البرنس في باريس

محمّد المقداد الورتتاني

البرنس في باريس

المؤلف:

محمّد المقداد الورتتاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-605-5
الصفحات: ٣٩٥

في بلفار دولاكولون ، وكان مكتظا بالعساكر والأهالي في عيد يوم الأحد وفي المساء ، أبت إلى كرونوبل.

تعرفت بين شامبري وكرونوبل برجل وزوجه من المكسيك متجول في مصالح تجارية ، حدثنا عن أحوال مملكته وكثرة اللغات بها زيادة عن اللغة الرسمية الإسبنيولية بحيث تبلغ نحو الثلاثين مثل لاستيك وما كسيكان وبلوكه وطارسك وميستاك. إلى غير ذلك من لغات تثقل على السمع واللسان أسماؤها. فما بالك بمفرداتها. وخضنا في حديث اتفاق البشر على لغة واحدة يتفاهم بها مع بقاء لغة كل قوم. وكنت أستحسن هذا الرأي وإن قل ناصره في لغة الاسبيرنتو مع علمي. بأن اللغة المراد الاتفاق على تعميمها إذا كانت لغة أمة فلا توافق بقية الأمم على امتياز تلك الأمة بهاته الخصوصية. والأمم تحب لغتها بقدر ما تحب جنسها ووطنها ضرورة ، إنها رفيقة الإنسان من يوم عرف الدنيا ، وعلم خبايا النفوس وخواطر العقول بواسطتها ، وتغذى بها مع لبان الأم وحنان الوالد ومدنية القرابة وعلائق الشعب. وإن كانت لغة مخترعة أو ميتة فهي صعبة النجاح حيث لا وطنية ولا جنس ينطق بها جبرا في عالم الاجتماع. مثل ما يتعذر إحداث دولة مثلا من أفراد في أطراف الأرض وزوايا الممالك إذ لا وطن ترتكز فيه الدعايم ، ولا عصبية تنفخ روحها في العزايم. ولذلك فلغة الاسبيرنتو وإن كانت النفوس المفكرة الجانحة إلى تعارف أبناء آدم كما ينبغي تود تعميمها ولكن دون ذلك إفاضة نور الشمس فيما أرى على عموم الكرة الأرضية في آن واحد أو إزالة البحار عن جميع سطح الأرض. دار هذا الموضوع في ميدان الحديث بباريز مع المسيو صال ، تفقد المستعمرات سابقا وأحد زعماء نشر اللغة الفرنساوية فكان لا يرى نجاح اللغة المزمع عليها لكونها على خلاف الطبيعة ، إذ اللغة يسبق بها الاستعمال العام بين سائر الطبقات ثم تحرر لها العلماء القواعد فيما بعد فتقابل بالقبول. وأما تحكم العلماء بوضع لغة كاملة وحمل الناس على استعمالها فهذا مما يتعذر. واختلاف اللغات من عهد برج بابل حتى لا يتفاهم أبناء نوح بلغة واحدة إنما كان لحكمة يعلمها الله ولا راد لقضائه.

أمطرت السماء في كرونوبل كأفواه القرب ساعة زمانية ، وتلك أول مرة رأيت فيها المطر في فرانسا وآخر مرة رأيت فيها ذلك التدفق وتلك الغزارة عدا رذاذ بلل شوارع

١٦١

باريز مدة إقامتنا بها في أواخر جوان. وكانت ثكنات العساكر مدة نزول المطر في كرونوبل تطلق المدافع من أعالي الجبال المحيطة بها ، وأخبروا بأن ذلك مما يتلاشى به انجماد المطر خوفا منهم على نزول البرد على الغلال فيفسدها. وأحسن ما رأيت من الغلال في تلك الجهة توت الأرض «فريز» قاني اللون. لذيذ الطعم. طيب الرائحة.

تذكرت عند نزول وابل المطر طالع الموشح الذي طالما ترددت بيننا أبياته لابن سناء الملك في محادثات الأديب العالم المتفنن صديقنا السيد الطيب بن عبيد القيرواني وهو :

كللي يا سحب تيجان الربا بالحلي

واجعلي سوارها منعطف الجدول

فقرأتها على نهر إيزاير وجبال شارطروز ولا موش روت فانطبقت تماما.

أتاني في كرونوبل الشاب وزان الإسرائلي السوسي المتعلم لقواعد الماكينات وأسرار الكهرباء بوصاية من تلامذة جنيف فصاحبني ، ولاقيت من بعض أحبابه في لا طرونش عدد ٤١ مزيد الحفاوة والرغبة في تطويل الإقامة ، وإن كنا نحب جهات كرونوبل إلا أن المحادثة مع بعض أهالي البلد وثنائهم على باريز وقولهم لي ستجد في باريز فوق كل ما رأيت زادني شوقا على شوق إلى تلك العاصمة التي هي بيت القصيد وبغية المستزيد. وسمعت مثل هذا الثناء عنها في جميع جهات المملكة وذلك معنى الوطنية الصحيحة والاتحاد المتين والاعتراف بما للعاصمة من حقوق التبجيل.

بين كرونوبل وليون

شايعنا من الغد صباحا عند السفر إلى ليون نهر إيزاير ومعه نهر دراك إلى جهات قرية فرايب ، وكأنه ضم نهر دراك معه عند الوداع ، وكانا على يسارنا ونحن في القطار متوجهين إلى الشمال الغربي ليكون ذلك أكثر احتفالا بالضيف وأقوى احتراما عند الوداع كما هي عادة الأوروباويين يبالغون في إظهار الإكرام عند مشايعة الزاير أكثر من تلقيه ـ بعض الأماكن يمر بها الإنسان فتأخذ بمجامع قلبه حتى يتمنى الإنسان العيش

١٦٢

في مثلها بوطنه مدة حياته وفي وسط من جنسه ، مثل أهاليها أرباب المعاشرة والمعارف وأصحاب العمل والهدو. وبلا شك يكونون كذلك سكان الأماكن التي جملتها يد القدرة وزركشتها أنامل العلم والاجتهاد. يوجد هذا كله حوالي كرونوبل الجميلة المنظر ، الشامخة الجبال ، المتواضعة بسايط المروج ، المشتبكة الغابات ، المجردة سيوف الأودية ، الباسمة الرياض. فبأي لسان يعبر عن محاسنها؟ وبأي بنان يعرب عن منازهها؟ ولا تسأل عن البصر يوم ودعت أهاليها وبارحت مياهها وظلها ، فقد كان الطرف من منافذ القطار يغتنم المشاهدات الأخيرة منها وهي مارة كمناظر السينما ، ولكن قدود جبالها لم تشح علينا بالوقوف ساعة من الزمن مثل سكانها ناظرة لنا نظرة مدع مخلص ، فكأنها علمت منزلة اعتبارنا لها فقابلتنا بالمثل. وأما الفكر فإنما تسلى عن البعاد لكونه أخذ بين جوانحه مناظر تلك البلاد. وما التسلي عند الوداع إلّا لتعليل النفس بإمكان الاجتماع. وهكذا جنيف وبحيرتها وفيفي ومنترو. فهاته الجهات نزهة الحواس وراحة الأفكار ولذة الحياة.

ظاهر الأمر وباطن الحقيقة

شاهدت ما شاهدت وكتبت ما كتبت على مناظر الأرض ومتاع الدنيا وأنا أعلم أن هذه المحاسن كلها في نظر العين لا نظر الفؤاد.

والبصر كثيرا ما ينخدع كمشاهدته الشاطئ من السفينة حال سيرها يحسبه سائرا. ونظر الإنسان من القطار في مبدأ سيره إلى ما حواليه من الأشياء فيراها مارة به. ويحسب السحاب يسعى نحو القمر. والحقيقة خلاف ذلك. أما النظر بعين البصيرة لمثل هاته الجمادات من جبال ومياه وغابات فإنها ترى كلا شيء ولا تساوي جناح بعوضة أو قيمة خرذلة من نعيم الحياة الآخرة ، وما زخرف الحياة الدنيا ونعيم الأغنياء والأصحاء في ظاهر الأمر إلا غرور. ولو تتبعت أحوال هؤلاء واطّلعت على باطن أعمالهم لوجدتهم في عناء وأفئدتهم تردد كلمة «لا راحة في الدنيا» ، على أن المناظر الطبيعية وحطام هاته الحياة كيف يلذ لبشري يعلم أن من بين إخوانه وأحفاد أبيه آدم من يفترش التراب ، ويلتحف السحاب لا يملك من الدنيا قطميرا ، ولا يخلون

١٦٣

فؤاده تفكيرا. يبيع الدنيا وما فيها من مناظر برغيف ، وثوب كثيف. ومن بين أبناء أمه حواء ومن قاسموه في لبنها وحنوها وشفقتها من باتوا يشكون صدمات الطبيعة ويئنون من آلام الأمراض لا يبتغي من الدنيا ذلك العليل ، في ليله الطويل ، إلّا ظهور الصباح وانقطاع الآلام واندمال الجراح.

لذلك عقلاء البشر يبذلون أموالهم ويوقفون أعمالهم على مواساة إخوانهم من الفقراء والمرضى ـ وكنت ضمنت هذا المعنى في قصيدة استنهضت بها الهمم وجمعت المال للمنكوبين بالغرق في جزيرة شريك ، ونشرت جريدة الحاضرة جرائد فيما تجمع بأوايل العقد المنصرم مع القصيدة وهي :

الدهر شيمته يسر ويفجع

والنفس تجزع والتصبر أنجع

أهل الجزيرة عمهم سيل به

فقدوا الشعور ولم يسعهم موضع

وطما عليهم مرعدا بجيوشه

فأداسهم وهم بليل هجع

وأذاقهم هلعا به لبسوا العنا

والعين تدمع والمناكب تقرع

وربا على أعلى المنازل والربا

تلفت بذاك نفوسهم والمزرع

أسفا على تلك المنازه بعد ما

باتت وصادحها بأمن يسجع

أضحت خليجا فلكه جثث الورى

والروض بلقع والحمامة أبقع

أهل الجزيرة نسل أندلس أرى

من كان يخبر دهره لا يجزع

فكأن هذا اليوم يومكم الذي

هجرت جزيرتكم به والمربع

١٦٤

طوبى لمن نال الشهادة منكم

وإلى النجاة على الكرام تبرع

أبناء تونس من إليكم ينزع

في المعضلات وبركم لا ينزع

شبه الجزيرة أهله افترشوا الثرى

أيسوا الحياة وشملهم متصدع

أيلذ عيشكم وهم لم يسعفوا

بيد الإغاثة والممالك تسمع

وإغثة الضعفاء ذخر للفتى

والجود يوم الفزع بر أنفع

والأروباويون الآن أكثر اعتناء وأكبر شفقة بالبؤساء ، وقد ضمنت ذكر فيكتور هيكو صاحب كتاب البؤساء في تاريخ التكية بتونس في فصل أسباب السفر السياسي من المقدمة.

والحكماء لا يرون الحياة إلّا قفصا يسخر فيه المرء للقيام بلوازم الحياة ويسير لأجلها تحت أحمال الكوارث والمضاضات. فرحماك اللهم بعبادك في هاته الدار. ومرضاتك عنهم في دار القرار.

بين ليون وباريز

ليون ـ ما وجدنا من نعرفه بها ولذلك اقتصرت على الإقامة في محطتها بضع دقائق وهي سوق عظمى تباع بها المآكل والمشروبات من الجوالين فيها بين الركاب ، وإنما عرفت بها نهر الرون صاحبنا بالأمس في جنيف وبلكارد وامتداد هذا النهر ٨١٠ كيلوميترو. جزناه في القطار بوسط المدينة وقد اقترب من ملاقاته نهر الصون الذي جزناه أيضا بعده بقليل في المدينة حيث ينحدران معا إلى جهات مرسيليا.

وكأن مواعيد الاجتماع للأنهار في فرانسا هي المدن ، أو أن عمران المدن يعشق

١٦٥

مجتمع الأودية وهو من الذوق الحسن للمؤسس ومن ملائمات الخصب والعمران ، والأمن من عطش المزارع والسكان. سار بنا القطار إلى الشمال ونهر الصون على يمناه ، سلمت تلغرافا إلى ناظر محطة ماكون ونقدت له معلومه وعنوان نزلي في باريز ليخابر به ناظر المحطة في ليون للبحث بعربات القطار الوارد من كرونوبل عن أوراق وبعض أمثلة تركتها به عند ما نزلت في محطة ليون لانتظار القطار الوارد من مرسيليا. والتلغراف عمومي في جميع المحطات ، وهو من محاسن نظامها. وجميع العربات تنفذ إلى بعضها ، فالذهاب إلى بيت الأكل ولو للراحة بها وتناول القهوة أو الماء المثلج سهل على المسافرين ، وبهذا البيت مراوح تهون الحر على المسافر ، وقد ابتدأت الحرارة في شهر سفرنا. والمطبخة السائرة معه من المرافق المفيدة للمسافرين وبالأخص في المسافات الشاسعة والأسفار الطويلة ، ومع الأقسام المخصصة للنوم أيضا في بعض القطارات يكون المسافر كالمقيم بين الرفقاء متمتعا بأحسن غطاء ووطاء وغذاء ، بل المسافر أحسن من المقيم تأتي البساتين والأنهار والجبال والأطيار بين يديه ، يمر به الغور والنجد وهو في وقاية من الحر والبرد. يجيل طرفه على قطعان البقر والغنم في المروج النضرة ويشاهد المدن والقرى تمر به كأنه مقيم وهي سائرة ، وهذا مما لا يحصل للمقيم. فما أسعد أبناء هاته العصور الذين أمدهم الله باستخدام نور العقل فكشفوا بأشعة كهربائيته ما في الكون من الخبايا ، وما في المخلوقات من الأسرار والمزايا. وانتفعوا بما أنعم الله به على النوع البشري مما في الأرض جميعا. وبذلك أصبح السفر راحة بعد أن كان عناء. ولذة بعد أن كان مشقة ، ومونسا بعد أن كان موحشا وأمنا بعد أن كان خوفا.

سهلت السكك الحديدية التعارف بين الأمم وأعانت على الرقي ، ولها الفضل على التجارة والزراعة التي كانت تباع على أربابها بأبخس الأثمان بين سكان بعض الجهات ويتمناها بأغلى الأسعار قوم آخرون. وفي غالب الأحيان يحرمون من الانتفاع بها مثلما تحرم أربابها من أثمانها.

البخار ـ تقدم لنا الكلام على اكتشافه وتسيير السفن به في البحر في فصل أطوار الفلك والسير على الماء. أما الذي سير أول رتل بخاري في أنكلتيرا فهو جان استيفانصون الأنكليزي في معرض عام ١٨٢٩ وكانت سرعة سيره ستة عشر ميلا.

١٦٦

وصنع رتلا في فرانسا بين باريز وروان وبين مرسيليا وأفينيون. كان هذا الرجل يفكر كثيرا ويقتصد المال ويوثر المشي على الأقدام فافتدى بماله نفسه من الخدمة العسكرية كما استعان بالمال والوقت على تقديم عمله المايكانيكي ، ولو لا ذلك لضاع اختراعه. لذلك فسيره على الأقدام كثيرا في سبل اختراع البخار ، قد استراح به البشر من بعده كثيرا بركوب القطار. وتقدمت سرعة القطارات إلى أن بلغت الآن في أروبا حوالي السبعين ميلا في الساعة. ويقال إن في ألمانيا قطارا كهربائيا يقطع مائتي ميل في ساعة وفي أمريكا يحاولون إيصال السرعة إلى خمسمائة ميل في الساعة. وإذ ذاك لا يفوتها في حلبة ذوات السرعة من الحيوان وغيره إلّا القليل وإليك جدولا فيها :

أمتار في الثانية :

٥٠ ، ٥ الفرس.

٠٠ ، ٦ مركب القلاع.

٠٠ ، ٧ الريح القوي.

١٠ ، ٩ بابور حربي كبير.

أمتار في الثانية :

٠٠ ، ١٢

قطار تجاري.

أميال :

٥٠ ، ٢١

بابور حربي صغير.

٣٠ دورة الأرض حول الشمس.

٠٠ ، ١٣

بابور تجاري.

٣٠٠ سرعة الضوء.

٠٠ ، ١٥

بابور توربيد.

٤٠٠ الكهرباء.

٠٠ ، ١٥

البسكلات.

٠٠ ، ١٩

القطار الغير السريع.

٠٠ ، ٢٢

الحمام.

٠٠ ، ٣٢

القطار السريع.

٠٠ ، ٣٣

السيارة في السباق.

١٦٧

٠٠ ، ٤٥

ريح العاصفة.

٠٠ ، ٣٤٠

الصدى.

٠٠ ، ٤٥٠

دورة الأرض حول نفسها في خط الاستواء.

٠٠ ، ٧٠٠

بندق المكاحل.

٠٠ ، ٩٠٠

كرة المدفع.

وأميريكا أكثر الممالك في طرقات الحديد

ألف ميل :

١

 ٣٤٩

 فالممالك المتحدة بها خطوط حديدية طولها.

٢

 ٧٠

 الروسيا.

٣

 ٥٧

 ألمانيا.

٤

 ٤٩

 فرانسا.

وأكثر الدول سككا على نسبة اتساع أراضيها

١

البلجيك

٢

السويد

٣

أنكلتيرا

٤

ألمانيا

٥

الممالك الصغرى الجوفية

٦

فرانسا

باحثتنا عائلة بين ليون وباريس في شئون الإسلام من عقائد وعوايد ، واستغربت سيدة حياة ثانية بعد هاته فأوصلتها بمقدمة ، وهي تسليم قدرة الخالق الموجد لنا من العدم ، إلى نتيجة التسليم بأن الإعادة أهون عليه من بدء الخلق. كما أقنعتها ،

١٦٨

وسلمت بعد المفاهمة بالتي هي أحسن. بالجنة والجزاء ما دامت أمور الدنيا ناقصة في جزاء المحسن والمسيء. والأحكام فيها بمقتضى الظاهر لا تفي بالمسلوب حقه أو المهضوم جانبه. فلدى الخالق العالم المقتدر يعظم الجزاء للمحسن والمسيء الذي ربما فاز في الدنيا. واستحسنت لزوم ذلك حتى لا تضيع الحقوق. والقوم أصحاب حرص على حقوقهم ولا يرضون بالهضيمة دون الثار. وقد توقفت تلك السيدة في إدراك دوام الحياة الثانية بلا نهاية كما توقفت أنا في عدم إدراكها لذلك مع تسليمها للقدرة التي آثارها فوق العقل ، مع ما هي عليه من الذكاء والاعتدال في المحاورة ـ أما ابنتها فكان بحثها عن العوايد وكيف يتزوج المسلم بأربع وغالبا بامرأة لا يعرفها ثم يطلق بعد ذلك متى شاء ، وكيف تكون منازل المسلمين عمرة في الليل والنهار بالنسوة المسجونات بقدر ما خلت أدمغتهن من العلوم والآداب ، وهل ذلك من الدين؟ إلى غير ذلك من المسايل التي يحار فيها عقل الأروباوي متى تصور الشرقي سالكا لها ويعيش بها القرون الطويلة في هدو وراحة بال ولا يبغي بسواها بديلا. حتى قال كريستيان سنوك هرغرنج الهولاندي المستعرب : فالإسلام لا يمكن أن يرتقي ارتقاء حقيقيا إلّا إذا حرر نساءه الراسفات في سلاسل التقاليد القديمة التي لا تنطبق على روح العصر الحديثة التي هي روح الترقي الحقيقي. فأفهمتها محاسن بعض المسايل على خلاف ظواهر ما يظنون وجاريتها في طرو بعض العوايد على كثير من المسايل المهمة حتى سارت بها على غير المحجة المعقولة. وإن الرجوع إلى ما ينطبق على مصالح الدنيا والدين لا يكون إلّا بنشر العلم والتهذيب لكلا النوعين كل بما يلايمه وينطبق على ناموس الاجتماع به ، وما خلقه الله لأجله وأعده للقيام به. فتعدد الزوجات وإن أجازه الشرع لمصالح كثيرة لاكنه لا يوجبه على الرجال وقلما تجد رجلا يفكر في زوجة ثانية ما دامت الأولى تفي بالحاجات ، والمصالح المرغوبة في الحياة. ومتى فكر لسبب صحي أو طبيعي أو أدبي أو عمراني فإن رضيت الزوجة الأولى بالإقامة عاشرها بمعروف وتساوت مع الثانية وإن طلبت نفسها فلا يشح عليها بتسريح بإحسان. وإباحة الطلاق من محاسن الاجتماع وأصلح للزوجة نفسها متى تحتم عليها وجود السعادة بمفارقة الزوج مثلما يسعد الزوج غالبا بنعمة إباحة الفراق ، فيغني الله كلا من سعته. أما عدم رؤية المرأة قبل الزواج فهي مسألة من مهمات مسايل

١٦٩

الاجتماع وشريعتنا السمحة أباحتها وإن حالت أخيرا دونها العادات في الحواضر لأسباب الشرف وحفظ العرض. فالحزب النبيه المفكر من الأمة أخذ يتدبر للمسألة في طريقة تنطبق على الكرامة ولا تصادم العادة. مثل الرؤية بدون خلوة بعد العقد الذي يلزم به نصف الصداق وهو يهون على الزوج إذا لم يصادف المرأة طبق هواه ، ومن جهة أخرى فالعلم بأداء نصف الصداق يدعو الخاطب إلى التثبت في الصداق وعدم التساهل في الطلاق بعد الرؤية التي لا تكبر على أولياء المرأة ما دامت زوجا بمجرد العقد. وقد أصبح عدد غير قليل في الأمة يتضجر من عواقب اتخاذ رفيقة لمدة الحياة لا يعرف من صفاتها الذاتية الأدبية غير الاسم لذلك تعقب هاته الطريقة غالبا النفرة والاختلاف ، وقلما يكون معها بحكم الطفرة رضى وائتلاف. أما تهذيب المرأة ورفع الحجاب فهما من المسايل التي انقسمت فيها آراء الكتاب. والفكر التونسي لا يرى مانعا من الأول ويتعذر عليه الأمر الثاني وقد كتب فيه الشيخ صاحب كتاب «أم الدنيا» ، والباشا نجل الحاج عبد القادر في رسائله بما فيه غنى لكل باحث في هذا الموضوع ـ وخلاصة القول في المسألة ما ذكره أبو علي ابن سينا في شأن المرأة من الرأي السديد والقول الجامع لموجبات الزوج والزوجة في القرون الأولى ، ومضمونه بإيجاز ـ أن المرأة الصالحة شريكة الرجل في ملكه وقيمته في ماله وخليفته في رحله.

وخير النساء العاقلة الدينة الحيية الفطنة المبتذلة في خدمة زوجها ، تحسن تدبيرها وتكثر قليله بتقديرها ، وتجلو أحزانه بجميل أخلاقها وتسلي همومه بلطيف مداراتها.

وجماع سياسة الرجل أهله ثلاثة أمور : الهيبة الشديدة ، الكرامة التامة ، شغل خاطرها بالمهم. وليست الهيبة إلّا صيانة الرجل لمروءته ودينه وتصديقه وعده ووعيده. وليست الكرامة التامة إلّا تحسين شارتها ، وشدة حجابها وترك إغارتها.

وليس شغل خاطرها إلّا أن يتصل شغل المرأة بسياسة أولادها. وتدبير خدمها وتفقد ما يضمه خدرها من أعمالها. أما اتحاد العوايد بين البشر فهذا مما لا سبيل إلى الطمع فيه ، مثل توحيد اللغات والأديان والسعي وراءه معارضة لنظام الكون وسنة الله في خلقه ، ومع ذلك فلا يأتي بفائدة. (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً). ناولتني تلك الفتاة المهذبة كتابا تطالعه وأوقفتني على فصل منه فيما يتعلق بالتنبه قبل الزواج حتى يكون الزوجان على بينة ، وهو يتضمن أن الحب ربما جرى

١٧٠

بموجب ظواهر الإنسان التي تنخدع لها النفوس حتى تهيم بحبها والثناء عليها ولكن متى ظهرت خفايا البواطن زالت المحبة. وأخيرا سألتني عن سكان إفريقيا والكسل المشهور عنهم والمنتشر بينهم فأدمت فؤادي بهذا السؤال ، والحقيقة تجرح. وأجبتها بأن إفريقيا حارة الطقس وذلك من دواعي الميل إلى الراحة بعكس حرارة العلم فإنها تدعو إلى العمل ونفض غبار الكسل. لذلك يرى العالم لا يجد فراغا في أوقاته سائر بياض النهار حتى أنه يبيض جل ليله بنور المصابيح في المطالعة. ومن لوازم الراحة من حرارة القطر أو برودة العقل أحمال الفقر التي تمنع الرجال من القيام ـ والآن في المملكة التونسية أخذت الأمة في علوم الحياة واستضاءت الدنيا أمام أبصارهم بكهرباء الاحتكاك بالأمة الفرنساوية ، وأما أنتم في فرانسا فبرودة القطر وحرارة العلم نشطتكم على الأعمال وأكسبتكم ذريع الأموال. قضينا بهذا الحديث ساعات بعد الزوال والقطار يطوي البراري وينهب الأرض وراء الشمس النازلة إلى الأفق فكأنه يبغي اللحاق بها وأن لا يفارق ضوء قرصها. إلا أن سير الأرض إلى المشرق معاكسا لسيره على خط مستقيم ، وهي أسرع منه ، حال دون مبتغاه. فهل يأتي زمان تكون فيه سرعة القطار على مثال سرعة الأرض حتى إذا عاكسها في سيرها وسبح فوق البراري والبحار لا تغيب عنه الشمس ويندمج ليله مع النهار؟؟

ما تمتاز به القطارات عندهم على قطارات المملكة التونسية. السرعة وقد بيناها :

١. مكتب التلغراف في سائر المحطات.

٢. ضرب ناقوس مرتين تنبيها للركاب وبعد ثالثتهما يقلع القطار.

٣. وضع ساعة في المحطات الكبرى غير متحركة وعقاربها على أرشام الساعة والدقيقة التي يسافر فيها القطار إعلاما للمسافرين بذلك الوقت حتى لا يحتاجوا إلى الاستفسار.

٤. مكلف في إدارة المحطات الكبرى وظيفته إعطاء الإرشادات للركاب.

٥. المطابخ وبيع المأكولات بالمحطات.

وأما المميزات البسيطة فمثل الصفير بالمزجية عند السفر أو في أثناء السير للتنبيه بأصوات مقتطعة مثل صوت الناهي على أمر بحرف الهمزة والهاء والأعوان يترنمون

١٧١

في المحطات التي تجتمع بها عدة قطارات بأصوات شجية ينبهون الركاب لما يلزم ويهم.

ودخان القطارات في فرانسا يظهر كثيرا وينفذ إلى الركاب متى فتحوا المنافذ للنسيم فيققهم ويلوث ثيابهم ، ولعل كثافته من البرد وضعف النسيم فلا يوجد من الحرارة ما يتحلل به البخار ، أو من الرياح ما تتلاشى به سحبه. وبموجب الندى في هواء أروبا يلتصق سواد البخار وقتامه الفحمي بأثواب الركاب. فالمناسب في أروبا وبالأحرى في قطاراتها لبس الثياب القابلة للصبر على تقلبات السفر وكتم ألوان جنايته. والثوب مثل الرفيق فلا بد من كونه موافقا وكاتما. وسيأتي هذا في آخر الكتاب عند الكلام على لوازم المسافر. وأما ما يتعلق باللباس عموما وتطوراته وأشكاله فقد عقدنا له فصلا في ضمن دائرة الكلام على باريز التي بلغنا إليها في يوم السفر من كرونوبل واجتياز مدينة ليون على الساعة السادسة مساء في وقت الأصيل ، والشوق إليها طويل.

باريز

نزلنا إليها من محطة ليون بالجنوب وسلكنا شمالا إلى بطحاء الباستيل الذي كان سجنا وهدم في ١٤ جويليه سنة ١٧٨٩ لكراهة الفرانساويين للمسجونين ظلما حتى هجموا عليه ونقضوا جدرانه من أسسها بعد أن أراقوا دماءهم هناك وبنوا بأنقاضه قنطرة لاكونكورد الموصلة بين مجلس الأمة وبطحاء المسلة المصرية الآن.

وبالمرور على هاته البطايح التاريخية أخذنا في مشاهدات تذكارات الحرية وجميل منازلها وطيب مناخها ، وعرجنا يسارا وغربا من بطحاء الجمهورية مع شارع صان مرتان المتصل بشارع مونتمارتر غربا ، وهذا يتصل أيضا بشارع الطليان وهي أسماء بحسب الأماكن التي يمر بها هذا الشارع العظيم الذي جاء في وسط المدينة ومن أحسن مراكزها عمرانا. أرشدني إلى النزل به في أوتيل دوفمي بدرب «باساج جوفروا» صديقنا الفاضل سيدي الصادق التلاتلي «وهو الصادق إسما ومسمى» أجمل الله معاملته.

١٧٢

وكانت خيل العربة وهي تجري بنا كأنما هي السفينة التي عهدي بها في البحر غير بعيد ، تخوض في أمواج الخلائق بتلك الشوارع المتسعة النطاق ، أو كأنما هي طائرة فوق ما اشتملت عليه الطرقات من أناسي وحيوان وعربات حيث لا يرى أمام العربة قيد شبر فضاء.

ولأرباب العربات وسكان باريز عموما براعة في السير بالطرقات يجهلها الغريب ويرتبك عليه المشي فيها على الأقدام قبل التمرن كثيرا على السير في سكك المدينة.

اندهشت في أول الأمر من بحر ذلك العمران المختلف الأشكال والألوان وبين القصور الشاهقة والمخازن العامرة باختلاف البضايع. وسبح البصر في نظام هاته العاصمة الجميلة ، وتجاذبته جزئيات محاسنها الكثيرة ، فأسرع لاقتراحها الذي لا يرد ، وتردد ما بين هاته وتلك. ثم راجعت نفسي وقرأت (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا). وكففت نفسي عن الإغراق وإدامة النظر إلى فتنة الحياة الدنيا ، حيث رزق ربك خير وأبقى.

الأذن تعشق قبل العين أحيانا

يسمع البعيد عن باريز أخبارا مزعجة ومخوفة بالقتل والتعدي والسرقة وإداسة الأقدام فيتخوف الإنسان ويحسب باريز غابة مظلمة فتنقبض نفسه من هول هاته المدينة ويود أن لا يراها.

إن السلامة من سلمى وجارتها

أن لا تحل بحال قرب واديها

وأحيانا يسمع عن باريز الأخبار المسرة والداعية لزيارتها مثل الحديث على الأخلاق والمعارف والمنارة والنظام وسهولة الوصول إلى الاجتماع بالرجال العظام ولذات الحياة الدنيا. فيكاد السامع يطير إليها لو وجد جناحا ومتى أمكنته الفرصة أسرع بالخطى وأنشد أسرب القطا. والحقيقة أن كل مدينة عظيمة مثل باريز ، وهي

١٧٣

بابل الجديدة ، لا بد وأن تجري فيها الحوادث العظيمة كل لحظة لكثرة السكان وحشرهم في صعيد واحد وتزاحمهم على مركز تضيق مساكنه وطرقاته عن سكانه ، ومع ذلك هي أكثر من غيرها نظاما وحضارة وجمعا لمهمات المرافق النافعة للبشر.

بلغت باريز كما بلغت بابل ورومة وبغداد وقرطبة والقاهرة والقيروان منتهى الحضارة والرقي في العلوم والفنون الطبيعية والرياضية والحربية والصناعية والفلاحية والبحرية. وجنحت جانبا إلى اللهو وأنواع اللذات البدنية ولبس أنواع الحلل فأخذت من ذلك الحظ الوافر وواصلت الليل بالنهار ، وتقلبت في سائر الأطوار. ولكنها فاقت غيرها من العواصم التي تقدمتها أو عاصرتها في كل شيء على ما قصه علينا التاريخ وسمعناه من أفواه المسافرين في باريز من عدة ممالك ، فالاختراعات الجديدة محت بها ذكر من تقدمها وحسن الموقع الجغرافي العلمي الزراعي ونباهة الشعب جلت بهما في مضمار الفخر بين عواصم التاريخ الحاضر.

قال الشيخ ابن أبي الضياف شيخ المؤرخين التونسيين وقد زارها منذ سبعين عاما : باريز وما أدريك ما باريز ، وهي الغانية الحسناء الباسم ثغرها في وجوه القادمين ، مشحونة بأعاجيب الدنيا ، جامعة لأشتات المحاسن ينطق لسان عمرانها الزاخر. بقوله كم ترك الأول للآخر. ما شئت من علوم وصنائع وثروة وسياسة وظرف وحضارة وعدل ، تموج شوارعها بالساكن في مراكز الأمن ومضاجع العافية.

وقال الشيخ بيرم أول رؤساء الأوقاف الذي رحل إلى باريز أواخر القرن المنصرم أي منذ جيل : باريز وما أدريك ما باريز هي نزهة الدنيا وبستان العالم الأرضي وأعجوبة الزمان.

وحق للفرنساويين التفاخر بها ومباهاة الأمم بمحاسنها وجمالها وغناها ومعارفها ومصانعها «أي حسن البلاد والعباد. وثروة العلم والمال والصنايع».

ولم يترك هاذان الكتابان التونسيان بهاته الجمل الجامعة مجالا لمستزيد في الألفاظ الراجعة لتلك المعاني. غير أن باريز كل ما توصف به فهو إقلال وكلما طال الشرح فهو إجمال. وغاية ما يقال في شأنها هو ما قاله قاضي العسكر بفاس عن مدينة القاهرة بمصر في القرن الثامن أن الذي يتخيله الإنسان إذا رآه وحده دون الصورة التي تخيلها لاتساع الخيال عن كل محسوس إلّا القاهرة فإنها أوسع من كل ما يتخيل

١٧٤

فيها ، وهذا ما ينطبق تماما على باريز.

أصل التسمية والتأسيس

كانت باريز في القديم تسمى لوتايس Lute ? ce حيث منازل السكان حول المياه والمستنقعات وفي جزيرة نهر الساين التي بها الآن كنيسة نوتردام. ويطلق على السكان في القرن الأول قبل المسيح ليبريزيي. وبعد انتشار السكان حول النهر أطلق على المدينة في القرن الثالث م باريز وصارت قاعدة للملك على عهد كلوفيز في القرن الخامس.

ارتفاع باريز على سطح البحر بين الأربعين والثلاثين ميترو ، وسكانها نحو ثلاثة ملايين ، وهواؤها متغير ومحيط سورها نحو ٣٦ ميلا. نزلنا بقسم الأبيرا وهو التاسع من عشرين قسما كل واحد تحت نظر شيخ وبعض أعضاء ، وطولها من الشرق إلى الغرب نحو اثني عشر ميلا وعرضها من الشمال إلى الجنوب نحو تسعة أميال ونهر الساين يأتيها من الجنوب الشرقي متسربا بين محطة قطار ليون وبين محطة دوستارلي ، ثم ينقسم إلى فرعين حتى يكون جزيرة تنقسم لاثنتين بخليج بين الفرعين. وفي الجزيرة الغربية منهما نوتردام ثم يتصاعد في الشمال حتى يقارب جنوب قصر اللوفر وبستان التويلري ، وبعد مجاوزة قنطرة لاكونكورد يذهب مغربا باستقامة بين قصري الصور الدهنية شمالا وبين وزارة الخارجية وبستان قصر نابليون جنوبا. ثم يرجع للجنوب بين قصر تروكاديرو غربا وصرح إيفل شرقا حتى يخرج من الجنوب الغربي للمدينة بعد أن يرسم بها قوسا طرفاه بالجنوب ومحد به بالشمال مثلما وصفنا به بحيرة جنيف. ويوجد وتر صغير لهذا القوس يبتدئ من مجلس الأمة غربا إلى مبدأ جزيرتي النهر شرقا ، وهو نهج صان جرمان العظيم. وإذا قابلت هذا الوتر المحدب قليلا للجنوب بقوس آخر في شمال النهر محد به للشمال ، ومن حيث انتهى نهج صان جرمان ، وهو نهج هنري الرابع من غربي الجزيرتين المذكورتين مارا على بطحاء الباستيل التي قدمناها بعد محطة ليون فشارع بون مارشي ، فبطحاء الحرية ، فشارع صان مرتان فشارع مونتماتر الذي نزلنا به ، فشارع الطليان فشارع

١٧٥

مادلاين فشارع روايال المتصل ببطحاء كونكورد وقنطرتها ومجلس الأمة من حيث ابتدأ شارع صان جرمان. فتلك دائرة مدينة كبرى تتكون من هاذين القوسين في وسطها نهر الساين ، وفي هاته الدائرة مركز العمران وازدحام السكان وهي قلب مدينة باريز. وإن كانت المدينة كلها على شكل قلب. والنهر كدم الحياة يتمشى فيه ورأس هذا الشكل الصنوبري أو المخروط الهندسي من الغرب واتساعه من الشرق.

سكك المدينة

عندهم لها أسماء ، فالفنوما كان متسعا وتكتنفه الأشجار بين المنازل الرفيعة والقصور العالية مثل نهج فرانسا بباب البحر بتونس ، والبلفار دونه في ذلك كله وغالبا به مخازن التجارة مثل الشارع الذي بين باب البحر وباب الجزيرة بتونس.

والنهج يطلق على بقية السكك الصغرى ، والممشى بين الأشجار يسمى «ألي».

والعلامة المعطاة لباريز على عادتهم في البلدان والعائلات. صورة مركب في البحر والكتابة «تسبح ولا تغرق».

الحضارة والبداوة في باريز

باريز هي بابل الساحرة. وما السحر إلّا بحاضرتها الغير المألوفة ، وآدابها الغير المعروفة. عند الأجيال الغابرة ، بل وأكثر الأمم الحاضرة. فباريز إذا سميت عاصمة فهي أم العواصم ، وإن قيل فيها قاهرة فهي قاهرة اسما ومسمى. وإن عبروا عنها بالحاضرة ، أو بالمدينة الزاخرة ، فالأنسب أن تدعى بابل الساحرة ، والمنصف لا يجنح إلى النزاع أو يلج في المكابرة.

كثيرا ما يفوز في المناظرة حزب القائلين بمدح البوادي واعتبارها أحسن مناخا وأطيب هواء وأحفظ للشرف والمال من الحواضر التي هي في القديم أو في غالب أحوالها لا تنطبق هندسة بناءاتها وضيق سككها وتراكم قماماتها على القواعد الكافية لصحة الأجسام ونقاوة الهواء وتسريح النظر في متسع الفضاء وخضرة

١٧٦

النبات. كما أن الاضطهادات التي عرضت قبل صدر الإسلام وبعده لسكان المدن وهم أضعف خلق الله أموالا وأبدانا تجهمت بها الحواضر في أعين الناس ورأوها بصفة أقفاص يسامون فيها سوء العذاب. وكلما التفتوا إلى بساط البداوة تجلى في أعينهم جميلا فتنكبوا إليه وقنعوا بما انتشر على مائدته من النبات وسروا على ما في سقفه من النجوم ، وناموا به على سرر العز فأنسوا بها وهم جوار الوحوش واستغنوا على كثير الحاجات ، وما هم فقراء ، فأخذوا بحظ من العصور الأولى لمبدأ الإنسان المسماة بالدور الذهبي لما فيه من راحة بدن الإنسان وقلبه وحواسه من التكاليف. وربما عرف أرباب التحزب للحواضر ما لأهل البداوة من مكان الاعتزاز فصمدوا إليهم في النوايب واستجاشوا بهم على أعدائهم. وهل أتاك حديث عبد المومن بن علي مع عرب سليم واستدعائه لهم بشعره للتوثب بهم على الأندلس ، وتقدم هذا في بعض الفصول من المقدمة ؛ وما لملوك بني حفص بتونس وملوك بني حمو بتلمسان في شد أزرهم والتعاظم على أعدائهم بكماة قبائل العرب. والدول تستجد عمرا جديدا سالما من الهرم متى اتخذت جندها من أهل البادية عوض المعتادين للترف على ما أشار إلى طرف من هذا ابن خلدون وخبرته المشاهدة.

ولم يجهل أرباب الحضر مقام أهل البادية في الكرم فقصدوهم ابتغاء معروفهم.

أما محمود الأخلاق وسلامة الأبدان وفصاحة اللسان فكفاك أن الملوك يرسلون بأبنائهم إلى البوادي ليأخذوا من جبلة أبنائها ويشبوا على كريم أخلاقها ويتغذوا بفصاحة شيحها وقيصومها.

وما قررناه من أن الاضطهاد إنما عرض لسكان المدن قبل صدر الإسلام وبعده ، حيث أن صدر الإسلام استوصى بأهل المدن خيرا ، ولعل ذلك لما قررناه في شأنهم من الضعف ولكونهم أرباب الحذق في الصنائع التي تسد حاجة البشر. فمراعاتهم ومعاضدتهم من قبيل الإعانة على العمران لما لهم من الرقي الفكري في هذا الشأن.

والحواضر التي تطفأ بها حرارة النفوس وتبرد العزايم وتخضع الرقاب وتستسلم الإرادة هي التي يكون بها الاضطهاد سائدا والاستبداد في الأحكام رائدا والضغط على الحرية متزايدا. فتتربى ملكة الجبن وتذهب معاني الرجولية ، وتنكسر شوكة الشهامة وتتولد الرذايل ، فتفسد الطباع ، وينكمش أرباب الأموال والعلم والصناع.

١٧٧

وكل ذلك خسارة كبرى في عمران الكون وعالم الاجتماع. ومرتع وخيم لسياسة الدولة ، ووبال على جل الأمة التي هذا شأنها.

أما العدل والمساواة والحرية فمن بواعث استنارة العقول ، وانطلاق الألسنة في كل مقول. واستدرار منافع الحياة بسائر الطرق الطبيعية متى كانت سابحة في بسائط العدل وراتعة في بحبوحة الأمن ، الأمر الذي يوجد في باريز بأتم معانيه وأكمل مظاهره.

فحضارتها على خلاف المعهود لم تجنح بسكانها إلى التكاسل أو إلقاء شؤونهم بيد أتباعهم أو الترفع عن مشي الأقدام ، أو حصر أوقاتهم في تحسين الهندام أو جعل حديثهم كله في الكأس وأنواع الطعام ، كلا ثم كلا.

جمع سكان باريز بين آداب الحواضر ولذتها ، وشهامة البداوة وعزتها. يعمل رجالهم ونساؤهم ولا يلتصقون بالمنازل إلّا قليلا. يجوبون الشوارع والمنازه وضواحي المدينة على الأقدام سواء في ذلك عزيزهم ووسطهم رجالهم ونساؤهم ، اللهم إلّا في بعض الأوقات ، بموجب الاستعجال أو التفاخر بالمركبات. وليس فيهم من لا شغل له. يقنعون بالأكل بما يسد الرمق ، ولكن على أسلوب حضري منظم يوافق القواعد الصحية والأشغال البدنية «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه ، حسب المسلم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه».

ويكتفون ، أعني رجالهم ، باللباس البسيط مع نظافته ومراعاة ترتيب لبسه والموازنة بين أجزائه. وسيأتي في فصل اللباس الإلماع لمعنى الموازنة بين الأجزاء. وتقسمت أوقاتهم فاستقامت حياتهم. تهون عليهم الأسفار ، وجوب الأقطار ، يتألفون لاستطلاع أحوال الممالك قطعانا ، ويترامون على فدافد البادية وتسلق الجبال زرافات ووحدانا.

لهم قدرة على الكفاح باللسان والقلم والسلاح ، ينزعون إلى التدرب على الفروسية والرماية والسباحة. ولهم أعمال لرياضة البدن يلقنها الأساتذة للتلامذة من عهد الصبا في مدارس التعليم ويمرنونهم عليها ، وعلى كثير من الخصال الحميدة التي يتنافس فيها أفرادهم لكونها من أسباب السيادة التي لا تحصل بالراحة والنزع إلى الانزواء أو إلى مسالك البطالة. بل هاته كلها من أسباب ذهابها بالمرة. والرجال

١٧٨

الذين طلبوا العلى واصلوا الليل بالنهار ، لإنجاز الأوطار. فطار ذكرهم وانساق الشرف لعائلاتهم أو قبائلهم أو أممهم ، كل على حسب ما تهيأ له وبلغه مقدوره.

وإذا كانت النفوس كبارا

تعبت في مرادها الأجسام

فسكان باريز لذلك كله نمت صحتهم ، وازدادت شهامتهم ، وحريتهم ، وتقوت جماعتهم وأنكت بالعدو حميتهم. فاغتبطتهم على هذا الأودّاء ، وأيست من مناواتهم الأعداء. والمملكة متى كان هذا شأنها في أمصارها ، ومراكز حضارتها ونعيمها ومظهر أبهة سلطانها ، ولم تهو بها الحضارة الكاذبة إلى الترف المذموم والشرف الموهوم ، امتدت حياة عمرانها ، ودامت سعادة سكانها. وصفوة القول إن هذا المصر وكذا أمصار أروبا على ما يبلغنا عنها بمنجاة من كل ما يخشى منه الخطر على الأمة كانحلال الجامعة أو قلة الحامية والجند أو ضعف الشجاعة والأبدان بالانكباب على الشهوات ، والانقطاع إلى الترف واللذات. أثبت الاستقراء وجود تفاوت بين ممالك أروبا في الرقي اقتضته أسباب سياسية أو جغرافية أو مالية أو اجتماعية. إلا أن التوازن موجود في الجملة ولهذا طال السلم في أروبا. ومتى تكدر صفوه في النادر القليل فقد جاء في التاريخ أن الساقط فيه لا يعتم أن ينهض والمغلوب أن يغلب. وأن الحروب إذا تورطت فيها أي أمة منهم بغلطات بعض رجال سياستها واندحرت في لججها المغرقة ، ونكبت بمدمراتها المحرقة ، فلا تلبث الأمة بعد ذلك أن تتلافى أمرها وتتدارك غلطتها ، وتلم شعثها وتنشل شرفها وتجمع كلمتها ، وترفع رأسها رافلة في حياة جديدة ، وجنود عديدة ، وعدد شديدة. وما الفضل كل الفضل إلّا لعموم الإحساس في جلب الصالح العام واتحاد الشعور في درء النوائب. فإذا نادى مصلحهم لبّاه صوت الأمة كلها وانتشرت حول صعيده قلوبها وشخصت إليه أبصارها ومدته برجالها ومالها. وقوة هذا الاتحاد مما تندك أمامها الجبال ، وتبلغ بها الأمم أقصى الآمال. تناهوا إلى هاته الغاية في التمدن الإنساني والرقي السياسي بعد طول التجربة مئات من السنين دأبوا فيها على تحصيل أنواع العلوم وتوخي طرق التربية الصحيحة حتى برعوا في علم أمور دنياهم ولم ينسوا نصيبهم منها ، فأضحوا

١٧٩

وطبيعتهم الراسخة المتوارثة وشغلهم الوحيد هو الانهماك في شئون عالم الكون والفساد يعلمون ظاهرا مفيدا من الحياة الدنيا. (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). باريز شبه بابل. ذكرت فيما تقدم أن باريز شابهت عمران بابل وحضارتها وفاقت العواصم السابقة واللاحقة وأذكر هنا مما حدثوا به عن بابل وأبين وجوه الشبه بينهما في الرقي.

بابل عاصمة الكلدانيين على ضفتي نهر الفرات بالعراق بنيت في القرن السابع والعشرين قبل المسيح ، وبني القصر الذي بها في القرن الثالث والعشرين (ق. م) ، يحيط بها سور مربع الشكل كل جهة منه تزيد على عشرين ميلا بحيث يبلغ تكسير المساحة التي اشتمل عليها نحو خمسمائة ميل. وله خمسة وعشرون بابا من كل جهة ، وتصل الطرقات المستقيمة بالمدينة بين الأبواب المتقابلة فتتكون أقسام بالمدينة كقطع الشطرنج عددها ٦٢٥ ، وسمك السور خمسون ذراعا ، وارتفاعه مايتا ذراع وحول السور خندق ، وموقعها جاء في بساط سهل ، وبالمدينة مرصد لحركات الكواكب.

والبساتين المعلقة المغروسة على أرض صناعية مقامة على أعمدة متينة ومدرجة الجوانب. وبالمدينة البقول والرياحين والأشجار المثمرة ، وقد علمت أن النهر يأتي لها بالتمر والخمر من سكان أعاليه في الفلك المهيأة من الجلود والأعواد التي ترجع بها الأحمرة إلى أعالي النهر حسبما قررنا ذلك عند الكلام على أدوار الفلك والسير على الماء. وذكروا عن هيكل إلههم بعل الذي بنته سميراميس أن ارتفاعه نحو مايتي ميترو وعدا الأبراج التي فوقه. وسكانها أهل ذكاء ومعارف وإقدام. وعادتهم في المداواة «والطب أساسه التجربة» أن يضعوا المريض على الطريق ، وكل من مر به يخبر بالدواء الذي نجع في مثل ذلك الألم.

ولهم اعتناء في ترتيب أثاث وموائد منازلهم ولباسهم فجمعت هاته المدينة ، لاتساع نطاق العمران ، جمال الموقع وجودة التربة وغزارة المياه وقوة الأمة بالعلم والمال والإقدام فطارت شهرتها في الآفاق ، وهي جاثمة بالعراق. فلا غرابة إذا خضعت لها الأقطار ، ودعيت مدينة التجار. واستمر ذكرها إلى الآن يملأ صحائف المؤرخين شروحا وأندية السمر إعجابا وقد مضى على ذلك آلاف من السنين وجاءت العواصم بعدها وشاكلتها في بعض الوجوه. إلا أن باريز قد شابهتها في كثير من ذلك

١٨٠