البرنس في باريس

محمّد المقداد الورتتاني

البرنس في باريس

المؤلف:

محمّد المقداد الورتتاني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-36-605-5
الصفحات: ٣٩٥

بين رومانيا وبلغاريا ويتقي عداه بأخرى في جهات الأناضول. وطوقت عنقه الدولة العثمانية بسلسلتي البوسفور والدردانيل. وقبضت على يمناه دولة الأنكليز بمصر فشاركت في مجاذبة اليد الأخرى دول بحر الأدرياتيك. وكان القلب وهو جزيرة كريت دائما في خفقان وهو مركز الدورة الدموية البحرية فكانت دقاته وحرارته سببا في انتشار عقد الجزر من أطرافه ووسطه. واغتاظت دولة إيطاليا من نصيبها منه وهو جزيرة صقلية التي هي بمثابة الطحال من هذا المخلوق فرفصت البحر بنعلها البرية المرتسمة صورتها على أديم مثال الأرض لكل متأمل من أشكال الممالك وألوان صبغتها في خرايط علم الجغرافيا. حتى تعكر من تلك الصدمة أخيرا ماء خليج برقة وطمى الماء على طرابلس الغرب.

واختطف الأنكليز ـ سابقا سنة ١٨٠٠ الكبد وهو جزيرة مالطة بالجانب الأيمن من صقلية. وتمحضت السلطة على نصف جسد هذا البحر «الشق الأسفل» لدولة فرانسا ما بين خليج ليون وخليج قابس واتحدت هاته الأخيرة مع أنكلتيرا. وواصلت دولة إسبانيا على متنه ما بين سبتة والريف بين جزيرة طريف بخط مقاطع للخط الموصل من جبل طارق إلى طنجة. ويتكون من هذين الخطين الوهميين شكل علامة الضرب في علم الحساب X. وسطح البحر والبر مرسح في الحياة الدنيا وميدان تضار وتغالب. وقد قام هذان الخطان المتقاطعان لأمر المرور بذلك الزقاق مقام القنطرة التي ذكروا أنها كانت للأول على ذلك البحر تسهل الوصول ما بين العدوتين. ولكن البحر ركبها وابتلعتها لججه لما أنه لا يجب الظهور عليه. ولو لا اتحاد هاته الدول على إخافة هذا المخلوق العظيم بالجواري المنشآت ورشقه بسهام الغطاسات والتحليق فوقه بالطيارات لسد الطرق في وجه المسافرين ، وطغى على السكان المجاورين. واختطف أبناءهم وأفسد مزارعهم وأوقف تجارتهم. وبما لدولة فرانسا من الأرجحية والاعتبار بالبحر الأبيض أمكن للتونسيين السير بأمان بين خليجي قابس وليون في مخاوف لجج بحر الروم لمشاهدة أحوال أروبا وحضارتها. فالتونسيون بفضل أسطول دولة الحياة في أمن من عائلة البحر متى أبحروا ، وهجمات الأمم المجاورة متى أصحروا. وسيأتي ذكر تصفيقهم وهداياهم لسفينة قرطاج في العام الفارط عند ما فازت في البحر.

واليوم البحر المتوسط كما ترى قد استكان للغلب وانكسرت حدته ، وسالمت

١٠١

التونسيين شدته. وأصبح مغلوبا على أمره ، والله يحكم لا معقب لحكمه.

خليج مرسيليا

عجبا من كثير السيئات كيف تكون له حسنة في بعض أيامه ترفع من ذكره وتدافع عن أمره. فقد أكثر الناس من ذمّ خليج مرسيليا وتعب الركاب في مائه ونحن رأينا فيه هاته المرة راحة وهدوا. ومن إحسان المسيء أن يكف عنك أذاه. فعندما جاء الليل وقربت السفينة من شواطئ مرسيليا أخذ البحر في الهدوء ورجع إلى الركاب نوع من الحياة فأخذوا يهنئ بعضهم بعضا بالسلامة والنجاة ، لأنه بلغ فيما بعد أن مرجل السفينة عرض له خلل وأن شدة الخوف من الخطر كادت توجب على رؤساء السفينة توقيف السير ، ولذلك تأخر الوصول إلى مرسيليا عن الموعد المعتاد بنحو ستة ساعات وجرت المخابرة بالتلغراف اللاسلكي المركبة آلته على ظهر السفينة. سمعناه والسفينة تلعب بها الأمواج يتحدث همسا كالخايف من الشكاية بالبحر أو المسارر بخبر مهم يناجي برسائله مع تموجات الهواء فتتلقفها منه مراكز آلات التلغراف المذكور سواء كانت في البر أو البحر ، مثلما تتلقى في القديم مراكز حمام الرسائل ما يحمله من البلدان البعيدة والأقطار الشاسعة ، وهي تلغراف الأمم الماضية. وكان الحمام نفسه رسولا لنوح عليه السلام عقب الطوفان لاختبار جفاف الأرض. ويقطع الحمام في القفار والبحار نحو أميال ٨٠ في الساعة أي ٢٢ ميترو في الثانية ويهتدي إلى الأماكن التي يعرفها قبل بإلهام غير معلوم حتى الآن ، لا زال يتميز به عن الطيارات التي قلدت الطير في التحليق في الهواء كما تشاء. ولكن لو لا البوصلة لم يمكن لها الاهتداء. يقول مرسل حمامة بين القيروان وتونس :

وفي غزوان فاستعلي علوا

وداني في تعاليك السحابا

وكانت تصل الرسائل من طرابلس إلى رقادة حول القيروان في حينها ويومها بأواخر القرن الثالث.

١٠٢

ممازحة ربان السفينة

جرى بيني وبين بعض أكابر الباخرة حديث كان في ضمنه دعابة ، وذلك لما رأى عندي ساعة ذهبية بها وجهان للوقت العربي والفرنساوي ، فقال لي إذا كنت رجلا مليحا فإنك تسلم لي هاته النقالة. وكان بعض الأوداء أرسل لي بها تذكارا.

واشتراها لي من مملكة بعيدة. والتونسي يتحتم عليه أن يكون بساعته حس بأن لخط زوال بلده وخط أواسط أروبا المعمول به رسميا ، كما يلزمه لغتان وعادتان ، مثلما له في الكتابة تاريخان ، وفي المعاملة مسكوكان :

وللناس عادات وقد ألفوا بها

لها سنن يرعونها وفروض

فمن لم يعاشرهم على العرف بينهم

فذاك ثقيل عندهم وبغيض

فأجبته بأنه إذا أراد ما يتذكرني به فنوجه له ذلك من المملكة التونسية مثلما سلم أهالي القيروان زربية إلى قبطان سفينة قرطاج. أما المنقالة فإنها غير مصنوعة بالقيروان. فقال لكن كلما نظرت إليها أتذكركم. وكاد أن يحجني بهاته المداعبة فقلبت عليه الدعوى وقلت له : من المعلوم أن المفكرة إنما يسلمها الراغب في المودة ويظهر أنكم كذلك. وعليه فلا مانع من أن تسلموا لي ما أتذكركم به. وإن كنت لا أنسى هذا اليوم ولا أرغب فيما يفكرني فيه. كما أنه من العادة أن تكون المفكرة حسب اختيار المهدي لا باقتراح المهدي له لشيء مخصوص. فسلم ذلك ومرت الممازحة معه لطيفة قضينا بها حصة من الزمن ونحن إذ ذاك بالقرب من مرسيليا في حاجة إلى السمر. وكانت الأمواج لطيفة تعبث بالسفينة وهي تتهادى وتتمايل كالمتغلب في حرب ، والفايز في عراك يتماشى الخيلاء ، ويتيه على الأعداء ونحن فيها كدوح تحركه الأم الشفوقة بمرضعها لتسكن ما عنده وتسليه عن مطالبه. وكأن السفينة علمت بأننا أحوج لذلك كله من الرضع فراحت تجاملنا وتسلينا ونحن نشكر هاته الأم التي حملتنا في بطنها ثلاثين ساعة وزادت على ذلك ست ساعات ونصفا

١٠٣

بموجب العواصف التي أنهكتها وكادت أن تسقطنا كالأجنة. وعلى الساعة الثانية ونصف بعد نصف الليل استهل الركاب في عالم الوجود كالمواليد بمرسيليا وقد لاح لنا ذلك الثغر باسما بعقود الفوانيس الدرية فانقلب به خوفنا أمنا وليلنا نهارا. فبادرنا بالنزول إلى سطح الأرض وهي أم البشر بعد أن قرأنا شعر ابن زريق البغدادي في هول البحر وقد شطره شاعر القيروان الشيخ السيد صالح سويسي الشريف وذيله بيتين :

لا أركب البحر أخشى

من حادثات المراكب

هول عظيم أخاف

علي منه المعاطب

طين أنا وهو ماء

أمواجه لا تغالب

فكيف لا أتقيه

والطين في الماء ذايب

يا راكب البحر صبرا

على أليم العواقب

فانظر إليه تراه

يبدي إليك العجايب

مثل السياسة فعلا

في دورها تتلاعب

وطابقنا تماما ما وصف به سيدنا عمرو بن العاص منذ ثلاثة عشر قرنا هيئة البحر وراكبه في جمل قليلة جامعة عند ما كتب إليه سيدنا عمر بن الخطاب بعد فتح مصر يقول له : صف لي البحر وراكبه. فأجابه بقوله : هو خلق كبير ، يركبه خلق صغير. ليس إلّا السماء والماء ، إن ركد أقلق القلوب ، وإن تحرك أزاغ العقول ، يزداد فيه اليقين قلة ، والشك كثرة ، وراكبه دود على عود ، إن مال غرق ، وإن نجى فرق.

١٠٤

لذلك كان سيدنا عمر ينهى عن المخاطرة بالمسلمين في ركوب البحر أو أن يكون حاجا بينه وبينهم.

أطوار الفلك والسير على الماء

من نعم الله على عباده أن علم أباهم نوحا صنع السفينة زمن الطوفان الذي كانت فيه نقمة لمعانديه وغير المومنين به. وما بقوم من نعمة فلأضدادهم نقمة.

مصائب قوم عند قوم فوائد. فكانت سفينة النجاة التي صنعها الأب الثاني للبشر بأعين الله ووحيه طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون وارتفاعها ثلاثون على ما في التورية. وبها ثلاث طبقات مساكن سفلى ومساكن وسطى ومساكن عليا ولها كوى على ما يشبه السفن في الحالة الحاضرة في الجملة. وكان سيرها على الماء تحت رحمة الرياح والأمواج. وبعد أن عمر ذرية نوح جهات بابل وتفرقوا في أقطار الأرض واختلفت لغاتهم وأقطار مساكنهم ومصروا الأمصار كانت الحضارة في بابل بالغة حدها بالنسبة لتلك العصور الأولى. وكانت هاته المدينة العظمى يشقها نهر الفرات الذي يضرب المثل باسمه في المياه ، فكان سكان أعاليه يرسلون الغلال في فلك من جلود وأعواد ويجعل فيه مع المراكب حمار وتبن ليمكن أن يحمل عليه ذلك الفلك ويرجع به إلى سكان أعالي النهر بعد وصوله إلى بابل وأخذ ما به. وعبارة الحموي : يسيرون في الماء إلى بابل على أطواف من أنحاء مولفه تصطنع في أرمينية وهي أعلى أشور ، ويكون اصطناع الأطواف بمد خشب الصفصاف وجعل تلك النحي فوقها على شكل طوف مدور كالترس لا يكون له مقدم ولا مؤخر ، وينفخون النحي ويفعمون جوفها تبنا وهكذا تنساب هذه الأطواف في النهر حاملة أنواع المنقولات ولا سيما الخمر والتمر ، وحين يصلون إلى بابل يبيعون ما حملوه عليها ومثله التبن وخشب الصفصاف ويحملون النحي على الحمر راجعين إلى أرمينية ، ثم يصنعون أطوافا نظير تلك تحملهم. قلت : الطوف قرب ينفخ فيها ويشد بعضها إلى بعض كهيئة السطح يركب عليها في الماء ويحمل عليها ، وهو الرمث بفتح الراء والميم ، وهذا الأخير فسروه بأنه خشب يضم بعضه إلى بعض كالطوف ويركب عليه في البحر. وفي الحديث أن

١٠٥

رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أركب أرماثا لنا في البحر ولا ماء معنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته. ثم قلدت الأمم بعضها فصنع الفلك أولا بسيطا يد حرج فوق الماء بأعواد من كلا جانبيه يتناوب معاناة ذلك الراكبون على شبه ما هو مشاهد الآن في صغار الفلك.

ثم جعلت له من المنسوجات قطع كأجنحة الطير تدفعها الرياح فأراحت الطبيعة بهذا الاختراع أيدي البشر والاختراعات كما هو مشاهد تتعب العقول وتريح الأجساد ، فكان السير للجهات المقصودة على حسب الرياح المتجهة لها. ثم توفق الناس إلى أساليب يسيرون بها ذوات القلاع حتى إلى الجهات الآتية منها الرياح ، بتصرفات يسلكون بها البحر إلى الجهات الأربع أو الثمانية على رأي أهل البحر الذين يسمونها بأسماء خاصة ، وربما سموا رياحا أخرى ما بين الثمانية ، وإليك دائرة في أسمائها ومواقعها.

ومن نعم الله المتوالية على عباده وجود أسرار في الكائنات هدى إليها بمنه تعالى من أراد سعادتهم ، ومن بينها جاذبية المغناطيس الذي صنعوا منه إبرة تتجه نحو القطب ، وهو النجم الثابت في الشمال يقابله قطب آخر ثابت في الجنوب. والنجوم الثوابت نعمة عظمى أيضا (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) على فنون الهندسة والهيئة والجغرافيا والسير في البحر. يتخذ ركاب البحر تلك الإبرة القطبية دليلا في مذاهبهم ليلا ونهارا وكانت معروفة عند الصينيين من قديم ، وعرفها المسلمون في القرون الأولى. قال المقريزي : وما برح المسافرون في بحر الهند إذا أظلم عليهم الليل ولم يروا ما يهديهم من الكواكب إلى معرفة الجهات يحملون حديدة مجوفة على شكل سمكة ويبالغون في ترقيقها جهد المقدرة ثم يعمل في فم السمكة شيء من مغناطيس جيدا ويحك فيها بالمغناطيس (كذا) فإن السمكة إذا وضعت في الماء دارت واستقبلت القطب الجنوبي بفمها واستدبرت القطب الشمالي ، وهذا أيضا من أسرار الخليقة. فإذا تحددت الجهات الأربع عرفوا مواقع البلاد بها فيقصدون حينئذ جهة الناحية التي يريدونها. وبها اكتشف كريستوف كولومب أمريكا عام ١٤٩٢ ، ولم يعرف صنعها في أروبا إلّا في القرن الثالث عشر مسيحي. وكانت حمولة السفينة على عهد لويس التاسع في القرن ١٣ مائة من الخيل وثمانية من الرجال ، ولكنها

١٠٦

كانت لذلك العهد غير متقنة. قال بعض المؤرخين وفي أيام لويس الثالث عشر في القرن السابع عشر كان ريشليو وزيره يحث الأمة على إنشاء السفن حيث جوار الأمة أقوياء في البحر ، حتى أن القرصنة أضرت بهم وبتخطف بناتهم وبيعها. وقال لهم عندنا اللوح والحديد. وكانت أخيرا سفن تونس تصنع في مرسيليا فمن ذلك المراكب التي صنعت على عهد المنعم سيدي حسين باي الثاني الحسيني وأتت في أواسط القرن الثالث عشر. وكان ثمنها من الغرامة التي ضربها شاكير صاحب الطابع على القيروان في عام ١٢٤٩ وهي خمسمائة ألف ريال. وقد تفضلت دولة فرانسا بإسقاط الكمرق على آلاتها الصادرة من تلك الإيالة مجاملة في الباي على ما قرره شيخ المؤرخين ابن أبي الضياف. وفي القديم أحدث حسان بن النعمان دار صناعة في شطوط قرطاجنة لإنشاء المراكب عام ٧٨ ولا زال هذا الاسم علما موروثا على نقطة من الشاطي المذكور حواليها بقايا رصيف. وتسرب اسم دار الصناعة مع هاته الصناعة إلى أروبا فقالوا فيه محرفا (أرسنال).

وتجدد في ذلك العصر بعد نحو ثمانية قرون ذكر بحرية الفينيقيين بإفريقيا الشمالية الذين بادت دولتهم في أواسط القرن الثاني قبل المسيح. والآن تجدد ، بعد نحو ثمانية قرون أيضا مضت على سقوط دولة إفريقية القيروانية ، دور التقدم البحري بالأساطيل العظيمة لدولة فرانسا والسفن التجارية المتقنة ، وإليك قوة هاته الدولة في البحر وتعداد سفنها الحربية والتجارية.

١٠٧

جدول السفن الحربية للدول العظام

فرانسا

ألمانا

أنقلترا

النمسا

أمرکا

إطالا

الجابون

الموسکو

مدرعات کوراسي

٢٠

٢٨

٦٠

٧

٢٨

١٤

١٤

١٣

کوروازور کوراسي

٢٠

١٠

٣٨

٣

١٢

٨

١٣

٧

کوروازور ضد مدرعات

٢٥

٣٧

٧١

٥

٢٤

٧

١٤

٩

ضد نسافات

٥٩

٧٣

١١٩

٧

٢٠

٢٠

٥٧

٧٩

نسافات

٢١٣

١٧

٨٥

٢١

٣٣

٢٩

٥٧

٦٨

غطاسات

٥١

٢

٦٠

٠٠

١٢

٧

٧

٢٤

السفن التجارية بالبخار والقلاع

أنلکترا

١١٤٤٢

الموسکو

١١٩١

ألمانا

٢١٩٩

النمسا

٣٨٢

أمرکا

٢٢٧٣

إسبانا

٥٩١

النروج

٢٠٧٠

الدانمارک

٨٥٤

فرنسا

١٤٧٨

الونان

٤٢٠

إطالا

١٠٧٧

البلجک

١٦٠

الجابون

٧٦٦

البرازل

٤٠٩

هولاندة

٦٥٩

ترکا

٣٤١

السود

١٤٤٠

ارجنتن

٢٧٩

أما البخار فقيل ظهرت في الوجود فكرة إمكانه في القرن الثاني قبل المسيح بخاطر هيرون الإسكندراني وبقي هذا الفكر نائما عدة قرون مثل فكرة الطيران بالأندلس منذ قرون. شأن كثير من الآراء إذا لم تصادفها أجنحة البخت لتطير بها من عالم خفاء التفكير إلى عالم الظهور والانتشار والترقي فتلبث في كهفها مئات السنين ،

١٠٨

حتى يقدر لها التيقظ والانتصار بقوم يتدبرون. والزهد طبيعي للبشر في مبادي الأمور النافعة. وفي ١٦٩٠ أواخر القرن السابع عشر مسيحي فكر دوني بباDenis Papa الفرنساوي واهتدى إلى قيمة قوة البخار من قدر طبخ رفع البخار غطاءه ، فجد في صنع آلات السير بالبخار. وكان من جملة المهاجرين إلى ألمانيا عند اضطهاد البروتستانت في فرانسا وجلائهم عنها زمن لويس ١٤ ، وهنالك سير في أول القرن الثامن عشر ١٧٠٧ مركبا بخاريا في نهر بألمانيا غير أنه لم يمت حتى رأى ثمرة اكتشافه مدمرة. وكثيرا ما تمتد أيدي التهاون إلى العبث على وجه الاحتقار أو الحسد أو لأسباب أخرى بالنتايج المهمة التي بذل فيها المفكرون والعاملون المجهودات العظيمة بدون احترام لأعمال الغير ولا تبصر لقيمة المصنوع والمقول بقطع النظر عن الصانع والقايل. وفي أول القرن التاسع عشر حسن روباير فولطن الأمريكي المتوفى سنة ١٨١٩ فعل البخار وعرض عمله على نابليون الأول فزهد فيه فصار إلى أمريكا وصنع فلكا بخاريا فسخر منه قومه وامتنعوا من الركوب فيه. فكان هو يسخر منهم أيضا كما يسخرون. ويقال إنه لما ركب في فلكه أول رجل وقبض منه الأجرة بكى وقال له اسمح لي يا سيدي فإن هذا أول كسب استفدته من إجهاد فكري وعملي منذ أمد طويل. وبعد أن عرفت قيمة البخار ذاع صيت صانعه وحصل على الثروة وجميل الشكر وانجر من ذلك لأمته أيضا المال وحسن الذكر. وسافرت أول سفينة بأميريكا من نيويورك في عام ١٨٠٦ أو ١٨٠٧ تسمى كليرمون وأول سفينة استخدمها الإنكليز في اسكوتلاندا سنة ١٨١٢ تسمى كومت Comte.

فبفضل البخار قربت أطراف البحار وهان ركوبها ، وبعد أن كان السفر إلى أمريكا في مدة شهر أصبح في نحو أسبوع ، وكان السير فيما بين مرسيليا وباريز نحو أسبوعين في رحلة المنعم سيدي أحمد باي إلى فرانسا ، فقام الآن مقام اليوم من تلك الأيام أقل من ساعة واحدة. وبقدر ما زهد نابليون الأول في البخار اعتنى به نابليون الثالث حيث كان يحضر تجارب العمل في ذلك بنفسه ، وسافر على سفينة الفخر عام ١٢٦٠ إلى الجزاير ، وهي من اختراع دوبوي دولوم الفرنساوي عام ١٨٥٠ ثم انتشرت هاته الاختراعات في أمريكا وأنكلترا.

١٠٩

مرسيليا وتاريخها

بت في «أوتيل البوسطة» وأخذت من الغد دليلا واطلعت على بعض نقط المدينة وشاطئ بحرها الغربي الجميل. وأول ما رأيت مما لم يعهد عندنا كون النسوة واقفات في مراكز ركوب الطرامفاي تنادي بأسماء كثيرة من أنواع الجرايد تبيعها للمارين مثلما يعجب الأجانب الزايرون لتونس من الصبيان الذين يبيعون بها الجرايد حفاة. يوجد غربي المدينة جبل فوقه كنيسة تسمى نوتردام دولاقارد وعلى صومعتها التي ارتفاعها ٤٥ ميترو صورة شخص قايم. والارتفاع هناك على سطح البحر نحو ١٥٠. وذكروا أن بالكنيسة «جليزا» غريب المنظر يقصده أصحاب الفن والذوق من جميع الأقطار ، ويصعد بواسطة رافعة إلى ربوة بسفح الجبل المذكور. وارتفاع هذا السفح المايل نحو ٨٠ مترو ، وفي مدة صعود الرافعة التي هي دقيقة ونصف يرى الراكب بسبب الميل مع سفح الربوة المكان الذي ركب منه وابتعاده شيئا فشيئا ، وربما كان هذا المنظر مرهبا. وهذه المرة الأولى للغريب في مشاهدات مثل هذا بخلاف الرافعات العمودية فلا يظهر منها ما يثير الهواجس بخاطر الراكب. أخبروا بأن لهاته الرافعة أربعة حبال من حديد واحد منها يكفي للإصعاد والإنزال. وعلى فرض انقطاع الحبال فهناك آلة تمسك البيت الذي به الركاب وتحفظه من السقوط ـ ومن صعد فوق هاته الربى يشاهد المدينة شرقية للشمال وسحب دخان الماكينات متلبدة عليها وتعيق النظر عن الإحاطة بجميعها. ويرى في الشمال الغربي مرسى السفن ورماحها المشتبكة وأعلام غالب الدول فوقها. ويوجد بهاته المدينة التي سكانها نحو ٥٠٠ ألف البناءات الكبرى والطبقات العالية والشوارع المتسعة التي يمشي بها الراجل براحة بدون مزاحمة. وعلامة مرسيليا «مضيئة من حركتها العظيمة». ومن العادة في فرانسا أن تعطى بعض البلدان والعائلات ألقابا تتميز بها مثلما جعل أخيرا للعائلات بالمملكة التونسية في دفاتر إحصاء السكان وضبط المواليد والوفيات. وللمدينة اعتبار بحري تجاري في الدرجة الأولى بمملكة فرانسا ، وبالأخص بعد فتح قنال السويس إلى الشرق والعلايق الاحتلالية والاستعمارية بالعدوة الجنوبية من البحر الأبيض. ومرساها القديمة والجديدة من جهة الغرب ، وقد هجرت الآن المرسى القديمة وهي

١١٠

خليج آت من الغرب يدفع في وسط المدينة فيترك شماله المدينة القديمة. وشاطئ المرسى الجديد وجنوبه بعض المدينة الجديدة التي بها جبل نوتردام دولافارد. وعند منتهى الخليج المذكور يوجد شارع عظيم يذهب شمالا إلى بطحاء جوليات بالمرسى الجديدة ويسمى لاريبوبليك. وجنوبا إلى أطراف المدينة من رأس الخليج أيضا يبتدي مشرقا نهج عظيم يسمى في مبدئه كانبياير ، وفي غايته مادلاين متصل ببستان النباتات والحيوانات الغريبة في شرقي المدينة. يمر هذا الشارع في مبدئه بالبورصة وهي محل بيع الأوراق المالية ، ثم يقاطع الشارع العظيم المستقيم بهاته المدينة ، والممتد إلى طرفيها من الشمال ويسمى فيه بنهج باريز ، إلى الجنوب ويسمى فيه بنهج رومة. وإذا سلكت فيه قليلا إلى الشمال بعد التقاطع المذكور تصادف نهج كولباير مشرقا ، وفيه غربا محل البوسطة وشرقا أوتيل دولابوست الذي نزلناه فوجدنا في ساحته ما يحتاج إليه المسافر. وقريبة منه مراكز وقوف العربات والطرمفاي الكهربائي الذي رأيناه في مرسيليا يخترق غالب شوارعها أكثر من ساير المدن بفرانسا. أسعار العربات من الفرنكين إلى الثلاثة في الساعة والبرهة لا تقل عن فرنكين في الغالب مع الإحسان. وكذلك سيارات الكهرباء وهي أحسن للمستعجل والغيب الذي تكون أعماله مضبوطة وأوقاته نفيسة ، وكراؤها في الغالب مثل العربات في المسافات المقصودة ، أي ما يصرف فيها لقضاء مأرب بمكان معين يصرف على العربات حيث ارتفاع أسعارها تقلله السرعة وبالعكس العربات الخيلية. ونبهنا بعض السكان أنفسهم إلى إلغاء إرشادات أرباب العربات ، خشية التضليل ، والتباعد عن سؤال السكان عن أي شيء كائن ما كان وهذا على خلاف بقية مدن فرانسا أهل العناية الغريبة بالضيف الغريب.

زرت بستان الحيوان بمرسيليا بعد الرجوع من باريز فتذكرت ما قاله المؤرخون من أخبار خمارويه بن أحمد بن طولون أمير مصر في النصف الثاني من القرن الثالث ، وأنه كان له بستان غرس فيه أنواع الرياحين وأصناف الشجر وزرع فيه الزعفران وألوان الأزهار ، وجمع فيه الطيور المستحسنة وماله صوت حسن منها ، وأعد لها أبراجا من الخشب وأجرى لها جداول المياه ، وخصص قسما للسباع وبنى لها بيوتا تفتح أبوابها بحركات ولها أوقات تخرج فيها إلى قاعة تمرح وتتهارش ثم تعود لأماكنها تحت مراقبة

١١١

سواسها. وقال ابن خلدون : لما اختط الناصر (أي بالأندلس) في أول القرن الرابع مدينة الزهراء واتخذها منزله وكرسيا لملكه اتخذ فيها مجالات للوحش فسيحة الفناء متباعدة السياج ومسارح الطيور مظللة بالشباك. ورأيت في بستان مرسيليا كثيرا من أنواع الطيور والوحوش ومن بينها جمل بنيت له جدران على شكل عربي وعليها كتابة عربية ولاكن لا يفهم منها معنى صحيح حيث الكلمات ملفقة والكتابة محرفة.

تاريخ تأسيس مرسيليا

ذكروا أن في القرن السادس قبل المسيح أتى تجار من آسيا الصغرى ، وآسيا أقدم القارات وأم الاستعمار وأس البناءات ، وأرسوا بمركبهم اليوناني بالشاطي الشرقي من نهر الرون ، ورئيس الرفقة يسمى أوكزان Euxe ? n ، فاستضافهم ملك الجهة نان Nann (على عادة الغاليين في إكرام الضيف) وحيث تلك الليلة بها احتفال لانتخاب ابنته لزوج ، على عادتهم التي أشرنا إليها في فصل سكان فرانسا الأصليين ، فكان من غريب الاتفاق أن البنت جيبتيس Gyptis عند ما خرجت من مخدعها وأجالت بصرها في الحاضرين قدمت الزجاجة التي بيدها مملوءة مشروبا ، وهي علامة الاختيار لذلك الرجل الغريب رئيس المركب (والفرنساويون يعجبهم الغريب من قديم) فبهت الحاضرون لهذا الاختيار الذي لم يكن في الحسبان. وما وسع الملك الذي انقاد بحكم العادة إلى مصاهرة ضيفه الغريب إلّا المبالغة في إكرامه بأن عزز الضيافة والمصاهرة بثالث منة وهي هبة الخليج الذي صارت بشاطئه بناءات رئيس المركب أساسا أوليا لمدينة مرسيليا الآن. وهي مفتاح تبادل التجارة الشرقية التي يرى كثير من أنواعها بالرصيف محشورا في ذلك الصعيد مع أجناس البضايع الغربية. ومنظر هذا الرصيف للمتأمل بديع كمعرض لبواخر الأمم وأنواع بضائعها ، وبه خليط من أجناس الأمم ولغاتها.

مرسيليا كانت تسمى باليوناني ماساليا وبالرومي ماسيليا ، ونسب إليها اللحن الموسيقي المعروف بالمرسيليز الذي اخترعه روجي دونيس ١٧٦٠ ـ ١٨٣٦ وترجمه

١١٢

الشيخ رفاعة المصري ومطلعه :

فهيا يا بني الأوطان هيا

فوقت فخاركم لكم تهيا

نظم تلك القصيدة الحماسية في عام ١٧٩٢ ، وهو من المشغوفين بالموسيقى والشعر وكان ضابطا صغيرا للرمي بالمدافع في مدينة استراسبورغ «بمقاطعة الألزاس واللورين» واخترع لحنها في إحدى الليالي بعد السمر بدار شيخ المدينة وعائلته ومنادمتهم. ولما أصبح نشر اختراعه الحماسي وأنشده ، وكانت ابنة الشيخ تعينه بتأثير ألحان الورغن «البيانو» بمحضر ثلة من الضباط والرجال والنساء حتى أبكاهم جميعا وحملهم على القيام كجسد واحد في الدفاع عن الوطن. قلت وهكذا تفعل البلاغة الشعرية وألحان الموسيقى في استهواء العقول واستمالة النفوس. وأول من اتخذها وتغنى بها أهالي مرسيليا في حروب ذلك العهد فنسبت لهم وقيل فيها ألحان المرسيليز. وهي اللحن الوطني المؤثر والمتخذ شعارا للجند والمحترم في المجامع والموروث للأصاغر من الأكابر.

سكان فرانسا الأصليون

بعد الكلام على مرسيليا حاضرها وغابرها فمن المناسب التكلم على أصل السكان بفرانسا وأدوار دولها باختصار ليكون القاري على بينة من هاته المملكة ، حيث يتحتم على المسافر العلم بذلك وتدعوه الضرورة إلى استحضار تاريخ هاته الدولة بمجرد دخوله لترابها. قرروا أن السكان الأصليين الأولين بفرانسا «كانصتاد» قصار القامات وجباههم غايرة ووجوههم مفرطحة وأدواتهم بسيطة وأعمالهم ساذجة. ثم داخلهم قوم من جنوب أروبا من بينهم طوايف طوال القامة وأرباب صنايع ـ ثم أتاهم أناس شقر الشعور من الكولوا ، كما وافى هاته المملكة الباسك قبايل من شمال إفريقيا ، ولا زالت لهم بقية ولغة في جنوب فرانسا. فتولد من هذه الأجناس وغيرها عنصر ورث كثيرا من محامد الأخلاق ولم يفقد إلى الآن مع طول الزمن بعض ما له من ملامح الصفات أو لهجة بعض اللغات. فسميت فرانسا الفول حيث سكانها

١١٣

الكولوا. ومساحتها في القديم أكثر من الآن وكانت أراضيها غابات ومستنقعات. وطباع سكانها الشجاعة والكرم ، غير أن النزاع بينهم كثير مع خفة وفيهم عصبيات وانقسامات. وبناءاتهم بسيطة في الغابات وحول المياه. ومعبوداتهم كثيرة ولهم اعتقاد في خلود الروح ويقدمون البشر قربانا للآلهة. وهم أهل ولع بالجديد من الأشياء ، ولنسائهم الحرية في اختيار أزواجهن ، فالأب إذا أراد زواج ابنته يدعو جماعة من الشبان وتناول ابنته كأسا مملوءة لواحد منهم فيكون ذلك زوجا لها حيث إعطاء الكأس له بيدها علامة اختيارها له. غير أن الرجل كان له التسلط المطلق على العائلة مثل العادة العربية.

ويمتد تاريخ فرانسا إلى القرن ١٦ قبل المسيح. وفي القرن الثاني قبل المسيح صارت للرومان مستعمرة بجنوب فرانسا وفي جهات إيكس ونربون ، ثم تم لهم الاستيلاء على الكولوا في أواسط القرن الأول قبل المسيح ، ومن ذلك الوقت بدأ الرقي في الأفكار وأخذت المملكة في العمران. وكان لاستيلاء هاته الدولة الأجنبية فضل على الكولوا فشيدت البناءات ورسمت الطرقات وانتشرت الزراعة. وفي القرن الخامس بعد المسيح أخلد الرومان والكولوا إلى الراحة واللذات عقب أيام الشجاعة والمكافحة فهاجمتهم البربر من شمال أروبا وهي الأمم الخالية من التمدن الروماني ، فقبيلة البوركون في شواطي الرون والفيزيكو على نهر الكارون والفرا في شمال أراي الكول التي سميت من ذلك العهد فرانسا. وأول رؤساء الفراكلوديو وهي عائلة الميروفانجيان.

ومن قوانين أول ملوك الإفرنك وهو فرامون الذي ولي من عام ٤٢٠ إلى عام ٤١٧ بعد المسيح أن المرأة لا تلي الملك أنفة من طاعة النساء. وهذه من قواعد الشرع حيث أن المرأة ضعيفة الإرادة والبدن فهي ناقصة بالطبع ومن أصل الخلقة عن الرجل.

كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جر الذيول

ويشهد لذلك في الخارج ضعف صوتها المسموع. وفقد الشعر في الوجه وهو من علامات الضعف أيضا ، حتى أن ملوك الافرنك أنفسهم كانوا يطلقون شعرهم علامة الشهامة والقوة. ولعل هذا من أسرار الشريعة في عدم حلق اللحية. وقد عملوا بهذا

١١٤

القانون حتى في أواخر القرن السادس عشر وتمسكوا به بعد نحو اثني عشر قرنا ، وذلك عند ما طلبت إسبانيا بمناسبة تحريم البابا هنري الرابع لما كان من البروتستانت ، أن تكون امرأة منهم ملكة على فرانسا ، فقالوا لا يجوز تغيير القانون الفرنساوي القديم القاضي بحرمان النساء من التاج الملكي. والفرنساويون مشرعون من قديم يسنون القوانين ويحافظون عليها كالرومانيين. ولما هجم (أتيل) ملك (الليها) على الفرا في القرن الخامس بعد المسيح اتحد هؤلاء مع الفيزيكو ، إخوانهم البرابرة ، ومع السكان الأصليين وهم كولو رومان أي الكولوا والرومان وأطردوا الليهانيين. قلت ولو لا اتحاد الغاليين السكان الأصليين مع القبايل الافرنكية الدخيلة في بلاد غاليا لما أمكن للافرنك التغلب على الليهانيين ، خصوصا لو انضم الغاليون السكان الأصليون إلى العدو المهاجم لكان انكسار الإفرنك في الحروب وخروجهم من أراضي غاليا سهلا جدا لوقوعهم بين نارين.

نظير هذا الاتحاد جرى في حروب يوسف بن تاشفين للإسبان واتحاد سكان الأندلس مع المرابطي المؤلف جيشه من السودان وبرابرة المغرب الأقصى ، فانتصر بذلك ابن تاشفين في واقعة الزلاقة عام ٤٧٩ هجريا مع زعيم ملوك الأندلس صاحب إشبيلية ابن عباد على العدو انتصارا باهرا ، وكانت الأندلس من بعد ذلك له وللأندلسيين. وكما اطمأنت خواطر الدولة العربية في شمال إفريقيا ورسخ قدمها لما اتحد معها السكان الأصليون وهم البرابرة ، بل وفتحوا معها شبه جزيرة الأندلس ، أما قبل الاتحاد مع السكان الأصليين فقد كانت إفريقية تتقد نارا. والفضل في ذلك لموسى بن نصير الذي استمالهم بإحسانه حتى أعطوه أبناءهم فتح بهم سلطنة الأندلس. وكذلك عبد المومن بن علي استمال سكان المملكة التونسية من الجنس العربي الوارد من الأبواب المصرية والمتغلب على دولة صنهاجة بالقيروان وبجاية واستنجدهم بقصيدته المشهورة التي يقول فيها :

أقيموا إلى العلياء هوج الرواحل

وشدوا إلى الهيجاء جرد الصواهل

بني العم من آل هلال بن عامر

وما ولدته وائل وابن وائل

١١٥

ونظاير هذا كثيرة في سائر الممالك ومسائل الكون متشابهة والتاريخ يعيد نفسه.

وفرانسا اليوم بفضل اتحاد العناصر التي هي (١) العنصر البربري من شمال إفريقيا (٢) وعنصر القبائل المهاجرة من آسيا (٣) وعنصر السكان الأصليين. أصبحت كجسد واحد يتأثر الفرد منها للآخر في دفاع العدو وتحصيل المنافع. وكل مملكة أصبح سكانها على وفاق كانت في سعادة ، ومثل ذلك المدينة والعائلة والجسد. ومعلوم أن الجسد علامة صحته واعتدال طبائعه تألمه كله لتألم عضو من أعضائه ، وعلامة فساده وخروجه من المعتاد عدم إحساس ما يجري على بعض أعضائه كالنايم والمريض والمخدر والسكران والمفلوج. وفي آخر عائلة الميروفانجيان حارب شارل مارتيل العرب في بواتيي وأوقفهم عند حدهم وردهم على أعقابهم والواقعة تسمى بلاط الشهداء عام ١١٤ ه‍.

وأورث شارل مارتيل ابنه «ببان» القصير الملك المتسلسل وأسقط الملوك الكسالى ودولة ذريته من (٧٥١ ـ ٩٨٧) وهم عائلة الكارولانجيان. ومنها شارلمان ودود ابن الأغلب بالقيروان والرشيد ببغداد. وأواخر هاته العائلة هو عصر «الفيوداليتي» أي السادات الذين هم كملوك الطوائف : ثم سقطت هاته الدولة بهوك كابيت أول عائلة الكابيسيان التي مدتها من ٩٨٧ ـ ١٧٩١. ثم جاء دور الجمهورية التي حاربتها سلطة الفرد وأسقطتها مرتين ، والآن دورها الثالث من سنة ١٨٧١. وبيان هاته الأدوار وأسماء الولاة بفرانسا بالجدول الآتي. هذا ما يخص الأجناس والحكام أما حالة الأمة ففي العصور الوسطى صارت السلطة للسادات وهم أفراد من الأمة. ثم في دور الملوك اجتمعت كلمة الأمة وبالاتحاد صارت الطبقة المحكومة وهي أكثر سواد الأمة لها حرية شخصية وحقوق التملك. ومن بعد ثورة عام ١٧٨٩. ومن عهد الجمهورية الأولى ١٧٩٢ صارت لها حقوق المساواة مع بقية الطبقات. ومن بعد ١٨٤٨ ومن الجمهورية الثانية ضمن لها الرأي في السياسة وحق الانتخاب. ثم بالترقي في المعارف وانتشارها بلغوا إلى درجة الحرية الفكرية وتملصوا من قيود التقليد وانفلتوا من بين جدران الحجر.

١١٦

السنون بعد المسيح

مبدأ ولايات ملوك فرانسا

٤٢٨

كلوديون

٤٤٨

ميروفا ـ وبه سميت العائلة الميروفانجيانية

٤٥٨

شيلديريك الأول

٤٨١

أولاد كلوفيس الشهير

٥٥٨

كلوتاير الأول

٦٢٨

داكوباير الأول

الملوك الكسالى ـ عائلة الكارولانجيان (٧٥١ ـ ٩٨٧)

٧٥١

بيبان القصير

٨١٤

شارلمان الكبير

٨١٤

لويس لوديبوناير

٨٤٠

كارلوس الثاني

٨٧٧

لويس الثاني

٨٧٩

 لويس الثالث

٨٨٤

شارل الجسيم

السنون بعد المسيح

مبدأ ولايات ملوك فرانسا

٨٨٧

أود

٨٩٨

شارل الثالث

٩٢٢

روباير الأول

٩٢٣

راول

٩٣٦

لويس الرابع

٩٥٤

لوتاير

٩٨٦

لويس الخامس (عائلة الكابيسيان (٩٨٧ ـ ١٧٩١)

٩٨٧

هوك كابي

١١٧

٩٩٦

روباير الثاني

١٠٣١

هنري الأول

١٠٦٠

فيليب الأول

١١٠٨

لويس السادس

١١٣٧

لويس السابع

١١٨٠

فليب الثاني

١٢٢٣

لويس الثامن

١٢٢٦

لويس التاسع

١٢٧٠

فليب الثالث

١٢٨٥

فليب الرابع

١٣١٤

لويس العاشر

١٣١٦

فليب الخامس

١٣٢٢

شارل الرابع

السنون بعد المسيح

مبدأ ولايات ملوك فرانسا

١٣٢٨

فليب السادس

١٣٥٠

جان الثاني

١٣٦٤

شارل الخامس فالوا

١٣٨٠

شارل السادس

١٤٢٢

شارل السابع

١٤٦١

لويس الحادي عشر

١٤٨٣

شارل الثامن

١٤٩٨

لويس الثاني عشر ـ فالوا أورليان

١٥١٥

فرنسيس الأول

١٤٣٧

هنري الثاني

١٥٥٩

فرنسيس الثاني

١١٨

١٥٦٠

شارل التاسع

١٥٧٤

هنري الثالث

١٥٨٩

هنري الرابع

١٦١٠

 لويس الثالث عشر

١٦٤٣

لويس الرابع عشر

١٧١٥

لويس الخامس عشر

١٧٧٤

لويس السادس عشر. وقتل عام ١٧٩٣

السنون بعد المسيح

مبدأ ولايات ملوك فرانسا

(الجمهورية الأولى)

١٧٩١ ـ ١٧٩٢

السلطة التشريعية

١٧٩٢ ـ ١٧٩٥

الاتفاق الوطني انفولام

١٧٩٥ ـ ١٧٩٩

المديرية (نابليون الأول بونبارت)

١٧٩٩ ـ ١٨٠٤

القنصلية

١٨٠٤ ـ ١٨١٤

الإمبراطورية

١٨١٤

لويس الثامن عشر

١٨١٥

نابليون مرة ٢

١٨١٥

لويس الثامن عشر مرة ٢

١٨٢٤

شارل العاشر

١٨٣٠

لويس فيليب

١٨٤٨

(الجمهورية الثانية ورئيسها نابليون الثالث)

١٨٥٢

نابليون الثالث إمبراطور (الجمهورية الثالثة)

١٨٧١

تيارس أول رئيس

١١٩

١٨٧٣

مكمهون ٢

١٨٧٩

فريفي ٣

١٨٨٧

كارنو ٤

١٨٩٤

 بارييي ٥

١٨٩٥

 فليكس فور ٦

١٨٩٩

لوبي ٧

١٩٠٦

فليار ٨

١٩١٣

بوانكاري ٩

ومن غريب الاتفاق أن ظهور الجمهورية الأولى والثانية والثالثة كان عقب اسم لويس ، أي السادس عشر في الأولى ولويز فيليب في الثانية ولويز نابليون في الثالثة.

ومن الاتفاق أيضا أن المسقط للجمهورية الأولى والثانية نابليون ، الأول في الأولى والثالث في الثانية.

بين مرسيليا وكرونوبل

ركبت من مرسيليا على الساعة العاشرة صباحا من يوم الأحد ثالث أيام السفر من تونس ، والثامن من شهر جوان والأول من رجب ، قاصدا مدينة كرونوبل على طريق جبال الألب. وبمجرد خروج القطار من مرسيليا وانسيابه في وهاد أراضي فرانسا وامتطائه جبالها يتجلى للغريب التونسي منظر جميل غير معهود في أراضي مملكته. لما أن تربة الأراضي بفرانسا خصبة بالأمطار المتوالية والسحب المنعقدة والغيث المدرار في سائر فصول السنة.

وبإتقان الحراثة والغراسة والعمل المتوالي على حسب القواعد الفلاحية أصبحت جميع أراضي فرانسا حيثما امتد البصر وقصد المستطلع مخضرة الأديم ، تملأ البصر مزارعها وأشجارها وأزهارها لذة وحبورا. يستوي في ذلك السهل والجبل ، فالسهول تخترقها الأودية والجداول ، وبها الأشجار المثمرة وغيرها مما ينتفعون به في مباني

١٢٠