البرنس في باريس

محمّد المقداد الورتتاني

البرنس في باريس

المؤلف:

محمّد المقداد الورتتاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-605-5
الصفحات: ٣٩٥

الأندلسي ممتزجا بالخط المغربي ذهب الاعتناء «على ما يظهر من تصفح كتب العلوم» بإتقان الخط بصفة عامة. والخصيصيون في كل عصر بجودة الخط لا كلام عليهم.

والخطوط كاللغات واللبوس ، لكل قطر طريقة خاصة به في رسم القلم ونطق اللسان وزي اللباس ، ولها أدوار في الرقي وأطوار في الانحطاط. ومن أمعن النظر وجد من الفرق أيضا بين الأفراد ما يعرف به حديث زيد من حديث عمرو من وراء حجاب ، ويعلم أيهما على بعد من سحنة اللباس ، ويميز بين خطيهما من غير كثير اشتباه. قال ابن خلدون ما مضمونه : لما جاء الملك للعرب واحتاجت الدولة إلى الكتابة استعملوا الخط وتعلموه فترقت الإجادة فيه وبلغ في الكوفة والبصرة رتبة من الإتقان ، إلا أنها كانت دون الغاية ، والخط الكوفي معروف الرسم لهذا العهد. وكان الخط البغدادي معروف الرسم وتبعه الإفريقي المعروف رسمه القديم لهذا العهد ، ويقرب من أوضاع الخط المشرقي وتحيز ملك الأندلس بالأمويين فتميز صنف خطهم الأندلسي كما هو معروف الرسم لهذا العهد ، ولما انتشروا في عدوة المغرب وإفريقية من لدن الدولة اللمتونية وتعلقوا بأذيال الدولة غلب خطهم على الخط الإفريقي وعفا عليه ، ونسي خط القيروان والمهدية بنسيان عوائدهما وصنائعهما ، وصارت خطوط أهل إفريقية كلها على الرسم الأندلسي بتونس. ثم صارت الخطوط بإفريقية والمغربين مائلة إلى الرداءة بعيدة عن الجودة ، وصارت الكتب إذا انتسخت فلا فائدة تحصل لمتصفحها منها إلّا العناء والمشقة لكثرة ما يقع فيها من الفساد والتصحيف وتغيير الأشكال الخطية عن الجودة حتى لا تكاد تقرأ إلّا بعد عسر.

قلت : أما الخط الإفريقي فهو بلا شك مثل خط المعز بن باديس في أواسط القرن الخامس الذي تكلمنا عليه في المقدمة بدور التغلب والاستيلاء وهو يشبه المشرقي ، وذلك الزمن هو الذي ضجت فيه بالقيروان العلوم والصنائع التي منها الخط كما كان بالقيروان في ذلك العهد الخط المشرقي والخط الكوفي حسبما ذلك على ظاهر مصحف حاضنة باديس عام ٤١٠ ، وخط النسخ لكتب العلوم ، وهذا أقوى برهان على غاية رقي العمران. ومنتهى جودة الصناعة بالقيروان. أما في عصر الأغالبة بالقرن الثالث قبل الصنهاجيين والعبيديين فالخط النسخي الإفريقي غير القيرواني الذي منه خط المعز في القرن الخامس على معنى أن السابق أبسط ، شأن الترقي والإتقان في

٢٠١

الصناعات ، يتبين لك ذلك مما على ظاهر مصحف مؤرخ بأواخر القرن الثالث كتبت بخطها تحبيسه فضل مولاة أبي أيوب عام ٢٩٥ ـ ومنه أجزاء بالمكتبة العتيقة من جامع القيروان.

وللقيرواني : سئل بعض الكتاب عن الخط متى يوصف بالجودة قال : إذا اعتدلت أقسامه وطالت ألفه ولامه. واستقامت سطوره ، وضاهى صعوده حدوره ، وتفتحت عيونه ، ولم تشتبه راؤه ونونه ، وأشرق قرطاسه ، وأظلمت أنقاسه ، ولم تختلف أجناسه ، وأسرع إلى العيون تصوره ، وإلى العقول تثمره ، وقدرت فصوله ، واندمجت أصوله ، وتناسب دقيقه وجليله ، وخرج من نمط الوراقين ، وبعد عن تصنع المحبرين ، وقام لصاحبه مقام النسبة والحلية.

قلت والآن صار للخط التونسي طريقة خاصة تجيدها أنامل بعض الكتاب وتحكم أشكالها الجميلة ، وبالقيروان شهرة لخط الموثق صديقنا الفاضل السيد الحاج علي بن عبيد الغرياني. ولعدة عائلات بالقيروان أساليب حسنة في الخط تتوارثها الأبناء من الآباء ، وتتميز طريقة كل عائلة عما سواها ، يرجع الخبير المتأمل بكل نوع منها إلى مصادره. ولبعض الناس براعة في معرفة خط كل كاتب ممن سبقت له مشاهدة خطوطهم لحسن الحافظة وجودة التأمل.

وأعرف من بعض النبهاء بالقيروان فراسة يستجلي بها صفات الكتاب ويتوسم في أخلاقهم وطباعهم بمجرد النظر في خطوطهم فقط وبدون سابقية علم بأحوالهم ولا رؤية ذواتهم. واستحكمت منه هاته الخصيصية حتى تساوت في نظر فراسته الخطوط العربية والفرنساوية الي برز في لغتها. والعرب من قديم «والقيروان عربية التأسيس والسكان» لهم نباهة في الفراسة والقيافة والعيافة ، ينقلون عنهم فيها أخبارا غريبة ونوادر عجيبة. والدهر لم يبخل على القيروان بالنابغين في عموم الأجيال مثلما لم يشح نبغاء هاته البلدة على المملكة بجلائل الأعمال.

وممن لهم جودة النظر في تتبع الأثر بعمل القيروان السيد بلقاسم الشريف يلجأ إليه عند الحاجة فيقتفي أثر الحيوان مسافات بعيدة حتى يتجلى الأمر فيه. وفي عرش أولاد يدير جنوب القيروان محمد بن صالح الذويبي ، له نظر حاد في رؤية ما تحت الأرض من آبار للأول ، وهي كثيرة في القطر من عمران من قبلنا الذين أثاروا الأرض

٢٠٢

وعمروها أكثر من عمراننا ، يستأجر على تعيين مواقع تلك الآبار فتوجد تحت طبقات من الأرض على حسب ما قال ، وهي رحمة كبرى ومنفعة عظمى وفرصة ثمينة في صاحب هاته الخصيصة لاستنباط المياه المحتاج لها القطر في غالب الجهات.

يجول بخاطري كلما كررت الزيارة لهاته المكتبة المفعمة بكنوز العلوم ونفائس الخطوط ما كان ببغداد من الكتب التي ابتلعتها الدجلة بالقرن السابع على يد التتار.

ومن أشد أعداء الكتب الماء والنار ، فمكتبة الإسكندرية قبلها التي حدثوا عنها قد أفناها الحريق بالتمام ولكن على غير يد الإسلام. وما كان بمكتبة المستنصر الأموي ابن الملك الناصر صاحب قرطبة بالأندلس ٣٥٠ ـ ٣٠٦ من المؤلفات والكتب الخطية التي بلغت إلى نحو أربعمائة ألف. وما بمكتبة يوسف بن عبد المومن بن علي بمراكش ٥٥٨ ـ ٥٨٠ ، وقد بلغت ثروتها إلى مساواة مكتبة المستنصر بقرطبة ، وما بمكتبة الحاكم بأمر الله بمصر في أواخر القرن الرابع وهي المسماة دار الحكمة «والمكتبة الخديوية الآن قامت مقامها». وما بمكتبة القيروان التي لا زالت منها بقية من الصحف تنبئ أنواع خطوطها وتواريخها وأصناف ما كتبت عليه من الرق والكاغد عما كان لها من الأهمية في بحر قرنيز تقريبا أي من أواسط الثالث إلى أواسط الخامس في منتهى قوة وحضارة دول ثلاث وهي الأغالبة والعبيديون والصنهاجيون بسلطنة شمال إفريقية العظمى وعاصمة القيروان المحترمة.

وقد أشار جناب المسيو روا الكاتب العام بالدولة التونسية محب العلم وأهله بحفظها وتحرير برنامج لها ، فاجتمع في بيت الحكمة بالقيروان بفضل هذا الرجل العظيم شيخ الحكمة وأستاذ التشريع بعض رفاة من المخطوطات ، وعادلها ذكر في الحياة. ابتدئ في العمل بذلك الإذن فوق عشرة أعوام سابقة وتم جانب له بال بإعانة الفرد الإمام العلامة الشيخ سيدي محمد صدام كبير أهل الشورى بالقيروان. وأنجز العبد كثيرا بعد ذلك من ضم صحف كل علم إلى نظائرها وجمع ما كان مفرقا في عدة أماكن من الجامع وبيوت المؤذنين. وكثيرا ما ألحقت وألحق الشيخ الإمام المذكور إلى تلك المكتبة ما يعثر عليه في بعض التركات من الصحف العتيقة لأن القيروان مدينة علم ولا تخلو بعض ديارها من المخطوطات الأثرية.

أما مكتبة تونس فقال التجاني : لما ولي الواثق استدعى الحسن بن موسى الهواري

٢٠٣

في يوم السبت التاسع عشر لذي الحجة من سنة خمس وسبعين «أي وستمائة» وأمره بالنظر في خزانة الكتب ، وسئل عنها حين كانت لنظره أولا فذكر أنها كانت ثلاثين ألف سفر وأنه الآن اختبرها فوجدها تقصر عن ستة آلاف سفر. فسئل عن موجب ذلك فقال المطر وأيدي البشر. وأبو فارس عبد العزيز الحفصي سنة ٧٩٦ ـ ٨٣٧ من حسناته خزانة الكتب بجامع الزيتونة التي نوه المؤرخون بها. وخزانة الكتب بالمقصورة الشرقية من جامع الزيتونة كانت من عهد عثمان الحفصي سنة ٨٣٩ ـ ٨٩٢ ، والعبدلية أسسها محمد الحسن أبو عبد الله ابن محمد المسعود بن عثمان سنة ٨٩٩ ـ ٩٣٢ وهي المقصورة التي بصحن الجنايز ، ووقف بها كتبا في فنون شتى.

اللوفر

قصر عظيم شامخ رحب البيوت له طبقات شاهقة وفسيحة بني على عهد فرانسوا الأول في سنة ١٥٢٢ وفيه حسبما نقلوا وضع أحسن ما أمكن جمعه من الصور والتماثيل وتحف الصنايع المعروفة في الدنيا.

ولا زالت الدولة تنظر إليه بعين الاعتناء والأمم بالاعتبار. دخلته فرأيت به أنواع المصنوعات العتيقة لسائر الأمم ومن جميع الأقطار والقارات ، من صور حجرية وجثث بشرية ومنقوشات أثرية وإطارات دهنية بتقاسيم يختص بها كل نوع مع أمثاله وكل صنف مضموم لنظائره. فالجدران المعلقات الدهنية ترى

مغشاة مزركشة بأنواع وألوان وأشكال وغرائب بالصور الممثلة للحقيقة والخيال ، على تعدد أصناف الاجتماعات والأفراد من البشر والحيوان والغابات والجبال والبساتين والبحار وسائر أحوال الإنسان في الأفراح والصيد ومجالس الملوك وأسواق الغرام يقضي الناظر في ذلك أياما لو تتبع جميع ما هنالك. ترى الوفود المكتظة بهم البيوت الطويلة العريضة كأنما على رؤوسهم الطير لا يعرفون أين يضعون أقدامهم ولا من يمشي أمامهم أو وراءهم. ملكت هواهم صور الجدران ، وشدت بأهداب إليها الأجفان ، لما أن هاتيك الرسوم الأنيقة ، تكاد أن تضاهي الحقيقة. ففي ذلك المكان كما قال بعض الأدباء : حدائق لم تنبت في التراب ، ولا جادتها أيدي السحاب ، وتصاوير تحرك العارف بسكونها ، وتفتن الألباب

٢٠٤

بحمرة خدودها وسواد عيونها. ويوجد مصورون بالدهن يقلدون أمثلة من تلك وأكثر ما رأيته ينقلونه متعلقات الحب. شاهدت صورة دهنية دعتني للإعجاب ، ومنعتني من الذهاب. واستوقفتني للتأمل من حسن الرسم وبلاغة الرمز ، وهي امرأة قامت بين عسكرين قد فوق كل منهما سلاحه للآخر وأراش سهامه وجاء مهاجما بعدته وعديده ، تراها ترد أحدهما بيدها اليمنى والآخر باليسرى وقد انضمت لها نسوة تطارحن حواليها على أقدام الأبطال من الجهتين وصبيتهن في أحضانهن وبين أيديهن ، ومن خلفهن كالمستشفعات في حقن الدماء على هيئة تدعو كل من يراها إلى قبول شفاعتهن ولو كانت في جميع الدنيا وما فيها. ومكتوب تحتها اسم المصور الشهير دافيد ١٧٤٨ ـ ١٨٣٥ ، الرومان والصابين. وقصتها أن الذين أسسوا رومة في القرن الثامن قبل المسيح كانوا عصابة غارات لا نساء لهم فاغتصبوا بنات المجاورين من الصابين فأراد هؤلاء حربهم لافتكاك النسوة وقابلهم الآخرون بمثل ذلك فتوقفت النسوة للوقوف بين الأمتين ، حيث أولئك آباؤهن وهؤلاء بعولتهن فكن سببا في حقن الدماء بمثل قولهن : إن كنتم تريدون الدفاع على الشرف فنحن ذوات أزواج ، وإن أردتم افتكاك زوجات فهذا ضد السداد. ولذلك قلت في الكام على مجلس الأمة من اللائق وضع مثل هاته الصورة بقصر السلم في لاهاي عاصمة هولاندة. ويوجد قسم للمصوغ النفيس والحجارة الكريمة يحيط به سياج ، والحارس يرصدها ويعرضها من داخل والمتفرجون من خارجه. ومن بين ذلك سيف قبضته مرصعة بكريم الحجارة البيضاء. ومنقالة وتاج نفيس بالحجارة الملونة صفراء وبيضاء وخضراء. وفيل وعقد منظم من ثلاثة أسلاك. وصورة طائر. وأكثر ما راق في نظري قصر تظهر غرفه وبها الآدميون مرصع الرواشن بنفائس اليواقيت وبدائع ألوانها. كانت باللوفر صورة شهيرة ذات اعتبار فني وقيمة باهظة سرقت في العام الفارط وفي زمن رحلتي لباريز كانت في غيابات الخفاء. وهاته الصورة الدهنية هي مادوناليزا أو موناليزا اسم امرأة تزوجها دال جوكوندو في عام ١٤٩٥ ومات سنة ١٥٢٨ ، وهي من نابلي من عائلة شريفة فقيرة وتزوج بها المذكور وهو في فلورانسا نائبا على الجمهورية. وهي ثالثة زوجاته وكان عمره نحوا من خمسة وأربعين سنة. وفي سنة ١٥٠٢ أخذ ليوناردو فانسي يصورها في بستان لطيف يأذن فيه بضرب الموسيقى زمن التصوير حتى تكون على الصورة ملامح

٢٠٥

البشر والسرور. وكان عمره إذ ذاك نحوا من خمسين عاما وعمرها نحوا من ثلاثين سنة. وقبيل تمام الصورة التي أدام العمل فيها أربع سنين عرض لهما سفر كان هو الافتراق النهائي. وفي آخر أيام الاجتماع قبل يدها عند الوداع. فتعطفت هي أيضا عليه بما يشبه ذلك. وبعد افتراقهما على نية الاجتماع بشهرين ماتت ، وكأن لسان حال ليوناردو ينشد قول الشاعر :

لو كنت أعلم أن آخر عهدكم

يوم الوداع فعلت ما لم أفعل

وعند ما اطلع فرانسوا الأول على تلك الصورة أعجبته ورغب في شرائها منه بعشرين ألف فرنك ، ولما لم يوافق مصورها على فراق صورة اتخذها رفيقة لآخر عمره وجوهرة بعقد صدره ، سلم له الملك المال وأبقى له الصورة ، وبعد وفاته ترجع للملك.

ولما توفي سنة ١٥١٩ كانت نظراته الأخيرة عند الاحتضار إلى محيا صورة موناليزا.

قالوا في ملامح تبسمها معان مبهمة. وفي المعنى المراد من هيئتها يحار الناظر.

وجدت الحديث على ضياعها من متحف اللوفر مستفيضا ، والأسف شديدا من فقدها بين جدران ذلك القصر الغني المقام كالتاج على رأس باريز ، تناطح به شامخ العواصم وقد أضحى أغنى قصور الآثار ومصنوعات الأمم ورموز الرسامين وإبداع المصورين. وصورة لاجوكوند بمثابة يتيمة الجواهر وواسطة العقد لم يسد فراغها ولم تقم مقامها مئات من الصور الحافلة بها جدران قصر اللوفر على اتساع بيوته وبعد ساحاتها ومجالات عرصاتها. وكأنها بمنزلة الشمس بين الكواكب في عالم الصور بقصر اللوفر. لذلك يقدرون تلك الصورة الغريبة في هيئتها ، الثمينة في تاريخها ، المحبوبة بين عشاق الصور المتقنة وأهل الغرام بالغريب منها ، بعدة ملاين. وما ظن السامع بأستاذ في علوم الرياضة وفي الهندسة والنقش والتصوير والموسيقى ملكت جوهر قلبه ونور خاطره وأقلام أنامله فتاة ذات دلال تجلت له وهي في سن الشباب وهو في الشيخوخة يحسب أن ليس سواها في العالم فانبرت أقلامه ترسم مثالا ملونا يشاكل ما تقدر به تلك الذات في عين المحب وفي الدرجة التي يرضاها الضمير. إلا أنه كلما أعملت الأنامل جهدها في الوصول إلى الغاية المطلوبة وتشكيل المثال في

٢٠٦

أكمل الأحوال كان العجز رائدها والقصور دون المراد غايتها. حيث جمال الصورة في الخيال ، لا يمكن أن تعبر عنه الألسن ولا تبرزه صناعة الأيدي بحال. فكلما رسم هذا المتيم البارع صورة وعرضها على الذات التي في خياله أو على ذات جوكوندا تبدى له الفرق بينا والبون ما بينهما بعيدا. فيعمد إلى إجهاد نفسه وإفراغ حواسه في إتقان المثال ، وتعويض بعض الألوان وتحوير الأشكال ، ولكن بلاجدوى مدة أربعة أعوام وهو ما بين التفكر في صورة الخيال ومجاز المثال. فيرجع إلى إجالة النظر في ذات جوكوندا فتتزاحم لديه صور ثلاث من صنع الله ، واختراع النفس ، وريشة الدهن. فيحار ويتضاءل عمله بين يدي صنع الخلاق المختار وهذا غاية ما سمع في إجهاد النفس وتوقيف أعمالها على خدمة المحبوب وصرف النظر والفكر عمن سواه.

وكأنه يتمثل بشعر إبراهيم بن علي الحصري القيرواني :

إني أحبك حبا ليس يبلغه همي

ولا ينتهي فهمي إلى صفته

أقصى نهاية علمي فيه معرفتي

بالعجز مني عن إدراك معرفته

فلا عجب إذا قدرت النفوس منزلة هذا المصور المفتون الذي رق طبعه وخفت روحه وصفا فكره بالعلوم الرياضية ، حتى إذا فتح عينه وهي مرآة التصوير على ذات تلك الفتاة في بعض الأوقات وكان قلبه مغلقا عما سوى الولع بالعلوم انطبعت تلك الصورة جبرا في مرآة قلبه ، وكلما حاول غسلها بالتفكر فيما سواها إلّا وازدادت ارتساما فلم يجد بدا من أخذ مثال من مرآة القلب لتراها العيون الباصرة فتعذره.

والعذر لهم متى كانت نظرات الفتاة في الصورة غير مفهومة وتحملت معاني كثيرة ، وكانت ملامح تبسمها مبهمة وداعية للتفكر في المراد ، فلعل هذا المحب كلما خطرت بباله هيئة الإقبال ونظرات المفاجأة بالزيارة وبوارق البشرى من الثغر رسمها كما هي ، ثم تأتي بخياله صورة ضحك المداعبة وملامح هيئة المحادثة فتنشر أنامله ثوبا رقيقا من ذلك على الذات ، ثم تمر صورة تبسم إعجابها بإقدامه على محاكاة ذاتها بفعل يمينه فيرسم مسحة من ذلك على العيون وخاتم الثغر ، ثم تظهر هيئة الوجه في حالة الوداع

٢٠٧

ونظر العين ضئيلا والتبسم بالشفاه الذابلة قليلا. فتتحرك يده الضعيفة بريشة الرسم أمام هجمات حر الضمير وتكفكف رذاذ الدمع فتأخذ الصورة طرفا من ذلك المنظر أيضا. لذلك يتوسم في الصورة طرف من هاته الأحوال. رأيت صورة لاجوكوند فيما بعد وبلغني أن كثيرا من الكتاب استعملوا أقلامهم في الحديث عن هاته الصورة بما لا يقل عما عملته أنامل ليوناردو بريشته الفنية فجاريتهم في هذا المضمار (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ.

كتب لي وارث ابن رشيق القيرواني ومحاكي شوقي مصر السيد صالح سويسي كتابا وأنا بباريز ، ضمّن لي فيه فقد هاته الصورة فزادني شوقا على شوق لرؤيتها وحسرة من عدم مشاهدتها بين مستظرفات باريز ونص الأبيات المتعلقة باللوفر :

واللوفر المشهور قد وضعت به

تحف بمثل جمالها لن تحلما

مرت على جسر القرون ولم تزل

ببهائها مهما الزمان تصرما

«جوكوندا» تبا لسارق رسمها

رسم على ملك الجمال تقدما

فإذا نظرت له كأنك مبصر

حورية هبطت إليك من السما

رسامها قد كان آية عصره

وبعشقها قد صار صبا مغرما

«ليوناردو» أفهل يحل لمغرم

سرق المليحة أم تراه محرما

روح المليحة قد تناجي روحكم

في متحف أو تحت إطباق العمى

يا متحفا ما لي أرى بك وحشة

وأرى فؤادك بالفراق تكلما

٢٠٨

«فمحمد» يبدي إليك توجعا

وتصبرا عند الزيارة مثلما

«يعني مثلما تصبر محبها وتوجع عند ما فقدت ذاتها من متحف الوجود» وبينما أوراق الرحلة مهيأة للطبع وإذا بجرائد الأخبار أتت بنبأ العثور على صورة موناليزة المفقودة من قصر اللوفر في مقاطعة فلورانسا من إيطاليا بعد ذلك الكسوف الذي اعترى مثالها مدة مثلما اعترى جثمانها الخسوف بل المحاق ، الذي ليس معه تلاق.

ديار الآثار

تكونت في فرانسا جمعية الآثار في العقد الأول من القرن التاسع عشر. والآثار تفيد من جهة العلم بما للأمم السابقة من البراعة وجيد الصناعة في الأواني والمسكوكات والبناءات والصور والكتابات. وقد أفادت الأمم الأخيرة من حيث عوائد الأمم الغابرة وتواريخها وآدابها زيادة على التقليد لكل شيء قديم. إذ النفس ميالة إلى التنقل مما يدوم استصحابه لها وولوعه بالتقليد والارتياح لكل جديد. فكانت مصنوعات الأمم السابقة على اختلافها ملجأ تنحت منه الأذواق ما تريد وتغترف منه نفوس الشهوات مبتغاها. ولا تزال الهمم من أرباب العلوم تبذل نفيس العمر والمال في البحث والترحال لأجل العثور على أثر قديم والتفهم في واضعيه وما يوجد عليه من الصور والكتابات والأشكال ، فيشهرونه للعالم الجديد الراغب في توسيع هذا الفن الذي لا يزال في درجات الرقي وبالأخص في الجهات التي لا تزال مساكن وبناءات ومدن أممها السالفة في بطن الأرض وتحت طبقات من تراب العصور التي مرت عليها. وفي هذا الجيل الذي مر على الاحتلال الفرنساوي للقطر التونسي ظهرت آثار عظيمة للأول بدواخل المملكة وعواصمها القديمة تنبئ على أنها خلف عن أمم تداولت ملك القطر الإفريقي. والدنيا دول. من فينقي وروماني وفندالي ورومي وعربي ، أما البرابرة السكان الأصليون فهم هم ، لا يزالون أحياء أثرا من بقايا السكان الأصليين. وكلما بعدنا إلى الوراء في التاريخ وجدنا البناء أمتن والصناعة

٢٠٩

أتقن ، شأن البساطة في المأكل والملبس وقوة التغلب وكثرة الأيدي والفراغ للعمل والاعتناء بالشهرة وطول أمد التملك. وأكبر ما تركه الأول بهذا القطر مما عثر عليه إلى حد الآن هو ما وجد في أطلال العاصمة العتيقة من قرطاجنة ، ثم القاعدة الثانية المزاحمة لها وهي سبيطلة بعمل ماجر ، التي التجأ إليها الروم لما استبدوا على ملك القسطنطينية وبقصر الأجم بعمل المهدية ، وهو تياترو عتيق التجأ إليه الروم عند تغلب العرب على سبيطلة ، ودقة بعمل تبرسق «اصطفورة». ولا تزال الأيدي تكشف من حين إلى آخر المسكوكات من خالص النقدين في خرابات الأول ومقابرهم العتيقة التي من عادة تلك الأجيال أن يصحبوا بعض موتاهم بشيء منها وبالحلي والجواهر ، والبعض بالآنية الخزفية المستعملة للأكل والشرب والاستصباح.

وأحيانا تكون من البلور السماوي النفيس. وربما بقيت عادة استصحاب أحسن الملبوس وأفخر الثياب للميت إلى هذا العهد في بعض جهات المملكة ولا عجب في تقليد السلف للخلف بقطع النظر عن منشأ العادة واختلاف العقيدة. والتاريخ يقص علينا ما أصحب به المعز بن باديس جدته من غالي الجوهر ورفيع العنبر وخالص التبر وجيد الخشب في أوائل القرن الخامس هجريا إلى قبرها في بلد المنستير دار الرباط من أوائل الفتح. ولعل هذه الأوهام في السرف هي التي أنشأت في النباشين فكرة نبش القبور وسلب الموتى. ومتحف باردو الآن غني بمصنوعات الأول. وفي فرانسا لا يخلو بلد من دار آثار مع مكتب للتعليم ومعبد ديني ومستشفى صحي ومحل للتمثيل ونزل للمسافرين ، والمملكة التونسية جارية الآن على ذلك المنوال.

اعتنى ملوك الإسلام بالمصنوعات والتحف والمكاتب والمستظرفات فكانوا يجمعون المجوهرات ومصنوعات المصوغ وآلات السلاح ، تنتقى لهم من غاية ما بلغت إليه درجة الصناعة في عصرهم وترفع إليهم من نفائسها تقربا واستجداء وطمعا في أغلى الأثمان التي لا تجود بها إلّا خزائن الملوك الواسعة ، وتجلب إليهم من الأقطار. وهم يبعثون أيضا في نيل كل ما يعوزهم مما يظهر على وجه البسيطة غريبا ورفيعا ، فتتجمع لديهم مختلفات المصنوعات على حسب اختلاف الأذواق والعوائد بالأقطار وأجيال الأمم ، فتكون في خزائن الملوك وحاشيتهم ورجال الدولة والوزراء من كل جنس أنواع بديعة. ويعظم ذلك كلما عظمت ثروة الدولة واستمرت مواصلتها مع الدول والأمم

٢١٠

وطال أمد حياتها في الشرف والحضارة. أضف إلى ذلك غرائب الوحش وأجناس الحيوان وأنواع الطير فإنهم يحشرون منها حول قصورهم ما تعز رؤيته ويعسر تذليله ويندر وجوده ويستكثرون منه ، وهم قادرون على تنويع مساكنه وتوسيع مجالاته وإرغاد علوفته وإجادة سياسته وإلطاف حياته. فانظر إلى باريز مثلا كيف وصلت لها المصنوعات الغريبة من بغداد من ساعات مخترعة وجيوش شطرنج نفيسة. ولا بد من حصول بغداد على مكافأة من ملك فرانسا شارلمان من غريب المصنوع وعزيز المقتنى ومن ينبئنا ما هي؟؟ يا ترى؟

وذلك كله مع بعد الشقة وشاسع المسافة برا وبحرا وعزة أسباب التعارف لذلك السبب. والقيروان جاءتها كذلك من أروبا ومن ملوك السودان ومصر غرائب الهدايا والحيوان مثل الزرافة والفيل. وكلما طال الزمن على المصنوعات كانت أكثر غرابة وأغلى ثمنا لتبدل الأذواق والعوائد وميل أرباب الصنائع إلى ما يناسب العصور الجديدة ، فيعز نظير القديمة مع الحاجة إليها لمعرفة الدرجة التي انتهى إليها العقل وملكة الصنع في الأزمان الغابرة. وهي كما قال المويلحي خبر صادق ولسان ناطق ، تخبر بالعبر ، وتحدث عمن عبر. أما الصور فأمرها قديم وكانت في المنسوجات الفارسية في صدر الإسلام ويرسمونها في جدران المنازل. وكان منها في بيت الإمام مالك وعند ما نبهه لها بعض تلامذته أزالها بما يشعر باتخاذ غيره لها جريا على المتعارف. وعبيد الله بن زياد كانت له «البيضاء» دار عمرها بالبصرة ، ولما تم بناؤها دخلها أعرابي وكانت فيها تصاوير ، فقال في شأنها رأيت فيها أسدا كالحا وكلبا نابحا وكبشا ناطحا. ولا يخفى ما في وصفه كل حيوان بالوصف الحقيقي من الرقي لشدة إتقان تصويرها حتى يخالها الناظر تعمل أعمالها الطبيعية. وفي جامع بني أمية بدمشق صور المدن والأشجار بالألوان والذهب. وخمارويه بن أحمد بن طولون بنى مجلسا في القرن الثالث سماه بيت الذهب ، طلى حيطانه كلها بالذهب وجعل فيه مقدار قامة ونصف صورا في حيطانه بارزة من خشب ، معمولة على صورته وصور حظاياه ومغنياته بأحسن تصوير وأبهج تزويق ، ولونت أجسامها بأصناف أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة ، ومن بينهن حظيته بوران التي بنى هذا البيت لأجلها وصورها فيه بجانب صورته فكان هذا البيت من أعجب مباني الدنيا. والآمر بأحكام الله

٢١١

صور الشعراء وبلدانهم في بعض منازله ، وكتب شعر كل واحد منهم عند رأسه وجعل بجانب كل واحد منهم رفا لطيفا ، وأمر أن تحط جائزة كل واحد على الرف المجاور له ويأذن للشعراء بالدخول ليأخذ كل منهم جائزته بيده. وكانت للفاطميين بمصر مجموعات من الصور الآدمية والوحشية مجسمة في خيام خاصة مفروشة بالبسط الأندلسية.

والأندلس قال ابن خلدون في شأنهم ما مضمونه : إذا كانت أمة تجاور أخرى يسري إليها منها في التشبه والاقتداء حظ كبير ، كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة ، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت.

وكانت للعبيديين في القاهرة من جملة أثاث المنزل أشكال الصور الآدمية والوحشية من الفيلة والزرافات ونحوها ، معمولة بالذهب والفضة ، مكللة بأنواع الحجارة الكريمة من لؤلؤ وياقوت وزبرجد ، وبعض الحيوانات من عنبر معجونة كخلقة الفيل وناباه من فضة وعيناه جوهرتان كبيرتان في كل منهما مسمار ذهب وعليه سرير منجور من الزرد بمتكئات فضة وذهب ، وعليه عدة من الرجال ركبانا وعليهم اللبوس تشبه الزرديات ، وعلى رؤوسهم الخود وبأيديهم السيوف المجردة والدرق وجميع ذلك فضة. وصور بعض السباع منجورة من عود وعيونها من الياقوت الأحمر وهي على فريستها. إلى غير ذلك من المصنوعات الظريفة والتحف اللطيفة. وعبد الرحمان الناصر بالزهراء جلب حوضا من الشام منقوشا بتماثيل نصبه في مجلسه المعروف بالمونس ، وجعل عليه اثني عشر تمثالا من الذهب الأحمر مرصعة بالدر النفيس مما عمل بدار الصناعة بقرطبة ، وصورة أسد إلى جانبه غزال إلى جانبه تمساح ، وفيما يقابله ثعبان وعقاب وفيل ، وفي الجانبين الآخرين حمامة وشاهين وطاوس ودجاجة وديك وحدأة ونسر من ذهب مرصع بالجوهر النفيس يخرج الماء من أفواهها. ذكر جميع ذلك أشهر المؤرخين وعمدة رواة الأخبار بما يدل صريحا على أن عوائد الأمم من فارس والروم والإفرنج فاضت حتى في صدر الإسلام بموجب المجاورة والامتزاج والتقليد وغمرت المسلمين فخاضوا في ضحضاحها الذي بللهم قليلا. وبقطع النظر عن هذا كله فالمسلمون قد جاروا غيرهم واتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر في طرق

٢١٢

الحضارة المألوفة ولذات الحياة المرغوبة.

فوائد النظر في الآثار وتأثيرها على الناظر

إذا كان من أهل الذوق والاعتبار

يرسل الفكر بأشعته على المجتمع البشري وأنواع الحيوان وعظيم الهياكل وبدائع المصنوع وأقسام الطبيعة البادية على وجه الأرض ، فيتجلى له من اختلاف العناصر وتباين الطبايع وعظيم الهياكل وبدائع المصنوع ما يندهش به لأول مرة. ثم يرجع البصر كرة أخرى فيجد الإنسان نفسه ضئيلا قليل العمل وصغير الجرم أمام ما صنعه البشر قبله ومن بين مخلوقات الله. وعند ما يعسر عليه فهم دقائق العمران وفوائد ما في عالم الكون وتخفى عليه بعض الأسرار وكثير من أسباب الرقي والانحطاط والاندماج والانقلاب فلا يجد نظرا يضاعف به نور التفكر ومرآة يكبر بها الأشياء البعيدة ، وكهرباء يكشف بها ما خفي من بواطن الأمور وقطارا يسرع به إلى رياض النفوس ومجاني الأدب غير أنواع المعارف. فإذا كان الإنسان ضحى فيها زمنا طويلا ، وبذل مالا جزيلا ، وأرهف فكرا صقيلا ، فقد حان له نيل المبتغى والتبريز في إظهار مكنونات الفوائد ، وحل نكات الفرائد. وفي هذا الدور يأخذ في إفادة النوع البشري ويصير حيوانا راقيا مفيدا حيث كان مفكرا وعاملا. وأول ما يبدأ به في زمن العمل هو تقليد من سبقه واتباع أعمال من سلفه ، وللبيئة التي خلق فيها والجامعة التي فتح بها بصره تأثير خاص على ذوقه. ومتى كان واسع الفكر وصحيح العمل تجاوز بمراده ما فوق المعتاد ، وتشوق إلى اختراع ما وراء المعروف. وأحسن ما يستعين به على توسيع المعلومات هو الإبعاد في الأسفار والتأمل من مجموعات الآثار ، فهي التي تتجلى بها عظمة قدرة الخالق وإجادة صنع المخلوق وما أملاه نور العقل الذي هو النعمة العظمى المميزة للإنسان على ما فوق سطح الأرض ، وما دبرته النفوس الكبيرة وأملته على أنامل الأيدي البشرية فأجادت رسمه وشكلته حسب الإيحاء صنعا بديعا ، وولدته ثمرة مفيدة وأبدته نتيجة صالحة في الحياة الدنيا بتصرفات تلك الأنامل الضعيفة في الحيوان والنبات والمعدن. ولكل عصر معلومات خاصة وصنايع معلومة

٢١٣

ودرجة معروفة ينتهي إليها علمه ، والعصر الموالي له ربما زاد حلقا في سلسلة المعلومات والمصنوعات شأن الرقي المأخوذ في مفهوم عمران الكون إذا كان ذلك الجيل الموالي حيا بمعنى الكلمة. كثيرا ما يهزأ الآخر بالأول «ولا استخفاف المعاصر بالمعاصر» ويستصغر عمله ويستضعف نتيجته مع أن للأول العذر إذ العلوم لا تتناهى ، وله أيضا أكبر فضل في إيجاد الأساس الذي بنى عليه من بعده ، وهو أمر لا بد منه. كما أن بعض الأجيال ربما شمخت ، وبمعلوماتها وما أبرزته بمجهوداتها تعاظمت. وظنت أن لا سبيل لمن أتى بعدها في الزيادة على ما بلغت. وهذا غلط ينكر وإعجاب يذم ، إذ العقول لا تقف عند حد. وفي الإمكان أبدع مما كان. والتناهي في أعمال البشر عجز. والتجبر بمثل هاته الأوهام ضعف في العقل وتعرض لمحاربة الدهر. وهو كما علمت أبو العجائب (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ).

كثيرا ما ينطبع في مخيلة المستفيد من الأسفار والآخذ من محاسن أعمال الأجيال الأولى ومخترعات الأمم المعاصرة ما يجيد به مصنوعا جديدا جامعا من محاسن أعمال المتقدمين والمتأخرين ، فينشر ذلك في القطر وتزداد إجادته في ذلك العصر ويصبح أثرا معلوما خاصا بأبناء الجيل ينبئ على منتهى علمهم وغاية مقدرتهم وما بلغوه في حياتهم. كل ذلك في المصنوعات وشئون الفلاحة وأسالب التجارة ونظام الإدارة وصناعة التعليم والتأليف واللباس والرياش والعوائد. هذه كلها بعض نتائج الأسفار وديار الآثار.

منزلة الآثار من الإنسان في معترك الحياة

من الناس من تأخذ بقلوبهم وأعينهم المناظر الطبيعية كالجبال والأنهار والبحار.

ومنهم من يعشق المجموعات الأثرية وغرائب المتاحف ، ولكل نوع من ذلك لذة بالحواس ومكان بالفؤاد. ولإدراك المصنوعات العتيقة بقدرة الخالق ويد المخلوق ذوق خاص وملكة جيدة لبعض أناس وقفوا بها على دقائق في ضمن تلك المصنوعات البديعة فيقدرونها حق قدرها ويتأثرون عند مرآها فيعظمون الصانع ويعتبرون بالمصنوع. وربما حقرت هاته النفائس في أعين كثير من الناس ونبت عنها أبصارهم

٢١٤

وأهملت في مرابطهم فأضاعوا ما بها من المعاني وهم لا يعلمون قيمتها ، فإن داموا على ذلك اضمحلت حياتهم وهم لا يعلمون كثيرا من غرائب المخلوقات وعجائب المصنوعات ، وبدائع المخترعات وأسرار الكائنات. وإن تعاطوا النظر وتأملوا إما باختيارهم أو بأن ساقهم القدر إلى مخالطة بعض رجال هذا الفن وشاركه في العمل ، جرت في عروقه وتسربت إلى فؤاده منزلة هذا الفن العذب. وأصبح من عشاق النظر ، وما في ملكوت السموات والأرض من إبداع الخالق وتقليد البشر.

وحصلت له ملكة في التأمل والتدقيق وأحب علوم الخط والنقش والتصوير والموسيقى ، وصار ممن يميز بين جيدها ورديئها ويرجع بها لحسن الملكة إلى تعيين أقطارها وأعصارها.

وبات من الباحثين المنهمكين وممن تلذ لهم إجالة البصر فيما أبرزته يد القدرة والعقول المتنورة والأنامل البارعة والأفكار المتسعة.

المسلة المصرية في باريز

أكبر أثر شرقي في باريز هو المسلة المصرية الكبرى «السارية المربعة» ، في بطحاء كونكورد «الوفاق» شمال نهر الساين والقنطرة المسماة باسم هاته البطحاء المتسعة ذات الأحواض المائية والشوارع العظيمة المرتبطة بجنباتها والبساتين الممتدة بساحاتها.

فبالشرق بستان لاتويلري الفسيح ، وبالغرب شانزيليزي وبالجنوب القنطرة المؤسسة سنة ١٧٨٧ ـ ١٧٩٠ وبالشمال كنيسة مادلاين. والمسلة قائمة في وسط ذلك الفضاء الشبيه بالصحراء في الجانب الغربي من باريز فتلك المسلة أبت إلا أن تكون مثلما كانت برمال مصر في قفر بطحاء موحشة ، يرجع تاريخها إلى أواسط القرن الثامن عشر وكان بها تمثال لويس الرابع عشر. وكانت تسمى باسم لويس الخامس عشر ومات بها خلق في عرس لويس السادس عشر ، وقتل بها هو وزوجه في أواخر القرن الثامن عشر. سلكتها غير مرة وموقعها تطؤه أقدام غالب سكان المدينة وتقع عليه أبصارهم ، وهي طريقهم إلى غابات بواد بولونيا غربي المدينة ، فاستوقفتني تلك المسلة الغريبة (والغريب إلى الغريب نسيب) وتأملت في الكتابة المصرية العتيقة

٢١٥

«هيروكلوف» بالصور حفرا في ذلك العمود الحجري الذي ارتفاعه يقارب الخمسين ذراعا ، فتشعبت أمامي في تلك اللحظات مذاهب العجب وعجائب الدهر كثيرة من صناعها الذين قطعوا هذا الجلمود وقدروا على نحته وحمله من مقطعه وإيصاله إلى هيكل طيبس بمصر. ومن وصولها سالمة من وراء البحار عند ما أهدها محمد علي إلى لويز فيليب الذي خصص لها بعد أن وصلت إلى الإسكندرية ، على طريق النيل في مركب شراعي ، سفينة سميت باسم المسلة «لوكسور» حملتها إلى طولون في أوت عام ١٨٣١ وأقيمت باحتفال عام ١٨٣٦ في مكانها الحالي فتجدد لها عمر جديد في أروبا وتاريخ حديث في فرانسا بعد أن أقامت بقطر الفراعنة نحو ثلاثة آلاف سنة.

فهي كالروح على مذهب القائلين بنقلها في الأجساد البشرية في عصور مختلفة وأقطار متباعدة لتعود عالمة بكل خفية ، وتصير سامعة بما لم تسمع. كما عجبت من الصور والخطوط المرسومة بها واختلاف أذواق البشر في طرق الكتابة ، واشتقت إلى كتاب شوق المستهام إلى معرفة رموز الأقلام لأحل به معمى الكتابة. ومن الأسف أن هذا الكتاب لم ينشر إلى الآن بين أبناء العربية. ونص ما قاله محمد رشدي المصري في شأنه بمدنية العرب عام ١٣٢٨ :

الكتابة القديمة

قد سبق العرب علماء أوربا في حل رموز الخطوط القديمة وترجمة كتبها إلى اللغة العربية ، ولا أخال أن أوربا ما توصلت إلى حل رموز الآثار والوقوف على علوم من سبق من الأمم إلا بواسطة كتب العرب وترجمتها إلى لغتهم ، فمن ذلك ما رأيته بعيني وطالعت فيه بنفسي وهو كتاب شوق المستهام إلى معرفة رموز الأقلام لأحمد بن وحشية النبطي المتوفى سنة ٣٢٢ هجرية. فإن مؤلفه جمع فيه صور الخطوط القديمة التي تداولتها الأمم الماضية وترجمها جميعها إلى اللغة العربية ، ووضعها بطريقة يسهل للمطلع عليها أن يترجم ما على الأثارات من الكتابة على اختلاف أنواعها إلى اللغة العربية في زمن لا يتجاوز الساعات عدا. ودليلي على ذلك درسي في هذا الكتاب أربع ساعات.

٢١٦

في أربع ساعات

بعد وقوفي على هذا الكتاب ودرسي إياه في زمن لا يتجاوز أربع ساعات ، أمكنني أن أترجم من الكلدانية القديمة إلى العربية وأكتب بها وبالعكس أيضا ، ومن اليونانية القديمة إلى العربية وبالعكس أيضا ، وقس على ذلك باقي اللغات المدونة به بدون سابق معرفة لي بإحداها أو سؤال معلم فيها. فرحم الله هذا العربي الذي سهل لمن يأتي بعده من الأمم طريق الوقوف على أسرار من مضى ، وهنيئا لعلماء أروبا الذين ترجموا هذا الكتاب إلى لغتهم ، فقد ترجمه الأنكليز منذ مائة وعشرين سنة ووقفوا بواسطته على آثار الأمم الماضية وعلى تاريخ حياتهم وكذلك باقي طوائف أروبا.

فأعمال المستشرقين ووقوفهم على حل رموز الآثار ما هي إلّا نتيجة بحثهم في هذا الكتاب ووقوفهم عليه وإخفائه عنا حتى لا نسبقهم فيه.

تروكاديرو

قصر بني سنة ١٨٧٨ في ربوة غربي نهر الساين له صومعتان ارتفاع ٧٠ م ، وشرقيه بستان لطيف به صور كبرى معدنية لبعض الحيوانات. وفي القسم الشمالي من القصر صور مجسمة كبرى وبعض صور دهنية.

لوكران بالي

وفي بالي قصران متقابلان بهما صور كثيرة يقام بهما معرض في الربيع وآخر في الخريف لنتائج أعمال الرسامين من أطراف الأرض ، وهما بشمال القنطرة الجديدة التي على نهر الساين المسماة باسم قيصر الروسيا إسكندر الثالث غربي وزارة الخارجية ومجلس الأمة. وكم أخذت من أمثلة تقليدا لما بالمملكة التونسية من بناءات ونبات وإنسان وحيوان وبالأخص من القيروان ، حازت قصب السبق في معارض التقليد الدهني بذينك القصرين وفي غيرهما. ونال بعض الرسامين من

٢١٧

ذلك مالا ذريعا. والمملكة التونسية في معرض ممالك القارة الإفريقية. ومدينة القيروان في مجموعات العواصم والمدن الشهيرة ، مما يرغب البشر في سكناهما ، والعين أن تراهما.

المعابد والملاجي

المعابد في فرانسا كثيرة ومنتشرة في المدن والقرى ، وهي في أطراف المملكة ، والمداشر الصغرى أكثر عمرانا وأوفر عبادا وغالبهم نسوة طاعنات. ولا مجادلة أو انتقادا أو كراهية تظهر من السكان لذات الشخص لمجرد صبغة الإسلام ، فهو يؤدي واجباته الدينية بسهولة مثلما بالمملكة التونسية ، ويتجول في جميع البقاع ويحضر سائر المجامع ويدخل الكنائس بدون مانع ، وقد دخلت بعضها وبالأخص العتيق منها لمجرد الاطلاع على الذوق في البناء ، والإبداع في الزخرفة والتفنن والنقش والعناية بهياكل الدين. والمسيحيون أنفسهم يدخلون لمثل هاته الغاية فقط ، ولم أر أدنى معارضة في الدخول للكنائس بجميع جهات فرانسا لما يعلمون أنه لا يخطر بالبال أدنى ازدراء أو إهانة بمحلات العبادة.

أذن سيدنا عمر بن عبد العزيز للوفد المسيحي الذي قدم من الروم إلى دمشق بدخول المسجد الأموي لما كان المراد الاعتبار بقوة بنائه وإبداع هندسته.

نوتردام

دخلت كنيسة نوتردام الرفيعة السماك الشاهقة الصوامع البديعة النقوش ، وهي في جزيرة بنهر الساين وعهدها قديم ، غير أن التجديد الذي بقي له ذكر هو ما كان بمناسبة حضور أحد بابوات رومة سنة ١١٦٣. وطولها على ما ذكروا ١٣٠ ميترو وعرضها نحو الأربعين وارتفاعها نحو ٣٥. وبنوافذها كثير من البلور الملون وبها ثريات نحاسية حسنة ، بها الشموع البيضاء ويتردد الزائرون بكثرة على هذا البناء القديم الذي رأيت به بعض نسوة طاعنات عابدات.

٢١٨

كنيسة مادلاين

يصعد إليها بدرج وشكلها الخارجي كبناءات الرومان ، وشديد الشبه بالبيت المربع الروماني في نيم المسمى لاميزون كاري. بني هذا المعبد لوي الخامس عشر عام ١٧٦٣ م وجاء شمالا من بطحاء كونكورد ، وبينها وبين تجديد البابا لكنيسة نوتردام ستمائة سنة تماما. عزم نابليون على جعلها مدفنا لمشاهير الرجال ثم تمحضت كنيسة في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي.

(الملاجي)

قبر نابليون أو قصر ليزانفليد

نابليون بونبارت من رجال الدنيا ونوادر الأجيال وفلتات الطبيعة ، بما له من قوة الجأش واتساع الفكر وخصال الكمال. أضاء نجمه على القرن الثامن عشر والتاسع عشر ، وكلما زادت الأيام بيننا وبينه بعدا إلا وازداد عدد الألسنة الناطقة بالثناء عليه والآذان لسماع نوادر أخباره ، والأقلام لتدوين سيرته وضرب الأمثال به. وكان من سياسته أنه لم يضر بالمتوظفين السابقين ، نعم وظف كثيرا من أخصائه فأرضى سائر الأحزاب. كما أنه لما ولي شارك الأمة معه في تدبير المملكة ، لأن الفرنساويين يحبون المساواة ، فأنتج له اعتبار نفسه واحدا من الأمة أن صارت تخضع له الملوك. وهكذا العصبية وقوة الجماعة تزيد في حيثية المتوظف إن لم تكن أساسا لرقيه. والحصول على العصبية وامتلاك القلوب لا يتأتى إلّا بحسن الخلق والحلم وصفات الكمال التي يهبها الله ويوفق إليها من أراد له السيادة من الرجال.

أما البناء الذي صار له قبرا فيسمى ليزانفليد ، بني في أيام لويز الرابع عشر في أواخر القرن ١٧ وجددته عدة ملوك ، وصار ملجأ لعجز كبراء العساكر ، وانتشر ذكر هذا القصر بضمه لرفاة نابليون الأول الذي أعجزه الدهر بعد أن غالبه ، غير أن :

كل امرء بمحال الدهر مكروب

وكل من غالب الأيام مغلوب

٢١٩

فاستوطن بهذا القصر إلى الأبد ، وكان محبا للعساكر ومحبوبا عندهم ومتواضعا معهم ، فكأنه أحب أن لا يفارق منازلهم بعد وفاته ، وأن يشاركهم في الأسى الذي خيم على أهالي ذلك القصر ، فهم يصبحون ويمسون ذاكرين لعظيم الهمة ورجل الدهر في عصره نابليون الأول ، فيصغّر ذكره في أعينهم حالة الدنيا ، كما يسلي ويخفف من ويلات أولئك الأبطال مثل أمر ذلك الفاتح الكبير الذي مزق أشلاء ممالك الأرض وداس أعز مواقعها بقدميه ، وأخيرا قنع بمعيشة نكدة في جزيرة سانت هيلانة.

والنفس راغبة إذا رغبتها

وإذا ترد إلى قليل تقنع

وآواه عرض شبر من التراب في قصر ليزانفليد الشامخ المتطاول بين قصور العالم ، بعد أن كانت القارات على اتساعها وابتعادها تضيق عن الأشعة المنبعثة من كهرباء أماليه. قال عبيد الله المهدي الخليفة بالقيروان ، وقد أوتي إليه برؤوس قواده في قفة لأمر بدا له فيهم بعد أن وطأوا له أركان الخلافة ومكنوه من أطراف شمال إفريقيا ومهدوا له سبلها «ويقولون المخزن والزمان ليس لهما أمان» ما أعجب أمور الدنيا ، هاته الرؤوس ضاق بها المشرق والمغرب وحملتها هذه القفة!!. يفكر الإنسان في عظماء رجال العالم عند ما يقف على قبر نابليون ويطول سكوته هناك وتهدأ أعضاؤه ريثما طائر الخيال يجوب جو العالم أجمع ويحلق أحيانا ويرفرف على تراجم بعض رجال الدنيا ومحاربة الدهر لهم ، مثلما يحلق ويرفرف صاحب الطيارة على بعض البلدان لاكتشاف أحوالها أو ليبيض في جوها. وأول ما يعترض الخيال أمر موسى بن نصير الرجل العظيم وما امتحنه به سليمان بن عبد الملك في آخر عمره في ذريته وبدنه وماله. ثم ما امتحن به ابن عباد نادرة الزمان وما كان يحق لمثله أن يهان ، إلا أن يوسف بن تاشفين ، وإن كان على جانب من الدين ، غير أنه رجل حرب لا رجل سياسة. لذلك ارتكب يوسف بن تاشفين في قبول الوشاية من المعتصم صاحب المرية محمد بن صمادح في مزاحمه ومعاصره المعتمد ابن عباد صاحب إشبيلية ، ذنبا جسيما غطى جليل أعماله. ولكن ما أكبر مروءة ابن عباد في عدم التنازل إلى الوشاية ضد عدوه الساقط المعتصم ، وما أعلى همته في اختياره بلاد رعي الإبل

٢٢٠