البرنس في باريس

محمّد المقداد الورتتاني

البرنس في باريس

المؤلف:

محمّد المقداد الورتتاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-605-5
الصفحات: ٣٩٥

المنازل وصنع الكاغد والوقد في بيوتهم التي يلازمونها في كامل فصل الشتاء من شدة البرد «ومنافع الغابات سيأتي الحديث عنها في جبال شارطروز حول كرونوبل».

أما الجبال فزيادة على ما أنعمت عليها به العناية الإلهية من الأشكال البديعة ، فهي مكسوة الأديم بأنواع الأشجار والأزهار ومعممة بالثلوج الناصعة حتى صارت ذات جمال وهيبة بهذا اللباس الأخضر والعمائم البيض التي تخفف في زمن المصيف ، فتسقي الأشجار والمزارع بمياهها العذبة عند الذوبان وتشفي غليل كل ظمآن. وتظهر الطرقات بيضاء ممتدة في السهول ومتعرجة في الجبال كجداول ماء في بستان اعتنى مالكه بإتقان خدمته وإبداع تنسيقه.

خيرات الأرض ومحاسن السماء

بهرتني خضرة أديم الأرض في فرانسا وانتشار الثوب السندسي على البسائط والرّبى وامتداده إلى قمم الجبال. وحيثما مر بنا القطار إلّا وقامت أمامنا قدود الأشجار ، ورنت لنا عيون الأنوار ، وبسمت ثغور الأزهار ، الأمر الذي قلد فيه الطبيعة وقابلنا بمثله سكان ذلك البستان ، «ومملكة فرانسا كلها بستان واحد» ، البادي على وجوههم البشر والرافلين في الحلل الجميلة ، حيث صادف ذلك يوم الأحد ، وهو يوم الراحة والزينة والخلاعة عندهم ، في محطات سكة الحديد التي مررنا بها مداورة لقرى جبال الألب. وعجبت لما سبق لمسامعي من كثرة كلام الزائرين الأروباويين للمملكة التونسية وضربهم على وتر واحد وإجماع كلمتهم على حب قرص الشمس وبريق النجوم وزرقة السماء عندنا ، وغبطتهم لسكان هذا القطر على التمتع بجمال تلك المخلوقات الزاهرة والأضواء الباهرة. بما يخيل لسامعهم أن ليس في ممالكهم ما يغبطون عليه من جمال الطبيعة ونتاج الأرض حتى رأيت ما رأيت. فعلمت أن القوم أتمّو تدبير ممالكهم وتشبعوا من التنعم بمحتوياتها واستدرار خيراتها ، وتفرغوا لما بأيدي غيرهم ليشاركوا فيه وليعلموا قيمته. ونحن لا نعبأ بزينة الكواكب ولا نلتفت لقرص الشمس وما له من العظمة والمنافع وقد تقدم في فصل طلب العلم بالمقدمة ما في الحديث الشريف. العالم كالحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء. فبينما هي كذلك إذ

١٢١

غار ماؤها وقد انتفع بها قوم وبقي أقوام يتفكنون ، أي يتندمون. ولعل كل شيء نفيس أو أمر نافع هذا شأنه. يعرف قيمته الغريب ، ويزهد فيه القريب. اللهم إلّا الذين أراد الله بهم خيرا. مثلما قرروا في أسباب السيادة وطرق الرياسة يوفق الله من أراد لاكتساب خلالها. وإذا أراد الله شيئا هيأ أسبابه وسيأتي هذا في أخذ الفرنساويين بأسباب السيادة كإكرام أهل العلم وإنزال الناس منازلها إلخ في فصول باريز. والأمة العربية في الأجيال الغابرة عرفت منازل الكواكب وفوائدها الحسابية وأنواءها وكادوا أن يعتبروا الكوكب النهاري العظيم أكبر إله في عهد جاهليتهم ، وشبهوا بجمال الكواكب وتوهموا فيها صورا لبعض الحيوان والنبات.

وكنت نظمت بمناسبة كسوف الشمس في عام ١٣٢٣ ـ ١٩٠٥ قصيدة ضمنت بها الكسوف ودوران الكواكب بالشمس ذات المنافع الجمة في عالم الحياة وما كان للعرب من الخبرة بعلم النجوم. ونص ما نشرته جريدة الحاضرة بعددها ٨٥٩ :

من القيروان إلى نادي العرفان

وردت لنا القصيدة الآتية من الفاضل المهذب الأديب المتفنن الشيخ السيد محمد المقداد الورتتاني نائب جمعية الأوقاف في شأن الكسوف الذي وقع في الثلاثين من أوت الفارط ضاق نطاق الجريدة عن إدراجها بوقتها. وحيث كانت من أجل ما جادت به قريحة أديب في كشف أسرار الكوكب العظيم وما له من التأثير في نظام العالم والحياة البشرية مع تخلص إلى التنويه بالعلوم الرياضية عموما ، وعلم الفلك خصوصا ، الذي تقاعست عنه همم الأمة الإسلامية وأصبح ميدان تنافس الأمم الإفرنجية بعد أن كان نوره مشرقا بالبلاد الإسلامية ، فقد أحببنا تطريز جيد الجريدة بقلائدها وتوشيحه بمنظوم فرائدها. ونصها بلفظها الرايق ، ومعناها الفايق :

أفلت وكان كسوفها متوقعا

وخفت فكاد القلب أن يتقطعا

ونضت بعيد الصد ذاك البرقعا

فشفت فؤاد المستهام تطلعا

١٢٢

هيفاء تبسم للمحب تصنعا

وتصد عنه تدللا وتمنعا

لا تعجبوا فلها التقلب شيمة

عن نفسها والناس في آن معا

والبدر حاجبها ونور جمالها

كل الكواكب حول مركزه سعا

وتصاغرت كل الكواكب عند ما

أضحى لها حسن التوسط موضعا

وإذا بدا للكائنات ضياؤها

نشرت كيوم الحشر قوما صرعا

ونما النبات وساد ما بين الورى

أمن به عمروا الفضاء الأوسعا

وهي الدواء المستطاب فكم يرى

طب الحكيم بدونها لم ينجعا

ووحيدة الحسن المريع فطالما

فتنت بها أمم وظلت ركعا

وتراد في التشبيب مهما شبهوا

حوراء في مثل الغزالة مطلعا

لكن كسوف الشمس أكبر عبرة

تبدو إلى عبد تدبر أو وعى

في نصف عشر سويعة أنوارها

تخفى وتظهر للعوالم أجمعا

جرم عظيم صنع مولى قادر

عرف الخليل به الإله المبدعا

فيه الغواية للغبي إذا سها

وبه الهداية للذكي إذا سعى

١٢٣

ركب البحار تطلبا أسراره

قوم أرادوا في العلوم توسعا

فالغرب ساد وما اقتفينا إثره

حتى أناط بكل علم مجمعا

والشرق ينظر للوفود بأرضه

وذوي المعارف للمراصد شرعا

فكأنه لبس الخمول تورعا

أو أنه لم يدر ما قد ضيعا

وبنوه شأنهم التفرق والجفا

والاتكال على المقابر والدعا

فإذا دعوت إلى التعاضد والإخا

نفر يصد وآخر لن يسمعا

وإذا سألتهم علوم الارتقا

جعلوا الجواب الانتقاد تذرعا

يا مبغضا علم النجوم ترفعا

هيهات أن تلج الصواب وتقنعا

أتذم جهلا روض علم أينعا

بالشرق ثمت في سواه تفرعا

والشرق دام لكل علم مرجعا

حقبا فصار الآن قفرا بلقعا

قضت العمائم بانقضا تلك المعا

رف والجهاد لها بأن لا ترجعا

وليس المراد بذكر العمائم ذم تيجان العرب أو الخدش في نباهة حملتها وغزارة معلوماتهم وسعة مداركهم. وأرباب العمائم قديما وحديثا هم حملة علوم اللسان والدين والقائمون بالخطط الشرعية والسياسية أكمل قيام. وما رجال السيف والقلم

١٢٤

إلّا من أبناء التعليم العربي. ومعهده الأكبر بإفريقيا جامع القيروان في القديم ، ومن القرن السابع إلى الآن جامع الزيتونة دام عمرانه. وإنما كتاب العصر اتخذوا هاته الكلمة رمزا إلى من يتعرض في طريق الإصلاح أو لا يرى فائدة في علوم الحياة.

ولعلها استعملت من القرن الثاني عشر في مبدأ تغيير رجال الدولة والقائمين بالإصلاح اللباس القديم وتركهم العمامة في اللباس الجديد. وما لا قوه في أول أمرهم من بعض من لا يعلمون قيمة الإصلاح. وهم بلا شك من المعممين. فأطلقوا هاته الكلمة على أولائك الأفراد المخالفين إذ ذاك للمصلحين في لباسهم وأفكارهم.

فذهبت مثلا وصارت تطلق على منكر الإصلاح وعلوم الرقي بقطع النظر عن جنسه ولباسه. وسيأتي الكلام على اللباس وأطواره في فصول باريز.

الحياة بالمال؟ أو بالجمال؟

يود الإفريقي أن يعطي غطاء السماء على ما هي عليه من الجمال والزركشة ويأخذ بساط الأرض ذات الاخضرار. والثمار معاوضة ولكن هل تبقى تلك الأرض على زخرفها وزينتها إذا صارت إلى غير أربابها العاملين ، وهل المعجبون والراغبون في مثلها قادرون على مداومة خدمتها وإثارتها وعمارتها حتى لا تصبح حصيدا كأن لم تغن بالأمس ، أو هل يتحمل أربابها بالقيام بها ولا يكلفون الراغبين في أخذها معاوضة عناء العمل فيها. وأظن أن المشترط لهذا الأمر يذكرنا في حديث قوم موسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ). وإلّا اشترطوا هم أيضا على أرباب السماء ما فوق الطوق وهو الالتزام لهم بأن الشمس متى صارت لهم لا يأتيها السحاب وأن تبقى السماء صقيلة المنظر الفيروزجي مطرزة الجلباب. لهذا يرى المتدبر أن لهم العذر في تمنيات شمسنا وطيب هوائنا إذ ليس في وسعهم اقتناء ذلك بممالكهم ، ونحن ليس لنا عذر بدون أن تصير أرضنا نضرة بالغراسة في الجهات التي تقل فيها الأمطار أو أن لا نجيد خدمة الأماكن الطيبة التربة مع تربية الحيوان والتنقل به إلى مظان الكلأ والرعي في مواقع نزل الربيع ، وإعداد ما يقيه ويقتاته في أوقات الجدب وزمهرير الشتاء. ولا يرجع جمال أرض فرانسا فيما يظهر إلّا لإجادة العمل

١٢٥

وإتقان الزراعة. ولربما كانت تربة أرضنا أجود وطقس عدوتنا ألطف ، حيث رأيت مزارع القمح هنالك أضعف سوقا وأقصر قامة والسنبل أقل حجما. فالشكر إنما يوجه للرجال على هاته الأعمال لا إلى تراب السهول والجبال.

بلغني أنهم يجلبون لأراضيهم تراب الفسفاط يمزجونها به فتجود الأرض وتتجدد قواها. وقد عرف الأروباويون مزية تراب هذا الإكسير على الفلاحة ، فاستثمروا خصيصته ونالوا أرباحه. كنت رأيت بشركة فسفاط المتلوي بجنوب المملكة التونسية نحو أربعة آلاف عامل باليد ، عدا النظار والمكلفين والمهندسين ، وتفوق الحساب القوات البخارية والكهربائية لاستخراج تراب الفسفاط من غيران وكهوف في أعماق الجبال الشاهقة على أنوار الكهرباء ، ويجر بعربات البخار إلى معامل التجفيف الأول بالشمس والفلح ، ويطحن ويغربل بعد ذلك بأمتن الآلات وأسرعها. ثم يجفف بنار الفحم الحجري وتسير به القطارات إلى الشواطئ ليحمل إلى ما وراء البحار وليدر على أراضي أرباب العلم بالمنافع والأعمال الزراعية المحكمة. فيرى الإنسان في معامل استخراج الفسفاط الكيمياء بمعنى الكلمة التي يصير بها التراب تبرا من الأرباح الباهظة في أثمانه. ومتى رأى تأثيرات ذلك التراب على الأراضي التي يمزج بها ، وخصبها بعد الجذب وحياتها واخضرارها بعد الموت والعراء ، يعلم قيمة أسرار الكائنات في هاته الأرض التي خلقنا منها وخلق لنا أيضا ما فيها جميعا ، وأن ما بها فيه كفاية ورزق واسع لمن تدبر واجتهد في الوصول إلى الأسرار والمنافع. والأرض كالبشر فمن تشبع بماء العلم والتهذيب وأد من العمل واكتسب المعارف والآداب أنتجت أفكاره ومواهبه ما يسوس به نفسه وينفع جنسه. وإذا قابلت بينه وبين من يبقى على أصل الفطرة الحيوانية شبه السائمة ، تحسب الفرق من أصل الخلقة أو التفاوت في الاستعداد. والأمر على خلاف ذلك وما هو إلّا العلم والعمل وربما خفي هذا الأمر على بسطاء العقول في توهم الفرق بين الحضري والبدوي. ورجع بنسبة ذلك إلى اصل الفطرة مثل ما خامر بعض الأفكار من أن بين الشرقي والغربي تفاوتا في العقل ، وكل ذلك بعيد عن الصواب وبمعزل عن الحقيقة ، إذ قد تجد في النفوس الغير الممرنة والعقول الغير المدربة كمالا ومتانة واستعدادا تفوق بها غيرها. وتتجلى حقيقة الأمر إذا أرسلت من كلا الجنسين في رهان التعليم والتثقيف على السواء

١٢٦

ومددتهما بسلاح واحد فترى النفوس الساذجة لسلامة الفطرة وصفاء القريحة مجلية في ذلك الميدان. كذلك الأراضي إنما تفيد وتجود بإتقان الخدمة ولا تفيد جودة التربة وحدها. أما مع التساوي بين نوعي الأرض في العمل ، فالبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه. لذلك فالبساط الأخضر والنبات الناشئ في مملكتهم لم يكن هبة ، وإنما صنعوه بكد اليمين وسقوه بعرق الجبين ـ قلت ومن لم يعرق جبينه عملا يعرق وجهه خجلا ـ وفعلا كنت في أثناء تسريح الطرف من روشن القطار في المزارع التي استوت على سوقها تعجب الزراع أمسح جبيني من العرق. فهل أدركتني دهشة الخجل؟ أو الإعجاب بالعمل؟ أو ذلك من حر الشمس الذي يؤثر قليله لقلة النسيم عندهم على خلاف المعتاد عندنا؟ ثم راجعت نفسي بعد إجالة النظر وجولان الفكر فيما بين إفريقيا وفرانسا ، وهو أسرع من لمح البصر ، وقلت الآن نهارنا ليل بأمريكا. فشمس النهار كشمس السعادة وحياة الفكر متى تشرق على قوم تغيب عن آخرين ، ذلك تقدير العزيز العليم. فلا يمكن أنه يكون سكان جميع الأرض في يقظة أو نوم في وقت واحد في جميع القارات. أو تستمر اليقظة أو يدوم الرقاد في سائر الأوقات.

ألا إنما الدنيا غضارة أيكة

إذا اخضر منها جانب جف جانب

ولكن لو خلقنا في تلك الأرض وبين مثل أولئك السكان لكنا مثلهم في العمل.

والبيئة التي يخلق فيها الإنسان والوسط الذي يتربى فيه مما له تأثير على الإرادة ومتانة العزم والتفكير الصحيح. ومن تنبه أو أراد الرقي ، فمثله كمثل طائر محاط بقفص العوائد ومقوص جناح العلم ، فهل يمكن أن ينهض بدون جناح؟ أو ينقاد ذلك الوسط بسهولة للإصلاح؟ نعم إن ممازجة الأمم الراقية ينفع الأمة المتأخرة. وقد علم مما تقدم في تاريخ فرانسا أن مبدأ التفات الأنظار إلى الزراعة والانتفاع بثمرات الأرض كان عند احتلال الرومان لفرانسا ومن القرن الأول قبل المسيح بعد أن كانت الأرض خدمتها بسيطة وغالبها مستنقعات وموات. والأمم الراقية متى حلت أرض قوم لا يعلمون بذرت من حضارتها فيها فتنتج المملكة زرعا طيبا يتنفع به المالك والأجير ، يعجب الزراع ، والزائرين للاستطلاع. وكذلك الأندلس في عهد العرب ، وكتبهم في

١٢٧

الفلاحة إلى الآن مرجع للأمم مثل كتب النبط بآسيا ، إلّا أن قواعد الفلاحة الأندلسية أقرب موافقة لشمال إفريقيا لتقارب الطقس والتربة. ومن أهم الكتب في هذا الفن كتاب ابن العوام الإشبيلي بالقرن السادس الهجري ، ترجم إلى اللغات وطبع. وبالخط العربي نادر الوجود ، ظفرت بنسخة منه ولاكن التصحيف والتحريف من ناسخها يحولان دون الوصول لبعض المسايل منها. وفي أواخر القرن السادس عشر نهضت أمة فرانسا للزراعة على عهد هنري الرابع وبهمة وزيره سولي القائل : إن الزرع والضرع هما مراضع فرانسا. وهذا الملك العظيم له مزايا كبرى على أمته وسيأتي ذكر حلمه وحزمه في الحديث على فرساي. وفي القديم كانت إفريقيا على عهد الرومان خزينة الحبوب لرومة بحيث كانت من أهم مستعمرات رومة التي صيرتها بستانا بالزيتون في القسم الجنوبي ، وروضا بمزارع الحبوب في القسم الشمالي. والآن أخذت تعود لها الحياة التي لا تكون إلّا بالعلم والملقن. فالاحتلال بالمملكة التونسية نبه إلى الزراعة ونشط على غراسة الزيتون وخطط الطرقات وبث علوم الحياة ونشر الأمن ورقى الفكر وأجاد المصنوع. وقد أظهرت إدارة المصالح الاقتصادية الاعتناء الزائد في موضوع الزراعة والصناعة بالكتايب والنشريات والتفقد والمسامرات.

أما فلاحة أرض القيروان فقد قال ابن ناجي عنها في القرن ٨ : وما زالت السحب تتمزق فيها إلى الآن ، فالمعتمد فيها في الحرث إنما هو على السواني التي يسنى على بيرها بالدلو ، وأما الحرث في الأراضي التي تأتي إليها الوديان فغير مأمون فإذا جاء زرعها في عام طيب تبقى أعواما لا يجيء فيها زرع طيب في الأعم الأغلب فيفتقر الحارث فيها. وقد خسرت دنانير كثيرة بسبب الحرث فيها مرارا ، ولكن أصل حرثي إنما هو لقصد الآخرة فأنا رابح في الحقيقة على كل حال.

محصول فلاحة فرانسا

القمح

٨٥٠. ٢١٢. ١٨٨

 هكتوليتر

الشعير

 ٢٥٣ ، ٣٢٥ ، ١٣

هكتوليتر

القصيبة

 ٠٠٠ ، ٩٩٩ ، ٩٤

 هكتوليتر

١٢٨

السلت

 ٠٠٠ ، ٤٨٠ ، ٢٠

 هكتوليتر

بطاطة

 ٧١٤ ، ٠٣٨ ، ١٢٠

 قناطير

اللفت للأكل

 ٩١٣ ، ١٥٩ ، ١٨٩

 قناطير

لفت السكر

 ٨٠٨ ، ٦٢٠ ، ٧٦

 قناطير

ومساحة المحترث بفرانسا ٠٠٠ ، ٧٧٩ ، ٦٣ هكتارا وهو نحو ٧٠ في المائة من كامل مساحة المملكة. والفرنساويون منكبون على الزراعة ، وجنسهم مشهور بالأمة الزراعية في داخل مملكتهم وخارجها ، ولا يستنكفون عن مباشرتها علما بحصول الأموال الطائلة والثروة العاجلة من ورائها ولما لهم من الخبرة بعلومها. والفلاحة كبقية الصناعات لها قواعد خاصة ومسائل مضبوطة فيتنازل علماؤهم وسراتهم لخدمتها.

وابن راشد القفصي في القرن ٦ يقول في شأن بلده :

بلد الفلاحة لو أتاها جرول

أعني الحطيئة لاغتدى حراثا

تصدى بها الأفهام بعد صقالها

وترد ذكران العقول إناثا

أما علماء العصر فيقول أستاذهم العلامة الشيخ سيدي سالم بوحاجب من نظم له في الحث على تعمير الأرض :

علينا عباد الله خدمة أرضنا

وما هي إلّا في الحقيقة أمنا

وهكذا كان علماء السلف. وقد عوضت البيت الثاني من شعر ابن راشد بما يأتي وربما ينطبق ذلك على أهل العناية بالفلاحة :

بلد الفلاحة لو أتاها جرول

أعني الحطيئة لاغتدى حراثا

يسقي بعلمه ما يثير كنوزها

والأرض أحسن ما يفيد تراثا

١٢٩

النباهة والإقدام في صغارهم

ركبت معنا امرأة لها صبي جلس بجانبها ثم ثنى ركبتيه واعتمد على أرائك الجلوس ، والتفت إلى ستاير الاستناد ، وكانت عليها حروف ب ل م ، فسألته أمه عن تلك فقرأها ، ثم عن معناها قال لها : اسم شركة سكة الحديد ، وعن بقية كلمات تلك الحروف فقال : باريز. ليون. البحر المتوسط. فعجبت من نباهة الصبي الذي كان دون الاثغار ومن سؤال الأم أيضا. وعلمت أن البحث لا بد وأن يعود به الصغير من جملة التعاليم المفيدة بل ذلك أساس العلوم والنتيجة بنت البحث. لذلك يشب الصغير وواجب الاستفهام عن معاني الأشياء التي يقع عليها بصره يدعوه لاستجلاب حقائقها ، لأنه يعلم أنه مسئول عنها وملام على الجهل بها ومتى غاب عنه حقائقها لأنه يعلن أنه مسئول عنها وملام على الجهل بها ومتى غاب عنه معنى لا يهنأ دون الوصول إلى إدراكه ومثل ذلك في المعقولات ، فلا يقرأ كتابا أو يحفظ متنا حتى يأتي على فك ألفاظه وتدقيق غوامضه قبل الاشتغال بما سواه. ولا يخطر بباله أن يعلق آماله على ما هو أعلى من تلك المرتبة التي بلغ إليها في التعليم ما دامت منها بقايا غير مفهومة أو فصول غير معلومة. كل هذا من أهم طرق التعليم والتعود على الاستفادة وأسهل وسائل الوصول إلى غايات المسائل وأصناف العلوم ـ وقال بعض المحررين المحققين أن عدم الهيبة والخوف على صغير السن هو الذي يرث جيل الإفرنج جميعا الإقدام والجرأة على الأمور والكلام ، ويزيدهم بسطة في العلم والجسم والعقل ، ويبطئ بهم عن الشيب والهرم ، فإن إلقاء الرعب في قلب الصغير كلوافح الرياح العاصفة على الغرس ، فمتى تمكن منه جعله بعد ذلك غير صالح للمساعي الجليلة. وما عدا خوف الحكام في بعض البلاد الشرقية ، فإن الأمهات يزرعن في قلوب أطفالهن الخوف من الخيال والظلام. قلت فيشب لذلك الصغير على الأوهام ويشيب ودماغه مملوءة بشبه أضغاث الأحلام.

والخلاصة أنهم يرشدون أبناءهم إلى المعاني المجهولة حتى يتعودوا البحث والحرية.

وبعض الناس يعودون أبناءهم بالخمول والسكوت والجمود. وهم يعودون أبناءهم بالاستقلال في مجالس الأكل والنوم ليعتادوا الاعتماد على النفس. ومن الناس من

١٣٠

يجلسون أبناءهم في أحضانهم وينيمونهم بجانبهم. وهم يخففون غذاء أبنائهم حفظا لصحتهم. ومن الناس من يمدون أبناءهم بالشهوات والمآكل الغليظة فيعتلون. وهم يزجرون أبناءهم عن كل ما لا ينطبق على الأدب كمس التراب وتلويث الثياب وبالأحرى السباب. وبعض الناس يتركون أبناءهم كالسائمة يفعلون ما يريدون ويقولون ما يشاؤون فيكون لهم ذلك ملكة يشبون عليها ويشيبون.

جبال الألب

قصدت كرونوبل بعد مرسيليا لما يبلغنا من خصب تربتها وجميل موقعها ، وعذوبة مائها وشموخ جبالها ، واتساع مروجها وكثرة معاملها ، وتدفق أنهارها وطيب مناخها ، وذكاء سكانها الذين امتزجوا من قديم بالعرب في عرصات جبال الألب وجعلت طريق الوصول إليها مع الخط الحديدي الملتوي مع جبال الألب. حتى أرى ارتفاعاتها وثلوجها وأشجارها ومزارعها. وقد رأيت في أثناء السير بين مرسيليا وكرونوبل منظرا جميلا وعمرانا منتشرا وقرى منتثرة في جنبات الجبال المعممة بالثلوج والمكتسية باللباس السندسي الذي تظهر عليه بناءات القرى المغشاة سطوحها بالقرميد الأحمر وغيره كالوشي والتطريز على الثوب ، وكالأزهار المختلفة الألوان في البساتين. والقطار يلتوي ما بينها صاعدا نازلا يفري صدور الجبال ويمسح على جباه الربى طائفا بالنهد ومستبطنا للغور ، وبالأخص بعدما تجاوزنا وسط الطريق وتركنا قرية سيسترو وراءنا ، فهو في الارتفاعات تحسبه سرب قطا ، وفي الانخفاضات تظنه حية رقطا :

تلقاه حال السير أفعى تلتوي

أو فارس الهيجا أثار العثيرا

أو سبع غاب قد أحس بصائد

في غابه فعدا عليه وزمجرا

وما القطار إلا مجموعة أجناس ومنازل ، يطير بها البخار ويطوي المراحل ، والبخار

١٣١

مما فاز به الأواخر عن الأوائل. وعند ما قاربنا كرونوبل وتراءت لنا جبالها صار القطار في انحدار مدهش ، ووصلنا على الساعة الثامنة مساء بعد أن بارحنا مرسيليا على الساعة العاشرة صباحا. وفضلت غير السريع من القطارات لأتمكن من التأمل وتسريح النظر.

كرونوبل وضواحيها

جاء غربي هاته المدينة مركز قطارها فابتدرنا منه أتيل أنكلترا وسلكنا له نهج الألزاس واللورين إلى بطحاء فيكتور هيكو بوسط المدينة. وبابه الغربي يفتح إليها والمطاعم ومحلات التجارة ومركز وقوف العربات وإدارة البوسطة والتلغراف كلها قريبة من هذا النزل الذي تحمل إلى بيوت طبقاته رافعة (صانسور) في كل الأوقات بلا كلفة أو مشقة ، تلحق الصاعد إلى العلو فهو والساكن في البيوت السفلى سواء بل يزيد عليه بطيب الهواء وحسن المنظر والرياضة بالرافعة. وشرقي بطحاء فيكتور هيكو بطحاء كرانايت. وبينهما مركز الترمفاي والقهوات المكتظة والمخازن المرصوصة بالبضائع ، والمنقالة التي تدق على رأس أرباع ساعات دقا مرتبا يشبه التنقير على بعض آلات الموسيقى بتعدد الأرباع فيما بين الساعات يسمعه جيران تلك البطحاء والنازلون في أوتيل أنكلتيرا وهو مما يفيد الساكن ويعجب به الغريب ويطربه. ومن بطحاء كرانايت يذهب شرقا شارع لاريبوبليك الذي به دار الطبيب الماهر المسيو باربيي. وبالغرب والقرب من هاته البطحاء نهج مونتورج الذي به جمعية تنظر فيما تتقدم به البلاد (صانديكادي نيسياتيف). وهي من الجمعيات التي لا تعرف عندنا وحبذا لو كان لنا مثلها. وعلى المسافر أن لا يهمل الزيارة لهاته الجمعية التي تجود بما في وسعها من الإرشادات والإعانات بما يعود عليها بالشكر وعلى المدينة بحسن السمعة والرغبة في زيارتها لاعتناء هاته الإدارة بمطالب الغرباء. ونحن نشكرها على ما أمدتنا به من بعض المناظر على وجه الإعارة. وشمال مركز الجمعية بستان البلد وهو حسن التنظيم ، كثير الأزهار والتقاسيم ، على الشاطئ الجنوبي من نهر إيزاير الزلال ، وبه سميت مقاطعة كرونوبل (إيزاير). آت من الشرق يسقي بمائه العذب

١٣٢

المزارع والمروج إلى أن يدفع بصدره في الطرف الشرقي من المدينة ، ثم يتجافى عنها إلى الشمال محيطا ببستان ليل فايرت (الجزيرة الخضراء) حتى يسقي سكان قرية لاطرونش ، ويركبونه بقنطرة تعرف بباب ليل فايرت ، تربط تلك القنطرة بينهم وبين المدينة. ثم يعود النهر الكرة على المدينة منعطفا لزيارتها مرة ثانية. وكرونوبل الجميلة تستحق تكرار الزيارة فينساب شمالها بين قصورها والجبل المستندة عليه المدينة ، وبه ثكنات العساكر. وكرونوبل حتى من عهد الرومان مركز حربي مثل كونها الآن مدينة زراعية صناعية (ومما اشتهرت به صنع القفازات) تجارية علمية. ثم يمد النهر ذراعه إلى الشمال الغربي من المدينة محتضنا لها وواصلا يده بنهر دراك الآتي من الجنوب وغربي المدينة ، فهي محفوفة بهاذين النهرين من جهاتها الثلاث. أما الجنوب فزيادة على السور يوجد خليج من ورائه كالوتر واصل ما بين النهرين ، فاستدارة الماء كانت حسنا وحصنا لهاته المدينة العظيمة في عين الناظر ، السهلة في سلوك شوارعها ، الهينة على القاصد لأطرافها والمتجول في أرجئها ومنازهها. فإذا تمادى الماشي مسايرا للنهر ومغربا بعد مشاهدة بستان البلد الذي مر ذكره فإنه يصل إلى القنطرة الغربية على النهر المسماة قنطرة باب فرانسا ، وبينها وبين القنطرة الشرقية في لاطرونش ثلاث قناطر كلها على نهير إيزاير. وفي خارج قنطرة باب فرانسا بستان دوفان ، ومن داخلها بطحاء تجمع عدة طرقات عظمى مثل نهج صان أندري ، يخترق وسط المدينة من الشمال إلى الجنوب ويتجاوزها في البساتين والضاحية أميالا كثيرة ، تكتنفه الأشجار والمنازه والقصور. وهو أعظم شارع هناك ، ويتفرع من القنطرة المذكورة شارع كنبيطة موصلا إلى الجنوب الشرقي من المدينة. ثم نهج الدكتور مازاي ، وبه منازل الأعيان ومحل للاستحمام ويتصل بالجانب الغربي من بطحاء فيكتور هيكو. ولطالما سلكنا هذا النهج المحبوب ولقينا من بعض سراة سكانه كل حفاوة وإكرام :

وكل فتى يولي الجميل محبب

وكل مكان ينبت العز طيب

وينتهي هذا الشارع جنوبا إلى نهج لافونتاين ومكتب التعليم ، ومن ورائه مكتب الطب ومكتب الصنايع المستظرفة. والطريق الموصل شرقا إلى بطحاء كنستيتيسيون هو

١٣٣

نهج لاليبايرت ، وبجنوبها الشرقي بستان النباتات تحت أسوار المدينة. وهاته الحارة من المدينة بها الحركة العلمية كمكاتب التعليم وديار الآثار والكتب والإدارات ونحو ذلك. هذه هي صورة مدينة كرونوبل التي لا ينقصها إلّا تعميم فرش شوارعها حيث البعض منها مفروش بألواح غير تامة ولا ملتحمة يتعثر فيها المارة ويثور من بينها القتام في طريق الألزاس واللورين. ومثل هذا الغبار على وجه مدينة كرونوبل مما ينقص من جمالها الوافر اللهم إلّا إذا كانت الغبرة تعد من المحسنات في بعض العادات. يزيد سكان المدينة عن سبعين ألفا ، وارتفاعها على سطح البحر أمتار ٢١٤ ، وأما شكلها فيشبه سفينة فينيقية أو هيئة هلال طرفاه في الشمال أيمنهما شبه جزيرة ليل فايرت ، وطرفه الأيسر شبه جزيرة صان مرتان بين نهري إيزاير ودراك. والعمران قليل في هاذين الطرفين والمحاق من الهلال هو موقع الجبل الشمالي من المدينة ، وبه الثكنات العسكرية التي لا تقع على أسرار ما بها أنظار العموم. ومعلوم في فن الفلك أن مكان المحاق من الهلال لا تقع عليه أشعة بصر الشمس. وعلى رأس الطرف الأيمن من ذلك الهلال نجم مضيء هو قرية لا طرونش التي بها الجمال الرايع والبناءات اللطيفة. ويقابلها بداخل جزيرة ليل فايرت منازه ورحاب. والمدينة في سهل تحيط بضواحيها المروج النضرة والغابات والمعامل المحكمة والقرى المتعددة ، والسكك الممدودة وتيجان الجبال الشواهق وشرافات الأطواد الشوامخ ، طال عليها أمد الوقوف في حراسة ملكة هذا القطر ، والعروس المتجملة بين مدن هذا الصقع ، فشابت مفارقها ببياض الثلوج وكأن ملكة الطبيعة أرادت أن تكافئ الحراس عن حسن الصنيع وثبات الموقف فأفرغت عليهم الحلل الخضر وجمّلتهم بالعمايم البيض فازدادت محاسن أفق كرونوبل وتشابهت وتجمعت بها المروج والجبال والغابات والأنهار والرياض والبناءات في صعيد واحد فهي سهلية جبلية بحرية ، يرضى بها المحرور والمقرور. يتمتع المقيم في البلد بطيب الهواء المعتدل ومناظر الجبال ، وبالأخص جبل لاموشوروت المطل على المدينة من الجنوب الغربي. كما تنال عينه الغابات والأنهار وهو بسكك المدينة. والعاصمة القديمة لعمالة دوفيني التي جاءتها التسمية بكرونوبل من النسبة إلى الإمبراطور الروماني كراسيا في أواخر القرن الرابع مسيحي ، وبقي بها لقب آخر الآن أخذته شعارا وتذكارا من انتشار العرب بالعدوة الشمالية من البحر الأبيض الرومي ،

١٣٤

وطول إقامتهم بجبال الألب إلى القرن ١٢ مسيحي وهو كلمة «سرزا» مصحفة من لفظ مشارقة كما صرح بجميع ذلك أعظم المؤرخين الفرنساويين. ونحن الآن عالة في التاريخ والمعارف على أروبا وعلى كتبها في القرون الأخيرة مثلما نستفيد بواسطتها مشاهدة مصنوعاتنا العتيقة وكتبنا التي حوتها خزاينها من تآليف القرون الأولى والوسطى كما سيأتي في مكتبة باريز. ونستمد تحقيق الحوادث وجليل المسائل ونوادر الفوائد من جرائدها ومجلاتها وكتبها ودروسها. ولا زالت بعض الأعلام العربية في الأشخاص واللباس والأماكن مستعملة إلى الآن في تلك الجهات ، فمن ذلك «الفار» اسم قرية محرفة عن الواعر لصعوبة موقعها في شرقي كرونوبل وجنوب شانبيري ، و «برايدا» اسم مجرى ماء بين الجبال يمر على الفار ويصب بنهر إيزاير محرفا عن باردة ، و «أليب» و «ممود» بقلب العين همزة وحذف الحاء أعلام أشخاص ، وأصلهما علي ومحمود ، و «فودا» اسم ثوب يجعل من أمام محرفا عن فوطة. قلت ودرام الذي هو اسم نهر في كرونوبل علم أيضا على جبل للبربر في المغرب ذكره ابن خلدون. ولعل تسمية النهر وضعها الإفريقيون أولا على جبل في كرونوبل يشبه جبالهم ثم أطلق على النهر المنحدر منه وهذا لا غرابة فيه ، فبالمملكة التونسية أسماء بلدان وجبال وغيرها من لغات الأمم الغابرة وتحرفت نوعا لمخالفة اللسان الوارث للأرض (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) قام في القرن الثاني عشر على العرب سادات تلك الجهات وحاربوهم وألجؤوهم إلى الجبال التي لا زالت بها آثار مساكنهم. وأخيرا فر بعضهم وقتل البعض واختلط الباقي بالسكان الأصليين ـ فبذروا مشتلة من مفردات اللغة العربية في تلك الأصقاع تلوكها الألسنة إلى الآن ، وأورثوا عنصر السكان الأصليين بموجب الامتزاج ملامح الوجوه وأشكال الرؤوس في أحواز (الفار. وبوردوازان) شرقي كرونوبل. يقرأ القايف تلك السّمات في وجوهم ، ويربط بها سلسلة أنساب الخلف بالسلف ، ويتوصل المتفرس بمسحة الجمال العربي والذكاء والرصانة التي لأهالي أحواز كرونوبل إلى إثبات الامتزاج بين ذينك العنصرين العظيمين المتولد منهما جنس جامع بين جمال الصورة ونباهة الفكر وحسن الخلق. وممن لدينا في المملكة من سراة تلك الجهات السيد تيار المستعرب الشهير ، واسع العلم والتفكير ، والسيد (ما يري) مدير المكتب

١٣٥

الفرنساوي بالقيروان ، صاحب أخلاق وأناة والذي زاد سكان كرونوبل بسطة في العلم واستنارة في الفكر وصحة في الجسم ووضاءة في الوجه جبال الثلوج التي جاءت في جنوبها يهب عليهم في المصيف نسيم منها يتنسم منه روح الحياة كما قالوا عن غرناطة بالأندلس ، وأن ذلك روّق أمزجة أهلها وأكسبهم الألوان البديعة من امتزاج الحمرة بالبياض ، التي يخجل منها ورد الرياض.

ومن محاسن كرونوبل المروج الواسعة في الشرق الذي هو مطلع الشمس وبقية جهاتها جبال. والموقع الذي بهاته المثابة كما قال ابن سينا مدائنه صحيحة جيدة الهواء تطلع على ساكنيها الشمس في أول النهار وتصفي هواهم ثم تنصرف عنهم ، وتهب عليهم رياح لطيفة ترسلها عليهم الشمس آخر النهار ، ثم يتبعها طلوع الشمس من أول النهار الثاني. وحال خروج الشمس عنهم حال دخول الهواء عليهم بخلاف المدن الغربية أي التي تحول الجبال بينها وبين الشمس شرقا ، فلا توافيها الشمس إلّا بعد حين ، وعند ما توافيها تأخذ في البعد عنها فلا تلطف هواءها ولا تجففه ـ ولكرونوبل مثل غرناطة نهران أحدهما آت من المشرق وهو إيزاير ونهر غرناطة يسمى حدره ، وكلاهما عليه قناطير خمسة ، فما أشد التشابه بين هذين البلدين. ولها نهر آت من الجنوب يسمى دراك ولغرناطة مثله يسمى شنيل. وقد أدخلت لفظ كرونوبل في شعر لبعضهم فقلت :

(كرنبل) الحسن تزهو

على دراري النجوم

وكل نهر عليه

كمثل سلك نظيم

ما جردت كسيوف

إلّا لقتل الهموم

والجبال المنحدر منها دراك في الجنوب مثل جبال غرناطة في الجهة والوصف ، فهي كما قالوا تنبجس العيون من سفوحها ، وتطرد في أرجائها وساحاتها المياه ، وتعددت الجنات بها والبساتين والتفت الأدواح فجسوم أهلها بصحة الهواء صلبة.

١٣٦

وحال سكان كرونوبل وما حواليها كما وصفوا أهالي غرناطة. حريمهم حريم جميل موصوف بالحسن وتنعم الجسوم واسترسال الشعور ونقاء الثغور وطيب النشر وخفة الحركات ونبل الكلام وحسن المجاورة. ولهن التفنن في الزينة والمظاهرة بين المصبغات والتنافس بالذهبيات والديباجيات. غير أن نساء كرونوبل لسن بقصيرات مثل نساء غرناطة ، كما أن مدينة غرناطة جاءت في مرتفع تقصر دونه مدينة كرونوبل.

فكأنهما تعاوضا في هذا السبيل. وماء هاته الجهات عذب بارد زلال. وإني لأعجب من السكان كيف عدلوا عنه إلى شرب الخمر وما رأيت في فرانسا ماء أحسن منه عذوبة.

عذب إذا ما عل فيه ناهل

فكأنه من ريق حب ينهل

عذب فما ندري أماء ماؤه

عند المذاقة أو رحيق سلسل

فالهواء والماء ، والتراب والسكان وكل ما في كرونوبل جميل. وإذا كانت هاته المقاطعة بمنزلة الرأس من فرانسا فكرونوبل بمنزلة العين النجلاء منه. ولا أدري هل هي كذلك وعلى هذا الوصف في نفس الواقع؟ أو تجلت لي خاصة بهذا التصنع؟

وإذا كان هذا فما هو السبب يا ترى؟؟

هل لكونها أول أرض أقمت بها في فرانسا ورأيت بها ما رأيت؟

أو لما لاقيته من جميل المعاملة بها؟ أو لجاذب روحي وتعارف قديم بين العنصر الإفريقي والكولوا في تلك المقاطعة التي لا زالت ترفرف فيها طيور الأرواح على أوكار الأشباح؟؟

فيزيل : ركبت يوما سيارة مع صديقنا دالبايرتو إلى قرية فيزيل جنوب المدينة بنحو خمسة عشر ميلا ، وشاهدنا قبل الوصول إليها مع نهر (دراك) وما أدريك. معامل الكهرباء المتولدة بقوة انحداره ، فأنتجت قوة ونور وحرارة هذا السيال الشبيه بالروح المعلوم النفع والمجهول الأمر منافع عظمى بالمدينة وضواحيها في تسيير القطارات وإدارة الماكينات وإضاءة المنازل والطرقات. وقفت على معامل الكاغد يوتى لها بحطب

١٣٧

الغاب فتقطعه الآلات السريعة ثم ينشر ثم يخمر بالماء ثم يعجن ثم يمر على حياض يتسرب منها إلى أعمدة حديدية أفقية متحركة تأخذ من ذلك العجين باستدارتها جلدا ثخينا ، وفي أعمدة أخرى بعدها يرقق بالضغط على حسب إرادة الصانع ، وعند الكفاية يمر على أعمدة محماة تجففه وآلات بعدها تقطعه على الطول والعرض الذي يحدد أسفل الآلة القاطعة. فما يصل الكاغد إلى آخر بيت المعمل الذي دخل له وهو حطب إلّا وقد هيىء للإرسال إلى سائر الأقطار. فهذا العمل هو (الكيمياء التي قالوا ولم تصب) يوضع بإحدى جهتي المعمل الحطب ويقبض بعد تحليله وتركيبه من الجهة الثانية الذهب. وفي صدر الإسلام وعظمة الخلافة العباسية راج اختراعه وإبداعه ، وأوجبته الحاجة التي هي أم الاختراع لنسخ الكتب ورسائل الدواوين. قال ابن خلدون وكانت السجلات أولا لانتساخ العلوم وكتب الرسائل السلطانية والإقطاعات والصكوك في الرقوق المهيأة بالصناعة من الجلد ، ثم طمى بحر التأليف والتدوين وضاق الرق عن ذلك فأشار الفضل بن يحيى بصناعة الكاغد. فصنع واتخذه الناس من بعده صحفا لمكتوباتهم السلطانية وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت.

وهناك معامل السيمان ، وفي سفح الجبل مقاطع الحجارة تجر إلى السهل بالآلات ، فما أكثر الخيرات والموارد في تلك الجهة من حجارة وماء وغاب ، وما أعرف تلك الأمة بطرق الانتفاع بها وصرف هممهم لتعاطي الأسباب.

وصلنا إلى قرية فيزيل التي يقدرون سكانها بنحو خمسة آلاف وبها قصر الكونيطابل ـ أي القايد الأكبر. وهو عظيم متسع ، وبه وقع اجتماع رؤساء تلك الجهات لمقدمة الثورة العظمى بفرانسا ١٧٨٨ وطلب الحرية وإسقاط الحكم المطلق. فله ذكر تاريخي عظيم ولذلك تسابقت إليه أيدي الأغنياء ومن بينهم أحد رؤساء الجمهورية الثالثة ثم خرج إلى ملكية أحد أغنياء إيطاليا ـ والدخول إليه برخصة خاصة ، وقفنا على بابه وتأملنا في صورة صاحب القصر على فرس جواد. ونبحتنا هناك كلاب القصر من خارج الباب على خلاف طباع أهالي تلك الجهة. ولكن الكلب كلب وهو مشهور بنكران الضيف وبالأخص المخالف لأربابه في اللباس ولعله لم يشم منا أيضا رائحة من عرفهم في ذلك القصر من أبطال الحرية. «أرياج ليبا» :

١٣٨

عرجنا عنها شرقا بعد فيزيل وهي تبعد عن كرونوبل بنحو أميال ١١ ـ وكانت حماماتها معروفة عند الرومان ومنتفعا بها مثل حمامات قبرص ، ويوجد بها بعض الآثار من القرون الخالية العامرة بمعارف الانتفاع من الدنيا في أدوار السذاجة البشرية والإلهامات إلى التجارب الطبية. ولا زالت تلك الآثار محفوظة في قصر هناك على ما ذكروا. تتصل بهاته الحمة سكة الطرمفاي الكهربائي وبها لوازم الإقامة من الأتيلات ومحلات التمثيل والمطاعم والحفظ بالبوليس ووسايل المواصلة والمخابرة.

جاءت في وهاد بين سلاسل الرّبى المغشاة بالأشجار ، فكانت أدواحا للأطيار ، وظلالا وشفاء لبني الإنسان. وزادتها حسنا الطرقات المنظمة التي يتفيؤ السافرون ظلالها في مراتع الأنس وحسن المناظر وطيب الهواء والأمن والانتفاع بالحمامات المعدنية. دخلنا إلى بناء العين الحمة فوجدن به امرأة تسقي الوافدين أعطاها صاحبنا بعض المسكوكات ، وسألت عني لغرابة اللباس وقالت لعلك تونسي فاستفسرتها عن اهتدائها لذلك فبينت لي أن أختها متزوجة بمسلم تونسي مستخدم بالسفارة الفرنساوية بتونس ، وأثنت على التونسيين وجميل معاملتهم للأوروباويين وحسن معاشرتهم لزوجاتهم ، فزادني سرورا ذكرها لوطني وأبنائه بعبارات الثناء في تراب الحرية ، والاصداع بما في الضمير. وازداد عجبا سامعوها من بعض عائلات كرونوبل الذين كانوا معي لأن الكثير من أهالي أروبا لا يعلمون معنى الحياة الاجتماعية للتونسي إلّا في صورة مشوهة ، ولربما تخيله بعضهم كسكان أواسط الصحراء الكبرى على شكل السودان وعوائدهم وانحطاط إدراكهم. لذلك يظهر أن من أهم ما يرفع به اللبس ويماط به الغطاء سفر التونسيين إلى فرنسا. حدث الأستاذ الشيخ سيدي سالم بوحاجب في أنباء رحلته إلى إيطاليا التي أقام بها ما يزيد عن خمسة أعوام وحفظ لغة القوم ، وذلك منذ نيف وأربعين سنة ، أنه لما سئل عن سبب المنع من تزوج المسيحي بالمسلمة وإباحة تزوج المسلم بالكتابية ، أجاب بأن المسلمين يعتقدون نبوة عيسى عليه السلام ويحترمونه فلا تلحق الكتابية إهانة في دينها من زوجها ، بخلاف المسيحيين فلا يرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا مانع من التحام المرأة بزوجها في سبيل المعاشرة ، ومن أقوى أسباب الشقاق.

ومياه أرياج نوعان منها الملح المسهل والعذب للشرب ، وفي بعض العيون الحديد

١٣٩

وفي البعض الآخر الجير والكبريت ، ودرجة الماء الحار نحو ٢٧.

وسعر الدخول للرجال نحو الفرنك ونصف وللصبيان نصف ذلك تقريبا ، وتختلف الأسعار باختلاف أوقات النهار والليل. أما دخول النسوة فمن الغريب أنه مرتفع السعر بما يزيد على ثلاث فرنكات. وأغرب منه خمسون صانتيما لغسل الرجلين ، مسطر ذلك بفهرس الأسعار. ارتفاع أرياج على سطح البحر أمتار ٤١٤ وهو بين ربى مجللة بالمزارع والأشجار وهناك «قد أخرجت الأرض أسرارها وأظهرت يد الغيث آثارها». وفي باطن ذلك الشعب ، الذي يذكرنا بشعب بوان ، الرياض والأزهار والأشجار المتعانقة حفا في الطرقات وحول الأتيلات (أشجار كأن الحور أعارتها قدودها وكستها برودها وحلتها عقودها) :

والسرو شبه عرايس مجلوة

قد شمرت عن ساقها أثوابها

لو كنت أملك للرياض صيانة

يوما لما وطىء اللئام ترابها

فخاطبت رفيقي بقول الخيام :

صاح لاحت في دوحنا يد موسى

صاح مرت بالروض أنفاس عيسى

سرحنا الطرف هناك وتماشينا مع رفقائنا في طرقات الرياض ، وكانت الطيور تارة تصفر كأنما هي في عرس والأوراق تصفق لها. وأحيانا تتناجى وتتجاوب ، فكأنها للإعجاب بذلك المكان مثلنا. فقالت لي إحدى السيدات إن هاته المنازه من ملائمات الشعراء ، فعجبت من إدراك النساء عندهم ورقي معارفهن وتمنيت إن كنت أقدر على الشعر بالفرنساوي لأنسج لها برودا تشبه في الحسن ما أفرغته يد القدرة من الحلل على قدود الأشجار ، والألوان على أنواع الأزهار.

نعم تسابقت لدي بنات الشعر بعقود فاخترت منها كلام صفي الدين الحلي لانطباقه تماما على المكان والسكان وأدمجت به كلمة «أرياج» :

١٤٠