البرهان في علوم القرآن - ج ٤

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٤

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٣

أنهما من مكان واحد ، وإن كانوا يعلمون (١) أنه من إله ، وأتى ب «هو» لرفع ذلك ، ودخلت الفاء في (فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء : ٨٠) ، لأنّه جواب ، ولم يقل : «إذا مرضت فهو يشفين» إذ يفوت ما هو موضوع لإفادة التعقيب ، ويذهب الضمير المعطي معنى الحصر ، ولم ٤ / ٦٩ يكونوا منكرين الموت من الله ، وإنما أنكروا البعث ، فدخلت «ثم» لتراخي ما بين الإماتة والإحياء.

وقوله تعالى : (أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) (الأعراف : ١٩٣) لأن الفعل الماضي يحتمل هذا الحكم دائما ووقتا دون وقت ، فلما قال : (أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) ، أي سكوتكم عنهم أبدا ودعاؤكم إياهم واحد ، ولأنّ «صامتون» فيه مراعاة للفواصل فهو أفصح ، وللتمكين من تطريفه بحرف المد واللّين ، وهو للطبع أنسب من صمتهم ، وصلا ووقفا. وفيه وجه آخر ، وهو أن أحد القسمين موازن للآخر ، فيدلّ على أن المعنى : «أنتم داعون لهم دائما أم أنتم صامتون».

(فإن قيل) : لم لا يعكس؟ (قلنا) : لأن الموصوف الحاضر والمستقبل ، لا الماضي ؛ لأن قبله : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) (الأعراف : ١٩٣) ، والكلام بآخره ، فالحكم به قد يرجح.

وقوله تعالى : (أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ) (الأنبياء : ٥٥) ، ولم يقل : «أم لعبت» ؛ لأن العاقل لا يمكن أن يلعب بمثل ما جاء به ظاهرا ، وإنما يكون [ذلك] (٢) أحد رجلين ؛ إما محقّ وإما مستمرّ على لهو الصبا وغيّ الشباب ، فيكون اللعب من شأنه حتى يصدر عنه مثل ذلك ، ولو قال : «أم لعبت» لم يعط هذا.

وقوله تعالى حاكيا عن المنافقين : (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة : ٨) ، يريدون أحدثنا الإيمان ، وأعرضنا عن الكفر ، ليروج ذلك ، خلافا منهم كما أخبر تعالى عنهم في قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (البقرة : ٩).

٤ ـ / ٧٠ وجاءت الاسمية في الردّ عليهم بقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة : ٨) لأنه أبلغ من نفي الفعل ، إذ يقتضي إخراج أنفسهم وذواتهم عن أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين ، وينطوي تحته على سبيل القطع نفي بما أثبتوا لأنفسهم من الدعوى الكاذبة ، على طريقة :

__________________

(١) في المخطوطة (يزعمون).

(٢) ليست في المخطوطة.

٦١

(يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) (المائدة : ٣٧) ، مبالغة في تكذيبهم ، ولذلك أجيبوا بالباء ، وكلامهم في هذا ـ كما قيل : خليّ من المعنى ولكن مفرقع وإذا قيل : «أنا مؤمن» أبلغ من «آمن» ، ونفي الأبلغ لا يستلزم نفي ما دونه ، وما حقيقة إخراج ذواتهم من جنس المؤمنين لم يرجع في البيان إلا [على] (١) عيّ أو ترويج ، ولكن ذمّ الله تعالى طائفة تقول : «آمنا» وهي حالة القول ليست بمؤمنة ، بيانا لأنّ هذا القول إنما صدر عنها ادعاء ، بحضور الإيمان حالة القول ، وانتظام بذلك في سلك المتصفين بهذه الصفة ، وهم ليسوا كذلك ؛ فإذا ذمّهم الله شمل الذمّ أن يكونوا [آمنوا يوما ثم تخلّوا ، وأن يكونوا ما] (١) آمنوا قطّ من طريق الأولى والتعميم فقط ، وأعلم به أنّ ذلك حكم من ادعى هذا الدعوى على هذه الحال ، وبين أن هذا القول إنما قصدوا به التمويه ، بقوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (البقرة : ٩) ولو قال : وما آمنوا ، لم يفد إلا نفيه عنهم في الماضي ، ولم يفد ذمّهم إن كانوا آمنوا ثم ارتدّوا ؛ وهذا أفاد نفيه في الحال ، وذمّهم بكل حال ، ولأنّ ما فيه «مؤمنين» أحسن من «آمنوا» لوجود التمكين بالمدّ ؛ والوقف عقبه على حرف له موقف.

وأما قوله تعالى : (وَما هُمْ مِنْها) [٢٦٢ / أ] (بِمُخْرَجِينَ) (الحجر : ٤٨) ، دون «يخرجون» فقيل ما سبق. وقيل استوى هنا «يخرجون» و «خارجين» في إفادة المعنى ، واختير الاسم لخفته وأصالته.

٤ ـ / ٧١ وكذلك قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ (٢) [قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) (البقرة : ١٤) لأنهم مع المؤمنين يدعون حدوث الإيمان ومع شياطينهم] (٢) يخبرون عن أنفسهم بالثبات على الإيمان بهم.

ومنه قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) (الروم : ١٩) ، قال الإمام فخر الدين [الرازي] (٣) : لأن الاعتناء بشأن إخراج الحيّ من الميت لما كان أشدّ أتى بالمضارع ، ليدلّ على التجدّد ، كما في قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (البقرة : ١٥).

(تنبيه) مضمر الفعل كمظهره في إفادة الحدوث ، ومن هذه القاعدة [قالوا] (٤) : إن

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المخطوطة.

٦٢

سلام الخليل عليه‌السلام أبلغ من سلام الملائكة ، حيث [قال] (١) : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) (هود : ٦٩) : فإنّ نصب (سَلاماً) إنما يكون على إرادة الفعل ، أي سلّمنا سلاما ، وهذه العبارة مؤذنة بحدوث التسليم منهم ، إذ الفعل تأخّر عن وجود الفاعل ، بخلاف سلام إبراهيم ، فإنه مرتفع بالابتداء ، فاقتضى الثبوت على الإطلاق ، وهو أولى بما يعرض له الثبوت ، فكأنه قصد أن يحيّيهم بأحسن مما حيوه به ، اقتداء بقوله تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) (النساء : ٨٦).

وذكروا فيه أوجها أخرى تليق بقاعدة الفلاسفة في تفضيل الملائكة على البشر ، وهو أن السّلام دعاء بالسّلامة من كل نقص ، وكمال البشر تدريجيّ ، فناسب الفعل ، وكمال الملائكة مقارن لوجودها على الدوام ، فكان أحقّ بالاسم الدالّ على الثبوت.

قيل : وهو غلط ، لأن الفعل المنشأ هو تسليمهم ، أما السّلام المدعوّ به فليس في موضوعه تعرض لتدرّج ، وسلامه أيضا منشأ فعل ، ولا يتعرض للتدريج ، غير أن سلامه لم يدل بوضعه اللغويّ وقوع إنشائه ، ثم لو كان هذا المعنى معتبرا لشرع السّلام بيننا بالنصب دون الرفع. ٤ / ٧٢

(تنبيه) هذا الذي ذكرناه من دلالة الاسم على الثبوت ، والفعل على التجدد والحدوث ؛ هو المشهور عند البيانيين ؛ وأنكره أبو المطرّف بن عميرة (٢) في كتاب «التمويهات على كتاب التبيان» لابن الزّملكاني ، قال : هذا الرأي غريب ، ولا مستند له نعلمه ، إلا أن يكون قد سمع أن في مقوله (٣) : أن يفعل وأن ينفعل هذا المعنى من التجدّد ، فظنّ أنه الفعل القسيم للأسماء ، فغلط. ثم قوله : الاسم يثبت المعنى للشيء عجيب ، وأكثر الأسماء دلالتها على معانيها فقط ، وإنما ذاك في الأسماء المشتقة ؛ ثم كيف يفعل بقوله

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) هو أحمد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن عميرة المخزومي ، تفنن في العلوم ونظر في المعقولات وأصول الفقه. ومال إلى الأدب فبرع فيه. روى عن أبي الخطاب أحمد بن واجب وأبي علي الشلوبين وجماعة كثيرة. وروى عنه جماعة وكان شديد العناية بشأن الرواية. وله من التصانيف «التنبيهات» وله رسائل مشتملة على نظم ونثر كتب بها إلى الملوك. توفي سنة (٦٥٨). (ابن فرحون ، الديباج المذهب ٤٦) وكتابه «التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات» ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون ١ / ٣٤١ ، وذكره البغدادي في إيضاح المكنون ١ / ٣٢٣ ، وكتاب «التبيان» لابن الزملكاني سبق التعريف به في ٢ / ٥١٧.

(٣) في نسخة (في قوله).

٦٣

تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (المؤمنون : ١٥ ـ ١٦) ، وقوله في هذه السورة بعينها : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) (المؤمنون : ٥٧ ـ ٥٨).

وقال ابن المنيّر (١) : طريقة العرب تدبيج الكلام وتلوينه ومجيء الفعلية تارة ، والاسمية أخرى ، من غير تكلّف لما ذكروه ، وقد رأينا الجملة الفعلية تصدر من الأقوياء [الخلّص] (٢) ، اعتمادا على أنّ المقصود الحاصل بدون التأكيد ، كقوله تعالى : (رَبَّنا آمَنَّا) (آل عمران : ٥٣) ، ولا شيء بعد (آمَنَ الرَّسُولُ) (البقرة : ٢٨٥) ، وقد جاء التأكيد في كلام المنافقين فقال : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (البقرة : ١١).

٤ ـ / ٧٣

قاعدة

جاء في التنزيل في موضع : (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وفي موضع آخر (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ). (والأول) : جاء في تسعة مواضع : أحدها في الرحمن : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الآية : ٢٩). (والثاني) : في أربع مواضع ، أولها في يونس : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي) [٢٦٢ / ب] (الْأَرْضِ) (الآية : ٦٦).

وجاء قوله تعالى : (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في أحد عشر موضعا ، أولها في البقرة (سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (البقرة : ١١٦). وجاء قوله : (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [في] (٣) ثمانية وعشرين موضعا ، أولها في آية الكرسي (٤).

قال بعضهم : وتأمّلت هذه المواضع ، فوجدت أنّه حيث قصد التنصيص على الإفراد ذكر الموصول والظرف ، ألا ترى إلى المقصود في سورة يونس (٥) ، من نفي الشركاء الذين اتخذوهم في الأرض ، وإلى المقصود في آية الكرسي في إحاطة الملك (٦).

__________________

(١) هو أحمد بن محمد بن منصور تقدم التعريف به في ١ / ١٧٦.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) قوله تعالى (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) البقرة : ٢٥٥.

(٥) هي الآية ٦٦ قوله تعالى (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ).

(٦) قوله تعالى (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ).

٦٤

وحيث قصد أمر آخر لم يذكر الموصول ، إلا مرة واحدة إشارة إلى قصد الجنس ٤ / ٧٤ وللاهتمام (١) بما هو المقصود في تلك الآية ، ألا ترى آية (٢) سورة الرحمن المقصود منها علو قدرة الله تعالى ، وعلمه وشأنه ، وكونه مسئولا (٣) ، ولم يقصد إفراد السائلين. فتأمل هذا الموضع!

قاعدة

قد يكون نحو هذا اللفظ في القرآن ، كقوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (الأنعام : ٩٣) (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) (الزمر : ٣٢) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) (السجدة : ٢٢) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ ...) (البقرة : ١١٤) إلى غير ذلك.

والمفسرون (٤) «على أنّ هذا الاستفهام معناه النفي فحينئذ ، فهو خبر ، وإذا كان خبرا فتوهّم بعض الناس أنّه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها أدّى إلى التناقض ، لأنه يقال : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ، ولا أحد أظلم ممّن ذكّر بآيات (٥) الله فأعرض عنها.

واختلف المفسّرون في الجواب عن هذا السؤال على طرق :

ـ (أحدها) : تخصيص كلّ واحد في (٦) هذه المواضع بمعنى صلته ، فكأنّه قال : لا أحد من المانعين أظلم ممّن منع مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا ، وكذلك باقيها ، وإذا تخصص بالصّلات زال عنه التناقض.

ـ (الثاني) : أن التخصيص بالنسبة إلى السبق لما لم يسبق أحد إلى مثله ، حكم عليهم

__________________

(١) في المخطوطة (الجنس والاهتمام لما هو المقصود).

(٢) في المطبوعة (ألا ترى إلى سورة الرحمن) ، والمقصود قوله تعالى (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية : ٢٩.

(٣) في المطبوعة (وكونه سؤلا).

(٤) نقله الزركشي عن أبي حيان في البحر المحيط ١ / ٣٥٧ عند تفسير الآية (١١٤).

(٥) في المخطوطة (بآيات ربه ثم).

(٦) في المخطوطة (من هذه المواضع على صلته).

٦٥

بأنّهم أظلم ممّن جاء بعدهم سالكا طريقتهم ، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية ، والافترائية (١).

ـ (٢) [(الثالث): ـ و] (٢) ادّعى الشيخ أبو حيان [أنه] (٣) الصواب ـ [إذ المقصود] (٤) نفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية ، لأنّ نفي المقيّد لا يدلّ على نفي المطلق ، فلو قلت : ما في الدار رجل ظريف ، لم يدلّ ذلك على نفي مطلق رجل ، وإذا لم يدل على نفي الظالميّة لم يلزم التناقض لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية ، وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر ، لأنّهم يتساوون في الأظلمية ، وصار المعنى : لا أحد أظلم ممن [افترى وممن كذب] (٤) ونحوها ، ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ، ولا يدلّ على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر ، كما (٥) أنك إذا قلت : لا أحد أفقه [من زيد وعمر وخالد ، لا يدلّ على أن أحدهم أفقه من الآخر ، بل نفى أن يكون أحد أفقه] (٦) منهم.

لا يقال : إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ولم يفتر على الله كذبا أقلّ ظلما ممّن جمع بينهما ، فلا يكون مساويا في الأظلمية! لأنا نقول : هذه الآيات كلّها إنما هي في الكفّار ، فهم متساوون في الأظلمية ، وإن اختلفت طرق الأظلمية ، فهي كلها صائرة إلى الكفر ، وهو شيء واحد ، لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لإفراد من اتصف به ، وإنّما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم ، وللعصاة المؤمنين ، بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة ، فتقول : الكافر أظلم من المؤمن ، وتقول : لا أحد أظلم من الكافر [٢٦٣ / أ] ؛ ومعناه أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره» (٧). انتهى.

وقال بعض مشايخنا : لم يدّع القائل نفي الظالميّة ، فيقيم الشيخ الدليل على ثبوتها ،

__________________

(١) وقال أبو حيان بعد هذه العبارة (وهذا كله بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي ، وعجمة في اللسان يتبعها (استعجام المعنى).

(٢) ليست في المخطوطة ، والشيخ أبو حيان هو صاحب «البحر المحيط» محمد بن يوسف أثير الدين تقدم التعريف به في ١ / ١٣٠.

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) ليست في المخطوطة ، وعبارة المخطوطة (لا أحد أظلم ممن ذكره).

(٥) في المخطوطة (ولأنك إذا قلت).

(٦) هذه العبارة ليست في الأصول ، وأثبتناها من «البحر المحيط» لأن المعنى لا يستقيم بدونها.

(٧) هنا ينتهي النقل عن أبي حيان في تفسيره «البحر المحيط».

٦٦

وإنما دعواه أنّ «ومن أظلم ممن منع مثلا» ، والغرض أنّ الأظلمية ثابتة لغير ما اتصف بهذا الوصف ، وإذا كان كذلك حصل التعارض ، ولا بد من الجمع بينهما. وطريقه التخصيص ، فيتعين القول به.

وقول الشيخ : إن المعنى «لا أحد أظلم ممن منع وممن ذكر» صحيح ، ولكن لم يستفد ذلك إلا من جهة التخصيص ، لأن الأفراد المنفيّ عنها الأظلمية في آية ، أثبتت لبعضها الأظلمية أيضا في آية أخرى ، وهكذا بالنسبة إلى بقيّة الآيات الوارد فيها ذلك. وكلام الشيخ يقتضي [أن] (١) ذلك استفيد لا بطريق التخصيص ، بل بطريق أن الآيات المتضمنة (٢) لهذا الحكم في [حكم] (٣) آية واحدة. وإذا تقرّر ذلك ، علمت أن كلّ آية خصّت بأخرى ، ولا حاجة إلى القول بالتخصيص بالصّلات ، ولا بالسبق.

ـ (الرابع) : طريقة بعض المتأخرين ، فقال : متى قدّرنا : «لا أحد أظلم» ، لزم أحد الأمرين : إمّا استواء الكلّ في الظّلم ، وأن المقصود نفي الأظلمية عن غير المذكور ، لا إثبات الأظلمية له ، وهو خلاف المتبادر إلى الذهن ، وإمّا أن كلّ واحد أظلم في ذلك النوع. وكلا الأمرين إنما لزم من جعل مدلولها إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة ، أو نفيها عن غيره.

٤ ـ / ٧٧ وهنا معنى ثالث ، وهو أمكن في المعنى وسالم عن الاعتراض ، وهو الوقوف مع مدلول اللفظ من الاستفهام ، والمقصود به أنّ هذا الأمر عظيم فظيع ، قصدنا بالاستفهام عنه تخييل أنه لا شيء فوقه ، لامتلاء قلب المستفهم عنه بعظمته امتلاء يمنعه من ترجيح غيره ، فكأنه مضطر [إلى] (٤) أن يقول : لا أحد أظلم ؛ وتكون دلالته على ذلك استعارة لا حقيقة ، فلا يرد كون غيره أظلم منه إن فرض. وكثيرا ما يستعمل هذا في الكلام إذا قصد به التهويل ، فيقال : أيّ شيء أعظم من هذا إذا قصد إفراط عظمته؟ ولو قيل للمتكلّم بذلك : أنت قلت إنه أعظم الأشياء ، لأبى ذلك. فليفهم هذا المعنى ، فإنّ الكلام ينتظم معه والمعنى عليه.

قاعدة (٥)

قوله تعالى : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) (الأنبياء : ٨) ، قال صاحب

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (المقتضية).

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (فائدة).

٦٧

«الياقوتة» (١) : قال ثعلب والمبرّد جميعا : العرب إذا جاءت بين الكلامين بجحدين ، كان الكلام إخبارا ، فمعناه [إنما جعلناهم] (٢) جسدا لا يأكلون الطعام. ومثله : ما سمعت منك ولا أقبل منك مالا. وإذا كان في أول الكلام جحد كان الكلام مجحودا جحدا حقيقيّا ، نحو «ما زيد بخارج» ، فإذا جمعت بين جحدين في أول الكلام كان أحدهما زائدا ، كقوله : [ما] (٢) ما قمت يريد : [«ما قمت»] (٢) ، ومثله ما إن قمت ، وعليه قوله تعالى : (فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) (الأحقاف : ٢٦) ، في أحد الأقوال.

٤ ـ / ٧٨

قاعدة في ألفاظ يظنّ بها الترادف وليست منه

ولهذا وزّعت بحسب المقامات فلا يقوم مرادفها فيما استعمل فيه مقام الآخر ، فعلى المفسر مراعاة [مجاري] (٣) الاستعمالات والقطع بعدم الترادف ما أمكن ؛ فإنّ للتركيب معنى غير معنى الإفراد ، ولهذا منع كثير من الأصوليّين وقوع أحد المترادفين موقع الآخر في التركيب ؛ وإن اتفقوا على جوازه في الإفراد.

فمن ذلك «الخوف» و «الخشية» ، لا يكاد اللّغوي يفرّق بينهما ، ولا شكّ أن الخشية أعلى من الخوف ، وهي أشدّ الخوف. فإنها مأخوذة من قولهم : شجرة خشيّة إذا كانت يابسة وذلك فوات بالكلية ؛ والخوف من قولهم : ناقة خوفاء ؛ [٢٦٣ / ب] إذا كان بها داء ، وذلك نقص وليس بفوات ؛ ومن ثمّة خصّت الخشية بالله تعالى في قوله سبحانه : (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) (الرعد : ٢١).

وفرق بينهما أيضا ، بأن الخشية تكون من عظم المخشيّ ، وإن كان الخاشي قويّا ، والخوف يكون من ضعف (٤) الخائف ، وإن كان المخوف أمرا يسيرا ، ويدلّ على ذلك أن الخاء والشين والياء في تقاليبها تدلّ على العظمة ؛ قالوا : شيخ للسيد الكبير ، والخيش لما غلظ (٥) من الكتّان ، والخاء والواو والفاء في تقاليبها تدلّ على الضعف ، وانظر إلى الخوف لما

__________________

(١) هو محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم أبو عمر المعروف بالزاهد ، وغلام ثعلب تقدم التعريف به وبكتابه في ١ / ٣٩٣.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) في المخطوطة (من صفة الخائف).

(٥) في المطبوعة (والخيش لما عظم).

٦٨

فيه من ضعف القوة ، وقال تعالى : (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) ، فإن الخوف من الله لعظمته ، يخشاه كلّ أحد كيف كانت حاله ، وسوء الحساب ربما لا يخافه من كان عالما بالحساب ، وحاسب نفسه قبل أن يحاسب.

وقال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (فاطر : ٢٨) ، وقال لموسى : ٤ / ٧٩ (لا تَخَفْ) (النمل : ١٠) ، أي لا يكون عندك من ضعف نفسك ما تخاف منه [بسبب] (١) فرعون.

فإن قيل : ورد : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ)؟

قيل : الخاشي من الله بالنسبة إلى عظمة الله ضعيف ، فيصحّ أن يقول : «يخشى ربه» لعظمته ، ويخاف ربه ، أي لضعفه بالنسبة إلى الله [تعالى].

وفيه لطيفة ، وهي أنّ الله تعالى لما ذكر الملائكة وهم أقوياء ذكر صفتهم بين يديه (٢) ، فقال : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (النحل : ٥٠) ، فبيّن أنهم عند الله ضعفاء ، ولما ذكر المؤمنين من الناس وهم ضعفاء لا حاجة إلى بيان ضعفهم ، ذكر ما يدلّ على عظمة الله [تعالى] ، فقال : (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) ، ولما ذكر ضعف الملائكة بالنسبة إلى قوة الله [تعالى] قال : (رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) ، والمراد فوقيّة بالعظمة.

ومن ذلك الشحّ والبخل ، والشحّ هو البخل الشديد ؛ وفرق العسكريّ (٣) «بين البخل والضّنّ ، بأن الضّنّ أصله أن يكون بالعواري والبخل بالهيئات ، ولهذا يقال : هو ضنين بعلمه ، ولا يقال : هو بخيل ، لأن العلم أشبه بالعاريّة منه بالهبة ؛ لأن الواهب إذا وهب شيئا خرج عن ملكه بخلاف العاريّة ، ولهذا قال تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (التكوير : ٢٤) ، ولم يقل ب (بخيل)».

٤ ـ / ٨٠ ومن ذلك الغبطة والمنافسة ، كلاهما محمود ، قال تعالى : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) في المخطوطة (بين يدي الله تعالى).

(٣) تصحفت في المخطوطة إلى (العكبري) والصواب ما في المطبوعة ، وهو الحسن بن عبد الله بن سهل تقدم التعريف به في ٣ / ٥٣ وانظر قوله في كتابه «الفروق اللغوية» ص ١٤٤ الباب الثاني عشر في الفرق بين القسم والحظ ... ، ومنه : ومما يخالف السخاء في هذا الباب ، البخل.

٦٩

الْمُتَنافِسُونَ) (المطففين : ٢٦) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حسد إلا في اثنتين» (١) ، وأراد الغبطة ، وهي تمنّي مثل ما له من غير أن يغتمّ لنيل غيره ؛ فإن انضمّ إلى ذلك الجدّ والتشمير إلى مثله أو خير منه ، فهو منافسة.

وقريب منها الحسد والحقد ، فالحسد تمنّي زوال النعمة عن مستحقها ، وربما كان مع سعي في إزالتها ، كذا ذكر الغزالي (٢) [وغيره] (٣) هذا القيد أعني الاستحقاق ، وهو يقتضي أن تمنّي زوالها عمن لا يستحقها لا يكون حسدا.

ومن ذلك «السبيل» و «الطريق» ، قد كثر استعمال السبيل في القرآن ؛ حتى إنه وقع في الربع الأول منه في بضع وخمسين موضعا ، أولها [قوله تعالى] (٤) : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) (البقرة : ٢٧٣) ، ولم يقع ذكر الطريق (٥) [فيه (٦) إلا في قوله (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ) (النساء : ١٦٨ ، ١٦٩) ثم إن اسم السبيل أغلب وقوعا في الخير ولا يكاد اسم الطريق] (٥) يراد به الخير [إلا] (٧) مقترنا بوصف أو بإضافة ، مما يخلّصه لذلك ، كقوله تعالى : ([يَهْدِي] (٥) إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ [مُسْتَقِيمٍ] (٧)) (الأحقاف : ٣٠).

__________________

(١) متفق عليه من رواية عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ١٦٥ كتاب العلم (٣) ، باب الاغتباط في العلم والحكمة (١٥) ، الحديث (٧٣) ، وأخرجه مسلم في الصحيح ١ / ٥٥٩ كتاب صلاة المسافرين (٦) ، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه (٤٧) ، الحديث (٢٦٨ / ٨١٦) ، ومن رواية عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنهما ، أخرجه البخاري في الصحيح ٩ / ٧٣ كتاب فضائل القرآن (٦٦) ، باب اغتباط صاحب القرآن (٢٠) ، الحديث (٥٠٢٥) ، ومسلم في المصدر السابق ١ / ٥٥٨ الحديث (٢٦٦ / ٨١٥).

(٢) انظر إحياء علوم الدين ٣ / ١٨٩ بيان حقيقة الحسد وحكمه وأقسامه ومراتبه ، وذكر فيها (فهو حرام بكل حال إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر ... ، فلا يضرك كراهتك لها ومحبتك لزوالها).

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) ليست في المخطوطة ، وقول المصنف «أولها ...» كذا ورد في المطبوعة والمخطوطة ، ولكن يظهر من التتبع أن قبلها (١٣) موضعا ذكر فيها «السبيل» أولها في البقرة الآية ١٠٨ ، ثم الآيات : ١٥٤ ، ١٧٧ ، ١٩٠ ، ١٩٥ ، ٢١٥ ، ٢١٧ ، ٢١٨ ، ٢٤٦ ، ٢٦١ ، ٢٦٢ ، ثم الآية ٢٧٣ وهي التي ذكرها المصنف.

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) ضمير «فيه» يعود على الربع الأول من القرآن ، السابق ذكره.

(٧) ليست في المخطوطة.

٧٠

ومن ذلك «جاء» و «أتى» يستويان في الماضي ، و «يأتي» أخف من «يجيء» وكذا في الأمر و «جيئوا بمثله» [أثقل من «فأتوا بمثله»] (١) ولم يذكر الله إلا «يأتي» و «يأتون» وفي الأمر «فأت» «فأتنا» «فأتوا» لأنّ إسكان الهمزة ثقيل لتحريك حروف المد واللين ، تقول «جيء» أثقل من «ائت».

وأما في الماضي ففيه لطيفة ، وهي أن (٢) «جاء» يقال في الجواهر [٢٦٤ / أ] والأعيان ، «وأتى» في المعاني والأزمان ، وفي مقابلتهما : ذهب ومضى ، يقال ذهب في الأعيان ، ومضى في الأزمان ، ولهذا يقال : حكم فلان ماض ، ولا يقال : ذاهب ؛ لأن الحكم ليس من الأعيان.

٤ ـ / ٨١ وقال [تعالى] : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) (البقرة : ١٧) ، ولم يقل «مضى» لأنّه يضرب له المثل بالمعاني المفتقرة إلى الحال ، ويضرب له المثل بالأعيان القائمة بأنفسها ؛ فذكر الله [تعالى] «جاء» في موضع الأعيان في الماضي ، «وأتى» في موضع المعاني والأزمان.

وانظر قوله تعالى : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) (يوسف : ٧٢) ؛ لأن الصّواع عين.

(و [لَمَّا]) (٣) جاءَهُمْ كِتابٌ (البقرة : ٨٩) لأنه عين ، وقال : (وَجِيءَ [يَوْمَئِذٍ] بِجَهَنَّمَ) (الفجر : ٢٣) لأنها عين.

و [أما] قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) (النحل : ٦١) ، فلأنّ الأجل كالمشاهد ، ولهذا يقال : حضرته الوفاة وحضره الموت. وقال تعالى : (بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) (الحجر : ٦٣) ، أي العذاب لأنه مرئيّ يشاهدونه ، وقال : (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (الحجر : ٦٤) ، حيث لم يكن الحق مرئيّا.

(فإن قيل) : فقد قال تعالى : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) (يونس : ٢٤) ، وقال : [تعالى] : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) (هود : ٥٨) ، فجعل الأمر آتيا وجائيا. (قلنا) : هذا يؤيد ما ذكرناه ؛ فإنه لما قال : (جاءَ) وهم ممن يرى الأشياء ، قال : (جاءَ) أي عيانا ، ولما كان الروع (٤) لا يبصر [ولا يسمع] (٥) ولا يرى ، قال : (أَتاها) ، ويؤيد هذا : أن «جاء»

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) أن تفسيرية بمعنى (أي).

(٣) ليست في المخطوطة ، والصّواع : إناء يشرب فيه.

(٤) تصحفت في المطبوعة إلى (الزرع).

(٥) ليست في المطبوعة.

٧١

يعدّى بالهمزة ، ويقال : أجاءه ، قال [تعالى] : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) (مريم : ٢٣) ، ولم يرد «أتاه» بمعنى «ائت» من الإتيان ، لأن المعنى لا استقلال له ، حتى يأتي بنفسه.

ومن ذلك «الخطف» و «التخطف» لا يفرّق الأديب بينهما ، [والله تعالى فرق بينهما] (١) ، فتقول : (خطف) بالكسر لما تكرر ، ويكون من شأن الخاطف [الخطف] (١) ، و «خطف» بالفتح حيث يقع الخطف من غير [من] (١) يكون من شأنه الخطف بكلفة ، وهو أبعد من «خطف» بالفتح ، فإنه يكون لمن اتفق له على تكلّف ، ولم يكن متوقعا منه. ويدل عليه أن «فعل» بالكسر لا يتكرّر ، كعلم وسمع و «فعل» لا يشترط فيه ذلك ، كقتل وضرب ، قال تعالى : (إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) (الصافات : ١٠) ، فإن شغل الشيطان ذلك ، وقال : (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) (الحج : ٣١) لأنّ من شأنه ذلك.

[وقال : (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) (الأنفال : ٢٦) ، فإن الناس لا تخطف الناس إلا على تكلّف.

وقال : (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)] (١) (العنكبوت : ٦٧).

وقال : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) (البقرة : ٢٠) ، لأن البرق يخاف منه خطف البصر إذا قوي.

ومن ذلك «مدّ» و «أمد» قال الراغب : «أكثر (٢) ما جاء الإمداد في المحبوب : (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ) (الطور : ٢٢) ، (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (الواقعة : ٣٠) ، والمدّ [في المكروه] (١) : (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) (مريم : ٧٩).

ومن ذلك «سقى» و «أسقى» وقد سبق.

ومن ذلك «عمل» و «فعل» ، والفرق بينهما أن العمل أخصّ من الفعل ، كلّ عمل فعل ولا ينعكس ؛ ولهذا جعل النحاة الفعل في مقابلة الاسم ؛ لأنه أعمّ ، والعمل من الفعل ما كان مع امتداد ؛ لأنه «فعل» وباب «فعل» لما تكرر.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) انظر «مفردات القرآن» ص ٤٦٥ مادة «مد».

٧٢

وقد اعتبره الله تعالى ، فقال : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ) (سبأ : ١٣) ، حيث كان فعلهم بزمان.

وقال : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (النحل : ٥٠) ، حيث يأتون بما يؤمرون في طرفة عين ، فينقلون (١) المدن بأسرع من أن يقوم القائم من مكانه. وقال تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) (يس : ٧١) ، (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) (يس : ٣٥) ، فإنّ خلق الأنعام والثمار والزروع بامتداد ، وقال : (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) (الفيل : ١) ، ([أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ]) (٢) بِعادٍ (الفجر : ٦) ، ([وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ]) (٢) فَعَلْنا بِهِمْ (إبراهيم : ٤٥) ، فإنها إهلاكات وقعت من غير بطء.

وقال : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (البقرة : ٢٥) ، حيث كان المقصود المثابرة عليها ، لا الاتيان بها مرة. وقال : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) (الحج : ٧٧) ، بمعنى سارعوا. كما قال : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (البقرة : ١٤٨). وقال : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) (المؤمنون : ٤) ؛ أي يأتون بها على سرعة من غير توان في دفع حاجة الفقير ، فهذا هو الفصاحة في اختيار الأحسن في كل موضع.

٤ ـ / ٨٤ ومن ذلك «القعود» و «الجلوس» [٢٦٤ / ب]. إن القعود لا يكون معه لبثة (٣) ، والجلوس لا يعتبر فيه ذلك ؛ ولهذا تقول : «قواعد البيت» ، ولا تقول : «جوالسه» ؛ لأنّ مقصودك ما فيه ثبات ؛ والقاف والعين والدال كيف تقلّبت دلّت على اللّبث ؛ والقعدة بقاء على حالة ، والدّقعاء للتراب الكثير الذي يبقى في مسيل الماء وله لبث طويل ؛ وأما الجيم واللام والسين فهي للحركة ، منه السجلّ للكتاب يطوى له ولا يثبت عنده ، ولهذا قالوا في قعد : يقعد بضم الوسط ، وقالوا : جلس يجلس بكسره ؛ فاختاروا الثقيل لما هو أثبت.

إذا ثبت هذا فنقول : قال الله تعالى (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) (آل عمران : ١٢١) ، فإنّ الثبات هو المقصود. وقال : (اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (التوبة : ٤٦) ، أي لا زوال لكم ،

__________________

(١) في المخطوطة (فيفعلون).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (لبث).

٧٣

ولا حركة عليكم بعد هذا. وقال : ([فِي] (١) مَقْعَدِ صِدْقٍ) (القمر : ٥٥) ولم يقل «مجلس» إذ لا زوال عنه.

وقال : ([إِذا قِيلَ لَكُمْ] (١) تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) (المجادلة : ١١) ، إشارة إلى أنّه يجلس فيه زمانا يسيرا ليس بمقعد ؛ فإذا طلب منكم التفسح فافسحوا ، لأنه لا كلفة فيه لقصره ، ولهذا لا يقال : قعيد الملوك ، وإنما يقال : جليسهم ، لأن مجالسة الملوك يستحبّ فيها التخفيف ؛ والقعيدة [تقال] (٢) للمرأة ؛ لأنها تلبث في مكانها.

ومن ذلك «التمام» و «الكمال» ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً]) (٢) (المائدة : ٣) ، والعطف يقتضي المغايرة. فقيل : الإتمام لإزالة نقصان الأصل ، والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل ؛ ولهذا كان قوله [تعالى : (تِلْكَ] (١) عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (البقرة : ١٩٦) ؛ أحسن من «تامّة» ، فإنّ التمام من العدد قد علم ؛ وإنما بقي احتمال نقص في صفاتها.

٤ ـ / ٨٥ وقيل «تمّ» يشعر بحصول نقص قبله ، و «كمل» لا يشعر بذلك ؛ ومن هذا قولهم :

رجل كامل ، إذا جمع خصال الخير ، ورجل تامّ إذا كان غير ناقص الطول.

وقال العسكريّ (٣) : «الكمال اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به ، والتمام اسم للجزء الذي يتمّ به الموصوف ؛ ولهذا يقولون : القافية تمام البيت ، ولا يقولون كماله ، ويقولون : البيت بكماله».

ومن ذلك الضياء والنور.

(فائدة) قال الجوينيّ (٤) : لا يكاد اللغويون يفرقون بين الإعطاء والإيتاء (٥) ، وظهر لي [بينهما فرق] (١) انبنى عليه بلاغة في كتاب الله ، وهو أنّ الإيتاء (٥) أقوى من الإعطاء [في

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) تصحف في المخطوطة إلى (العكبري) ، وانظر قوله في كتابه «الفروق اللغوية» ص ٢١٨ الباب الثالث والعشرون في الفرق بين الحسن والوضاءة ...

(٤) هو عبد الملك بن عبد الله تقدم التعريف به في ١ / ١١٨.

(٥) تصحفت في المطبوعة إلى (الإتيان) والصواب ما أثبتناه من المخطوطة.

٧٤

إثبات مفعوله ، لأنّ الإعطاء] (١) له مطاوع ، يقال : أعطاني فعطوت ، ولا يقال في الإيتاء (٢) : آتاني فأتيت ، وإنما يقال : آتاني فأخذت ، والفعل الذي له مطاوع أضعف في إثبات مفعوله من الذي لا مطاوع له ؛ لأنك تقول : قطعته فانقطع ، فيدلّ على أن فعل الفاعل كان موقوفا على قبول المحلّ ، لولاه لما ثبت المفعول ؛ ولهذا يصح : قطعته فما انقطع ، ولا يصحّ في ما لا مطاوع له ذلك ، فلا يجوز أن يقال : ضربته فانضرب [أو ما انضرب] (١) ولا قتلته فانقتل أو ما انقتل ؛ لأن هذه أفعال إذا صدرت من الفاعل ثبت لها المفعول في المحلّ ، والفاعل مستقلّ بالأفعال التي لا مطاوع لها ؛ فالإيتاء إذن أقوى من الإعطاء.

٤ ـ / ٨٦ قال : وقد تفكّرت في مواضع من القرآن ، فوجدت ذلك مراعى ، قال الله تعالى في الملك : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) (آل عمران : ٢٦) لأن الملك شيء عظيم لا يعطيه إلاّ من له قوة ؛ ولأنّ الملك في الملك أثبت من [الملك في] (١) المالك ؛ فإن الملك لا يخرج الملك من يده ، [٢٦٥ / أ] وأما المالك فيخرجه بالبيع والهبة.

وقال [تعالى] : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ [مَنْ يَشاءُ]) (٣) (البقرة : ٢٦٩) ، لأنّ الحكمة إذا ثبتت في المحل دامت. وقال : (آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) (الحجر : ٨٧) ، لعظم القرآن وشأنه. وقال : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) (الكوثر : ١) لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته يردون على الحوض ورود النازل على الماء ، ويرتحلون إلى منازل العزّ والأنهار الجارية في الجنان ، والحوض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته عند عطش الأكباد قبل الوصول إلى المقام الكريم ، فقال فيه : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ) ، لأنه يترك ذلك عن قرب ، وينتقل إلى ما هو أعظم منه.

وقال : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) (طه : ٥٠) ، لأنّ من الأشياء ما له وجود في زمان واحد بلفظ الإعطاء ، وقال : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (الضحى : ٥) ، لأنه تعالى بعد ما يرضي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزيده وينتقل به من كلّ الرضا إلى أعظم ما كان يرجو منه ، [لا] (٤) بل حال أمته كذلك ، فقوله : (يُعْطِيكَ رَبُّكَ) فيه بشارة.

وقال : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [عَنْ يَدٍ]) (٦) (التوبة : ٢٩) لأنها موقوفة على قبول

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) تصحفت في المطبوعة إلى (الإتيان). والصواب ما أثبتناه من المخطوطة.

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) ليست في المخطوطة.

٧٥

٤ / ٨٧ منّا ، وهم لا يؤتون إيتاء عن [طيب] (١) قلب ، وإنما هو عن كره ، إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يكون إعطاؤه للزكاة بقوة ، لا يكون كإعطاء الجزية. فانظر إلى هذه اللطيفة الموقفة على سرّ (٢) من أسرار الكتاب!

قاعدة في التعريف والتنكير

اعلم أن لكل واحد منهما [مقاما] (١) لا يليق بالآخر.

فأمّا التعريف (٣) فله أسباب :

ـ (الأول) : الإشارة إلى معهود خارجيّ ، كقوله تعالى : بكلّ ساحر عليم* فجمع السّحرة (الشعراء : ٣٧ ـ ٣٨) ، على قراءة الأعمش (٤) فإنه أشير بالسّحرة إلى «ساحر» مذكور. وقوله : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً* فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) (المزمل : ١٥ ـ ١٦). وأغرب ابن الخشّاب (٥) فجعلها للجنس ، فقال : لأنّ من عصى رسولا فقد عصى سائر الرسل.

٤ / ٨٨ ومنهم من لا يشترط تقدّم ذكره ، وجعل منه قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) (البقرة : ١٣) ، لأنهم كانوا يعتقدون أنّ الناس الّذين آمنوا سفهاء. وقوله : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) (آل عمران : ٣٦) أي الذّكر الذي طلبته كالأنثى التي وهبت لها ، وإنما جعل هذا للخارجي (٦) لمعنى الذّكر في قولها : (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) (آل عمران : ٣٥) ، [و] (٧) معنى الأنثى في قولها : (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) (آل عمران : ٣٦).

ـ (الثاني) : لمعهود ذهنيّ ، أي [في] (٧) ذهن مخاطبك ، كقوله تعالى : (إِذْ هُما فِي الْغارِ) (التوبة : ٤٠) ، (إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (الفتح : ١٨) ، وإمّا

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) تصحفت في المخطوطة إلى (شرط).

(٣) ويأتي التنكير ص ٨٠.

(٤) ذكرها البنا الدمياطي في «إتحاف فضلاء البشر» ص ٣٣١ سورة الشعراء فقال (وعن الأعمش «بكل ساحر» بوزن فاعل ، والجمهور بوزن فعّال).

(٥) هو عبد الله بن أحمد تقدم التعريف به في ١ / ١٦٣.

(٦) في المخطوطة تصحفت (للجاري).

(٧) ليست في المخطوطة.

٧٦

حضوريّ ؛ نحو : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (المائدة : ٣) ، فإنها نزلت يوم عرفة (١).

ـ (الثالث) : الجنس ، وهي فيه على أقسام :

* أحدها أن يقصد المبالغة في الخبر ، فيقصر جنس المعنى على المخبر عنه ؛ نحو زيد (٢) الرجل ، أي الكامل في الرجولية. وجعل سيبويه صفات الله تعالى كلّها من ذلك.

* وثانيها : أن يقصره على وجه الحقيقة لا المبالغة ، ويسمى تعريف الماهية ، نحو : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) (الأنعام : ٨٩). وقوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (الأنبياء : ٣٠) ، [أي جعلنا مبتدأ كل حيّ] (٣) هذا الجنس ، الذي هو الماء.

وقال بعضهم : المراد بالحقيقة ثبوت الحقيقة الكلّية الموجودة في الخارج ، [لا] (٣) الشاملة لأفراد الجنس ، نحو : الرجل خير من المرأة ، لا يريدون امرأة بعينها (٤) ، وإنّما المراد : هذا الجنس خير من ذلك الجنس ؛ من حيث هو ، وإن كان يتفق في بعض أفراد النساء من هو خير من بعض أفراد الرجال ، بسبب عوارض.

٤ ـ / ٨٩ وهذا معنى قول ابن بابشاذ (٥) : إنّ تعريف العهد لما ثبت في الأعيان ، وتعريف الجنس لما ثبت في الأذهان ؛ لأن التفضيل في الجنس [٢٦٥ / ب] راجع إلى الصورتين الكلّيتين في الذهن إذ لا معنى للتفضيل في الصور الذهنية ، وإنما أضاف إلى الذهن لأنّ [حصص] (٦) تلك الحقيقة التي ذكرناها ؛ وإن كانت موجودة في الخارج ؛ لاشتمال الأفراد الخارجية عليها ، ولكنّها كلها مطابقة للصور الذهنية التي لتلك الحقيقة ، ولهذا تسمى الكلية الطبيعية.

ـ (الرابع) : أن يقصد بها الحقيقة ، باعتبار كلّية ذلك المعنى ، وتعرف بأنها [التي] (٧) إذا نزعت حسن أن يخلفها «كلّ» وتفيد معناها الذي وضعت له حقيقة ؛ ويلزم من

__________________

(١) انظر «أسباب النزول» للواحدي ص ١٢٦ فقال : (نزلت هذه الآية يوم الجمعة وكان يوم عرفة ، بعد العصر في حجة الوداع).

(٢) في المخطوطة (كزيد الرجل).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) عبارة المخطوطة (لا يريدون رجلا وامرأة معينة).

(٥) في المخطوطة (وهو معنى) ، وابن بابشاذ هو طاهر بن أحمد أبو الحسن تقدم التعريف به في ٣ / ٢٨.

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) ليست في المخطوطة.

٧٧

ذلك الدلالة على شمول الأفراد ، وهي الاستغراقية ، ويظهر أثره في صحة الاستثناء منه ، مع كونه بلفظ الفرد ، نحو : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) (العصر : ٢ ـ ٣) ، وفي صحة وصفه بالجمع نحو : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) (النور : ٣١).

قال صاحب «ضوء المصباح» (١) : [و] (٢) سواء أكان الشمول باعتبار الجنس ، كالرجل والمرأة ، أو باعتبار النوع كالسارق والسارقة ، ويفرق بينهما ، بأن ما دخلت عليه من أجل فعله فيزول عنه الاسم بزوال الفعل ، فهي للنوع. وما دخلت عليه من [أجل] (٢) وصفه فلا يزول عنه الاسم أبدا. هذا كله إذا دخلت على مفرد ، نحو : ([إِلى] (٤) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) (التوبة : ٩٤) (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ [ضَعِيفاً]) (٣) (النساء : ٢٨) (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر : ٢) خلافا للإمام فخر الدين ومن تبعه في قولهم : إن المفرد المحلّى بالألف واللام لا يعمّ ، ولنا الاستثناء في قوله تعالى : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) وليس في قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (المائدة : ٣٨) دلالة على العموم ، كما زعم صاحب «الكشاف».

(فإن قلت) : فإذا لم يكن السارق عامّا فبما ذا تقطع يد كل سارق من لدن سرق رداء ٤ / ٩٠ صفوان (٤) إلى انقضاء العالم؟ (قيل) : لأن المراد منه الجنس ؛ أي نفس الحقيقة ؛ والمعنى

__________________

(١) هو محمد بن يعقوب بن إلياس المعروف بابن النحوية تقدم التعريف به في ٣ / ٢٠٩ وبكتابه ٣ / ٣٩٠.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) هو صفوان بن أمية روي : «أنّ صفوان بن أميّة قدم المدينة فنام في المسجد وتوسّد رداءه ، فجاء سارق وأخذ رداءه ، فأخذه صفوان بن أميّة فجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر أن تقطع يده ، فقال صفوان : إني لم أرد هذا ، وهو عليه صدقة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فهلاّ قبل أن تأتيني به»

هذا الحديث مخرّج من سبع طرق :

الطريق الأولى : من رواية صفوان بن عبد الله بن صفوان ، أنّ صفوان بن أمية ... ، أخرجها مالك في الموطأ ٢ / ٨٣٤ ـ ٨٣٥ ، كتاب الحدود (٤١) ، باب ترك الشفاعة للسارق ... (٩) ، الحديث (٢٨) واللفظ له ، وأخرجه الشافعي من طريق مالك في المسند ٢ / ٨٤ كتاب الحدود ، الباب الثاني في حد السرقة ، الحديث (٢٧٨).

الطريق الثانية : من رواية عبد الله بن صفوان أنّ صفوان بن أمية ... ، أخرجها أحمد في المسند ٣ / ٤٠١ ، وأخرجه ابن ماجة في السنن ٢ / ٨٦٥ ، كتاب الحدود (٢٠) ، باب من سرق من الحرز (٢٨) ، الحديث (٢٥٩٥) ، عن عبد الله بن صفوان ، عن أبيه ...

٧٨

[أنّ] (١) المتصف بصفة السّرقة تقطع يده ، وهو صادق على كل سارق ؛ لأن الحقيقة كما توجد مع الواحد توجد مع المتعدّد أيضا ؛ فإن دخلت على جمع ؛ فاختلف العلماء ، هل سلبته معنى الجمع ، ويصير للجنس ويحمل على أقلّه ، وهو الواحد لئلا يجتمع على الكلمة عمومان؟ أو معنى الجمع باق معها؟

[عموم] (٢) مذهب الحنفية الأوّل ، (٣) [وقضية مذهبنا الثاني. ولهذا اشترطوا ثلاثة من كل صنف في الزكاة إلا العاملين. ويلزم الحنفيّة] (٣) ألاّ يصح منه الاستثناء ولا يخصصه ، وقد قال تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلاَّ إِبْلِيسَ) (الحجر : ٣٠ ـ ٣١) ، وقال : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (التوبة : ٥) ، إلى قوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) (التوبة : ٢٩) وقد حققته في باب العموم من «بحر الأصول» (٤).

__________________

الطريق الثالثة : من رواية ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : كان صفوان بن أمية ... ، أخرجها الدارمي في السنن ٢ / ١٧٢ ، كتاب الحدود ، باب السارق يوهب منه السرقة ... ، وأخرجه النسائي في المجتبى من السنن ٨ / ٦٩ ، كتاب قطع السارق (٤٦) ، باب ما يكون حرزا ... (٥) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٣٨٠ ، كتاب الحدود ، باب النهي عن الشفاعة في الحد ، وقال : (صحيح الإسناد) ، ووافقه الذهبي.

الطريق الرابعة : من رواية حميد ابن أخت صفوان بن أمية ، عن صفوان بن أمية ... ، أخرجها أحمد في المسند ٣ / ٤٠١ ، وأخرجه أبو داود في السنن ٤ / ٥٥٣ ، كتاب الحدود (٣٢) ، باب من سرق من حرز (١٤) ، الحديث (٤٣٩٤) ، وأخرجه النسائي في المصدر السابق ٨ / ٦٩ ـ ٧٠ ، وأخرجه ابن الجارود في المنتقى ، ص ٢٨١ ، باب القطع في السرقة ، الحديث (٨٢٨) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك ٤ / ٣٨٠ ، كتاب الحدود ، باب النهي عن الشفاعة في الحدّ.

الطريق الخامسة : من رواية طارق بن مرقع ، عن صفوان بن أمية ... ، أخرجها أحمد في المسند ٣ / ٤٠١ ، وأخرجها النسائي في المصدر السابق ٨ / ٦٨.

الطريق السادسة : من رواية طاوس ، عن صفوان بن أمية ... ، أخرجها أحمد في المصدر السابق ، وأخرجها النسائي في المصدر السابق ٨ / ٧٠.

الطريق السابعة : من رواية عطاء ، عن صفوان بن أمية ... ، أخرجها النسائي في المصدر نفسه ٨ / ٦٨.

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) هو كتاب «البحر المحيط» في أصول الفقه للمؤلف سبق التعريف به في مقدمة التحقيق ضمن ترجمة الزركشي ص ١٨ ، مؤلفاته.

٧٩

ثم الأكثر في نعتها وغيرها موافقة اللفظ ، كقوله تعالى : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ) (النساء : ٣٦) ، وقوله : (لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى* وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) (الليل : ١٥ إلى ١٨).

وتجيء موافقة معنى لا لفظا على قلة (١) ، كقوله : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) (النور : ٣١).

وأما التنكير ، فله أسباب :

٤ ـ / ٩١ ـ (الأول) : إرادة الوحدة ، نحو : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) (القصص : ٢٠).

ـ (الثاني) : إرادة النوع ، كقوله : (هذا ذِكْرٌ [وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ]) (٢) (ص : ٤٩) أي نوع من الذّكر. (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (البقرة : ٧) ؛ [أي نوع غشاوة] (٣) وهي التعامي عن آيات الله الظاهرة لكلّ مبصر ؛ ويجوز أن يكون للتعظيم ، وأجريا في قوله [تعالى] : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) (النور : ٤٥) ، [وقوله] (٣) (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) (البقرة : ٩٦) ؛ لأنهم لم يحرصوا على أصل الحياة حتى تعرف ، بل [على] (٤) الازدياد من نوع ؛ وإن كان الزائد أقلّ شيء ينطلق [٢٦٦ / أ] عليه اسم الحياة.

ـ (الثالث) : التعظيم كقوله تعالى : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) (البقرة : ٢٧٩) ؛ أي بحرب وأيّ حرب. وكقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة : ١٠) ، أي لا يوقف على حقيقته.

وجعل منه السّكاكي (٥) قوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ)

__________________

(١) تصحفت عبارة المخطوطة إلى (موافقة معنى الألفاظ على مثله).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) هو يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي أبو يعقوب تقدم التعريف به في ١ / ١٦٣ ، وانظر قوله في كتابه «مفتاح العلوم» ص ١٩٤ الفن الثاني في تفصيل اعتبارات المسند إليه ، ومنه تنكير المسند إليه.

٨٠