البرنس في باريس

محمّد المقداد الورتتاني

البرنس في باريس

المؤلف:

محمّد المقداد الورتتاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-605-5
الصفحات: ٣٩٥

١
٢

٣

يشرف على هذه السلسلة :

نوري الجرّاح

٤

«ومن عوايد أروبا سفر العروسين وقت الزفاف ، ولعلهم يرون فيه راحة من تكاليف المنزل وقبول المهنئين. والمسافرون يركن بعضهم إلى بعض بداعي الحاجة والإعانة ، وفي السفر يعلم الإنسان قيمة نفسه ، واحتياجه إلى بني جنسه ، والإنسان مدني بالطبع. يعمد هاذان الرفيقان ، في مبدأ تعارفهما ، للاجتماع العمري على وجه الأرض ، إلى الترافق في سفر قصير يستفيدان منه لزوم إعانة كل منهما للآخر في سفر الحياة الطويل وحاجته الشديدة إليه ، ولكي يعلما أن ليس لهما ثالث يعتمدان عليه في شؤونهما أو له حظ في القرب من منزلة اتحادهما.».

نص الرحلة ص ٨٦

«... وكلما زاد النهار ازداد الاضطراب ، وأتعب الدوار الركاب وبالأخص أصحاب الدرجة الرابعة الذين على سطح السفينة ، فقد ابتلت حقائبهم وأمتعتهم التي طفت عليها الأمواج فأصعدوهم على سطح بيوت الأكل ومجالس الراحة بعدا عن تيار الماء واختطاف الأمواج حيث مجالس الرتبة الأولى والثانية بأسفل بطن السفينة ، وأما الرتب الأخيرة والرخيصة ففي أعلاها عرضة للحر والقر. وكذلك مجالس التمثيل حيث أهل الدرجة الأولى ينظرون للمرسح وأدوار الرواية أفقيا على مساواة سطح مجالسهم. وصار منظر السفينة محزنا ، حيث لا يرى إلا ركاب مبتلي الثياب ، وآخرون بدواير السفينة يتجرعون ما في بطونهم من آلام الدوار.».

نص الرحلة ص ٩٤

٥
٦

استهلال

تهدف هذه السّلسلة بعث واحد من أعرق ألوان الكتابة في ثقافتنا العربية ، من خلال تقديم كلاسيكيّات أدب الرّحلة ، إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة لكتاب ورحّالة عرب ومسلمين جابوا العالم ودوّنوا يوميّاتهم وانطباعاتهم ، ونقلوا صورا لما شاهدوه وخبروه في أقاليمه ، قريبة وبعيدة ، لا سيما في القرنين الماضيين اللذين شهدا ولادة الاهتمام بالتجربة الغربية لدى النّخب العربية المثقفة ، ومحاولة التعرّف على المجتمعات والنّاس في الغرب. والواقع أنه لا يمكن عزل هذا الاهتمام العربي بالآخر عن ظاهرة الاستشراق والمستشرقين الذين ملأوا دروب الشّرق ، ورسموا له صورا ستملأ مجلدات لا تحصى عددا ، خصوصا في اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية ، وذلك من موقعهم القوي على خارطة العالم والعلم ، ومن منطلق المستأثر بالأشياء ، والمتهيئ لترويج صور عن «شرق ألف ليلة وليلة» تغذّي أذهان الغربيين ومخيّلاتهم ، وتمهّد الرأي العام ، تاليا ، للغزو الفكري والعسكري لهذا الشرق. ولعل حملة نابليون على مصر ، بكل تداعياتها العسكرية والفكرية في ثقافتنا العربية ، هي النموذج الأتمّ لذلك. فقد دخلت المطبعة العربية إلى مصر مقطورة وراء عربة المدفع الفرنسي

٧

لتؤسس للظاهرة الاستعمارية بوجهيها العسكري والفكري.

على أن الظّاهرة الغربية في قراءة الآخر وتأويله ، كانت دافعا ومحرضا بالنسبة إلى النخب العربية المثقفة التي وجدت نفسها في مواجهة صور غربيّة لمجتمعاتها جديدة عليها ، وهو ما استفز فيها العصب الحضاري ، لتجد نفسها تملك ، بدورها ، الدوافع والأسباب لتشدّ الرحال نحو الآخر ، بحثا واستكشافا ، وتعود ومعها ما تنقله وتعرضه وتقوله في حضارته ، ونمط عيشه وأوضاعه ، ضاربة بذلك الأمثال للناس ، ولينبعث في المجتمعات العربية ، وللمرة الأولى ، صراع فكري حاد تستقطب إليه القوى الحيّة في المجتمع بين مؤيد للغرب موال له ومتحمّس لأفكاره وصياغاته ، وبين معاد للغرب ، رافض له ، ومستعدّ لمقاتلته.

وإذا كان أدب الرحلة الغربي قد تمكّن من تنميط الشرق والشرقيين ، عبر رسم صور دنيا لهم ، بواسطة مخيّلة جائعة إلى السّحري والأيروسيّ والعجائبيّ ، فإنّ أدب الرحلة العربي إلى الغرب والعالم ، كما سيتّضح من خلال نصوص هذه السلسلة ، ركّز ، أساسا ، على تتبع ملامح النهضة العلميّة والصناعيّة ، وتطوّر العمران ، ومظاهر العصرنة ممثلة في التطور الحادث في نمط العيش والبناء والاجتماع والحقوق. لقد انصرف الرّحالة العرب إلى تكحيل عيونهم بصور النهضة الحديثة في تلك المجتمعات ، مدفوعين ، غالبا ، بشغف البحث عن الجديد ، وبالرغبة العميقة الجارفة لا في الاستكشاف فقط ، من باب الفضول المعرفي ، وإنما ، أساسا ، من باب طلب العلم ، واستلهام التجارب ، ومحاولة الأخذ بمعطيات التطور الحديث ، واقتفاء أثر الآخر للخروج من حالة الشّلل الحضاريّ التي وجد العرب أنفسهم فريسة لها. هنا ، على هذا المنقلب ، نجد أحد المصادر الأساسية المؤسّسة للنظرة الشرقية المندهشة بالغرب وحضارته ، وهي نظرة المتطلّع إلى المدنيّة وحداثتها

٨

من موقعه الأدنى على هامش الحضارة الحديثة ، المتحسّر على ماضيه التليد ، والتّائق إلى العودة إلى قلب الفاعلية الحضارية.

إنّ أحد أهداف هذه السّلسلة من كتب الرحلات العربية إلى العالم ، هو الكشف عن طبيعة الوعي بالآخر الذي تشكّل عن طريق الرحلة ، والأفكار التي تسرّبت عبر سطور الرّحالة ، والانتباهات التي ميّزت نظرتهم إلى الدول والناس والأفكار. فأدب الرحلة ، على هذا الصعيد ، يشكّل ثروة معرفيّة كبيرة ، ومخزنا للقصص والظواهر والأفكار ، فضلا عن كونه مادة سرديّة مشوّقة تحتوي على الطريف والغريب والمدهش مما التقطته عيون تتجوّل وأنفس تنفعل بما ترى ، ووعي يلمّ بالأشياء ويحلّلها ويراقب الظواهر ويتفكّر بها.

أخيرا ، لا بد من الإشارة إلى أن هذه السّلسلة التي قد تبلغ المائة كتاب من شأنها أن تؤسس ، وللمرة الأولى ، لمكتبة عربية مستقلّة مؤلّفة من نصوص ثريّة تكشف عن همّة العربيّ في ارتياد الآفاق ، واستعداده للمغامرة من باب نيل المعرفة مقرونة بالمتعة ، وهي إلى هذا وذاك تغطي المعمور في أربع جهات الأرض وفي قارّاته الخمس ، وتجمع إلى نشدان معرفة الآخر وعالمه ، البحث عن مكونات الذات الحضارية للعرب والمسلمين من خلال تلك الرحلات التي قام بها الأدباء والمفكرون والمتصوفة والحجاج والعلماء ، وغيرهم من الرّحالة العرب في أرجاء ديارهم العربية والإسلامية.

محمد أحمد السويدي

٩

١٠

المقدّمة

هو محمد بن الناصر بن عمار الورتتاني نسبة إلى قبيلة ورتتان من بربر جنوب الكاف قرب مدينة أبة (١) بتونس ، «بضم أوله وتشديد ثانيه والهاء : اسم مدينة بإفريقية بينها وبين القيروان ثلاثة أيام ، وهي من ناحية الأربس ، موصوفة بكثرة الفواكه وإنبات الزعفران» (٢). ويوهم كلام الزركلي السابق أن أصل الورتتاني بربري ، بينما هو نفسه يقول عن أهله إنهم من ذرية عيسى بن الأكحل من الساقية الحمراء بالمغرب الأقصى (٣). ويضيف معرفا بقبيلته وأجداده : «ولقبيلنا امتياز بانتحال العلوم والأخذ بطرق الصلاح ، وجدنا الأعلى هو علي بن القروي صالح تلك الجهة ... وابنه القروي جدنا الأدنى هو عالم جهته وثقة نشأته» (٤). وأضاف أنهم كانوا «مستوطنين بين قبائل أبة والقصور وشرقي فحص مرماجنه وجبل الحناش» (٥).

__________________

(١) الأعلام ، خير الدين الزركلي ، ٧ / ١٠٧.

(٢) معجم البلدان ، لياقوت الحموي : ١ / ٨٥.

(٣) البرنس في باريز : ٢٢. ملحوظة : كل الإحالات على هذه الرحلة تخص هذا الكتاب.

(٤) المصدر السابق : ٢٢ ـ ٢٣.

(٥) المصدر السابق : ٢٢.

١١

ولا تشير المصادر التي اعتمدتها إلى سنة ميلاده ، غير أن إشارة وردت في الرحلة تؤكد أنه ولد قبيل احتلال فرنسا لتونس ١٨٨١ م. يقول أثناء حديثه عن مرور عساكر فرنسا ببلدته وسير والده وبعض الأعيان في ركاب حملة الاحتلال إنه كان دون الاثعار ، بدأ في التعلم (٦). درس بجامعة الزيتونة ، وذكر أنه زاول «علمي التاريخ والجغرافيا باعتناء المدرسة الخلدونية» (٧). ومن أبرز من تلقى عنهم محمد ابن الخوجة (٨) والبشير صفر الذي ترأس بعثة المدرسة الصادقية إلى فرنسا (٩) كما تولى رئاسة الأوقاف (١٠). وسيدي محمد النخلي القيرواني الذي أخذ عنه اللسان والمنطق والعروض (١١) ، وسيدي الصادق ابن القاضي الذي أخذ عنه أصول الفقه (١٢). كما ذكر من أساتذته الشيخ سالم بوحاجب (١٣). ومن مؤشرات نشاطه الأدبي ومشاركته العلمية عضويته في النادي الأدبي للشيخ الخضر حسين (١٤).

ومن المناصب التي تولاها محمد المقداد الورتتاني : نائب الأوقاف بالقيروان (١٥) ، مدرس متطوع بالمسجد الأعظم (١٦) كما كان مستشارا في مجلس مستشفى

__________________

(٦) المصدر السابق : ٢١.

(٧) المصدر السابق : ٢.

(٨) المصدر السابق : ٢. توفي ابن الخوجة سنة ١٣٢٥ ه‍. انظر ترجمته في : عنوان الأريب عما نشأ بالبلاد التونسية من عالم أديب : الشيخ علي النيفر ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت ، ط ١ ، ١٩٩٦ ، ٢ / ١٠٠٢ ـ ١٠٠٧.

(٩) الحركة الأدبية في تونس ، محمد بن الفاضل بن عاشور ، الدار التونسية للنشر ، ١٩٧٢ : ٦٢.

(١٠) المصدر السابق : ١٠١.

(١١) المصدر السابق : ١٠١.

(١٢) المصدر السابق : ٣٠.

(١٣) البرنس في باريز : ٤٦. توفي الشيخ بوحاجب سنة ١٩٢٤.

(١٤) البرنس في باريز : ١٠٧.

(١٥) الأعلام : ٧ / ١٠٧.

(١٦) البرنس في باريز : ١٩٠.

١٢

القيروان (١٧). وتنم مضامين رحلته هذه عن ثقافة تراثية غنية ، وخاصة التاريخ ، وعن إلمام باللغة الفرنسية (١٨) وتاريخ فرنسا ، وهو أمر عاديّ بالنسبة للفترة التي نشأ فيها الورتتاني ، إذ أصبحت اللغة الفرنسية بعد الاحتلال هي اللغة الوحيدة للتعلم (١٩).

وقد اعترف له بعض المستعربين ممن حاورهم أثناء رحلته بحسن الاطلاع على تاريخ فرنسا مبديا سروره بذلك (٢٠).

وتوفي محمد المقداد الورتتاني سنة (١٣٧١ ه‍ ـ ١٩٥١) (٢١) عن حوالي سبعين سنة (٢٢). وقد خلف مجموعة من المؤلفات :

* المفيد السنوي ، في جزءين. (مطبوع).

* رسالة في تاريخ الشابية بالقيروان.

* دراسة في تاريخ الأطعمة التونسية في العصر الحفصي. (مخطوط).

* الرحلة الأحمدية. (مطبوع). وهي في وصف رحلة أحمد باشا باي إلى فرنسا (٢٣). كما ذكر أن له رسالة عن حمة قربص (٢٤).

* البرنس في باريز ، وهي رحلته إلى فرنسا وسويسرا وإليها يساق الحديث فيما يلي.

__________________

(١٧) البرنس في باريز : ١٨٩ و ٢٨٥.

(١٨) أشار إلى تعلمه اللغة الفرنسية : البرنس في باريز : ٢٤٢.

(١٩) الحركة الأدبية والفكرية في تونس : ٤٧.

(٢٠) البرنس في باريز : ٢٤٢.

(٢١) الأعلام : ٧ / ١٠٧. وجعلت باحثة وفاته سنة ١٩٥٢ : الرحالة العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة ، نازك سابايارد ، مؤسسة نوفل بيروت ، ط ١ ، ١٩٧٩ : ٥٠١. والأرجح المثبت أعلاه.

(٢٢) انظر الهامش رقم ٦ أعلاه.

(٢٣) الأعلام : ٧ / ١٠٧.

(٢٤) البرنس في باريز : ٣٣.

١٣

البرنس في باريز :

يمثل هذا الكتاب امتدادا لمتن رحلي تونسي إلى أوربا أثيل نتج عن انفتاح مبكر لهذا القطر في القرن التاسع عشر على الآخر الأوربي مقارنة مع باقي أقطار الشمال الغربي لإفريقيا. حيث عمّ لدى النخبة المثقفة إذ ذاك الشغف بتلقف الأحاديث عن أوربا وأخبارها من أفواه الذين سمحت لهم الفرص النادرة بالسفر إليها ... كما شاع الإقبال على مطالعة ما ظهر من كتب الشرقيين الذين سبقوا إلى التعرف على الحياة الغربية ودونوا وصفها وجهروا بالدعوة إلى الاقتداء بمحاسنها في الكتب التي وضعوها عن رحلاتهم وطبعت في المطابع المصرية ، وأهمها رحلة الشيخ رفاعة الطهطاوي» (٢٥).

ومن أهم ثمرات هذا النتاج الرحلي التونسي نذكر :

١. رحلة أحمد باشا إلى فرنسا ١٨٤٦ م ، وقد قام أحمد بن أبي الضياف بتدوين ملاحظاته عليها «وعلى عمران فرنسا ورقي الأخلاق فيها وازدهار الاقتصاد وغيرها» (٢٦).

٢. أقوم المسالك إلى معرفة الممالك ، خير الدين التونسي ، وطبعت بتونس سنة ١٨٦٧ (٢٧).

٣. رحلة باي تونس إلى فرنسا ، محمد الخيار ، تونس ، ١٨٩٥ (٢٨).

٤. الرحلة الناصرية ، محمد بن الخوجة ، وهي رحلة باي تونس إلى فرنسا سنة ١٨٩٥ ، طبعت بتونس (٢٩).

__________________

(٢٥) الحركة الأدبية والفكرية في تونس : ٣٤.

(٢٦) المرجع السابق.

(٢٧) الرحلة في الأدب العربي ، التجنس ، آليات الكتابة ، خطاب المتخيل ، شعيب حليفي ، دار القرويين ، البيضاء ، ط ٢ ، ٢٠٠٣ : ٣٣٩.

(٢٨) المرجع السابق : ٣٤٣.

(٢٩) الحركة الأدبية والفكرية في تونس : ٩١. الرحلة في الأدب العربي : ٣٤٣.

١٤

٥. الاستطلاعات الباريسية ، محمد السنوسي في رحلته إلى باريس ١٨٨٩ ، تونس ١٣١٠ ـ ١٨٩٢ (٣٠).

٦. الرحلة الأندلسية ، علي الورداني التونسي ، نشرت بجريدة الحاضرة التونسية (٣١) ، وهي تسجيل لرحلته سنة ١٨٨٨ إلى إسبانيا في بعثة علمية برفقة العلامة محمد محمود التركزي الشنقيطي (٣٢) ، وذلك أن السلطان عبد الحميد لاهتمامه بكتب العربية الموجودة في إسبانيا ، بعث الشنقيطي لتسجيل قائمة بأهم الكتب الموجودة بها (٣٣).

وجدير بالذكر أن إيراد هذه العناوين تمثيلي فقط لا يروم الاستقصاء بقدر ما يتوخى تجلية المناخ الذي كتبت فيه رحلة «البرنس في البرنس».

وهذه الرحلة تدوين للسفر الذي قام بها محمد المقداد الورتتاني إلى كل من فرنسا وسويسرا سنة ١٣٣١ ه‍ ـ ١٩١٣ م ، وزار خلاله ١٨ مدينة (٣٤) ، وكان برفقته الشيخ أحمد ابن السعيد ، وهو مثقف ومتقن للفرنسية (٣٥). وقام بطبعها بالمطبعة الرسمية بتونس في السنة الموالية (١٣٣٢ ه‍ : ١٩١٤ م). ودامت الرحلة شهرا كاملا ، إذ صرح أنها «لم تتجاوز أيامها في تراب العدوة الشمالية شهرا واحدا» (٣٦). كان نصيب

__________________

(٣٠) الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة : ٤٩٢.

(٣١) المرجع السابق : ٤٨٣.

(٣٢) الحركة الأدبية والفكرية في تونس : ٩٢.

(٣٣) الوسيط في تراجم أدباء شنقيط ، أحمد بن الأمين الشنقيطي ، بعناية فؤاد سيد ، مكتبة الخانجي للطبع والنشر والتوزيع ، ط ٤ ، ١٩٨٩ : ٣٩٢. ومن الطريف أن صاحب الوسيط أشار إلى أن التركزي الشنقيطي كان في خصام دائم مع الأديب التونسي المرافق له ، وأن تعب هذه الرحلة ضاع سدى لإصرار التركزي على تمكينه من مكافأته قبل تسليم القائمة وامتناع السلطان عن الإذعان لهذا الشرط : المرجع السابق : ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

(٣٤) البرنس في باريز : ٣.

(٣٥) البرنس في باريز : ٥٤.

(٣٦) البرنس في باريز : ٣.

١٥

باريس منها ثلث هذه المدة (٣٧) إذ أقام بهذه المدينة ١٢ يوما (٣٨) ، كما يسعفنا نص الرحلة بعدة مؤشرات محدّدة لزمانها كقوله إن يوم ٨ جوان هو اليوم الثالث من الرحلة (٣٩) ، مما يعني أن بدايتها كانت يوم ٥ جوان ١٩١٣ م. أما نهايتها فكانت بعد حوالي شهر (٤٠) من ذلك إذ يشير إلى أن تاريخ رجوعه هو ٧ جويلية (٤١).

وتضافر عاملان دفعا بالورتتاني للقيام برحلته هذه ، أولهما الرغبة في التعرف على فرنسا واستطلاع عوائدها وحضارتها بما يفيد وطنه تونس (٤٢) ، والثاني هو الاستجابة لدعوة بعض أصدقائه في كل من فرنسا وسويسرا (٤٣). أما كتابة الرحلة فقد حثه عليها أصدقاؤه من المثقفين سواء قبل سفره أو بعده ، فقد أهاب به بعضهم أن يسجل مشاهداته ويلخصها في محاضرة يعقبها نشر (٤٤). وقد وطن الكاتب النفس على الاستجابة لهذه الرغبة فعمد إلى تدوين بعض مواد رحلته «بمفكرة السفر» (٤٥) ، غير أن تزامن عودته مع زمن الحر جعله يؤخر تحريرها إلى فصل الشتاء (٤٦). واستمرت هذه العملية سنة كاملة ، يقول الورتتاني في ختام الكتاب : «نجز بعون الله في مثل شهري الرحلة ، رجب وجوان ، من العام الموالي سنة ١٣٣٢ ه

__________________

(٣٧) المصدر السابق : ٢١٩.

(٣٨) المصدر السابق : ٢١٩. ويشير إلى أنه بارح باريز يوم ٢٩ جوان : ٢٢٠.

(٣٩) البرنس في باريز : ٨٥.

(٤٠) أشار إلى تحكم مدة رخصته الإدارية في قصر مدة الرحلة وهي رخصة دامت شهرين : المصدر السابق : ٥٥ و ٢٤٨.

(٤١) المصدر السابق : ٢٩٢.

(٤٢) البرنس في باريز : ٣.

(٤٣) المصدر السابق.

(٤٤) المصدر السابق : ٤.

(٤٥) المصدر السابق : ٣٠٩.

(٤٦) المصدر السابق : ٣ ـ ٤.

١٦

ـ ١٩١٤ ما توخينا رسمه وانتخبنا رقمه» (٤٧). وقد أهدى الكاتب رحلته إلى الشيخ سيدي الطاهر ابن عاشور قاضي قضاة المالكية بتونس (٤٨) ، إذ جعله بمثابة التهنئة بهذه الولاية بدل «قصيدة من الشعر الذي أكثر له منه أرباب الود والأدب» (٤٩).

ولا بد لنا ، ولكل قارئ ، من وقفة عند عنوان الرحلة غير العادي «البرنس في باريز» : البرنس ، بالضم» ، كل ثوب رأسه منه ملتزق به دراعة كان أو ممطرا أو جبة ، يقال إن اشتقاقه من البرس : القطن» (٥٠). والدراعة ضرب من الثياب وقيل جبة مشقوقة (٥١) ويطلق عليه في المغرب أيضا السلهام : لباس كالمعطف له غطاء للرأس وليست له أكمام (٥٢). ويعرف الورتتاني في رحلته البرنس بما يشابه ما سبق مضيفا أنه «من الثياب الموضوعة على الأكتاف كالدرع» (٥٣) ، وأنه «في الحواضر يوضع على الأكتاف ، على ما فيه من المشقة وإشغال اليدين ، وفي غيرها يسلك في العنق على الطريقة الأولى له» (٥٤).

ويبرر الورتتاني تضمين اسم البرنس في عنوان رحلته قائلا : «لما كان هو الوحيد شهرة في المملكة عنونت به كتاب الرحلة ليعلم بمجرد سماع الاسم مرجع جنسية ووطن صاحب الرحلة» (٥٥). وقبل ذلك يؤكد أن البرنس إلى زمن كتابة الرحلة «عام في طبقات المملكة التونسية ، حتى أن من كانت وظيفته تقضي عليه بلباسها

__________________

(٤٧) المصدر السابق : ٣٠٩.

(٤٨) المصدر السابق : ٦ ـ ٧.

(٤٩) المصدر السابق : ٧.

(٥٠) لسان العرب : برنس.

(٥١) لسان العرب : درع.

(٥٢) الإكسير في فكاك الأسير ، محمد بن عثمان المكناسي ، تحقيق وتعليق محمد الفاسي ، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي ، الرباط ، ١٩٦٥ ه‍ : الصفحة ٢١.

(٥٣) المصدر السابق : ٢٧٩.

(٥٤) المصدر السابق : ٢٧٧.

(٥٥) المصدر السابق.

١٧

الخاص بها فإنه يتبرنس في أوقات راحته وخلواته (٥٦). على أن هناك أسبابا أخرى تعضد هذا الاختيار منها أن البرنس في أوربا محترم وعزيز وغريب في الوقت نفسه (٥٧) ، هذا بالإضافة إلى اختصاص البرنس بالسفر ، يقول الورتتاني : «ولعل البرنس والقفطان (٥٨) صارا في تنازع فاقتسما الأمر ، فالبرنس للسفر ، وهو المناسب للركوب وكثير المنافع في الحر والقر ، واختص القفطان بالإقامة والحواضر» (٥٩).

وقد أشاد صديق أحمد الرحالة المصري في تقريظه الرحلة بالبرنس والتزام الورتتاني به في فرنسا قائلا :

وهل جمال الفتى في غير ملبسه

مهما أقام ومهما حلّ في أمم

فاحفظ شعارك والزم ما عرفت به

فالبرنس الحلو في باريز ذو قيم (٦٠)

ومما يميز «البرنس في باريز» تضمنها توثيقا فوتوغرافيا هاما وكثيفا (٦١). وقد حقق الورتتاني ذلك تطبيقا للشروط التي يرى لزوم توفرها في الرحالة ، والتي خصها بفصل كامل (٦٢). فمن هذه الشروط حمل القلم واستعماله «فيكتب به الراحل كل ما يرى أو يسمع ، حتى إذا عاد وجد خزينة كبرى من تلك المفكرات يستمد منها لتحرير

__________________

(٥٦) المصدر السابق.

(٥٧) المصدر السابق : ٢١١ و ٢٣١ و ٢٦٣.

(٥٨) لفظ تركي أصله خفتان : ثوب فضفاص سابغ مشقوق المقدم يضم طرفيه حزام : معجم المصطلحات والألفاظ العلمية ، مصطفى عبد الكريم الخطيب ، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ، ط ١ ، ١٩٩٦ : ١٦٤ و ٣٥٢.

(٥٩) البرنس في باريز : ٢٧٧.

(٦٠) المصدر السابق : ٣١٠.

(٦١) انظر ملحق الصور بآخر الكتاب.

(٦٢) البرنس في باريز : ٢٩٥ ـ ٣٠٨.

١٨

كتاب رحلته بأصح مصدر وأوفى بيان» (٦٣). واصطحاب آلة التصوير التي سماها «مرآة التصوير التي تمثل إلى العين ما لا يقدر القلم على وصفه ، يأخذ بها المسافر صور البلدان والأشخاص والأشجار والأنهار والجبال والمعامل» (٦٤). وتتصدر هذه المادة التوثيقية الفوتوغرافية صورة المؤلف وخريطة مبينة لمسار رحلته (٦٥). وجدير بالذكر أن المؤلف لم يكتف بما أخذه بنفسه من صور ، بل عمد التزود بوثائق وصور من أفراد وهيئات أشار إليهم جميعا في كلمة الشكر في ختام الرحلة إذ يقول : «وقبل أن أضع القلم من كتب ملحقات هاته الرحلة أشكر الجمعيات والأفراد الذين أمدونا بما رجوناه منهم من المعونة على تحرير مسألة أو نقل صورة وإعارة طوابع بعض المناظر كإدارة ليزانال في باريز ، وشركة ل ل وشركة ن د بواسطة أصحاب المطبعة الفرنساوية بتونس مسيو نمورا وبونيسي ، وجمعيات تقدم البلدان في مرسيليا وكرونوبل وارياج وإيكس ليبا وجنيف ومقاطعات الرون ، وعائلة دالبيرتو في كرونوبل ، والمسيو رونز في فاراين انركون ، والمسيو بول ناظر مدرسة اللغات الشرقية بباريز والمسيو كابار بمجلس السينات ، والمسيو ناظر اللابرا والمسيو كيوم في إيسودان ، وعائلة دوبوردايز في طولوز ، والدكتور إمان في مونبليي» (٦٦).

وختمت الرحلة بتقريظ لصديق أحمد وآخر كان نشر في جريدة الزهرة تضمن قصيدة للشاعر صالح سويسي مطلعها :

قل سيروا في الأرض ، تحريض لمعتبر

فقوض الرحل إن العز في السفر (٦٧)

ويحفل الكتاب بالإحالات على رحالة سابقين قدماء ومعاصرين للورتتاني ،

__________________

(٦٣) المصدر السابق : ٣٠٤.

(٦٤) المصدر السلبق : ٣٠٦.

(٦٥) انظر الصورتين الأوليين في ملحق الصور بآخر الكتاب.

(٦٦) البرنس في باريز : ٣٠٩ ـ ٣١٠.

(٦٧) المصدر السابق : ٣١٤.

١٩

وكثيرا ما اقتطف من رحالة تونسيين سابقين لجيله بقليل أو مجايلين له زاروا أوربا ، ونذكر في هذا الإطار خير الدين التونسي ومحمد الخضر حسين ومحمد ابن الخوجة ومحمد السنوسي وغيرهم. وقد ختم الكاتب رحلته بما يشبه دليل السفر للمتوجه من مواطنيه إلى أوربا متوقفا فيه عند أدق الجزئيات والمحاذير (٦٨).

مضامين الرحلة :

تعد رحلة «البرنس في باريز» من أغنى الرحلات العربية إلى أوربا في القرن العشرين مادة ومن أشملها وصفا وأكثرها دقة وتقصيا. وقد استهلها صاحبها بمقدمة مسهبة تتخللها استطرادات طويلة استقصى فيها الأسباب الذاتية والموضوعية المختلفة الداعية إلى السفر (٦٩) ، ووضع لتدوينها خطة تقوم على انتخاب ما دونه «بمفكرة السفر واستحضره الفكر مما سمعته الأذن ووقع عليه البصر ، وكذلك ما نفثته القريحة أو جادت به الحافظة مما له علاقة بالموضوع ، أو مناسبة تهم المشروع» (٧٠).

ولعل ذلك هو ما يبرر استطرادات المؤلف المتنوعة ، وخاصة منها التاريخية والجغرافية سواء ما تعلق منها بأوربا أو البلاد العربية ، وهو أمر يتناسب وتأكيده ضرورة استعانة الرحالة بهذين العلمين لح (٧١) لخ. وخصّ الورتتاني مدينة القيروان بنصيب الأسد من استطراداته لأن الحديث عن هذه المدينة عنده «متى عنت المناسبة هو طرف من تلك الحملة ، وقوس دائرة الرحلة» لح (٧٢) لخ. بل هو من صميم مسار الرحلة حتى يكون الكلام شاملا لمبدأ خط السفر ومنتهاه» (٧٣).

__________________

(٦٨) انظر المصدر السابق : ٢٩٥ ـ ٣٠٧.

(٦٩) المصدر السابق : ١٠ ـ ٤٧.

(٧٠) المصدر السابق : ٣٠٩.

(٧١) المصدر السابق : ٢٩٧ ـ ٣٠١.

(٧٢) المصدر السابق : ٦.

(٧٣) المصدر السابق.

٢٠