن طائرات سابحات في فضاء واسع تمدد أطرافه وتفسح مجالاته ، وتستحضر مناظره الطبيعية سيمياء الستاير الملونة بالأدهان ، وأنامل الرسامين بما أبدعوا فيها من الغابات والجبال والقصور والأنهار والسحب والكواكب. وكلما أجهد الإنسان بصره ليرى ذلك الستار القائم وراء الممثلين إلّا وخدعته عينه وأرته أفقا فسيحا ومنازل كثيرة ، وبساطا أرضيا وسماء وراء الممثلين صناعيا لا فرق بينها وبين الحقيقة. وكلما أتم الممثلات دورا من أعمالهن إلا وارتجت جدران القصر بالتصفيق للاستزادة والإعادة ، فتخرج الممثلة وتضع يدها على فيها ثم تمدها نحو المتفرجين إشعارا بالشكر والاحترام منها ، فطابق هذا التسليم من الجواري ما كان مألوفا منهن عند ملوك الإسلام ، وحاكتها

٢٣٣

الصور التي ورد ذكرها في أثناء الحديث على الساعة التي كانت لملوك تلمسان ، تخرج منها جارية بيمناها كتابة تتضمن اسم الساعة ويسراها على فيها كالمبايعة. والعادات ربما اندثرت بمنابتها الأصلية وتوارثتها الأمم البعيدة. وانظر ما نقله ابن الكردبوس التوزري في تاريخه من سؤال الخليفة المعتمد العباسي المتوفى سنة ٢٧٩ لابن خرداذبه عن الرقص حيث قال له : صف لي أنواع الرقص والصفة المحمودة من الرقاص وشمائلهم ، فقال : يا أمير المؤمنين أهل الأقاليم والبلدان مختلفون في رقصهم ، والرقاص يحتاج إلى أشياء في طباعه وأشياء في خلقته وأشياء في عمله ، فأما ما يحتاج إليه في خلقته فطول العنق والسوالف وحسن الدل والشمايل ، والتمايل في الأعطاف ورقة الخصر والخفة ، وحسن أقسام الحلق والمناطق واستدارة أسافل الثياب ومخارج النفس ، والصبر على طول الغاية ولطافة الإقدام ولين الأصابع وإمكان بنانها في نقلها ، ولين المفاصل والأعطاف وسرعة الانفتال في الدوران. وأما ما يحتاج إليه في عمله فكثرة التصرف في ألوان الرقص وإحكام كل حد من حدوده ، وحسن الاستدارة وثبات القدمين على مدارهما ، واستواء ما يعمل بيمين الرجلين ويسراهما ، حتى يكون ذلك واحدا. ولوضع الأقدام ورفعهما وجهان ، أحدهما أن يوافق بذلك الإيقاع والآخر أن يتباطى به حتى يكاد يموت. فسر المعتمد بذلك وخلع على ابن خرداذبه. تجد كثيرا من ذلك التفصيل ينطبق على ما عند الإفرنج في مراسح التمثيل. وفي القاموس ردت الجارية رفعت رجلا ومشت على أخرى تلعب. أطلنا في هذا الغرض الكلام ، إيفاء بحقوق كل مقام.

والعرب أعيانهم وملوكهم بلغوا حد الغاية في الاعتناء بمجالس الموسيقى ومجالس الأنس في أوقات مخصوصة لترويض النفس وجمع الفكر ، وربما كانت للروح علاقة بالنغمات ، ولأهل التصوف ذوق في هذا الفن والأطباء يستعينون به في المداواة.

وتأثير الألحان محسوس فعال حتى في عجم الحيوانات يطربها ويحثها ، غير أن العكوف على آلات الطرب وألحان الغناء لإضاعة الوقت والسير مع الهوى مما ينافي صفات الرجولية ويذهب بالشهامة. الأروباويون عرفوا قيمة الموسيقى وتأثيرها على النفس مثلما عرفها العرب قبل ذلك ، ولا زالت تآليفهم شاهدة بالاعتناء والإتقان.

وهي التي قلدهم بها غيرهم وصارت للإفرنج أوقات خاصة لها وأماكن معلومة

٢٣٤

لسماعها ، يسود فيها النظام وينتشر الأدب. وأرباب الموسيقى وأصحاب الآلات ضبطوا أعمالهم ورتبوا أدوارهم وحرروا كتابات في الألحان التي تجري في مجالسهم ، وبينوا ما يبدأ به منها وما يختم به عند اجتماعهم. فيكون السامع عالما بسائر أدوار الموسيقى في ذلك المجلس. وبعض الأمم لا زالت مجالسها غير معلومة الموضوع ولا مرتبة بها جزئيات الأعمال بل ربما كانت الألحان غير منضبطة وزنا ، والأقوال غير مفهمة معنى. و [مولاروج] حضرت التمثيل بها وهي في بولفار دو كليشي ، وأكثر من يحضرها الغرباء والأجانب عن المدينة ، وكان الكراس الذي به برنامج التمثيل يشتمل على مجموعة أخبار وحوادث جديدة ملتقطة من عدة جهات ، وبالأخص باريس ، وغالبها فيما يتعلق بالسياسة والحب ومحلات التمثيل وهذا الموضوع يسمى عندهم روفو.

وهو تمثيل انتقادي للحوادث الجديد ، ومن لوازمه في التمثيل أن تكون امرأة قائمة عند رفع الستار على هيئة ربة المنزل ، ورجل يسألها كالمستخبر الأجنبي عما في المنزل فتجيبه المرأة إجمالا بما سيمثل كالمخبرة عما عندها ، وتسمى المرأة «لاكوماير» أي هدرة ، والرجل لوكانباير أي محتال. ومن جملة ما فيه : خدمتنا المستقيمون ، المرأة المغرومة بالرياضة ، العشق يجذب العالم ، الليلة الأخيرة في القهوة الأنكليزية «كافي أنكلي» وهي مشهورة في أيام نابليون بباريس. وزارها كثير من أعيان الرجال من عدة ممالك ، وهدمت أخيرا توسعة للطريق العام.

ليونابارك

من المنتزهات الليلية في باريس ، وهي بستان فسيح في نهج لاكراند أرمي بين المدينة وغابة بواد بولونيا. أطلعنا على ما بها النبيه المهذب السيد الهادي بن عمار ، وكان له بها دكان به العطورات والتحف التونسية بشركة آنسة فرانساوية لها ولع بالمصنوعات التونسية وبضائعها والإقامة والتعمير في ترابها. وقد أحسن ملاقاتنا وعرض علينا الإعانة منه على ما عسى أن نحتاجه له بباريس ، فجازاه الله خيرا.

والتونسي يزين وطنه متى رحل إلى الممالك البعيدة. بهذا البستان أراجيح وألعاب

٢٣٥

ولو كانت عندنا لعبرنا عنها بالقصبة في الأعياد ، غير أن النساء بها أكثر من الرجال ، وهكذا الحال. في :

مجكسيتي

الكائنة في رصيف دورسي وغير بعيدة من ليونابارك في المكان والأعمال ، إلّا أن هذه أكثر قاصدا وأغرب بأنواع الألعاب ، ومن غرائبها أن دخول الرجال بمعلوم معين والنسوة فيها يدخلن مجانا. وقد تقدم أن المرأة في فرانسا هي كل شيء ولها كل شيء. في أقسام التفرج بالمجيكسيتي طائفة من سودان الصومال يضربون بطبولهم ويصيحون بجعجعتهم ، وبأيديهم الرماح وغالب أجسادهم عارية ، حشروا منهم صبية يقرؤون القرآن ورجالا يحترفون على أساليب البساطة والهمجية في الحديد والجلود والنسج. وقد عرضوا شيئا من بضائع تجارتهم كالخناجر والسبح والحروز. كلمني منهم بعض رجالهم ونسائهم بمفردات قليلة من العربية ، وبعض صبيتهم يطلبون المتفرجين بحالة تسيل دموع الإنسان على أخيه الإنسان عبرة ، لحكمة الخالق وشفقة على ضياع حياة هذا النوع سدى ، ملحقا بقسم الحيوانات التي رأيناها تعرض في قسم من هذا السوق الليلي. فقد رأيت أسدا ولبؤة في قفص من حديد بصدر بيت يسخرهما رجل معهما في القفص واحدا بعد آخر بعصا في يده اليمنى ، يحركها فيصعدان على التناوب من مكان منخفض إلى آخر مرتفع. وفي بعض الأحيان يغضب الأسد ويروم الهجوم على الرجل فيسالمه الرجل ويتركه حتى يذهب غضبه ثم يعاوده بالإرهاب. ومتى عاد الغضب للأسد قابله الرجل بالرمح الشايك فيخشأ. فكرت والأسدان والرجل في نزاع سياسي وقلت ، هذان قويان غلبهما ضعيف والمعروف ضعيفان يغلبان قويا وهل الإنسان ضعيف؟ نعم. أو هو قوي؟ نعم! بالنظر لبدنه العاري من أصل الخلقة عما يستره ويقيه من الحر والبرد مجردا من أدوات الدفاع من ناب ومخلب ، محتاجا إلى الغذاء في اليوم الواحد عدد مرات ، عاجزا عن تحمل المشي المستمر بضع أيام ، قاصرا في سرعة العدو عن السباع والطيور وكثير من أنواع الحيوانات. حياته موقوفة في هذا العالم على أشياء كثيرة كالثياب والسلاح والطعام

٢٣٦

والركوب للسفر والهروب ، تجده ضعيفا جدا والحيوانات العجم أقوى منه وأغنى بما أمدها الله تعالى به من الأصواف والأوبار والأشعار ، مع بسطة في قوة الأجسام وسرعة الجري والطيران ، صبورة على الجوع والعطش وطويل السير ، ولو لا أن ذللها الله للبشر وأمده بسلطان العقل الذي استولى به على عوالم الكون لما كان له في أنواع الحيوان مطمع ولا منها نجاة.

كما أن الإنسان قوي بالعقل الذي ميزه به الخالق ، فدبر به شئونه الخاصة فاكتسى وتغذى ، ودون الوصول إلى هاذين الأصلين أعمال كثيرة وأدوار متعددة وفروع متشعبة. ثم اتخذ آلات الدفاع والتسلط وذلل الحيوان فامتطى غواربه ركوبا وزينة واستطاب أكل لحومه بالتربية والقنص ، واستخدم الطير مغنيا ورسولا ، فهذه حالة الإنسان مع ما سواه وكيف أمكنه بالعقل الانتفاع من الحيوان والتوقي منه. وأما مع بني جنسه فالخالق تفضل عليه بنعمة كبرى وهي النطق ، فخاطبهم بما يكنه ضميره وما يلوح للعقل تدبيره ، ولو لا ذلك لما نتجت مصالح الاجتماع التي لا تتأتى للأفراد ولبات كل واحد وشأنه هو في واد ، وغيره في واد ، فتفوت استفادة الناس من بعضهم وما يجمعون على نيله من غيرهم. ويتبين لك ضعف الإنسان بدون لسان حتى في الأشياء البسيطة المحسوسة بالعيان من قضية تبلبل الألسنة عند إشادة برج بابل لحكمة أرادها الله ، فقد حال عدم التفاهم دون إنجاز المشروع. لذلك كانت وحدة اللغة في الأمم جامعة متينة وهذا برهانها. ومعنى قولهم الآن في اختلاف الآراء افتراق الكلمة ينطبق حتى على الاختلاف في اللغة بمعنى الكلمة. فالإنسان بلسانه الذي جعله كجزء من أفراد بني جنسه قوي بذلك الجموع البشري ، الذي هو كالبنيان المرصوص والحصن المتين يشد بعضه بعضا. فما أحسن جامعة الإنسان وما أحصنها ، وما أسعد الإنسان بعقله ولسانه متى استعملها فيما خلقا لأجله ، وما أكبر نعمة الله عليه بهما. وهو بدون تدبير العقل لا يكون في أمن ولا راحة من نوائب الدهر وغائلات العوالم والطبيعة معا ، وبدون مفاهمات اللسان ليست له جامعة ولا ينتج من وجوده في الكون فائدة. فبالتعقل والتدبر حصل الإنسان المزايا الخاصة لبعض الحيوانات وغالب الطبيعة وأبرز أسرار الكائنات. اخترع الكهرباء فاستعاض بنورها عن الشمس وبحرارتها عن النار وبقوتها على البخار ، فجرى بها في بيت

٢٣٧

جلوسه سابحا في البسائط ومتسلقا للجبال التي مهدها وصيرها طرقا لمجالات لهوه على متونها العالية وذراها الشاهقة ، وسابق أسرع حيوانات الهضاب والشعاب ، وامتزج بحيوانات الجبال والغاب ، وسبح تحت ماء البحار في غطاسات الأساطيل واختلط بالحيتان وطار في الهوى كما شاء. فما أقدر الإنسان على التقليد وما أشد طموحه للجديد. ونور العقل هو الوحيد في تمكينه من اختراع ما يشاء وتذليل ما يريد. وبدون استثمار العقل ونتائج العلم ومحمود الخصال ، يلحق بقسم الحيوانات أو بسودان الصومال. كان الإنسان يدافع الأسد بقوة البدن ومتانة السلاح وثبات الجأش. وبشر يقول : أفاطم لو شهدت ببطن خبت ، وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا. إذا لرأيت ليثا لاقى ليثا إلخ. واليوم ذلك السلطان المتسبع يرى خاضعا لسلطة تدبير الإنسان ، يأمره فيفعل ويهينه فيصمت. كل ذلك بضروب السياسة الجديدة التي تملك بلا حرب وتسوق بلا ضرب. والسياسة الحكيمة كالجمال لها سلطة على النفوس تستهويها وتنومها ، حتى يتصرف الآمر في المأمور ويكون أطوع له من البنان وأعلق به من الظل. على هاته الحالة رأيت الأسد في بستان المجكستي يلاعبه رجل أو يهارشه أو يعذبه ، قل كما شئت على حسب حالات الناظر أو الرجل أو الأسد.

وابن آدم له ولع بربط السباع ومشاهدتها ومصارعتها ، فقد كان المعز بن باديس في النصف الأول من القرن الخامس هجريا يقودها خارج القيروان فيبرز لمشاهدتها غالب السكان. خرج يوما إلى ظاهر المدينة وأخرجت السباع بين يديه ، فأفلت منها سبع فانهزم الناس أمامه ووقع بعضهم على بعض ، فمات منهم نحو المائتين ، ووثب السبع على رجل من كتاب باب الغنم يدعى بالكرامي فقتله.

والبطايح كثيرة في مدينة باريز التي شبهناها فيما سلف بمدينة بابل وما وصفوها به من حسن التقسيم والتنسيق. وكنت أستحسن منظر بطحاء اللوبيرا واجتماع الطرقات الكثيرة عند ما تمر فيها أجناس البشر وأنواع العربات. وفي وسط البطحاء نقطة يغيب عن الأبصار فيها الماشون ، ويظهر منها أحيانا وفجأة أشخاص آخرون.

وهو أمر غير مألوف ، وسببه عندنا غير معروف. وأما في باريز فيصعد وينزل بمثل ذلك المركز إلى محطات سكة الحديد التي تحت الأرض وهي من أهم وسايط النقل ٤.

الميتروبوليتان : قطار يسير في الأنفاق تحت الأرض بقوة الكهرباء إلى سائر حارات

٢٣٨

المدينة ويمر تحت نهر الساين بغاية السرعة وأرخص سعر. ففي الدرجة الأولى بصانتيمات ٢٥ خمسة وعشرين وفي الثانية بخمسة عشر فقط إلى أي جهة قصدت وأبعد نقطة أردت. والعربات ودهاليز السير مضاءة بالكهرباء ونظيفة ولا يشق على الراكب فيها إلّا ثقل الهواء وظهور آثار الندى ، إلا أن سرعة السير وقصر الإقامة في هاته الأنفاق ، وما يلقى فيها من مواد تطهير الهواء تسلي الركاب. والأمر الوحيد الذي يحملهم على تجشم السفر في قبور الحياة والانحجاب عن مشاهدة شوارع باريز هو توفير المال ، وأكثر ركابه نساء ولعلهن خادمات. ومن الغريب أن أكثر من بالكنائس أو في الشوارع الكبرى أو بساتين النزهة أو مراسح التمثيل أو مخازن التجارة نسوة ، فبالمعارف والتمرين ، وإطلاق العنان ترجلت المرأة عندهم وشاركت حتى في أنواع الأعمال الخارجة عن وظيفتها ، وكأنما هذا الامتزاج في عصر الحضارة تجديد لعصور اختلاط الجنسين على عهد آدم وذريته في القرون الأولى ومبدأ ظهور الإنسان. أو أن هاته الأكثرية غير حقيقية وإنما تظهر كذلك في عين الشرقي فقط لعدم تعوده برؤية جيوش من النساء. وإن كانت النسوة في الواقع أكثر من الرجال حسبما يستفاد ذلك من الإحصائيات العامة ، فانظر إلى إحصائية سكان القيروان مثلا تجد عدد الرجال ٨٥٥٧ ـ والنساء ٨٨٥٨ ـ كما سيأتي في الكلام على خلق الفرنساويين وعوائدهم.

وأدوات النقل في مدينة باريز كثيرة ومنوعة ، من عربات تسيرها النار على السكك الحديدية وأخرى تذهب حيث شاءت ، وهاته منها ما يسمى أمنيبوس وما يسمى أوتوبوس ، وبعض آخر هو الأتوموبيل أسرع سيرا وأغلى سعرا وأكثر خطرا ، تموج به شوارع المدينة التي يمكن أن يطلق عليها بسببها طرقات النمل. والكراريس عندهم يقودها فرس واحد بطيء السير ولكن نعم السير على ... والأجر بحسب الوقت تحرره ساعة بقرب مصباح العربة تعمر عند الركوب ، فبعد نحو عشر دقائق ترقم خمسة وسبعين صانتيما ، وبعد ذلك ترقم بالعشرة صانتيمات ، والوقف في أثناء الطريق حسب أوامر البوليس ليمر السالكون في الطرقات المقاطعة تحسب مدته على الراكب ، والعربجي كثيرا ما يأخذ طريقا بعيدة أو غاصة بالمارين لتوفير الأجر.

وأصحاب العربات سواء في صنيعهم مع الركاب بساير الأقطار. وللعربات رايات

٢٣٩

صغرى متصلة بساعات حساب السير ، يدار رمحها إلى أسفل عند الركوب أو المقاولة على الكراء ، علامة على أن العربة غير معدة للكراء ، ومتى كانت الراية المثلثة قايمة الرمح فالعربات يمكن الركوب فيها بالكراء المعين ولو بصفة الجبر للسايق ـ رأيت قبل مبارحة باريز وفي اليوم الأخير بها وهو يوم السبت ٢٨ من جوان جميع الطرقات خالية من نمل العربات ، فكان منظر المدينة هاديا والماشي على قدميه يسلك الشوارع آمنا مطمئنا. ويقول الذين اعتادوا بدبيب النمل أن منظر باريز صار موحشا لما امتنع أرباب العربات الخيلية والكهربائية من العمل. وما اعتاده البشر يشق عليه مفارقته ولو كان سيئا. في صبيحة اعتصاب أرباب العربات بباريز بحثت عن عربة فلم أجد واحدة للكراء ، ومرت بعض عربات خصوصية ليست عليها علامات الاستعداد للكراء فسألت البوليس فأعلمني بالاعتصاب ، فتمنيت دوامه لإراح الماشين من ذلك الجراد المنتشر. وما جاء المساء حتى رجعت عن رأيي حيث كانت لي عدة حاجات في أطراف المدينة لم أتمكن لفقد العربات من قضاء جميعها في ذلك اليوم الأخير لي بباريز. وفي الليل بلغنا انحلال الاعتصاب الذي كان سببه ضغط البوليس عليهم في مصالح المدينة والركاب. تقدم ما قررناه في وسايط النقل تحت الأرض وعلى أديمها وكذلك السير تحت الماء في الكلام على البحر ـ والقسم الرابع وهو الطيران في الهواء قد بلغ إليه البشر أخيرا بعد ما فكر فيه قديما. فأبو القاسم عباس بن فرناس حكيم الأندلس احتال في تطيير جثمانه وكسى نفسه الريش ، ومد له جناحين فطار في الجو مساحة بعيدة ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه فتأذى في مؤخره.

عاينت الطيارات سابحة في جو باريز وقد مضت في عهد ظهورها عندهم في عام ١٧٨٣ إلى الآن مائة وثلاثون سنة. استفسرني عن مشاهدة الطيارات بعض الأعيان بباريز ونحن في منزل السيد كابار فأعلمته بإعجابي به ومشاهدته في جو باريز ، فقال على وجه المداعبة لعلكم تقولون متى عاينتموه أنه أو فاعله شيطان؟ فأجبته بأن اختراع الطيران قديم في الأندلس ولا نستغرب مشاهدته الآن حيث وصل لنا طرف من حضارة أروبا ومخترعاتها بواسطة دولتكم ، والطيارات سابحة عندنا الآن في جو المملكة التونسية. وكلمة شيطان متى قيلت لا يراد منها في مجاري الحديث إلّا النباهة وكمال المقدرة وإلحاق بعض بني البشر بالتشبيه البليغ بجنس عرف له التأثير

٢٤٠