البرنس في باريس

محمّد المقداد الورتتاني

البرنس في باريس

المؤلف:

محمّد المقداد الورتتاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-605-5
الصفحات: ٣٩٥

روضة قد صبا لها السعد شوقا

قد صفا جوها وطاب المقيل

جوها سجسج وفيها نسيم

كل غصن إلى لقاه يميل

صح سكانها جميعا من الدا

ء وجسم النسيم فيها عليل

إيه يا ماء نهرنا العذب صلصل

حبذا يا زلال منك الصليل

إيه يا ورقها المرنة غني

فحياة النفوس منك الهديل

روض (أرياج) فقت طبعا ووصفا

فكثير الثناء فيك قليل

ته على الشعب شعب بوان وافخر

فعلى ما تقول قام الدليل

نهر دافق وجو أنيق

زهر فائق وظل ظليل

فيه لي رفقة رقاق الحواشي

كاد لين الطباع منهم يسيل

أريحيون لو تسومهم النف

س لجادوا فليس منهم بخيل

رجعنا إلى كرونوبل عند الأصيل محاذين لسكة القطار الكهربائي ، وعند ما بلغنا نصف المسافة انحصر الطريق بين جبلين وامتدت ظلال الأشجار على حفافي الخليج. وفي ذلك المضيق تؤنس المسافر الأطيار ، وتهب عليه نفحات الأزهار وتسليه تلك المسالك على بعد الدار. وتستوقف النواظر منه تلك الجبال المخضرة الأديم الآمنة السرب. وبالجملة فجميع الحواس لا محيص لها هناك من المشاركة في حظ من

١٤١

لذات الحياة الدنيا. وجدت في كرونوبل مظاهرات ضد قانون الثلاثة أعوام وسيأتي الحديث عنه في مجلس الأمة بباريز.

جبال شارطروز

ركبنا يوما بعد الزوال سيارة صديقا دالبايرتو وصعدنا إلى جبال شارطروز شمال كرونوبل وما أبنا منها إلا قبيل الغروب. قضينا في صعودها ونزولها وتعاريجها ودروبها وقراها نحو ست ساعات ، وقطعنا نيفا وسبعين ميلا في الغابات الجميلة والارتفاعات التي تزيد على ألفي ميترو. ذهبنا من غربي الجبال وأبنا من شرقيها ، فمررنا على قرية فورايب بعد أن تركنا جبل نايرون على يميننا شرقا ، وكانت على يسارنا سكة حديد ليون ومن ورائها غربا نهر دراك وإيزاير مجتمعين بعد مجاوزتهما كرونوبل.

كشفنا على قرية صان لوران دوبون وهي في أساس جبال عليا ذات غابات عظمى جاءت في انحدار إلى الشرق والجنوب وقريبة من شعب عظيم. ومنها تنعطف مشرقة الطريق الموصلة إلى دير شارطروز ، والطريق فيما بينهما من أحسن الطرقات التي أجادت هندستها يد البشر وانتفعت بها أرباب الخلاعة والتجارة والصناعة لسير السيارات الكهربائية التي تطير فيها أرباب المال منهم في ظلال أشجار الجبال «ولسير العربات الحاملة لأطول الأشجار المقطوعة من الغابات». وقد وجدنا كثيرا منها في تلك الثنيات المتفرعة من دروب وفجاج هناك تسمى الحلقوم لضغط الجبال عليها والإحاطة بها. نزلنا من السيارة على الضفة الغربية من الوادي الجاري من الشمال إلى الجنوب في الحلقوم الذي بين صان لوران دوبو وبين دير الرهبان بشارطروز ، وتماشينا على جانب الرصيف الحجري الذي يحفظ السالكين بالطريق التي يكتنفها جبلان عظيمان يحجبان بارتفاع أشجارهما أشعة الشمس ، فلا يوجد هناك إلّا ظل ممدود وماء مسكوب.

وقانا لفحة الرمضاء واد

سقاه مضاعف الغيث العميم

١٤٢

نزلنا دوحه فحنى علينا

حنو الوالدات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأ زلالا

ألذ من المدامة للنديم

يصد الشمس أنى واجهتنا

فيحجبها ويأذن للنسيم

ورأيت في هاته الغابات نظاما لقطع الشجر من جانب منها ثم يصان إلى أن تنمو أصوله ويرجع كعادته ، وفي مدة صيانته يقص جانب آخر وهكذا. فالأشجار لها قوانين خاصة ولها عشاق كبقية المناظر الطبيعية مثل الجبال والبحار. ومعلوم أن منافع الأشجار كثيرة للإنسان والحيوان ، فأول ما ستر به آدم أبو البشر جسده هي أوراق الشجر. وأول ما اقتات منه ربما كانت ثمارها. ومن ألواحها أول ما بنيت المساكن فيما يظهر ، ومن حطبها كان تنضيج اللحم وبقية أنواع الغذاء ومنها خشب آلات حرث الحبوب. فالمنافع الطبية في الغابات ثم الاجتماعية كسقوفات المساكن وطرقات سكك الحديد وسفن البحر ثم الصناعية حتى الصبغ والدبغ. خدمت الأشجار العلم خدمة عظيمة بالكاغد الذي تحرر عليه الكتابة وتخلد به العلوم.

فالأشجار تخدم الحيوان بل والعالم في حال حياتها بثمارها ومناظرها وظلالها وطيب هوائها. وفي حال مماتها باستعمالها في غالب حاجات وضروريات الحيوان الذي تخدمه بموتها ليعيش. لذلك غرس الأشجار من منافع الحياة ومن الأعمال العظيمة.

وقطع الأشجار جناية كبرى على العالم أجمع.

وصلنا إلى كوفان دوشارطروز وهو دير للرهبان في جبال شارطروز أسسه منذ قرون من كان محبا للبعد عن الناس والتفرغ للعبادة. حيث وجد مبتغاه بين الجبال المسماة شارطروز جوفي كرونوبل. وأنت تعلم أن الحكماء اختارت أربع كلمات من أربع كتب ، فمن التوراة من قنع شبع ، ومن الزبور من سكت سلم ، ومن الإنجيل من اعتزل نجى. ومن الفرقان (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). وقال ثابت بن قرة : راحة الروح في قلة الآثام ، وراحة القلب في قلة الاهتمام ، وراحة

١٤٣

اللسان في قلة الكلام ـ فمن وفق في هذا المكان نجا من الآثام والكلام والاهتمام ـ واخترع العباد به خمرا جيدا فعالا في بابه ، محبوبا عند أربابه ، يتغالون فيه بأسعار باهظة نال به حزب الانقطاع أموالا ، غزيرة ساعدتهم على تحسين حال سكناهم وتوسيع دائرة برهم وصدقاتهم وعلى خدمة المنافع الجالبة للمال أيضا. فهذا الدير به الضدان : معبد ذو انقطاع ، وملهى السافكين دم الشمول. وبالبناءات متانة تستوجب مصاريف عظيمة واعتناء بالغا ، وبها أقسام للعبادة وأخرى كالسجون ، بيوت بها طاقات يمد منها الغذاء للمقيم بها. وخزائن للكتب ومطابخ كبرى وكأنهم يقرؤون في هاته الحالة ما نظمه عمر الخيام :

وأجبني ووافني لاعتزال

وابتعاد عن محض قيل وقال

رب قفر من المظالم خال

ليس فيه عبد ولا سلطان

هو عندي المكان نعم المكان

رب كهف تثوبه نفس أبي

فاق قصرا طالت ذراه السحابا

وجدنا حارسا أرشدنا إلى طرقه الطويلة ، وفي بعضها ظلمة والداخل هناك لو لا الهداية يضل. بلغني أن أولائك الرهبان يعملون في العبادة وفي خدمة الأرض معا :

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه

ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

ولاكن لا يتكلمون بشيء سوى يا أخي لا بد من الموت ـ وفي عام ١٩٠٣ عملا بقانون عام ١٩٠١ أبعدوا من ذلك الدير الكبير وبقي خاويا بلقعا ، وذهب الرهبان هم واختراعهم الخمري إلى جهات إسبانيا. وسيأتي ما لنا من الكلام على الخمور عند

١٤٤

الكلام على مستشفى باستور بباريز. تجاوزنا دير الرهبان إلى قرية صان بياير وبها أتيلات من بينها أتيل ديزاير الذي نزلنا في ساحته. وأسعارها كالحواضر مع أنها في الجبال ، وذلك من تسهيلات الإقامة في تلك الارتفاعات الخالية من الأكدار العامرة بالاطمئنان وراحة الجنان والوافدون الراغبون في حسن الهواء والمعيشة المنفردة والرياضة على الأقدام ، وخلو البال كثيرون هناك حيث توجد الأطباء وكل المرافق ، وسيأتي مزيد الكلام على البداوة في باريز. في أثناء جلوسنا أتاني طالب معروف فنفحته بما تيسر وتلك أول مرة وآخرها رأيت بها مستجديا. ولما رآه رفيقي الكرونوبلي نهره وأبعده عن تلك الساحة فأخذت عليه في خاطري لما أعلم عن هذا الجنس من أنه خير الناس بمسكين ويتيم ، وقلت لعلهم لا يريدون أن يروا ما يقلق الضيوف ، أو لأمر أخص من ذلك بأن لا يروا أبناء جنسهم يتكففون ، حتى علمت فيما بعد ببلدانهم قطع أيدي الطلاب بإيواء العجز إلى التكايا وحرمان الصحيح من العطايا ليلتجئ إلى العمل ، إذ حالة الطلب من كلا هاذين محزنة جدا شفقة على الأول ، ومن السير على خلاف الطبيعة في الثاني ، ومن اللايق عدم ترك الأول والثاني يلحفان في الطلب ، ويبديان الصخب والشغب ، فيستلفتان الأنظار ويمنعان سير المار ، والغريب بلا شك يرشق الأمة التي تكثر طلابها بسهام التأنيب والاحتقار. مدح المؤرخون أحد خلفاء بغداد فقالوا : أنفق الواثق في أيامه الأموال في وجوه البر ببغداد في النصف الأول من القرن ٣ فحسنت أحوال التجار وبنوا أسواقهم بالجص والآجر وجعلوا أبواب حوانيتهم من حديد ، ومنع السؤال وصار يجرى على المعوزين النفقة والكسوة. وقالوا عن أخبار بعض ملوك الهند في القرون الأولى بعد الهجرة : ولا يدع السلطان بدهلي سائلا يستعطي الناس بل كل من استعطى منع من هذا وأجرى عليه ما يجري على أمثاله من الفقراء.

قبيل الغروب كان انحدارنا من أعلى جبال شارطروز وكانت الشمس أمامنا سائرة نحو التنزه بين جبال كرونوبل الشاهقة وقد لبست ثوبا معصفرا وجللت نهر ليزاير بالنضار ونحن ننظر إليه وقد عانق المدينة الجميلة وطوقها :

نهر يهيم بحسنه من لم يهم

ويجيد فيه الشعر من لم يشعر

١٤٥

ما اصفر وجه الشمس عند غروبها

إلا لفرقة حسن ذاك المنظر

وعلى يسارنا وشرقي المدينة المروج النضرة تنساب فيها أعالي النهر المذكور آتيا من جهات شامبري :

فكأنه وكأن خضرة شطه

سيف يسل على بساط أخضر

نزلنا من السيارة عند ما عرض لنا روض دعتنا أزهاره للوقوف فاقتطفنا منها ولم تشح بالنوال :

والروض بين مفضض ومذهب

والزهر بين مدرهم ومدنر

ولم يكن أسفنا بعد موادعة ذلك الروض وتلك المناظر العالية الغالية بأقل من أسف الشمس على الفراق :

وعشية كم كنت أوقف وقتها

سمحت بها الأيام بعد تعذر

دخلنا المدينة من قرية لا طرونش في الشمال الشرقي منها فوجدنا بعض الناس آيبين أيضا مع الشاطئ الجنوبي من منازه الجزيرة الخضراء وألعاب تنيس التي للأروباويين بها ولع شديد ، وهي نوع من ألعاب الكرة فيه رياضة وتسلية.

إيكس ليبا : سافرت من كرونوبل قاصدا جنيف ونزلت في إيكس لبا بالكار الغربي ، وكانت للغرب منها بحيرة بورجي على بعد نحو ميلين. ويظهر أن إيكس ليبا مثل أماكن النزهة والمداوات لا تفتح ولا يلتئم عمرانها إلّا من أكتوبر إلى نوفامبر.

وتكاد أن تكون جميع منازل المدينة أتيلات مثل فيشي ، إلّا أن منازل هاته أضخم وبساتينها أكبر وأسعارها أوفر. وفيشي أحسن ماء وأعدل مكانا وأرخص أسعارا وأبهج

١٤٦

منظرا. وبها من أبناء الشرق وأهل اللسان العربي ما يؤنس الشرقي بخلاف إيكس ليبا كما سيأتي. وسعر الانتفاع بالمياه في الأحواض وأخذ الإزارات بلغني عنه ما يهون علينا أسعار قربص الجديدة بتونس ، بل ويحث الأروباويين على تقضية فصل الشتاء في قربص الذي به المناظر الجميلة التونسية البرية والبحرية والهواء الطيب والأسعار الرخيصة والاستحمام بمياهه الغريبة النفع والعديمة النظير والفعالة بالشفاء العاجل بإرادة الله تعالى.

سكان إيكس ليبا نحو آلاف ٨ وفي المصيف أكثر من ذلك ، وفيه يبلغ عدد الزائرين نحو أربعين ألفا وهذا ما يضاهي فيشي أو يفوقها. وجمعية مصالح المدينة «صانديكا دونيسياتيف» من أسباب توفير عدد الزائرين بما ينشرونه من الكتايب والتعريف بمنافع ومنتزهات بلدهم.

وربما ساق الزائرين إليها موقعها العامر بما حواليه من القرى والجبال والبحيرات ، لذلك ربما كان طقسها أبرد من فيشي. وهي في ضواحي كرونوبل كما علمت ومتوسطة بين البلدتين الجميلتين كرونوبل وجنيف. وليست لهما ثالثة في جمال الموقع وكثرة المنازه والمناظر الطبيعية المحيطة بهما في جميع الجهات والبلدان التي شاهدتها. يسكنها نصف غني لكثرة المصاريف ، ونصف مريض لأن نفع مياهها يكاد في تأثيراته أن يقارب مياه فيشي ، ويمكن أن يكون في منزلة حمام الأنف بالنسبة إلى قربص وبالأخص من جهة آلام الأعصاب. ويسكنها نصف متنزه لتوسطها بين جنيف وكرونوبل وبقرب الجبال والمروج والبحيرات وهذا مما تفوق به فيشي. من الكار الغربي المذكور يصعد في طريق يسمى به إلى بطحاء بها الأشجار والكراسي تسمى (بارك) وعلى اليمين أي إلى الجنوب من ذلك البستان طريق شامبري وكرونوبل وبه مخزن تباع به البضايع التونسية ، وإلى الشمال طريق جنيف وهما متقابلان ، وكلاهما كلما أوغل وقارب طرف المدينة مال إلى الغرب حتى يماسس خطا مستقيما كوتر على قوس هو بلفار الكار حدا غربيا للبلاد مارا بين محطة سكة الحديد والمدينة.

وفي زاوية ملتقى نهجي الكار وفي قبالته شرقا مطعم نظيف ومناسب قلت به فرأيت فيه المرافق اللائقة للمتحري في أمر معيشته مع الرفق.

مياه إيكس ليبا منها الحار ومنها البارد ، وآثار البناءات الرومانية تشهد بانتفاع

١٤٧

الرومان تلك الأمة الراقية الجاري ذكرها إلى الآن مع المياه التي سار على منوالهم في إحياء النفع بها أمم أروبا. ونحن في قربص لو لا النظام الجديد من شركة فرنساوية لبقيت معاناة السفر تذيق أرباب الحاجات إليه ما هو أمر من آلام الأمراض نفسها.

وبجهات قصطيلية بجنوب المملكة وفي جنباتها أيضا مياه كثيرة حارة وربما سميت بعض البلدان لأجل ذلك بالحامة تصحيف الحمة وهي العين الحارة. وفي قفصة يسمى ماؤها الحار «ترميل» ولعلها كلمة يونانية من زمن الروم «الإكريق» الدولة التي وجدها الإسلام بإفريقيا وأصلها «تيرمال» Thermal أي الحار ، ومنه التيرموميتر ميزان الحرارة ، شاهدت تلك المياه المتفجرة في عدة أماكن من مدينة قفصة وأحوازها عذبة.

تسمح في تلك الأراضي الطيبة ، التي بها الآن جانب من النخيل والزيتون وأشجار بعض الغلال أطلعني عليها صديقنا الفاضل سيدي بلقاسم بن العربي الشريف شيخ الطريقة القادرية ، أن تكون ثروة قفصة وعمرانها في درجة معتبرة. ولتوسط موقعها بين أراضي الفلاحة والنخيل والزيتون «إفريقيا والجريد والساحل» يمكن أن تضاهي مدينة صفاقس الشهيرة الآن بالثروة والعمل وهما أمران متلازمان. ومن لم يعرف مدينة صفاقس وأهاليها لم يطلع في المملكة التونسية على الأعمال الكثيرة والثروة الغزيرة والنفوس الكبيرة. بحمامات إيكس ليبا عينان إحداهما تعرف بعين الشب اسم لا مسمى ، والثانية بعين الكبريت ودرجة حرارة الماء فوق الأربعين صانتيكراد يعالج بهاته المياه على ما بلغني : مرض المفاصل ـ الصداع العصبي ـ تليين الأعصاب اليابسة ـ الحب الإفرنجي ـ البول السكري ـ تقليل الشحم ـ أمراض الجلد ـ الأمراض الداخلية للنسوة ـ الأمعاء ـ ضد الإسهال. والاستحمام بها للفقراء مجانا وهذا من محاسنها ، والأهالي يدخلون أيضا مجانا. والظاهر أن الأهالي بقربص كذلك. والساكن الأصلي أولى بالرحمة والاعتبار.

بلغني أنها تقام بها أفراح عامة كسباق الخيل وصيد الحمام ونعمت الرياضة ركوب الخيل وسباقها ونعمت النزهة حضورها ، وليت شركة قربص تعين أياما في السنة وبالأخص في أيام الربيع تقيم بها أفراحا عامة تسلي المتنزهين وتجلب ما يرجع بالنفع على الشركة بهذا الإشهار.

بلغني أن في إيكس ليبا من الديار المعدة لسكنى الزائرين لمدة شهر ما يبلغ كراؤه

١٤٨

العشرة آلاف فرنك مع جنيناتها ، رأيت بها كثيرا من الأجانب ويظهر أنهم من أصحاب اللسان الألماني والأنكليزي الذي لا يجيب من يكلمه ولا يركن لمن يجالسه وممن لا يرى في الوجود سواه ، سبحانك اللهم إن العظمة لا تكون إلا إليك.

فكأنما نحن في هاته القرية لسنا في مدن فرانسا الباسمة في وجه زائريها والمرحبة بالقادمين إليها والمرشد أهلها لسائلهم ، وربما بدأوه بالسؤال تعطفا لإرشاده وإمداده بما عسى أن يسأل عنه أو يحتاجه ، ولذلك لم تحصل لي رغبة في الإقامة بها وتحبب إلي الخروج منها وأنشدت قول المتنبي :

ولكن الفتى العربي فيها

غريب الوجه واليد واللسان

ملاعب جنة لو سار فيها

سليمان لسار بترجمان

وربما كنت غير ذي حاجة إليها والانتفاع بمياهها. والعذر لأرباب الحاجات.

ويقولون عن إيكس ليبا أنها ملكة المنازل ومنازل الملوك لكثرة زوارها منهم. فعلمت أن ذلك سبب غلاء الأسعار في المنازل والبضائع التي شاهدتها والتحف التي بها ، وبالأخص أواني البلور الملون المختلفة الأشكال وهي غاية في النفاسة. حاولت أن أقتني منها بعض قطع فوجدتها غالية وتذكرت أن المال للمسافر أنفس منها ، فتركت بضاعة ملكة المنازل لمن ينزلها ويممت جنيف على طريق آنسي.

وأشكر شركة تقدم البلاد في إيكس ليبا عما أمدتنا به من الإعانة. مملك السويس. شاهقة الجبال وبها تدوم النباتات لما بها من الثلوج. وكثيرة الحيوان ، وأهاليها أرباب جد وصنائع واقتصاد واتحاد ، والسويس كعبة الأغنياء لحسن المناظر ، وتلامذة العلم للكليات العالية فيها ، وأرباب السياسة المضطهدين لحرية القول هناك.

ومن ذلك يحصل للمملكة دخل عظيم يقدر بعشرات الملايين في العام ، واعتنى الأهالي بإحضار ما يلائم ذوق جميع الوافدين لاستدرار أموالهم وهم في بلدانهم ، جمعوا بين الوطن والوطر ، فما أسعد الأمم التي تكون مثلهم. أما في المعارف والتربية وترتيب أثاث المنازل فيكفي أن الدولة تصرف أكثر من ثلث ميزانيتها على المكاتب ،

١٤٩

ونساؤهم يجلبن لمنازل الأعيان في سائر الممالك حاضنات ومعينات على القيام بالمنزل. ولا أقول خادمات لأنهم منعوا هاته الكلمة أخيرا وسيأتي ذكر ذلك في باريز. والسويس الآن جمهورية مؤسسة من عام ١٨١٣ ومتمتعة بلذات الحرية التامة.

قال بعض المؤرخين كانت تسمى في القديم هلفيسيا وتولى عليها يوليوس قيصر ، ودامت تحت سيطرة الرومانيين نحو خمسة أجيال حتى نزعها منهم البورغون ، ثم أخذها الفرانساويون في الجيل السادس للمسيح ، والألمانيون في الجيل التاسع ، واستبدوا بها حتى الجيل الرابع عشر إذ أخذ إمبراطور ألمانيا يقسو على أهلها ويعاملهم بالخشونة وإذ ذاك قام رجل شجاع من الفلاحين اسمه غيليوم تل وتصدى لأمر الوالي بالاعتراض فحنق عليه الوالي وعاقبه معاقبة ترتعد منها الفرائص. وهي أنه أمره أن يضع على رأس ابنه الوحيد تفاحة غرضا لرمي النبال ويطلق عليها النبل بيده وإلّا قتله وابنه فأخذ غيليوم تل سهمين رغما عن إرادته ورمى بأحدهما التفاحة فأصابها لحذاقته في الرماية ولم ينل وحيده ضرر ، ثم التفت إلى الوالي قائلا له لو أصاب ابني السهم الأول لصوبت عليك الثاني ، واستبدوا بالاستقلالية سنة ١٣٠٨ م.

المدينة الهادئة

هي جنيف. وعلامتها حسب العادة في إعطاء أسماء وعلامات للعائلات والبلدان (بعد الظلمات النور) وصورة مفتاح ورأس وجناح طاير. ومعنى الجملة في القديم يتعلق بنبوءة عيسى عليه السلام إلّا أن مضربه الآن رمز على حسن جنيف.

وهي معتدلة الهواء في الشتاء والصيف لائقة بالصحة ، وارتفاعها على سطح البحر ٣٧٥ ميترو ، وميزان الهواء في الشتاء سبعة تحت الصفر وفي الربيع ٩ فوقه ، وفي الصيف ١٨ وفي الخريف ١٠ ، وأهويتها طيبة ناعمة ، تمر على جبال الثلج وأزهار الرياض وأشجار الغابات. والبحيرة النقية التي جاءت المدينة على طرفها الغربي وعند مصدر نهر الرون منها إلى فرانسا ، أما مصبه فهو في الطرف الغربي من البحيرة آتيا من إيطاليا. وكامل المدينة وشمال البحيرة للسويس وجنوبها لدولة فرانسا ، فلجمالها اجتمعت الدول حواليها ليأخذ كل حظه من التنعم بمحاسنها. وهيأة

١٥٠

البحيرة على شكل هلال طرفاه للجنوب وهما مصب النهر ومصدره ومحد بها للشمال ولذلك قلت في شكلها : كأنه ظهر عجوز أو ثمرة تموز. ارتفاعها ٣٧٥ ميترو وطول شاطيها الشمالي ٩٥ ميلا والجنوبي ٧٠ وعرضها في الأكثر أميال ١٢ وعمقها نحو ٣٠٠ ميترو ، ولا زال عمقها في نقص مما تجلبه المياه من الأتربة والحصباء فيرسب فيها. ويخرج الماء إلى فرانسا مع الرون صافيا وهي مزية كبرى لها في هذا التقطير ومن جهة انصباب الوادي فيها يخشى عليها من الانسدام. وهذا مما يؤسف له فيتعفن ماؤها ولا يبقى له رونق ولا عذوبة.

أخذت مدينة جنيف التي بها نحو ١٥٠ ألفا من السكان حظا وافرا من جمال الموقع من بين سائر العواصم ، فطرف البحيرة والنهر يقسمانها نصفين شماليا وجنوبيا مدت عليهما قناطر سبعة. وأحدقت بها الجبال متدرجة في الارتفاع ، فالقريبة منها ترى دهماء بالأشجار والتي من ورائها تظهر شاهقة بيضاء بالثلوج ، يتجلى لك ذلك المنظر البديع من القنطرة الشرقية والشارع العظيم الذي جاء شمالها وكلاهما ينسب إلى (مون بلان) الجبل الأبيض. فكأنما تلك الجبال التي ابيضت مفارقها قامت من وراء سلاسل الجبال الصغرى الفاحمة الرؤوس. لتطل على جمال المدينة والبحيرة مثل الشيوخ وراء التلامذة في حلقات الدروس. ولما رأيت الغمام لا ينقطع من الجو هناك ولكنه متقطع تفيض عليه الشمس بكهرباء أشعتها فتصبغ طبقاته ألوانا شهية قرأت على الغمام قول الشاعر :

كأذيال خود أقبلت في غلائل

مصبغة والبعض أقصر من بعض

وقرأت على الجبال وحال مدينة جنيف وبحيرتها وغيم بخارها :

شابت مفارقها فشبن لشيبها

طربا وعهدي بالمشيب تمسك

فاليوم يوم نزاهة ولذاذة

سيطل فيه دم «الهموم» ويسفك

والغيم من أرج الهواء كأنه

ثوب يعصفر مرة ويمسك

١٥١

وتلك الجبال التي طعنت في السن وشابت رؤوسها هي مطمح أنظار المسافرين.

يقصدها أبناء الأجيال الحاضرة ليروا من سمات قدمها وملامح هرمها ويسمعوا من حديثها عمن شاهدته ممن قبلهم. ومن عرف الأيام قص غريبها. وذلك أكبر موعظة وأبلغ اعتبارا ، فهي كما تحدث عمن وفد عليها تحدث عنه بعد حين إلى أن تصير المدن خرابا ، والرياض يبابا ، والجبال سرابا ، والخالق وحده هو الذي أحصى الكائنات كتابا. نزلت في أتيل السويس في الطرف الشمالي من نهج مون بلان وبالقرب من محطة سكة الحديد الشمالية المسماة كونفا ، وبهذا النهج العظيم إدارة البوسطة من أكبر مباني البوسطات التي رأيتها في بلدان هاته الرحلة ، ولها تقسيم محكم وسرعة غريبة في إجابة الحاجات على اختلافها. وساعتها مقدمة على ساعة باريز بنحو ساعة. وبهذا الشارع المخازن الكبرى مفعمة بأنواع البضائع والتحف والمصنوعات الخشبية التي ليد الأهالي فيها حذق كالمصوغ والفخار المطلي ، وغربي ملتقاه مع القنطرة مكتب يعطي الإرشادات لزوما ومجانا للغرباء ، وما بين هاته القنطرة وقنطرة بارك الغربية عنها جزيرة جان جاك روسو العالم الشهير. وفي النهر وبين القناطر طيور بيضاء سابحة في ذلك الماء الفيروزجي لا تصاد بل يمد إليها الطعام من أيدي السكان والمعجبين بحسن لونها تراها عائمة على ماء البحيرة فآونة تبدو وآونة تخفى كنجوم على أديم السماء :

نزه الطرف يا أخا الظرف ليلا

في طيور أحسن بها من طيور

فوق وجه المياه ترعى وتسعى

كنقوش قد خيلت في ستور

وقد صبغت شركة البابورات البحرية سفن البحيرة بيضاء. فكان ذلك لمشاكلة هاته الطيور. والعدوة الشمالية من النهر بها البناءات العظيمة ومخازن الجارة ، وفي الجهة الجنوبية البطايح والقهوات والبساتين ومناخ السمر والتجول مساء وليلا ومن بينها قهوة الشمال التي أرشدني إليها بعض الأحباء بتونس ، وكان عرفها من قبل ، وهي بقرب بطحاء البحيرة وبطحاء الرون بالعدوة الجنوبية من النهر. يأوي إليها

١٥٢

الشرقيون وكادت أن تكون مع قنطرة مون بلان بمنزلة الرصافة من الجسر في بغداد ، عرفني فيها تلامذة إسرائليون من تونس شمامة ـ شطبون دباش. يتلقون في دروس الطب. وجنيف شهيرة مكاتبها في هذا العلم ، طائرة السمعة في القارات ، وبها كثير من أبناء آسيا باللباس الأروباوي تماما. وكنت لا أعرفهم وهم يعرفونني ويهتدون إلي باللباس التونسي المحترم في كل جهة. والكلام عليه سيأتي في باريز وأذكر هنا من خطبة الدكتور «كريستيان سنوك هرغرنج» الهولاندي المستعرب والعالم بشئون الإسلام والمسلمين جيدا ما يأتي : ففي كل المدارس الأروباوية الكبرى تجد كثيرين من الطلبة المسلمين وهم من فئة المتنورين الذين بواسطتهم تحدث التغييرات الأولى في الإسلام. وهؤلاء الشبان من أهل العالم قد درسوا العلوم الغربية بفروعها نظير خيرة طلبتنا الغربيين. وهم لا يقومون بكل الفرايض المطلوبة من المسلم الحقيقي لأنهم مثلنا في طرائق اللباس والمأكل والمعيشة. وقال : من زمان كان فيه المسلم يعرف أخاه المسلم بألف طريقة مختلفة كأخلاقه وطريقة معيشته ولباسه وأكله ، ولكن كل هذه المميزات أخذت تزول بالتدريج بل إن الميزة الوحيدة التي كان بها المسلم يقدر أن يعرف أخاه في الدين سيزيلها التهذيب والتعليم ببقية معروفة من العقيدة الدينية ـ وممن عرفت تلميذا صينيا من شانغاي اسمه أسياسي يحب الحركة دائما ولا يستقر في قيام أو جلوس طويلا ، يمثل الجنس الأصفر النشيط الذي لا يهجع إلّا قليلا. ولا ينفك عن العمل ومتى تهذب برز وتقدم سريعا. والحديث عن الجابون وأخبار نهضتهم الفائقة ملأ الصحف والآذان ساريا مع أشعة الشمس من المشرق إلى المغرب. سرني التعرف بالتلامذة التونسيين أبناء الوطن وتغربهم لمزاولة علم الطب بقدر ما ساءني عدم وجود تلامذة من أبناء الجنس يأخذون هذا العلم النفيس المفيد لصاحبه والشامل نفعه لكافة أبناء الدنيا. انظر إلى الشبان الذين أخذوا مبادي عملية في الطب بالمستشفى الصادقي عن الحكيم برانسفيك كيف نفعوا في المستشفيات التي أسسها الحكومة ببلدان المملكة التونسية وسدوا فراغا عظيما وقاموا بأعمال مهمة. وجدت إسرائيليا يسمى الكسراوي في وجهة تجارية ببلدان السويس وكنت عرفته قبل في مرسيليا.

ولم أصادف مسلما في هذا السبيل. والإسرائليون لهم حضارة عتيقة واستعداد للرقي

١٥٣

والسير مع مصالح الحياة والمسك بذيل الأمم الراقية. وربما كانوا واسطة نافعة في العلوم فقد ترجموا الكتب على عهد المامون بالدولة العباسية من اليونانية وسمت بهم قريحتهم في العربية بالأندلس فبرعوا في الكتابة والأدب ، وإلى الآن موشح ابن سهل ، لمعارضة الشعراء غير سهل. ووصل بواسطتهم علم الطب لأروبا نقلا عن العرب الذين وسعوا لهم في مجالس العلم واستعملوهم في دواوين الحساب. وهم الآن في دور الحماية قد تقدموا شوطا فسيحا في اللغات والتجارة والكتابة.

الجانب الجنوبي من المدينة مزاحم للشرق الشمالي من النهر في الرقي حتى تحسب كل قسم من العدوتين مدينة مستقلة. وبداخل القسم الجنوبي بستان الباستيون وغربية بطحاء تكتنفها ثلاثة بناءات عظمى علمية ، فمن جهة الشمال دار التاريخ الطبيعي وبه أنواع الحجارة العتيقة والحيوان والطير من البر والبحر ، ترى الواحد منها مصبرا تحسبه حيا صابرا ولكنه بلا روح وأغرب ما يراه التونسي بأروبا في ديار التاريخ الطبيعي ، أي الحيوان المبلصم وبساتين الحيوانات الغريبة ، حيوان الزرافة الغريب الشكل العظيم الهيكل المختلف الشبه بالحيوانات كما قال ابن خلدون.

والذي قال في وصفه ابن رشيق القيرواني وقد أهدي في عهده إلى المعز بن باديس :

جمعت محاسن ما حكوا فتناسبت

في خلقها وتنافت الأعضاء

حطت مؤخرها وأشرف صدرها

حتى كان وقوفها إقعاء

نعم التجافيف الذي ادرعت به

من جلدها لو كان فيه وقاء

وفي الصدر غربا محلات التعليم ، وفي الجنوب قسم المكتبة العمومية وبها مجلدات نحو ٢٠٠٠٠٠ منها خطية نحو ٣٠٠٠. أفادني بذلك المكلف بها وأطلعني على عدة كتب عربية بالخط الكوفي والمشرقي والمغربي. ورأيت صورة في كتاب فارسي بها هيئة مدلس مرتفع به أربعة أشخاص ينظرون إلى أربعة يرشقون بالسهام رجلا مصلوبا تظهر منها ثلاثة في صدره ويداه مغلولتان إلى خلف ورجلاه مربوطتان

١٥٤

إلى سندعال. ولعلها تمثل الحكم بالإعدام في بعض أدوار التاريخ الذي تفننت فيه أساليب إزهاق الروح شأن الاختلاف في قوانين الأحكام وعوايد الأقطار والأعصار.

والذي ذكر في غضون التاريخ وغرايب الوقايع والمعروف من العادات الجارية : إقامة الآدمي هدفا ورميه بالبندق في بعض الأحكام الحربية ١ وهو يشبه الرشق بالسهام في القديم ٢ والقتل بالحجارة وضعا ورميا على الأعضاء الرئيسة شأن أدوار البساطة وقابيل مع هابيل ٣ أو غطا حتى تفيض الروح ٤ أو خنقا ٥ أو صبرا بالجوع والعطش ٦ أو إلقاء في الماء ٧ أو في النار شأن النمروذ مع سيدنا إبراهيم عليه السلام ٨ أو من شاهق ٩ أو سد لأبواب المساكن على الأحياء ١٠ أو بإرسال السباع. ولعب الرومانيون بهذا دورا مهما على مرسح التعذيب ١١ أو هبرا بالسيوف ١٢ أو قعصا بالرماح ١٣ أو شدخا بالعصي والدبابيس ١٤ أو حزا للرأس بمحدد ١٥ أو تثبيتا للحي بالمسامير على الألواح والجدران ، وكان هذا من بني إسرائيل في صلب شبه عيسى عليه السلام ١٦ أو بترا لأعضاء الجسد واحدا واحدا ١٧ أو ربطا بأذناب الحيوانات ١٨ أو للأعناق تدليا في الهوى وهي طريقة الحد على القاتل في تونس ١٩ أو جبرا على شرب السموم ٢٠ أو باستنزاف الدم من الشرايين وبعض العروق إلخ إلخ. والبشر لا يقف عند حد في التنوع والاختراع حتى في قتل بني جنسه وإزهاق روحه. وكما تكون سعادة البشر من البشر كذلك شقاء البشر من البشر. وسيأتي الإلماع لهذا في زيارة قصر نابليون ومستشفى باستور بباريز. وقبليا عن بستان الباستيون متحف التصوير الدهني الفايق.

وغربي البطحاء التي بها المكاتب بطحاء (بلان بالي) متسعة جدا ومخضرة الأديم بالنباتات صالحة لتجل الصبيان ورياضتهم وبالجملة فالنظافة والهدوء في جنيف لا نظير لها فيهما ولذلك يحق لها أن تسمى المدينة «الهادئة».

والاعتناء بالتعليم والمعارف في الدرجة الأولى من عواصم أروبا. والمناظر الطبيعية من الجبال والأنهر والبحيرات والأشجار والأزهار حدث ولا حرج. لذلك كانت بلاد النزهة الكاملة والعلم المنتشر يقصدها التلميذ المعتني والغريب المتنزه.

١٥٥

فيفي ومنترو

عزمت على الركوب في البحيرة من رصيف العدوة الشمالية شرقي قنطرة مون بلان ، فلما وقفت هناك نظرت متأملا من هاته المدينة التي أخذت حظا من الحسن في شاطي البحيرة اللازوردية ومراكبها البيضاء التي تحاكي الكواكب وزوارقها ذات الجناحين الطائرة في الأفق الذي تشابه فيه لون السماء. والماء آتية من البلدان التي على شواطئ البحيرة متهافتة على مرسى المدينة كأنها تسعى إلى مدينة جنيف تتطلب النور الذي تقصده طيور الفراش عشاقة النور وقد أشبهتها في الشكل والفعل. فيفي : ركبت سفينة بقصد النزول في فيفي بالشمال الشرقي من البحيرة إجابة لدعوة السيدة صاحبة المروءة والأيادي البيضاء التي عرف لها التونسيون الإحسان لبني الإنسان ، وهي مدام دوكيو ، وكان اسم السفينة من غريب الاتفاق فيفي أيضا ، وبها درجتان فقط أولى وثانية ومطبخ والموسيقى تترنم من حين إلى آخر مدة الثلاث ساعات التي قضيناها في البحيرة بين البلدين ، حيث أقلعت ٤ ، ١١ وأرست ٢ ،. ٣ والركوب على سطح البحيرة الهادئة على خلاف ما عرفناه من البحر ، فقد وجدناه هاته المرة لذيذا في البواخر البيض التي تشبه حمام الرسايل أو لكواكب السيارة ، ونحن كسكان الكواكب على مذهب فلامريون سابحين على أديم أزرق وفي عالم فيروزجي. لذلك يكون التشبيه حقيقيا بلا قلب في البيت الذي مثلوا به لعكس التشبيه. إذا قيل في هاته البحيرة :

وزورق أقر عيني ماؤه

كأن لون أرضه سماؤه

تلقتني السيدة بسيارتها على رصيف فيفي وبعد دخول القرية التي بها من السكان نحو ١٥ ألفا صعدنا الجبل بالشمال الشرقي إلى منزل إقامتها ببستان «بايل زيو» ، وبه قصره الشامخ وبجانبه منزل السيدة مستديرا على شكل صومعة من بناء عربي تحيط به شرافات يسمى «لاتور» ، أي الصومعة. وبه طبقات أربع ونوافذ من جميع الجهات ، ولما استقريت نظامه ، وبرور القرى من كرامه ، جاء نصب عيني قول

١٥٦

يحيى بن خالد : الدنيا سعة المنزل ، وكثرة الخدم ، وطيب الطعام ، ووطاءة الفراش ، وطيب الرائحة ، وموافقة الأهل ، والقدرة على الإحسان بالإخوان. وشكل هذا التور يشبه منار القصر بسوسة الذي بناه زيادة الله ابن الأغلب أول القرن الثالث ، وهو أحد أشكال الصوامع العربية والقديم العهد. وكان معروف الاستعمال في الشواطئ لحراستها حسبما يأتي عند ذكر تور بلانش في إيسودان. ثم الشكل المربع كصومعة جامع القيروان ثم كثير الأضلاع ، وهذا ظهر في المملكة التونسية من الأندلس والشرق. ونقل فارس أن أول منارة عرفت في الزمان القديم المنارة التي بنيت قبالة الإسكندرية في عهد «بطليموس فيلادلفوس» ملك مصر سنة ٢٨٢ قبل الميلاد واسمها أطلق على كل منارة بنيت بعدها إلى يومنا. وهي ثلاث طبقات ، الطبقة الأولى مربعة والطبقة الثانية مثمنة والطبقة الثالثة مدورة. قلت فهذه جمعت بين سائر الأشكال ، فكانت لمن بعدها أحسن مثال. تظهر من التور المزارع والقصور والرياض متصلة برؤوس الجبال ، وتشاهد قطع الأرض صغرى متجاورات بما يدل على عزة الأرض وتزاحم العمران بالسكان الذين يجعلون لانحدار الأرض في سفح الجبال روافع حجرية وبالألواح ليتساوى سطح الأرض ويغرس ويبذر ، فترى قطع الغراسة متدرجة في الجبال إلى أعلاها. وأرضهم حجرية وليست بجيدة في الغالب غير أن موالاة العمل وكثرة الأمطار أجبرت الأرض على الخصب. والجبال التي على ضفتي البحيرة جنوبا وشرقا شاهقة وبها بقايا من ثلج الشتاء. والسحب متلبدة على أعاليها كأنها تقي تلك الثلوج من الشمس ليبقى من جمال منظرها وبرودة مائها في الصيف بقية يتمتع بها قصاد بحيرة السويس الكثيرون. تذكرت من كثرة السحب بلا مطر والغيوم الراكدة في الجو حول البحيرة ما قرره ابن خلدون حيث قال : البحر الأخضر لتلونه غالبا بالخضرة ويسمى بحر الظلمات تقل فيه الأضواء من الأشعة المنعكسة على سطح الأرض لبعده عن الأرض فيكون مظلما ، ولفقدان الأضواء تقل الحرارة المحللة للأبخرة فلا تزال السحب والغيوم متكاثفة على سطحه منعقدة هنالك متراكمة. فصريح عبارته إن ضوء الشمس يقل في البحار لبعدها عن الأرض وإنه في البر أكثر لأجل الانعكاس وهذا غير مفهوم ، لأن الشمس تفيض الأشعة على الكرة برها وبحرها سواء. كما تفيد عبارته أن الأبخرة التي على البحار تبقى متراكمة لقلة

١٥٧

الضوء والحرارة مع أن بخار البحار من حرارة الشمس المنطبعة في مائها كماء القدر على النار يتصاعد بخاره من حرارتها.

منترو : ذهبت إلى منترو وهي على الشاطي مثل فيفي وشرقي عنها بنحو أميال ٦ ، وبها محطات للقطار ومراسي بحرية تقابل محطات سكة الحديد وهي مزاحمة إلى فيفي في الحسن. ويظهر أن منترو أكبر سمعة وأوفر قاصدا وأعظم تجارة وألصق للجبال الشامخة حولها من الشرق والشمال ، ولها طرق كثيرة متعرجة في الجبال مطروقة بأقدام الأغراب ، ومنها رأس خارج في البحر وبعدها عن جنيف نحو الثمانين ميلا وسكانها نحو العشرين ألفا بما حواليها فيما بلغني.

قصر شيو الجنوبي من منترو قصر مشهور بمن سجن فيه أو زاره من ذلك حيث صار أخيرا دارا للآثار ، وآخر من سجن فيه شماس من لوزان مضاد للدستور عام ١٨٤٨.

وفي القديم كانت تلك الجهة منفى والآن صارت منتزها ، وكأن ذلك القصر أبى إلا أن يكون حاويا حافظا في جميع أحواله للنفائس إما تغريبا للحيوان أو ترغيبا له.

وإرادة البشر تحسن وتقبح وتونس وتوحش. فما أقدر البشر على التلاعب بالأمكنة يسعدها ويشقيها ، يرغب فيها وينفر منها ، ولو لا الزمان الذي يلعب أيضا بالسكان لما كانت لتوجهات الناس غاية ولتقلباتهم نهاية. كان اسم شيو معروفا هناك من القرن التاسع أما بناؤه الحالي فمن القرن الثالث عشر سجن به بونيفار سنة ١٥٣٠ ستة أعوام في مقاصد مصلحة بلاده وأطلق. وقد رأيت صورته مقيدا من يديه بسلسلة عظمى مربوطا إلى بعض أعمدة القصر مكشوف الرأس وشعره أشعث وهو واقف بنعله العتيقة ، وقد ترك أثر المشي بقدميه على بلاط الساحة المحيطة بتلك السارية مثل الدائرة التي تبقى حفرا في الأرض من سير دابة الطحن ، والشمس من كوة القصر رسمت ظله على العمود المربوط به بونيفار وقد اتكأ عليه للاستراحة ورؤية ضوء الشمس التي اشتاقها وحرموه من مشاهدتها فلا يراها إلّا لحظات خفيفة. يتخيل الناظر من تلك الصورة والخيال المطبوع في السارية ظلا من بونيفار كأن الشمس آنسته بوجهها الجميل وولدت له منه خيالا يونسه أيضا عند ما يراه شخصا ثانيا معه والشمس ثالثتهما ولا مشارك لنجوى هؤلاء الثلاثة إلّا الله رابعهم. فما أعظم منة الخالق بهذا الكوكب العظيم على كافة المخلوقات «راجع قصيدة الشمس ومنافعها

١٥٨

فيما بين مرسيليا وكرونوبل». فالشمس أبدلت ظلمة السجين ضياء ووحدته مزدوجة مونسة وأنعشته بتنقية الهواء الذي يتنفس فيه ولذلك ترى جسمه خصبا.

والفيلسوف لا تكدره الحوادث ، تراه واقفا ثابتا مفكرا في أدوار الدهر العجيبة الزائلة يقرأ على صحيفة الشمس كل يوم رسوم الحوادث وغرائب الأخبار مصورة في مرآة كوكب النهار. وهذا منظر كل من يراه يرثي لحال هذا الرجل وما هو عليه من الإهانة من بني جنسه لمقاصد دنيوية فانية محتقرة ، وذات ابن آدم وروحه أكبر وأرفع من ذلك. وكأنه ينشد وهو متأثر من أعمال البشر ونكبات الدهر قول ابن سينا :

دخولي عن يقين كما تراه

وكل الشك في أمر الخروج

ولاحتقاره لهاته الأعمال شبك ذراعيه على صدره شاخصا ببصره إلى قرص الشمس ، منتظرا تجليات رحمة المتعالي ، مناديا ربه في تلك الظلمات إلى أن استجاب له بعد ست سنوات ـ بلغني أن كثيرا من الشعراء منهم فيكتور هوكو واللورد بيرون الشاعر الأنكليزي كتبوا على هذا السجن ولم أطلع على آرائهم فيه فكتبت ما كتبت ـ وقفت برهة حول هذا القصر واشتريت بعض مفكرات من بايعتها بجواره.

وفي الرجوع من فيفي إلى جنيف ركبت من إحدى المراسي البحرية التي على شاطئها المسماة فيفي مارشي لقربه منها بعد المرور على بطحاء الكارواتيل دوبون الذي عرفني رفيقي عن نظافة رياشه وتناول كافة المرافق منه بسهولة زائدة على المعتاد في غيره. وهو بقرب القنطرة المقامة على نهر فيفايز الآتي من الجبال شمال القرية ، وبقرب هاته البطحاء شمالا محطة سكة الحديد الرابطة بين جنيف ولوزان والقرى المبثوثة على الشاطئ ـ وكان اسم السفينة التي رجعنا فيها بونيفار وفاقا لاسم السجين شيو الذي رثيناه فأرسل باسمه لوداعنا شاكرا. تقف هاته السفينة على كافة المراكز والقرى بالشاطئ الشمالي السويسري والموسيقى لا توجد في السفن الطائفة على المراسي ، ولعلهم أرادوا تسلية المسافر بها في السفن التي يكون سفرها على الجادة وبعيد الشقة.

أما السائرة مع الشاطئ فحركة النازلين والراكبين تشغل المسافر في مدة الأربعة

١٥٩

ساعات التي يقضيها بين فيفي وجنيف. بدت لنا على طول ضفة البحيرة الشمالية قرى كثيرة وعمران ممتد على أراضي أحسنت خدمتها يد الأهالي حتى صيرتها مجدولة كبيوت الشطرنج بالطرقات المفعمة بأنواع ما أنعم الله به على البشر من حيوان الحمل والركوب وسكك البخار وسيارات الكهرباء ودراجات الرجل وحوافل النقل التي سخروا لها في السويس حتى البقر.

استقبلنا ثغر جنيف باسما عقب المغيب القصير عنه وعانقت المدينة بذراعي رصيفيها الشمالي والجنوبي كوكب السفينة حتى أجلستها عند مصدر النهر من البحيرة وهو منها بين الحشا والترائب.

بين جنيف وكرونوبل (شامبري)

بارحت جنيف راجعا إلى كرونوبل كي أرى هاته المدينة الجميلة مرة ثانية وركبت القطار من المحطة الشمالية «كونافا» صباحا بعد أن كاد المعطي لتذاكر السفر يعطلنا بدعوى أن كراس تذاكرنا به محطة الجنوب المتصلة بخط آنسي ولكن عون الأوتيل الذي معنا حاجه بكون المدار على الخط الذي بين جنيف وكرونوبل ، والذي اخترناه الآن مارا على بلكارد هو وخط آنسي ، ولا روش سواء تقريبا. والكلام المعقول في أروبا معمول به ومقبول بين ساير الطبقات. فشكرنا ذلك العون على فوزه ووفرنا له في الإحسان. وما قدست أمة لا ينتقم من قويها لضعيفها.

وسايرنا عند الخروج من جنيف نهر الرون صادرا من البحيرة متسربا على يسارنا مسافة عشرات الأميال ثم جزناه مودعين له إلى الملتقى في ليون.

نزلنا ثلاثة أرباع ساعة في بولكارد بالحد بين سويسرة وفرانسا وجرى التفتيش ولكن بدون تشديد على صناديق وحقائب المسافرين ، وأكثر ما يسألون عن التبغ وهو رخيص السعر في سويسرة. ثم جد بنا القطار إلى شامبري التي ادخرنا زيارتها إلى الرجوع من جنيف.

شامبري ـ بلغني أن سكانها واحد وعشرون ألفا ، وهي مركز تلك الجهة المسماة لا سافوا ، ارتفاعها ٢٧٠ على البحر في شعب ذي مروج يشقها نهر جزت قناطره وقلت

١٦٠