البرهان في علوم القرآن - ج ٤

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٤

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٣

(مريم : ٤٥) ، و [الظاهر من] (١) قول الزمخشري خلافه ؛ وهذا لم يصرّح بأن العذاب لاحق به ، بل قال : (يَمَسَّكَ) ، وذكر الخوف وذكر اسم الرحمن ؛ ولم يقل : «المنتقم» ، وذلك يدل [على] (٢) أنه لم يرد التعظيم.

وقوله : (أَنَّ لَهُمْ [جَنَّاتٍ]) (٢) (البقرة : ٢٥).

(فإن قلت) : لم [لم] (٢) ينكّر «الأنهار» في قوله : (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)؟

(البقرة : ٢٥). (قلت) : لا غرض في عظم الأنهار وسعتها ، بخلاف الجنات.

ومنه : (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) (الصافات : ١٠٩) ؛ (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ) (مريم : ١٥).

وإنما لم ينكر «سلام عيسى» في قوله : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) (مريم : ٣٣) ؛ فإنه في حقه (٣) دعاء ، به الرّمز إلى ما اشتق منه اسم الله تعالى ، والسلام : اسم من أسمائه ، مشتق من السلامة ، وكلّ اسم ناديته به متعرض لما يشتق منه ذلك الاسم ؛ نحو : يا غفور يا رحيم.

ـ (الرابع) : التكثير ؛ نحو «إنّ له لإبلا» ، وجعل منه الزمخشريّ (٤) قوله تعالى : (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) (الأعراف : ١١٣) ، أي أجرا وافرا جزيلا ، ليقابل (٥) المأجور عنه من الغلبة على مثل موسى عليه‌السلام ؛ فإنه لا يقابل الغلبة عليه بأجر ؛ إلا وهو عديم النظير في الكثرة.

وقد أفاد التكثير والتعظيم معا قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ) (فاطر : ٤) ؛ أي رسل عظام ذوو عدد كثير ، وذلك لأنه وقع (٦) عوضا عن قوله : «فلا تحزن وتصبّر» ، وهو يدلّ على عظم الأمر وتكاثر العدد.

__________________

(١) ليست في المخطوطة ، وانظر «الكشاف» ٢ / ٤١٢ عند تفسير الآية من سورة مريم ، وعبارة الزمخشري (ونكّر العذاب وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المطبوعة (في قصة دعائه ، الرمز).

(٤) انظر «الكشاف» ٢ / ٨١ ضمن تفسير الآية من سورة الأعراف وعبارته (والتنكير للتعظيم ، كقول العرب : إن له لإبلا وإن له لغنما يقصدون الكثرة).

(٥) في المخطوطة (لينال).

(٦) في عبارة المخطوطة زيادة هي (لأنه وقع عدد كثير ، وذلك لأنه وقع عوضا).

٨١

ـ (الخامس) : التحقير ، كقوله تعالى : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (عبس : ١٨) ؛ قال الزمخشري (١) : «أي من شيء حقير مهين ، ثم بيّنه بقوله (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ)» (عبس :

١٩ ـ).

وكقوله تعالى : (إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا) (الجاثية : ٣٢) ، أي لا يعبأ به ، وإلا لاتّبعوه ، لأن ذلك ديدنهم (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَ) (النجم : ٢٣).

ـ (السادس) : التقليل ، كقوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (التوبة : ٧٢) ؛ أي رضوان قليل من بحار رضوان الله الّذي لا يتناهى ، أكبر من الجنات ؛ لأن رضا المولى رأس كل سعادة. وقوله تعالى : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) (النحل : ٦٩) ؛ إذ المعنى أنه يحصل فيه [شفاء لا أنه يحصل] (٢) أصل الشفاء في جملة صور ، ويجوز أن يكون للتعظيم. ٤ / ٩٣

وعدّ صاحب «الكشاف» (٣) منه : (أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) (الإسراء : ١) ، أي بعض الليل.

وفيه نظر ؛ لأن التقليل عبارة عن تقليل الجنس إلى فرد من أفراده لا ببعض فرد إلى جزء من أجزائه.

(تنبيه) هذه الأمور إنما تعلم من القرائن والسياق ، كما فهم التعظيم في قوله تعالى : (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) (المرسلات : ١٢) ؛ من قوله بعده : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ* وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) (المرسلات : ١٣ ـ ١٤). وكما فهم التحقير من قوله : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (عبس : ١٨) ؛ من قوله بعده : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) (عبس : ١٩).

قاعدة [أخرى] (٤)

إذا ذكر الاسم مرتين فله أربعة أحوال ؛ لأنه إما أن يكونا معرفتين ، (٥) [أو نكرتين ؛ أو الثاني معرفة والأول نكرة. أو عكسه.

٤ ـ / ٩٤ ـ (فالأول) : أن يكونا معرفتين ،] (٥) والثاني فيه هو الأول غالبا ، حملا له على المعهود

__________________

(١) انظر «الكشاف» ٤ / ١٨٦ عند تفسير الآية من سورة عبس.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) انظر «الكشاف» ٢ / ٣٥٠ عند تفسير الآية من سورة الإسراء.

(٤) ساقطة من المطبوعة.

(٥) ساقط من المخطوطة.

٨٢

الذي هو الأصل في اللام أو الإضافة ، ك «العسر» في قوله : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الانشراح : ٥ ـ ٦) ؛ ولذلك ورد : «لن يغلب عسر يسرين» (١) ، قال التّنوخيّ (٢) : إنما كان مع العسر واحدا ؛ لأنّ اللاّم طبيعة [والطبيعة] (٣) لا ثاني لها ، بمعنى أن الجنس هي ، والكليّ لا يوصف بوحدة ولا تعدد.

وقوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (الصافات : ١٥٨). وقوله : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ* أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) (الزمر : ٢ ـ ٣). وقوله : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ) (غافر : ٩). وقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ* الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) (غافر : ١٦ ـ ١٧).

وقوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ) [٢٦٦ / ب] (مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (غافر : ٥٧). وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) (فصلت : ٣٧).

وقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ) (الفاتحة : ٦ ـ ٧).

٤ ـ / ٩٥ وهذه القاعدة ليست مطّردة ، [وهي منقوضة] (٤) بآيات كثيرة ، كقوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ) (الرحمن : ٦٠) ، فإنهما معرفتان وهما غيران ؛ فإن الأول (٥) هو العمل ، والثاني الثواب. وقوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (المائدة : ٤٥) أي القاتلة والمقتولة. وقوله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) (البقرة : ١٧٨). وقوله : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) (الإنسان : ١). وقوله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ [مِنْ نُطْفَةٍ]) (٦) (الإنسان : ٢).

وقوله : (وَ (٧) أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [مِنَ الْكِتابِ] (٦))

__________________

(١) أخرجه من رواية الحسن مرسلا ، الطبري في التفسير ٣٠ / ١٥١ عند تفسير السورة ... والحاكم في المستدرك ٢ / ٥٢٨ كتاب التفسير ، باب تفسير سورة ألم نشرح ، وذكره السيوطي في الدر المنثور ٦ / ٣٦٤ عند تفسير السورة وعزاه أيضا لعبد بن حميد ، وابن مردويه.

(٢) هو محمد بن محمد زين الدين تقدم التعريف به في ٢ / ٤٤٨.

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (فالأول العمل).

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) في المخطوطة (هو الذي أنزل عليك الكتاب بالحق ...) وصواب الآية كما في المطبوعة.

٨٣

(المائدة : ٤٨). وقوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) (العنكبوت : ٤٧).

وقوله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) (آل عمران : ٢٦). فالملك الذي يؤتيه الله [تعالى] للعبد لا يمكن أن يكون نفس ملكه ، فقد اختلفا وهما معرفتان ، لكن يصدق أنّه إياه باعتبار الاشتراك في الاسم ، كما صرح بنحوه في قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) (آل عمران : ٧٣) ، فقد أعاد الضمير في المنفصل المستغرق باعتبار أصل الفضل.

ونظيرها (١) قوله تعالى : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (النساء : ١٣٩).

وقوله : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) (سبأ : ٩) فالأول عام والثاني خاص.

وقوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ٤ / ٩٦ (غافر : ٥٧). (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (غافر : ٦١). وقوله : قال فالحقّ (٢) والحقّ أقول (ص : ٨٤). فالأول نصب على القسم والثاني نصب ب «أقول». وهذا بخلاف قوله : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) (الإسراء : ١٠٥).

وأما قوله : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (يوسف : ٥٣) ؛ فالأولى معرّفة بالضمير والثانية عامة ، والأولى خاصة ، فالأول داخل في الثاني. وكذا قوله : (عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (ص : ٢٦). وقوله : (بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (الشعراء : ٤٧ ـ ٤٨). وقوله : (أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ) (غافر : ٣٦ ـ ٣٧). وقوله : (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (الفتح : ٢٣).

وقوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة : ١٨٥) ، ثم قال : (فَمَنْ شَهِدَ

__________________

(١) في المخطوطة (ونظيره).

(٢) قال ابن الجزري في «النشر» ٢ / ٣٦٢ (واختلفوا في (قالَ فَالْحَقُ) فقرأ عاصم وحمزة وخلف بالرفع ، وقرأ الباقون بالنصب).

٨٤

مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة : ١٨٥) ، فهما وإن اختلفا يكون الأول خاصّا والثاني عاما متفقان بالجنس. وكذلك : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم : ٢٨) ، ولذلك استبدل بها على أن الأصل إلغاء الظن مطلقا.

٤ ـ / ٩٧ وأما قوله تعالى : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) (القصص : ٢٥) ، بعد قوله : (قالَتْ إِحْداهُما) (القصص : ٢٦) فيحتمل أن تكون الأولى [هي] (١) الثانية وألاّ تكون. ونظيرها قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) (البقرة : ٢٨٢).

فإن كانت «إحداهما» الثانية مفعولا ، فالاسم الأول هو الثاني على قاعدة المعرفتين ، وإن كانت فاعلا فهما [واحد] (١) باعتبار الجنس. وأكثر النحاة على أنّ الإعراب اذا لم يظهر في واحد من الاسمين تعيّن كون الأول فاعلا ، خلافا لما قاله الزجاج في قوله (٢) تعالى : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) (الأنبياء : ١٥).

وقوله : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) (آل عمران : ٧٨) ، فالكتاب الأول ما كتبوه بأيديهم ، ثم كرره بقوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) (البقرة : ٧٩). والكتاب الثاني التوراة. والثالث جنس كتب الله تعالى ، أي ما هو من [شيء في] (٣) كتب الله [تعالى] وكلامه». قاله الراغب (٤).

ـ (الثاني) ان يكونا نكرتين ، فالثاني غير الأول ، وإلاّ لكان [٢٦٧ / أ] المناسب هو (٥) التعريف بناء على كونه معهودا سابقا. قالوا : والمعنى في هذا والذي قبله أن النكرة تستغرق الجنس ، والمعرفة تتناول البعض ؛ فيكون داخلا في الكلّ ، سواء قدّم أو أخّر. والمشهور في تمثيل هذا القسم «اليسر» ، في قوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الانشراح : ٥ ـ ٦).

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (كقوله تعالى) ، وانظر قول الزجاج في «معاني القرآن وإعرابه» ٣ / ٣٨٦ سورة الأنبياء.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) انظر «المفردات» ص ٤٢٥ مادة «كتب».

(٥) عبارة المخطوطة (المناسب هو الأول ، التعريف).

٨٥

وقد قيل إن تنكير «يسرا» للتعميم (١) ، وتعريف «اليسر» للعهد الذي كانوا عليه ، يؤكّده سبب النزول (٢) أو الجنس الذي يعرفه كل أحد ، ليكون «اليسر» الثاني مغايرا للأول ، بخلاف العسر. والتحقيق أن الجملة الثانية هنا تأكيد للأولى لتقديرها في النفس ، وتمكينها من القلب ، ولأنها تكرير صريح لها ، ولا تدل على تعدد اليسر ، كما لا يدل قولنا : وإن مع زيد كتابا ، إن مع زيد كتابا ، على أن معه كتابين ، فالأفصح (٣) أن هذا تأكيد.

وقوله تعالى : ([اللهُ] (٤) الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ...) (الروم : ٥٤) الآية ، فإنّ كلا من المذكور غير الآخر ، فالضعف الأول النطفة أو التراب ، والثاني الضعف الموجود في الطفل والجنين ، والثالث في الشيخوخة. والقوة الأولى التي تجعل للطفل حركة وهداية لاستدعاء اللبن ، والدفع عن نفسه [بالبكاء] (٥) ، والثانية بعد البلوغ.

قال ابن الحاجب (٦) في قوله تعالى : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) (سبأ : ١٢) : الفائدة في إعادة لفظ «شهر» الإعلام بمقدار زمن الغدوّ وزمن الرواح ، والألفاظ التي تأتي مبيّنة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار.

واعلم أنه ينبغي أن يأتي في هذا القسم الخلاف الأصوليّ ، في نحو : «صلّ ركعتين ، [صلّ ركعتين] (٥)» هل يكون أمرين بمأمورين والثاني تأسيس ، أو لا؟ وفيه قولان.

وقد نقضوا هذا القسم بقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (الزخرف : ٨٤) ، فإنّ فيه نكرتين ؛ والثاني هو الأول. وأجاب الطّيبي (٧) ، بأنه من باب التكرير (٨) وإناطة أمر زائد.

__________________

(١) في المخطوطة (مع التعميم).

(٢) قال البغوي في «معالم التنزيل» ٤ / ٥٠٣ (إن الله بعث نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مقل مخف ، فكانت قريش تعيره بذلك حتى قالوا : إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالا حتى تكون كأيسر أهل مكة ، فاغتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك فظن أن قومه إنما يكذبونه لفقره ، فعدد الله نعمه عليه في هذه السورة ووعده الغنى يسليه بذلك عما خامره من الغم فقال (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً).

(٣) في المخطوطة (فالأصح).

(٤) لفظ الجلالة ليس في المخطوطة.

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) هو عثمان بن عمر بن أبي بكر ، أبو عمرو بن الحاجب الكردي تقدم التعريف به في ١ / ٤٦٦.

(٧) هو الحسن بن محمد بن عبد الله تقدم التعريف به في ٣ / ٢٨.

(٨) تصحفت في المخطوطة إلى التذكير.

٨٦

وهذه القاعدة فيما إذا لم يقصد التكرير ، وهذه الآية من قصد التكرير. ويدلّ عليه تكرير ذكر الربّ فيما قبله من قوله : (سُبْحانَ (١) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ) (الزخرف : ٨٢).

وأجاب غيره بأنّ «إله» بمعنى معبود ، والاسم المشتق إنما يقصد به ما تضمّنه من الصفة ، فأنت إذا قلت : زيد ضارب عمرو ، ضارب بكر ، لا يتخيّل أن الثّاني هو الأول ، وإن أخبر بهما عن ذات واحدة ؛ فإن المذكور حقيقة إنما هو المضروبان لا الضاربان ، ولا شكّ أن الضميرين مختلفان.

ومنها قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) (البقرة : ٢١٧) ، الثاني هو الأول. وأجيب بأنّ أحدهما محكيّ من كلام السائل ، والثاني من كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وإنّما الكلام في وقوعهما من متكلّم واحد. ومنها قوله تعالى : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) (البقرة : ٩٠). ومنها : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ* [قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ]) (٢) (الملك : ٨ ـ ٩). ومنها : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ [عَلَيْهِ] (٢) آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ...) (الأنعام : ٣٧).

ـ (الثالث) : أن يكون الأول نكرة والثاني معرفة ، فهو كالقسم الأول ، يكون الثاني فيه هو الأول ، كقوله [تعالى] : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً* فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) (المزمل : ١٥ ـ ١٦). وقوله : (فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) (النور : ٣٥). وقوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ (٣) بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ* إِنَّمَا السَّبِيلُ) (الشورى : ٤١ ـ ٤٢). وقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللهِ) (الشورى : ٥٢ ـ ٥٣). وهذا منتقض بقوله : (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) [أي لا يملكون شيئا من الرزق ، فابتغوا عند الله كل رزق] (٤) (العنكبوت : ١٧).

وقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء : ١٢٨) ،

__________________

(١) في المخطوطة (سبحانه رب السموات والأرض رب العالمين) والصواب الموافق للمصحف ما في المطبوعة.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (ولمن انتصر من بعد) والصواب الموافق للمصحف ما في المطبوعة.

(٤) ليست في المخطوطة.

٨٧

فإنهم استدلوا [٢٦٧ / ب] بها على استحباب كلّ صلح ، فالأول داخل في الثاني وليس بجنسه. وكذلك : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (يونس : ٣٦). وقوله : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (هود : ٣) الفضل الأول العمل ، والثاني الثواب. وكذلك : (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) (هود : ٥٢). وكذلك : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) (الفتح : ٤). وكذلك : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) (النحل : ٨٨) تعريفه أن المزيد غير المزيد عليه. وكذلك : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) (١) (إبراهيم : ١). [إلى] (٢) قوله : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ) (٣) (الأنعام : ١٥٧).

ـ (الرابع) : عكسه فلا يطلق القول به ، بل يتوقف على القرائن ، فتارة تقوم قرينة على التغاير ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) (الروم : ٥٥). وكذلك قوله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً) (النساء : ١٥٣). وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ* هُدىً) (غافر : ٥٣ ـ ٥٤) ، قال الزمخشريّ (٤) : «المراد بالهدى جميع ما آتاه من الدين والمعجزات والشرائع ، والهدى والإرشاد».

وتارة تقوم قرينة على الاتحاد : كقوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* قُرْآناً عَرَبِيًّا) (الزمر : ٢٧ ـ ٢٨). وقوله : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) (الأحقاف : ٢٩) إلى قوله : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً) (الأحقاف : ٣٠).

وأما قوله تعالى في سورة البقرة : (بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة : ١٧٨). وقوله أيضا : (مِنْ مَعْرُوفٍ) (البقرة : ٢٤٠) ، فهو من إعادة النكرة معرفة ، لأن (مِنْ مَعْرُوفٍ) وإن كان في التلاوة [متأخرا] (٥) عن (بِالْمَعْرُوفِ) ، فهو في الإنزال متقدم عليه.

__________________

(١) كذا في المطبوعة والمخطوطة ، ولعله تصحيف من النساخ ، ولعل صواب الاستشهاد أن يكون بقوله تعالى (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) الأنعام : ١٥٥ ، لأن تمام عبارة المصنف «إلى قوله ...» يؤيده.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) الآية في المخطوطة هي (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ) الأنعام : ١٥٦.

(٤) انظر «الكشاف» ٣ / ٣٧٥ عند تفسير الآية من سورة غافر.

(٥) ليست في المخطوطة.

٨٨

قواعد تتعلق بالعطف

[القاعدة] (١) الأولى

٤ ـ / ١٠٢ ينقسم باعتبار إلى عطف المفرد على مثله ، وعطف الجمل. فأمّا عطف المفرد ففائدته تحصيل مشاركة الثاني للأوّل في الإعراب ، ليعلم أنّه مثل الأول في فاعليته أو مفعوليته ؛ ليتّصل الكلام بعضه ببعض ، أو حكم خاصّ دون غيره ، كما في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (المائدة : ٦) ، فمن قرأ بالنصب (٢) عطفا على «الوجوه» كانت «الأرجل (٣) مغسولة ، ومن قرأ بالجرّ عطفا على «الرءوس» كانت ممسوحة ، لكن خولف ذلك لعارض يرجّح (٤). ولا بدّ [في هذا] (٥) من ملاحظة المشاكلة بين المتعاطفين ، فتقول : جاءني زيد وعمرو ، لأنهما معرفتان ، ولو قلت : جاء زيد ورجل ، لم يستقم لكون المعطوف نكرة ، نعم إن تخصّص فقلت : ورجل آخر ، جاز.

ولذا قال صاحب «المستوفى» (٦) من النحويين : وأما عطف الجملة ، فإن كانت الأولى لها محل (٧) من الإعراب فكما سبق ، لأنّها تحل محلّ المفرد ؛ نحو مررت برجل خلقه حسن ، وخلقه قبيح. وإن كان لا محلّ لها ، نحو زيد أخوك وعمرو صاحبك ، ففائدة العطف الاشتراك في مقتضى الحرف العاطف. فإن كان العطف بغير الواو ظهر له فائدة من التعقيب كالفاء ، أو الترتيب ك «ثم» ، أو نفي الحكم عن الباقي ك «لا».

وأما الواو فلا تفيد شيئا هنا غير المشاركة في الإعراب.

وقيل : بل تفيد أنهما كالنظيرين والشريكين ؛ بحيث إذا علم السامع حال الأول عساه أن يعرف حال الثاني. ومن ثمة صار بعض الأصوليين إلى أن القران في اللفظ يوجب القران في

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) قال ابن الجزري في «النشر» ٢ / ٢٥٤ (واختلفوا في (وَأَرْجُلَكُمْ) فقرأ نافع وابن عامر والكسائي ويعقوب وحفص بنصب اللام ، وقرأ الباقون بالخفض).

(٣) تصحفت في المخطوطة إلى (الأوجه).

(٤) في المخطوطة (لمعارض أرجح).

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) هو علي بن مسعود تقدم التعريف به وبكتابه في ١ / ٥١٣.

(٧) تصحفت العبارة في المطبوعة (الأولى لا محل لها من الإعراب).

٨٩

الحكم. ومن هنا شرط البيانيون التناسب بين الجمل لتظهر الفائدة ، حتى إنهم منعوا عطف الإنشاء على الخبر وعكسه.

ونقله الصّفّار [في «شرح سيبويه»] (١) عن سيبويه ؛ ألا ترى إلى قوله : يقبح عندهم أن يدخلوا الكلام الواجب في موضع المنفيّ ، فيصيروا قد ضمّوا إلى الأول ما ليس بمعناه. انتهى.

ولهذا منع الناس من «الواو» ؛ في «بسم الله الرحمن الرحيم وصلّى الله على [سيدنا] (٢) محمد» ، لأن الأولى خبرية والثانية طلبية ، وجوّزه ابن الطّراوة (٣) ؛ لأنهما يجتمعان في التبرّك.

وخالفهم كثير من النحويين ، [٢٦٨ / أ] كابن خروف (٤) والصفّار وابن عمرو (٥) ، وقالوا : يعطف الأمر على الخبر ، والنهي على الأمر والخبر ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة : ٦٧) ، فعطف خبرا على جملة شرط ، وجملة الشرط على الأمر.

وقال تعالى : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس : ٧٢). (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يونس : ١٠٥) ، فعطف نهيا على خبر. ومثله : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) (هود : ٤٢).

قالوا : وتعطف الجملة على الجملة ، ولا اشتراك بينهما ، كما قال تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران : ٧) ، على قولنا بالوقف على «الله» وأنه سبحانه اختصّ به. وقال : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (النور : ٤) فإنّه علّة تامة بخبرها ، فلا يوجب العطف المشاركة فيما تتمّ به الجملتان الأوليان ، وهو الشرط الذي تضمّنه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا) (النور : ٤) ، كقولك : إن دخلت الدار

__________________

(١) ليست في المخطوطة ، والصفار هو القاسم بن علي البطليوسي الصفار تقدم التعريف به في ٢ / ٤٥١ ، والتعريف بكتابه في ٢ / ٤٨٧.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) هو سليمان بن محمد بن عبد الله المالقي تقدم التعريف به ٢ / ٤٣٢.

(٤) هو علي بن محمد بن علي بن محمد بن خروف تقدم التعريف به في ٢ / ٤٩٧.

(٥) كذا في الأصول ، ولعله «ابن عمرون» محمد بن محمد بن أبي علي بن عمرون تقدم التعريف به في ٣ / ٢٢.

٩٠

فأنت طالق ، وفلانة طالق ، لا يتعلّق طلاق الثانية بالشرط ، وعلى هذا يختصّ الاستثناء به ولا يرجع لما تقدمه ، ويبقى المحدود في القذف غير مقبول الشهادة بعد التوبة كما كان قبلها (١).

٤ ـ / ١٠٤ ومنه قوله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) (الشورى : ٢٤) ؛ فإنه علّة تامة معطوفة على ما قبلها ، غير داخل تحت الشرط. ولو دخلت كان ختم القلب ومحو الباطل متعلقين بالشرط ، والمتعلّق بالشرط معدوم قبل وجوده ، وقد عدم ختم القلب ووجد محو الباطل ، فعلمنا أنه خارج عن الشرط ، وإنما سقطت الواو في الخطّ ، واللفظ ليس للجزم ، بل سقوطه من اللفظ لالتقاء الساكنين ، وفي الخطّ اتباعا للفظ ، كسقوطه [في] (٢) قوله تعالى : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) (الإسراء : ١١) ، وقوله : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (العلق : ١٨) ، ولهذا وقف عليه يعقوب بالواو نظرا للأصل ؛ وإن وقف [عليه] (٢) غيره بغير واو اتّباعا للخط.

والدليل على أنّها ابتداء إعادة الاسم في قوله : (وَيَمْحُ اللهُ) (الشورى : ٢٤) ولو كانت معطوفة على ما قبلها لقيل «ويمح الباطل» ، ومثله : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ [ما نَشاءُ]) (٢) (الحج : ٥). وقوله : (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) (التوبة : ١٥). وقوله : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى) (الأعراف : ٢٦) ، وغير ذلك.

(قلت) : وكثير من هذا لا يرد عليهم ؛ فإنّ كلامهم في الواو العاطفة ، وأما (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ) وما بعده فهي للاستئناف ؛ إذ لو كانت للعطف لانتصب «نقرّ» [و «لباس] (٣) ، وجزم و «يتوب». وكذلك [الواو] (٣) في (وَالرَّاسِخُونَ) للاستئناف ، (وَيَمْحُ اللهُ).

وقال البيانيون : للجملة ثلاثة أحوال :

ـ (فالأول) : أن يكون ما قبلها [بمنزلة] (٤) الصفة من الموصوف ، والتأكيد من المؤكّد ، فلا يدخلها عطف لشدة الامتزاج ؛ كقوله [تعالى] : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ

__________________

(١) إشارة إلى بقية الآية (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) ليست في المخطوطة.

٩١

فِيهِ) (البقرة : ١ ـ ٢). وقوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) (البقرة : ٧) مع قوله : (لا يُؤْمِنُونَ) (البقرة : ٦). وكذلك : (يُخادِعُونَ اللهَ) (البقرة : ٩) مع قوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة : ٨) ؛ فإن المخادعة ليست شيئا غير قولهم : (آمَنَّا) من غير اتصافهم. ٤ / ١٠٥

وقوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (البقرة : ١٤) ؛ وذلك لأن معنى قولهم : (إِنَّا مَعَكُمْ) أنّا لم نؤمن ، وقوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) خبر لهذا المعنى بعينه. وقوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) (لقمان : ٧).

وقوله : (ما هذا [بَشَراً إِنْ هذا] (١) إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) (يوسف : ٣١) ؛ فإن كونه «ملكا» ينفي كونه «بشرا» ؛ فهي مؤكدة للأولى. وقوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (يس : ٦٩). وقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (النجم : ٣ ـ ٤). وقوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (الحج : ١) ؛ فإنها مؤكدة لقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ). وقوله : (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (التوبة : ١٠٣) ؛ فإنها بيان للأمر بالصلاة.

٤ ـ / ١٠٢ (٢) [وقوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) (الدخان : ٥١) ؛ بعد قوله : (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ)] (٢) (الدخان : ٥٠). وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف : ٣٠) ؛ إذا جعلت (إِنَّا لا نُضِيعُ) خبرا (٣) ؛ إذ الخبر لا يعطف على المبتدإ. وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (الأنبياء : ١٠١) ؛ بعد قوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) (الأنبياء : ١٠٠).

ـ (والثانية : : أن يغاير [٢٦٨ / ب] ما قبلها ، وليس (٤) بينهما نوع ارتباط بوجه ، فلا

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (خبر إنّ).

(٤) تصحفت في المخطوطة إلى (لكن).

٩٢

عطف أيضا ؛ إذ شرط العطف المشاكلة ؛ وهو مفقود ، وذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ) (البقرة : ٦) بعد [قوله] (١) : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة : ٥).

(فإن قيل :) إذا كان حكم هذه الحالة والتي قبلها واحدا أدّى إلى الإلباس ؛ فإنّه إذا لم يعطف التبس حالة المطابقة بحالة المغايرة ؛ وهلاّ عطفت [الحالة الأولى] (١) [إلحاقا لها] (٢) بالحالة الثانية؟ فإنّ ترك العطف يوهم المطابقة ، والعطف يوهم عدمها ، فلم اختير الأول دون الثاني ؛ مع أنه لم يخل عن إلباس؟ (قيل) : العاطف يوهم الملابسة بوجه قريب أو بعيد ، بخلاف سقوط العاطف ؛ فإنّه وإن أوهم المطابقة ؛ إلا أن أمره واضح ؛ فبأدنى نظر يعلم ، فزال الإلباس.

ـ (الحال الثالثة) : أن يغاير ما قبلها ؛ لكن بينهما نوع ارتباط ، وهذه هي التي يتوسطها العاطف ؛ كقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة : ٥) ، وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ [هُمْ فِيها خالِدُونَ)] (٣) (الرعد : ٥).

٤ ـ / ١٠٧ (فإن (٤) [قلت) : لم سقط العطف من (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) (الأعراف : ١٧٩) ، ولم يسقط من (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)] (٤)؟. (قلت) : لأن الغفلة شأن الأنعام ؛ فالجملة الثانية كأنها هي الجملة الأولى.

(فإن قلت) : لم سقط في قوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (البقرة : ١٥)؟ (قلت) : لأن الثانية كالمسئول عنها ، فنزّل تقدير السؤال منزلة صريحه.

ـ (الحال الرابعة) : أن يكون بتقدير الاستئناف ، كأنّ قائلا قال : لم كان كذا؟ فقيل : كذا ؛ فها هنا لا عطف أيضا ، كقوله تعالى : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ* قالُوا يا أَبانا) (يوسف : ١٦ ـ ١٧). وقوله : (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً) (٥) (الأعراف : ١١٣) ، التقدير : فما قالوا أو فعلوا؟ فأجيب هذا التقدير بقوله : «قالوا».

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) كذا الآية في المخطوطة وفي المطبوعة (فلما جاء السحرة لفرعون قالوا أإن لنا لأجرا) الشعراء : ٤١ ، ولكن صواب الآية (قالُوا لِفِرْعَوْنَ).

٩٣

القاعدة الثانية

ينقسم باعتبار عطف الاسم (١) [على مثله ، والفعل على الفعل ـ إلى أقسام :

ـ (الأول) : عطف الاسم] (١) على الاسم ، وشرط ابن عمرون (٢) وصاحبه ابن مالك (٣) فيه أن يصحّ أن يسند أحدهما إلى ما أسند إلى الآخر ؛ ولهذا منع أن يكون : (وَزَوْجُكَ [في] (٤) اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) (البقرة : ٣٥) ، (الأعراف : ١٩) ، معطوفا على [الضمير] (٥) المستكنّ في «اسكن» (٦) ، وجعله من عطف الجمل ؛ بمعنى أنه مرفوع بفعل محذوف ، أي ولتسكن زوجك.

ونظيره قوله تعالى : (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) (طه : ٥٨) ؛ لأن من حقّ المعطوف حلوله محلّ المعطوف عليه ، ولا يصحّ حلول «زوجك» محلّ الضمير ، لأن فاعل فعل الأمر الواحد المذكر ، نحو «قم» ، لا يكون إلاّ ضميرا مستترا ، فكيف يصحّ وقوع الظاهر موقع المضمر الذي قبله! وردّ عليه الشيخ أثير الدين أبو حيان (٧) ، بأنه لا خلاف في صحة «تقوم هند وزيد» ، ولا يصح مباشرة «زيد» ل «تقوم» لتأنيثه.

ـ (الثاني) : عطف الفعل على الفعل ؛ قال ابن عمرون (٢) وغيره : يشترط فيه اتفاق زمانهما ؛ فإن خالف ردّ إلى الاتفاق بالتأويل ، لا سيّما إذا كان لا يلبس ، وكانت مغايرة الصيغ اتساعا ؛ قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) (الأعراف : ١٧٠) ، فعطف الماضي على المضارع ؛ لأنها من صلة «الذين» ، وهو يضارع الشرط لإيهامه ، والماضي في الشّرط في حكم المستقبل ، فقد تغايرت الصيغ في هذا كما ترى ، واللبس مأمون ؛ ولا نظر في الجمل إلى اتفاق المعاني ؛ لأنّ كلّ جملة مستقلة بنفسها. انتهى.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) هو محمد بن محمد بن أبي علي تقدم التعريف به في ٣ / ٢٢.

(٣) هو محمد بن عبد الله بن مالك تقدم التعريف به في ١ / ٣٨١.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) تصحفت في المطبوعة إلى (أنت).

(٧) هو محمد بن يوسف تقدم التعريف به في ١ / ١٣٠ ، وانظر قوله في «البحر المحيط» ١ / ١٥٦ عند تفسير قوله تعالى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) من سورة البقرة.

٩٤

ومثله قوله تعالى : (إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) (الفرقان : ١٠) ، ثم قال : (وَيَجْعَلْ [لَكَ قُصُوراً]) (١) (الفرقان : ١٠). وقوله : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) (الكهف : ٤٧) ، ثم قال : (وَحَشَرْناهُمْ). وقال صاحب «المستوفى» (٢) : لا يتمشّى عطف الفعل على الفعل إلا في المضارع ؛ منصوبا كان ، كقوله تعالى : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) (المدثر : ٣١) ، أو مجزوما كقوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ [مِنْ] (١) ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (نوح : ٤).

(فإن قيل) : كيف حكمتم بأنّ العاطف مختصّ بالمضارع ، وهم يقولون : قام زيد وقعد بكر ؛ وعلى هذا قوله تعالى : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) (الكهف : ١٠) فيه عطف الماضي على الماضي ، وعطف الدعاء على الدعاء! (فالجواب) أن المراد بالعطف هنا أن تكون لفظتان ، تتبع الثانية منهما الأولى في إعرابها ، وإذا كانت اللفظة غير معربة ، فكيف تصح [فيها] (٣) التبعية؟ فصحّ أن هذه الألفاظ لا يصح أن يقال : إنها معطوفة على ما قبلها العطف الذي نقصده الآن. وإن صحّ أن يقال معطوفة العطف الذي ليس للإتباع ، بل يكون عطف الجملة على الجملة من حيث هما جملتان ؛ [٢٦٩ / أ] والجملة من حيث هي لا مدخل لها في الإعراب ؛ إلا أن تحلّ محل الفرد ؛ وظهر أنّه يصحّ وقوع العطف عليه وعدمه باعتبارين.

ـ (الثالث) : عطف الفعل على الاسم ، والاسم على الفعل ، وقد اختلف فيه ؛ فمنهم من منعه ؛ والصحيح الجواز إذا كان مقدّرا بالفعل ، كقوله تعالى : (صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) (الملك : ١٩) ، وقوله : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ) (الحديد : ١٨).

واحتجّ الزمخشريّ بهذا على أن [اسم] (٤) الفاعل جملة ، على معنى (المصادقين) الذين تصدقوا (٥).

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) هو علي بن مسعود الفرغاني تقدم التعريف به وبكتابه في ١ / ٥١٣.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) انظر «الكشاف» ٤ / ٦٧ عند تفسير الآية من سورة الحديد.

٩٥

قال ابن عمرون : ويدلّ لعطف الاسمية على الفعلية قوله تعالى : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) (مريم : ٣٧) فعطف (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) (مريم : ٣٧) وهي جملة اسمية على (فَاخْتَلَفَ) ، وهي فعلية ، بالفاء. وقال تعالى : (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (١) (التوبة : ٨٧). وقال تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ* فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) (الحاقة : ١٨ ـ ١٩).

(قال) : وإذا (٢) جاز عطف الاسمية على الفعلية [ب «أم»] (٣) في قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (الأعراف : ١٩٣) إذ الموضع للمعادلة (٤).

(وقيل) : إنه أوقع الاسمية موقع الفعلية ، نظرا إلى المعنى : «أصمتّم» فما المانع هنا؟

وجعل ابن مالك قوله تعالى : (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) (الأنعام : ٩٥) عطفا على (يُخْرِجُ) ، لأن الاسم في تأويل الفعل. والتحقيق ما قاله الزمخشريّ (٥) : إنه عطف على : (فالِقُ الْحَبِّ [وَالنَّوى]) (٦) (الأنعام : ٩٥) ، (٧) [ليتناسب المتعاطفان ، وفي الأول يخالف ذلك والأصل عدمه ، وأيضا قوله (يُخْرِجُ الْحَيَ) تفسير ل (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى)] (٧) فلا يصحّ أن يكون عطفا على (يُخْرِجُ) ، لأنّه ليس تفسيرا لقوله : (فالِقُ الْحَبِ) ، فيعطف على تفسيره ، بل هو قسيم له.

[القاعدة] (٦) الثالثة

ينقسم باعتبار المعطوف إلى أقسام : عطف على اللفظ ، وعطف على الموضع ، وعطف على التوهم.

ـ (فالأوّل) أن يكون باعتبار عمل موجود في المعطوف عليه ؛ فهو العطف على اللفظ ، نحو : ليس زيد بقائم ولا ذاهب ، وهو الأصل.

__________________

(١) الآية في المخطوطة (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ ...) المنافقون : ٣.

(٢) تصحفت في المطبوعة إلى (إذن).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) في المطبوعة (إذا لوضع للمعادلة).

(٥) انظر «الكشاف» ٢ / ٢٨ عند تفسير الآية من سورة الأنعام.

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) ليست في المطبوعة.

٩٦

ـ (والثاني) : أن يكون باعتبار عمل لم يوجد في المعطوف ؛ إلا أنه مقدّر [في] (١) الوجود لوجود طالبه ؛ فهو العطف على الموضع ، نحو ، ليس زيد بقائم ولا ذاهبا ؛ بنصب «ذاهبا» عطفا على موضع «قائم» لأنه خبر ليس.

ومن أمثلته قوله تعالى : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) (هود : ٦٠) ؛ بأن يكون «يوم القيامة» معطوفا على محلّ «هذه» ، ذكره الفارسيّ (٢).

وقوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ [فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ]) (٣) (الأعراف : ١٨٦) ؛ في قراءة الجزم (٤) إنه بالعطف على محل (فَلا هادِيَ لَهُ).

وجعل الزمخشري وأبو البقاء (٥) منه قوله تعالى : (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى) (الأحقاف : ١٢) ، [إن «بشرى»] (٦) في محل نصب بالعطف على محل «لينذر» لأنه مفعول له.

وغلطا في ذلك ؛ لأن شرطه في ذلك أن يكون الموضع بحقّ الأصالة والمحل (٧) ليس هنا كذلك ؛ لأن الأصل هو الجر في المفعول له ؛ وإنما النصب ناشئ عن إسقاط الخافض.

وجوز الزمخشريّ (٨) أيضا في قوله تعالى : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ) (الأنعام : ٩٦) ، كون «الشمس» معطوفا على محل «الليل».

ـ (والثالث) : أن يكون باعتبار عمل لم يوجد هو ولا طالبه ، هو العطف على التوهم ،

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي تقدم التعريف به في ١ / ٣٧٥.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) قال البنا الدمياطي في «إتحاف فضلاء البشر» ص ٢٣٣ سورة الأعراف (واختلف في (وَيَذَرُهُمْ ...) ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالياء وجزم الراء عطفا على محل قوله تعالى (فَلا هادِيَ لَهُ) ووافقهم الأعمش).

(٥) انظر «الكشاف» ٣ / ٤٤٥ عند تفسير سورة الأحقاف ، وانظر لأبي البقاء العكبري «إملاء ما من به الرحمن» ٢ / ٢٣٤ سورة الأحقاف.

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (والأصل).

(٨) انظر «الكشاف» ٢ / ٢٩ عند تفسير الآية من سورة الأنعام.

٩٧

نحو ليس زيد قائما ولا ذاهب ، بجرّ «ذاهب» ، وهو معطوف على خبر «ليس» المنصوب باعتبار جرّه بالباء لو دخلت عليه ، فالجر على مفقود ، [وعامله وهو الباء مفقود أيضا ؛] (١) إلا أنه متوهّم الوجود لكثرة دخوله في خبر ليس ؛ فلما توهّم وجوده صحّ اعتبار مثله ؛ وهذا قليل في (٢) كلامهم.

(وقيل) : إنه لم يجيء إلاّ في الشعر ؛ ولكن جوّزه الخليل وسيبويه في القرآن ، وعليه خرّجا قوله تعالى : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (المنافقون : ١٠) ؛ كأنه قيل : «أصدق وأكن» (٣). (وقيل) : هو من العطف على الموضع ؛ أي محل «أصدّق».

والتحقيق قول سيبويه : هو على توهّم أن الفاء لم ينطق بها.

واعلم أن بعضهم قد شنّع القول بهذا في القرآن على النحويين ، وقال : كيف يجوز التوهّم في القرآن! وهذا جهل منه بمرادهم ؛ فإنه ليس المراد بالتوهّم الغلط ؛ بل تنزيل [٢٦٩ / ب] الموجود [منه] (٤) منزلة المعدوم ؛ كالفاء في قوله تعالى : (فَأَصَّدَّقَ) ليبنى على ذلك ما يقصد من الإعراب.

وجعل منه الزمخشريّ (٥) قوله تعالى : (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) (هود : ٧١) ، في من فتح الباء (٦) ، كأنه قيل : «ووهبنا له إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب» على طريقة :

 ... ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب .... (٧)

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المطبوعة (من كلامهم).

(٣) انظر قول سيبويه والخليل في «الكتاب» ٣ / ١٠٠ ـ ١٠١ باب الحروف التي تنزل بمنزلة الأمر والنهي.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) انظر «الكشاف» ٢ / ٢٢٥ عند تفسير الآية من سورة هود.

(٦) قال ابن الجزري في «النشر» ٢ / ٢٩٠ عند سورة هود : (واختلفوا في (يَعْقُوبَ) فقرأ ابن عامر وحمزة وحفص بنصب الباء وقرأ الباقون برفعها).

(٧) تمام البيت :

مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلا بشؤم غرابها

ذكره ابن منظور في «لسان العرب» ١٢ / ٣١٤ مادة «شأم» وعزاه للأحوص اليربوعي وقال فيه : (ردّ «ناعبا» على موضع «مصلحين» وموضعه خفض بالباء ، أي ليسوا بمصلحين) ، وذكر البيت المرزوقي في «شواهد الكشاف» ص ١٣٥ حرف الهاء ، وفيه (إلا ببين غرابها) وعزاه لأبي المهدي ، ثم قال (وروي : إلا بشؤم).

٩٨

وقد يجيء قسم آخر ، وهو العطف على المعنى ؛ كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) (البقرة : ٢٥٨) ؛ ثم قال : (أَوْ كَالَّذِي) (١) (البقرة : ٢٥٩) ، عطف المجرور بالكاف على المجرور ب «إلى» ، حملا على المعنى ؛ لأن قوله : «إلى الّذي» في معنى : «أرأيت كالذي» (٢).

٤ ـ / ١١٣ وقال بعضهم في قوله تعالى : (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ) (الصافات : ٧) ؛ إنه عطف على معنى (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) (الصافات : ٦) وهو : إنا خلقنا الكواكب في السماء [الدنيا] (٣) زينة للسماء الدنيا. وفي قوله تعالى : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ [إِلى إِلهِ مُوسى]) (٤) (غافر : ٣٦ ـ ٣٧) ، على قراءة النصب (٥) : إنه عطف معنى (لَعَلِّي أَبْلُغُ) ، [وهو «لعليّ أن أبلغ»] (٦) ؛ فإن خبر «لعلّ» يقترن ب «أن» كثيرا.

القاعدة الرابعة

الأصل في العطف التغاير ؛ وقد يعطف الشيء على نفسه في مقام التأكيد ، وقد سبق إفراده بنوع في فصول التأكيد.

القاعدة الخامسة

يجوز في الحكاية عن المخاطبين إذا طالت : قال [زيد ، قال] (٦) عمرو ، من غير أن تأتي بالواو وبالفاء ؛ وعلى هذا قوله تعالى (٧) : ([إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي] (٦) يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ ...) (البقرة : ٢٥٨) الآية. وقوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ* قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الشعراء : ٢٣ ـ ٢٤) ، ونظائرها.

__________________

(١) قوله تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها).

(٢) انظر «الكشاف» ١ / ١٥٦ ـ ١٥٧ عند تفسير الآية من سورة البقرة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) قال ابن الجزري في «النشر» ٢ / ٣٦٥ (واختلفوا في (فَأَطَّلِعَ) فروى حفص بنصب العين وقرأ الباقون برفعها).

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) زيادة في المخطوطة (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) البقرة : ٢٦٠.

٩٩

٤ / ١١٤ وإنما حسن ذلك للاستغناء عن حرف العطف ؛ من حيث إنّ المتقدّم من القولين يستدعي التأخّر منهما ؛ فلهذا كان الكلام مبنيا على الانفصال ، وكان كلّ واحد من هذه الأقوال مستأنفا ظاهرا ؛ وإن كان الذهن يلائم بينهما.

[القاعدة] (١) السادسة

العطف على المضمر ؛ إن كان منفصلا مرفوعا ؛ فلا يجوز من غير فاصل تأكيد أو غيره ؛ كقوله تعالى : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) (الأعراف : ٢٧). (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ [فَقاتِلا]) (١) (المائدة : ٢٤). (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (البقرة : ٣٥) و (الأعراف : ١٩) عند الجمهور ؛ خلافا لابن مالك في جعله من عطف الجمل ، بتقدير : «ولتسكن زوجك». وقوله : ([وَعُلِّمْتُمْ] (١) ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) (الأنعام : ٩١). (يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ) (الرعد : ٢٣). ([فَقُلْ] (١) أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) (آل عمران : ٢٠).

وجعل الزمخشري (٢) منه : (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* أَوَآباؤُنَا) (الصافات : ١٦ ـ ١٧) فيمن قرأ بفتح الواو ؛ وجعل الفصل بالهمزة (٣). وردّ بأن الاستفهام لا يدخل على المفردات.

وجعل الفارسيّ منه (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) (الأنعام : ١٤٨) ، وأعرب ابن الدّهّان (٤) (وَلا آباؤُنا) مبتدأ خبره (أَشْرَكُوا) مقدرا.

وأجاز الكوفيون العطف من غير فاصل ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) (المائدة : ٦٩).

فأما قوله تعالى : (فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) (النجم : ٦ ـ ٧) ، فقال الفارسيّ : (وَهُوَ) مبتدأ ، وليس معطوفا (٥) على ضمير (فَاسْتَوى) (٦) ، وإن كان مجرورا

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) انظر «الكشاف» ٣ / ٢٩٨ عند تفسير الآية من سورة الصافات.

(٣) قال ابن الجزري في «النشر» ٢ / ٣٥٧ عند سورة الصافات (واختلفوا في (أَوَآباؤُنَا) هنا وفي الواقعة فقرأ أبو جعفر وابن عامر وقالون بإسكان الواو فيهما ... ، وروى الأزرق عن ورش فتح الواو وكذلك قرأ الباقون في الموضعين).

(٤) هو سعيد بن المبارك تقدم التعريف به في ٢ / ٤٩٢.

(٥) في المخطوطة (بمعطوف).

(٦) في المخطوطة زيادة (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى).

١٠٠