البرهان في علوم القرآن - ج ٤

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٤

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٣

الثالثة ، بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء : ٢٨) فكأنّه شك في حصول عقلهم.

فإن قيل : قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) (البقرة : ٢١٧) [ولم يقل : «عن قتال في الشهر الحرام»] (١) ، لأنهم لم يسألوا إلاّ من أجل القتال فيه ، فكان ذكره أولى! قيل : لم يقع السؤال إلا بعد القتال [فيه] (٢) ؛ فكان الاهتمام بالسّؤال عن هذا الشهر : هل أبيح فيه القتال؟ وأعاده بلفظ الظاهر ، ولم يقل : «هو كبير» ليعمّ (٣) الحكم [كل] (٢) قتال وقع في الشهر الحرام.

وقد يعدل عن الجواب إذا كان السائل قصده التعنّت ، كقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (الاسراء : ٨٥) فذكر صاحب «الإيضاح» (٤) في خلق الإنسان : إنّ اليهود إنما سألوا تعجيزا وتغليظا ، إذا كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان وجبريل وملك آخر ، يقال له الروح ، وصنف من الملائكة والقرآن وعيسى ، فقصد اليهود أن يسألوه ، فبأيّ يسمّى أجابهم قالوا ليس هو (٥) ، فجاءهم الجواب مجملا فكان هذا الإجمال كيدا يرسل به كيدهم.

٤ ـ / ٤٥ وقيل : إنما سألوا عن الروح : هل هي محدثة مخلوقة أم ليست كذلك؟ فأجابهم ، بأنها [٢٥٧ / أ] من أمر الله ؛ وهو جواب صحيح ، لأنّه لا فرق بين أن يقول في الجواب ذلك ، أو يقول : «من أمر ربي» ، لأنّه إنما أراد أنها من فعله وخلقه.

وقيل : إنهم سألوه عن الروح الذي هو في القرآن ، فقد سمى الله القرآن روحا في مواضع من الكتاب ، وحينئذ فوقع الجواب موقعه ؛ لأنه قال لهم الروح : الذي هو القرآن من أمر ربي ، ومما أنزله الله على نبيه ، يجعله (٦) دلالة وعلما على صدقه ، وليس فعل المخلوقين ، ولا مما يدخل في إمكانهم.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) في المطبوعة (ليعلم حكم قتال وقع).

(٤) في المخطوطة (الافصاح).

(٥) في المخطوطة (ليس له).

(٦) في المخطوطة (فجعله).

٤١

وحكاه الشريف المرتضى (١) في «الغرر» عن الحسن البصري ، قال : ويقويه قوله بعد هذه الآية : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) (الإسراء : ٨٦) ، فكأنه قال : إن القرآن من أمر ربي ولو شاء لرفعه.

ومثال الزيادة في الجواب ، قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى * قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) (طه : ١٧ ـ ١٨) فإنه عليه‌السلام ، فهم أن السؤال يعقبه أمر عظيم يحدثه الله [تعالى] في العصا ، فنبغي أن ينبّه لصفاتها (٢) ، حتى يظهر له التفاوت بين الحالين.

وكذا قوله : (ما تَعْبُدُونَ* قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) (الشعراء : ٧٠ ـ ٧١) وحسّنه إظهار الابتهاج بعبادتها والاستمرار على مواظبتها ، ليزداد غيظ السائل.

وقوله تعالى : (اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) (الأنعام : ٦٤) بعد قوله : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً [وَخُفْيَةً]) (٣) ... (الأنعام : ٦٣) الآية ، ولو لا قصد بسط الكلام ليشاكل ما تقدم ، لقال «ينجيكم الله».

٤ ـ / ٤٦ ومثال النقصان منه قوله تعالى ذاكرا عن مشركي مكة : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) (يونس : ١٥) ، أي ائت بقرآن ليس [فيه] (٤) سبّ آلهتنا ، أو بدّله بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة ، وليس فيه ذكر آلهتنا ، فأمره الله أن يجيبهم على التبديل ، وطوى الجواب عن الاختراع ، قال الزمخشريّ (٥) : لأن التبديل في إمكان البشر ، بخلاف الاختراع ، فإنه ليس في المقدور ، فطوى ذكره للتنبيه على أنه سؤال محال.

وذكر غيره أنّ التبديل قريب من الاختراع ، فلهذا اقتصر على جواب واحد لهما.

__________________

(١) هو علي بن الحسين بن موسى تقدم التعريف به في ٣ / ٤٢٤ ، وانظر قوله في «أمالي المرتضى» ١ / ١٢.

(٢) في المخطوطة (مضافاتها).

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) انظر «الكشاف» ٢ / ١٨٤ عند تفسير الآية من سورة يونس ، وقد ساق الزركشي العبارة بالمعنى.

٤٢

وخطر لي أنّه لما كان التبديل أسهل من الاختراع ، وقد نفى إمكان التبديل ، كان الاختراع غير مقدور عليه من طريق أولى.

(فائدة) قيل : أصل الجواب أن يعاد فيه نفس سؤال السائل ، ليكون وفق السائل ، قال الله تعالى : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ) (يوسف : ٩٠) ، و «أنا» في جوابه عليه‌السلام هو «أنت» في سؤالهم.

قال [تعالى] : (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا) (آل عمران : ٨١) ، فهذا أصله ، ثم إنهم أتوا عوض ذلك محذوف الجواب اختصارا ؛ وتركا للتكرار.

٤ ـ / ٤٧ وقد يحذف السؤال ثقة بفهم السامع بتقديره ، كقوله تعالى : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (يونس : ٣٤) ، فإنه لا يستقيم أن يكون السؤال والجواب من واحد ، فتعين أن يكون (قُلِ اللهُ) (يونس : ٣٤) جواب سؤال ، كأنهم سألوا لما سمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو (مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (يونس : ٣٤) ، فترك ذكر السؤال.

ونظيره قوله تعالى [٢٥٧ / ب] : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) (يونس : ٣٥).

(قاعدة)

الأصل : في الجواب أن يكون مشاكلا للسؤال ، فإن كان جملة اسمية فينبغي أن يكون الجواب [كذلك ، ويجيء ذلك في الجواب] (١) المقدّر أيضا ؛ إلا أن ابن مالك قال [في قولك] (١) : «من قرأ؟» فتقول : زيد ، فإنّه من باب حذف الفعل ، على جعل الجواب جملة فعلية. قال : وإنما قدرته كذلك ، لا مبتدأ ، مع احتماله ، جريا على عادتهم في الأجوبة إذا قصدوا تمامها ، قال تعالى : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها) (يس : ٧٨ ـ ٧٩).

ومثله : (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (الزخرف : ٩) ، (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

٤٣

الطَّيِّباتُ) (المائدة : ٤) ، فلما أتى بالجملة الفعلية ، مع فوات مشاكلة السؤال ، علم أنّ تقدير الفعل أوّلا أولى. انتهى.

٤ ـ / ٤٨ ومما رجّح به أيضا تقدير الفعل أنّه حيث صرّح بالجزء الأخير ، صرّح بالفعل ، والتشاكل ليس واجبا ؛ بل اللائق كون زيد فاعلا ، أي قرأ زيد أو خبرا ، أي القارئ زيد ، لا مبتدأ ، لأنه مجهول.

بقي أن يقال في الأولى : التصريح بالفعل (١) [أو حذفه؟ وهل يختلف المعنى في ذلك؟

والجواب : قال ابن يعيش (٢) : التصريح بالفعل] (١) أجود.

وليس كما زعم بل الأكثر الحذف ، وأما قوله تعالى : ([قُلْ] (٣) أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) (المائدة : ٤) (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (الزخرف : ٩) ، (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها [أَوَّلَ مَرَّةٍ]) (٣) (يس : ٧٩) ، فكان الشيخ شهاب الدين بن المرحل رحمه‌الله يجعله من باب (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ [وَالْحَجِ]) (٤) (البقرة : ١٨٩) ، من أنهم أجيبوا بغير ما سألوا [عنه] (٣) لنكتة.

وفيه نظر. وأما المعنى فلا شك أنه يختلف ، فإنه إذا قيل : من جاء؟ فقلت : جاء زيد ، احتمل أن يكون جوابا وأن يكون كلاما مبتدأ. ولو قلت : «زيد» ، كان نصا في أنه جواب ، وفي العموم الذي دلت عليه [«من»] (٤) ، وكأنك قلت : الذي جاء زيد ، فيفيد الحصر. وهاتان الفائدتان ، إنما حصلتا من الحذف.

ومنه قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (غافر : ١٦) ؛ إذ التقدير : الملك لله [الواحد] (٤) ، فحذف المبتدأ من الجواب ، إذ المعنى : لا ملك إلا لله.

ومن الحذف قوله تعالى : (لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) (المؤمنون : ٨٤) ، (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الأنعام : ١٢) ، (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (سبأ : ٢٤).

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) هو يعيش بن علي بن يعيش تقدم التعريف به في ٢ / ٤٩٧.

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) ليست في المخطوطة.

٤٤

ومن الإثبات قوله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (يس : ٧٩).

٤ ـ / ٤٩ ولعله للتنصيص على الإحياء الذي أنكروه : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ) (المؤمنون : ٨٦) ، وقوله : (خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (الزخرف : ٩) ، لأن ظاهر أمرهم أنهم كانوا معطّلة ودهريّة ، فأريد التنصيص على اعترافهم بأنها مخلوقة.

وقوله : (نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (التحريم : ٣) ، لأنها استغربت حصول النبأ الذي أسرّته.

وقال ابن الزّملكانيّ في «البرهان» (١) : أطلق النحويون القول بأن «زيدا» فاعل ، إذا قلت : «زيد» في جواب [من قال] (٢) «من قام؟» على تقدير قام زيد ، والذي يوجبه جماعة علم البيان ، أنه مبتدأ لوجهين :

أولهما (٣) أنه مطابق للجملة التي هي جواب الجملة المسئول بها في الاسمية ، كما وقع التطابق ، في قوله تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) (٤) (النحل : ٣٠) في الجملة الفعلية ، وإنما لم يقع التطابق في قوله تعالى : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (النحل : ٢٤) ، لأنهم لو طابقوا لكانوا مقرّين بالإنزال ، وهم من الإذعان به على تفاوت.

الثاني : أن اللّبس لم يقع عند السائل إلا فيمن فعل الفعل ، فوجب أن يقدّم الفاعل في المعنى ، لأنّه متعلق بغرض السائل ، وأما الفعل فمعلوم عنده ، ولا حاجة (٥) إلى السؤال عنه ، فحريّ أن يقع في الأخرى التي هي محل التكملات والفضلات.

وكذلك [إذا قلت] (٦) : أزيد قام أم عمرو؟ [فالوجه في جوابه أن تقول : زيد قام ، أو عمرو قام] (٧) ، وقد أشكل على هذه القاعدة قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام في

__________________

(١) هو عبد الواحد بن عبد الكريم تقدم التعريف به في ١ / ١٣٥ ، وتقدم التعريف بكتابه في ٢ / ٢٢٨.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) في المخطوطة (أحدهما).

(٤) تصحفت الآية في المخطوطة إلى (وإذا قيل لهم ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا) والصواب ما في المطبوعة.

(٥) في المخطوطة (ولا حاجة به إلى السؤال).

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) ليست في المخطوطة.

٤٥

جواب : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا) [٢٥٨ / أ] (يا إِبْراهِيمُ* قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) (الأنبياء : ٦٢ ـ ٦٣) ؛ فإنّ السؤال وقع عن الفاعل ؛ لا عن الفعل ، ومع ذلك صدر الجواب بالفعل ، مع أنهم لم يستفهموا عن كسر الأصنام ، بل كان عن الشخص الكاسر لها. ٤ / ٥٠

والجواب أنّ ما بعد «بل» ليس بجواب للهمزة ، فإن «بل» لا تصلح (١) أن يصدّر بها الكلام ، ولأنّ جواب الهمزة بنعم أو بلا (٢). فالوجه أن يجعل إخبارا مستأنفا ، والجواب المحقق مقدّر ، دل عليه سياق الكلام ، ولو صرح به لقال : «ما فعلته بل فعله كبيرهم» ، وإنما اخترنا تقدير الجملة الفعلية على الجملة المعطوفة عليها في ذلك.

فإن قلت : يلزم على ما ذكرت أن يكون الخلف واقعا في الجملتين : المعطوف عليها المقدرة ، والمعطوفة الملفوظ بها [بعد «بل»] (٣).

قلت : وإنه لازم ، على أن يكون التقدير : ما أنا فعلته بل فعله كبيرهم هذا ، مع زيادته بالخلف عما أفادته الجملة الأولى من التعريض ، إذ منطوقها نفي الفعل عن إبراهيم عليه‌السلام ، ومفهومها إثبات حصول التكسير من غيره.

فإن قلت : ولا بد من ذكر ما يكون مخلصا عن الخلف على كلّ حال. فالجواب من وجوه :

ـ (أحدها) : أن في التعريض مخلصا عن الكذب ، ولم يكن قصده عليه‌السلام أن ينسب الفعل الصادر منه إلى الصنم حقيقة ، بل قصده إثبات الفعل لنفسه على طريق التعريض ، ليحصل غرضه من التبكيت ، وهو في ذلك مثبت معترف لنفسه بالفعل ؛ وليس هذا من الكذب في شيء.

٤ ـ / ٥١ (والثاني) : إنه غضب من تلك الأصنام ، غيرة لله تعالى ؛ ولما كانوا لأكبرها أشدّ تعظيما ، كان منه أشدّ [غضبا] (٤) ، فحمله ذلك على تكسيرها ، و [كان] (٥) ذلك كلّه حاملا للقوم على الأنفة أن يعبدوه ، فضلا عن أن يخصّوه بزيادة التعظيم ، ومنبّها لهم على أن المتكسرة متمكن فيها الضّعف والعجز ، منادى عليها بالفناء ، منسلخة عن ربقة الدفع ، فضلا عن إيصال

__________________

(١) في المخطوطة (لا تصلح إلا أن يصدر).

(٢) تصحفت في المطبوعة إلى (بلى).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) ليست في المطبوعة.

٤٦

الضرر والنفع. وما هذا سبيله حقيق أن ينظر إليه بعين التحقير (١) لا التوقير ، والفعل ينسب إلى الحامل عليه ، كما ينسب إلى الفاعل والمفعول والمصدر والزمان والمكان والسبب ؛ إذ للفعل بهذه الأمور تعلّقات وملابسات ، يصحّ الإسناد إليها على وجه الاستعارة.

ـ (الثالث) : أنّه لما رأى عليه‌السلام منهم بادرة (٢) تعظيم الأكبر ، لكونه أكمل من باقي الأصنام ، وعلم أن ما هذا شأنه ، يصان أن يشترك معه من دونه في التبجيل والتكبير ، حمله ذلك على تكسيرها ، منبها لهم على أنّ الله [تعالى] أغير ، وعلى تمحيق الأكبر أقدر. وحريّ أن يخصّ بالعبادة ؛ فلمّا كان الكبير هو الحامل على تكسير الصغير ، صحّت النسبة إليه ، على ما سلف. ولمّا تبين لهم الحق رجعوا إلى أنفسهم ، فقالوا : إنكم أنتم الظالمون ، إذ وضعتم العبادة بغير موضعها.

وذكر الشيخ عبد القاهر (٣) أن السؤال إذا كان ملفوظا به ، فالأكثر ترك الفعل في الجواب والاقتصار على الاسم وحده. وإن كان مضمرا ، فوجب التصريح بالفعل لضعف الدلالة عليه ، فتعين أن بلفظ به.

وهو مشكل بقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ* رِجالٌ) (النور : ٣٦ ـ ٣٧) [فإنه محمول على تقدير سؤال] (٤) فيمن قرأها بفتح الباء (٥) ، كأنّه قيل : من يسبحه؟ فقيل : يسبّحه رجال ، ونظيره ضرب زيد وعمرو ، على بناء «ضرب» للمفعول ، نعم الأولى ذكر الفعل لما ذكر ، وعليه يخرّج كلّ ما ورد في القرآن من لفظ «قال» مفصولا ، غير منطوق به ، نحو : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ) [٢٥٨ / ب] (إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [قَوْمٌ مُنْكَرُونَ الآيات]) (٦) (الذاريات : ٢٤ ـ ٢٥) ، كأنه قيل : فما (٧) قال لهم؟ (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) (الذاريات : ٢٧) ولذلك قالوا : «لا تخف». ٤ / ٥٢

__________________

(١) تصحفت في المخطوطة إلى (تحقيق).

(٢) في المخطوطة (زيادة).

(٣) انظر قوله في كتابه «دلائل الإعجاز» ص ٨٨ ـ ٨٩ الاستفهام له التقدم والصدارة.

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) قال البنا الدمياطي في «إتحاف فضلاء البشر» ص ٣٢٣ عند ذكره سورة النور (واختلف في (يُسَبِّحُ) فابن عامر وأبو بكر بفتح الموحدة مبنيا للمفعول ، ونائب الفاعل له ، وهو أولى من الأخيرين ، و (رِجالٌ) حينئذ مرفوع بمضمر وكأنه جواب سؤال ، فكأنه قيل : من يسبحه؟ فقيل رجال ...).

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) في المخطوطة (فما ذا قيل لهم؟ وأجيب قيل لهم ألا تأكلون).

٤٧

وعلى هذه السياقة تخرج [قصة] (١) موسى عليه‌السلام في قوله : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ* قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الشعراء : ٢٣ ـ ٢٤) إلى قوله : (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (الشعراء : ٣١).

وعلى هذا كلّ كلام جاء فيه لفظة «قال» هذا المجيء ، غير أنه يكون في بعض المواضع أوضح ، كقوله تعالى : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ) (الذاريات : ٣٢) ، فإنه لا يخفى أنه جواب لقوله : (فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) (الذاريات : ٣١).

ومثله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) (يس : ١٣) إلى قوله : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) (يس : ٢١).

(فائدة) نقل عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه قال : ما كان قوم أقلّ سؤالا من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سألوه عن أربعة عشر حرفا ، فأجيبوا. قال الإمام : ثمانية منها في البقرة : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي [فَإِنِّي قَرِيبٌ]) (٢) (البقرة : ١٨٦). (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) (البقرة : ١٨٩) ، والباقي ستة (٣) فيها ، والتاسعة : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) (الآية : ٤) في المائدة. ٤ / ٥٣

والعاشرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) (الأنفال : ١). الحادي عشر في بني إسرائيل : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) (الإسراء : ٨٥). الثاني عشر في الكهف : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) (الآية : ٨٣). الثالث عشر في طه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) (الآية : ١٠٥). الرابع عشر في النّازعات : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) (الآية : ٤٢).

ولهذه المسألة ترتيب : اثنان منها في شرح المبدأ ، كقوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) (البقرة : ١٨٦) فإنه سؤال عن الذات ، وقوله : ([يَسْئَلُونَكَ] (٤) عَنِ الْأَهِلَّةِ) (البقرة : ١٨٩) ، سؤال عن الصفة.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) الثالثة (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) البقرة : ٢١٥ ، الرابعة (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) البقرة : ٢١٧ ، الخامسة (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) والسادسة (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) البقرة : ٢١٩ ، السابعة (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) البقرة : ٢٢٠ ، الثامنة (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) البقرة : ٢٢٢.

(٤) ليست في المطبوعة.

٤٨

واثنان في الآخر في شرح المعاد ، وقوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) (طه : ١٠٥) ، وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) (الأعراف : ١٨٧).

٤ ـ / ٥٤ ونظير هذا أنه ورد في القرآن سورتان ، أولهما : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) (الحج : ١) ، في النصف الأول ، وهو السورة الرابعة ، وهي سورة النساء. والثانية في النصف الثاني ، وهي سورة الحج ، ثم (يا أَيُّهَا النَّاسُ) الّذي في الأول ، [يشتمل على شرح المبدإ ، والذي في الثاني] (١) يشتمل على شرح المعاد (٢).

فإن قيل : كيف جاء (يسألونك) ثلاث مرات (٣) [بغير واو : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) (البقرة : ١٨٩) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) (البقرة : ٢١٧) ، (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) (البقرة : ٢١٩) ثم جاء ثلاث] (٣) مرات بالواو : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) (البقرة : ٢١٩) ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) (البقرة : ٢٢٠) ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ)؟ (البقرة : ٢٢٢).

قلنا : لأنّ سؤالهم عن الحوادث ؛ [الأول وقع متفرقا عن الحوادث ، و] (٣) الآخر وقع في وقت واحد ، فجيء بحرف الجمع دلالة على ذلك.

فإن قيل : كيف جاء : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) (البقرة : ١٨٦) ، وعادة السؤال يجيء جوابه في القرآن ب «قل» نحو : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) [والحجّ] (٣) (البقرة : ١٨٩) ونظائره؟

قيل : حذفت للإشارة إلى أن العبد في حالة الدعاء مستغن عن الواسطة ، وهو دليل على أنّه أشرف المقامات ، فإن الله سبحانه لم يجعل بينه وبين الداعي واسطة ، وفي غير حالة الدعاء تجيء الواسطة.

الخطاب بالشّيء عن اعتقاد المخاطب دون ما في نفس الأمر

٤ ـ / ٥٥ كقوله سبحانه وتعالى : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (الأنعام : ٢٢) ، وقعت إضافة الشريك إلى الله [سبحانه] على ما كانوا يقولون ؛ لأن القديم سبحانه أثبته.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) عبارة المطبوعة (على شرح حال).

(٣) ليست في المخطوطة.

٤٩

وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) (البقرة : ١٦٥). وقوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان : ٤٩). وقوله : ([إِنَّكَ] (١) لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (هود : ٨٧) ، أي بزعمك واعتقادك. وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (الحجر : ٦).

وقوله : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (الصافات : ١٤٧). وقوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (البقرة : ٧٤).

وقوله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ) [٢٥٩ / أ] (أَقْرَبُ) (النحل : ٧٧) ، أي أنّكم لو علمتم قساوة قلوبكم ، لقلتم إنها كالحجارة ، أو إنها فوقها في القسوة ، ولو علمتم سرعة الساعة لعلمتم أنه في سرعة الوقوع كلمح البصر أو هو أقرب عندكم. وأرسلناه إلى قوم هم من الكثرة بحيث لو رأيتموهم لشككتم ، وقلتم : مائة ألف أو يزيدون عليها.

٤ ـ / ٥٦ وجعل منه بعضهم قوله تعالى : (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) (الشعراء : ١١٧) ، ونحوه ، مما كان عند المتكلم ، لأنه لا يكون خلافه ، فإنّه كان على طمع ألاّ يكون منهم تكذيب. وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (الروم : ٢٧) ، [أي] (٢) بالنسبة إلى ما يعتاده المخلوقون في أن الإعادة عندهم أهون من البداءة ، لأنّه أهون بالنسبة إليه سبحانه ، فيكون البعث أهون عليه [عندكم] (٢) من الإنشاء.

وحكى الإمام الرازي في «مناقب الشافعي» (٣) قال : معنى الآية «في العبرة عندكم» ؛ لأنه لمّا قال للعدم : «كن» فخرج تاما كاملا بعينيه وأذنيه وسمعه وبصره ومفاصله ، فهذا في العبرة أشدّ من أن يقول لشيء قد كان : «عد إلى ما كنت عليه» ، فالمراد من الآية : وهو أهون عليه بحسب عبرتكم ؛ لا أنّ شيئا يكون على الله أهون من شيء آخر.

وقيل : الضمير في (عَلَيْهِ) يعود للخلق ، لأنه يصاح بهم صيحة فيقومون ، وهو أهون من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ، إلى أن يصيروا رجالا ونساء.

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) هو الفخر الرازي ، وكتابه «مناقب الإمام الشافعي» مطبوع في مصر طبع حجر سنة (١٢٧٩ ه‍) (معجم سركيس ٩١٧) ، وحققه أحمد حجازي السقا وطبع بالقاهرة بمكتبة الكليات الأزهرية سنة ١٤٠٦ ه‍ / ١٩٨٦. (أخبار التراث العربي ٣٣ / ٢٠). ولم يصلنا الكتاب ، وإنما وقفنا على قوله أيضا في كتابه «التفسير الكبير» ٢٥ / ١١٦ عند تفسير الآية من سورة الروم.

٥٠

وقوله : (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) (الزخرف : ٤٩) ، أي يأيها العالم الكامل ؛ وإنما قالوا هذه تعظيما وتوقيرا منهم له ؛ لأن السحر عندهم كان عظيما وصنعة ممدوحة.

وقيل : معناه يأيها الذي غلبنا بسحره ، كقول العرب : خاصمته فخصمته ، أي غلبته بالخصومة ، ويحتمل أنهم أرادوا تعييب موسى عليه‌السلام بالسحر ، ولم ينافسهم في مخاطبتهم به ، رجاء أن يؤمنوا.

٤ ـ / ٥٧ وقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (البقرة : ٢٤) ، جيء ب «إن» التي للشك وهو واجب ، دون «إذ» التي للوجوب ، سوقا للكلام على حسب حسبانهم أنّ معارضته فيها للتهكّم ، كما يقوله الواثق بغلبته على من يعاديه. «إن غلبتك» ، وهو يعلم أنه غالبه تهكّما به.

وقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) (النحل : ١٧) ، والمراد ب «من لا يخلق» الأصنام ، وكان أصله كما لا يخلق ، لأن «ما» لمن لا يعقل بخلاف «من» ، لكن خاطبهم على معتقدهم ؛ لأنهم سمّوها آلهة ، وعبدوها فأجروها مجرى أولي العلم ، كقوله للأصنام : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ ...) (الأعراف : ١٩٥) الآية ، أجرى عليهم ضمير أولي العقل. كذا قيل.

ويردّ عليه أنه إذا كان معتقدهم خطأ وضلالة ، فالحكم يقتضي أ[ن] (١) ينزعوا عنه ويقلعوا ، لا أن يبقوا عليه ؛ إلا أن يقال : الغرض من الخطاب الإيهام ، ولو خاطبهم على خلاف معتقدهم فقال : «كما لا يخلق» ، لاعتقدوا أن المراد به غير الأصنام من الجماد.

وكذا ما ورد من الخطاب بعسى ولعلّ ؛ فإنها على بابها في الترجّي والتوقع ، ولكنه راجع إلى المخاطبين ، قال الخليل وسيبويه (٢) قوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (طه : ٤٤) : اذهبا إلى رجائكما وطمعكما ، لعلّه يتذكر عندكما ، فأما الله تعالى

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة ، وتصحفت في المطبوعة إلى (ألا) والصواب ما أثبتناه وهو الموافق للسياق.

(٢) انظر «الكتاب» لسيبويه ١ / ٣٣١ باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والاسماء.

٥١

فهو عالم بعاقبة أمره ، وما يؤول إليه ؛ لأنّه يعلم الشيء قبل أن يكون. وهذا أحسن من قول الفرّاء : إنها تعليلية ، أيّ [كي] (١) يتذكر ، لما فيه من إخراج اللفظ عن موضوعه : ومنه التعجب الواقع في كلام الله ، نحو : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (البقرة : ١٧٥) ، أي هم أهل أن يتعجّب منهم ، ومن طول مكثهم (٢) في النار.

٤ ـ / ٥٨ ونحوه : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) (عبس : ١٧) و (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) (٣) (الكهف : ٢٦).

ومنه قوله تعالى في نعيم أهل الجنة وشقاء [٢٥٩ / ب] أهل النار : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (هود : ١٠٧) ، مع أنهما لا يزولان ، لكن التقييد بالسماء والأرض ، جرت عادة العرب إذا قصدوا الدوام أن يعلّقوا بهما فجاء (٤) الخطاب على ذلك.

(تنبيه) يقرب من هذا التهكّم ، وهو إخراج الكلام على ضدّ مقتضى الحال ، كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان : ٤٩).

وجعل بعضهم منه قوله تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (الرعد : ١١) ، مع العلم بأنه لا يحفظ من أمر (٥) الله شيء.

٤ ـ / ٥٩

التأدّب في الخطاب بإضافة الخير إلى الله (٦).

وإن [كان] (٧) الكلّ بيده ، كقوله تعالى : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة : ٧) ، ثم قال : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة : ٧) ، ولم يقل : غير الذين غضبت عليهم.

وقوله : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) (آل عمران : ٢٦) ، ولم يقل : «و [بيدك] (٧) الشر» ،

__________________

(١) ليست في المطبوعة ، وانظر قول الفراء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١١ / ٢٠٠ عند تفسير الآية من سورة طه.

(٢) في المطبوعة (تمكنهم).

(٣) الآية في المخطوطة (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) (مريم : ٣٨).

(٤) في المخطوطة (في الخطاب).

(٥) وفي نسخة (من أمره).

(٦) في المخطوطة زيادة هي (ويجيء فاعلا لسوء وان كان الكل بيده).

(٧) ليست في المطبوعة.

٥٢

وإن كانا جميعا بيده ؛ لكن الخير يضاف إلى الله تعالى إرادة محبة ورضا ، والشر لا يضاف إليه إلاّ إلى مفعولاته ؛ لأنه لا يضاف إلى صفاته ولا أفعاله ، بل كلّها كمال لا نقص فيه. وهذا معنى قوله : «والشرّ ليس إليك» (١) ؛ وهو أولى من تفسير من فسره : [بأنه] (٢) لا يتقرّب [به] (٣) إليك.

وتأمل قوله : (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) (يوسف : ٣٤) فأضافه إلى نفسه ، حيث صرفه ، ولما ذكر السجن أضافه إليهم فقال : (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (يوسف : ٣٥) وإن كان سبحانه هو الذي سبّب السجن له ، وأضاف ما منه الرحمة إليه ، وما منه الشدة إليهم.

ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء : ٨٠) ولم يقل : «أمرضني».

وتأمل جواب الخضر عليه‌السلام عمّا فعله ، حيث قال في إعابة السفينة : (فَأَرَدْتُ) (الكهف : ٧٩) وقال في الغلام : (فَأَرَدْنا) (الكهف : ٨١) وفي إقامة الجدار : (فَأَرادَ رَبُّكَ) (الكهف : ٨٢).

٤ ـ / ٦٠ قال الشيخ صفيّ الدين بن أبي المنصور في كتاب «فك الأزرار عن عنق الأسرار» (٤) : لما أراد ذكر العيب للسفينة نسبه لنفسه أدبا مع الربوبية ، فقال : «فأردت» ، : ولما [كان] (٥) قتل الغلام مشترك الحكم بين المحمود والمذموم ، استتبع نفسه مع الحق ، فقال في الإخبار بنون الاستتباع ، ليكون المحمود من الفعل ـ وهو راحة أبويه المؤمنين من كفره ـ عائدا على

__________________

(١) قطعة من حديث طويل من رواية علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، أخرجه مسلم في الصحيح ١ / ٥٣٤ ـ ٥٣٥ كتاب صلاة المسافرين وقصرها (٦) ، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (٢٦) ، الحديث (٢٠١ / ٧٧١) وبدايته «عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ...».

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ذكره إسماعيل باشا البغدادي في «إيضاح المكنون» ٤ / ٢٠٠ وقال (فك الأزرار عن عنق الأنوار وهتك الأستار عن معادن الأسرار ، تأليف سراج الدين عمر بن أبي بكر اليمني المتوفى سنة ... ، أوله قال : صحبت في بلاد اليمن علماء وفضلاء) ، والكتاب مخطوط بدار الكتب المصرية ١ / ٥٧ (بروكلمان ، الذيل ٢ / ٩٨٨) ، أما مؤلفه فلم نجد له ترجمة ، ولعله عمر بن أبي بكر بن أبي حنال ، من أصحاب الإمام يحيى بن أبي الخير (من علماء القرن ٦ ه‍) ، ذكره الجعدي في طبقات فقهاء اليمن ص ٢٠٢.

(٥) ليست في المخطوطة.

٥٣

الحق سبحانه ، والمذموم ظاهرا ـ وهو قتل الغلام بغير حق ـ عائدا عليه. وفي إقامة الجدار كان خيرا محضا ، فنسبه للحق فقال : (فَأَرادَ رَبُّكَ) ، ثم بيّن أن الجميع من حيث العلم التوحيديّ من الحق ، بقوله : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) (الكهف : ٨٢).

وقال ابن عطية : إنما أفرد أولا في الإرادة لأنها لفظ غيب ، وتأدّب بأن لم يسند الإرادة فيها [إلاّ] (١) إلى نفسه ، كما تأدب إبراهيم عليه‌السلام في قوله : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء : ٨٠) ، فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله [تعالى] ، وأسند المرض إلى نفسه ، إذ هو معنى نقص ومعابة (٢) ، وليس من جنس النعم المتقدمة.

وهذا النوع مطّرد في فصاحة القرآن كثيرا ، ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف : ٥)! وتقديم فعل الله في قوله تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (التوبة : ١١٨) : وإنما قال الخضر في الثانية : (فَأَرَدْنا) ، لأنه قد أراده الله وأصحابه الصالحون ، وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين ، وتمنّى التبديل لهما ؛ وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى لأنها أمر مستأنف في الزمن الطويل ، غيب من الغيوب ، فحسن إفراد [٢٦٠ / أ] هذا الموضع بذكر الله تعالى.

٤ ـ / ٦١ ومثله قول مؤمني الجن : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) (الجن : ١٠) ، فحذف الفاعل في إرادة الشر تأدبا مع الله ، وأضافوا إرادة الرشد إليه.

وقريب من هذا قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه‌السلام ، في خطابه لمّا اجتمع أبوه وإخوته : (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) (يوسف : ١٠٠) ، ولم يقل : «من الجبّ» مع أن الخروج منه أعظم من الخروج من السجن.

وإنما آثر ذكر السجن لوجهين [ذكرهما ابن عطية] (٣) :

أحدهما : أنّ في ذكر الجبّ تجديد فعل إخوته ، وتقريعهم بذلك [وتقليع نفوسهم] (٤) ، وتجديد تلك الغوائل [وتخييب النفوس] (٤) والثاني : أنه خرج من الجبّ إلى الرق ، ومن السجن إلى الملك ، والنعمة هنا أوضح انتهى.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (معنى نقص ومصيبة).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المطبوعة.

٥٤

وأيضا ولأن بين الحالين بونا من ثلاثة أوجه : قصر المدة في الجب وطولها في السجن ، وأن الجبّ كان في حال صغره ، ولا يعقل فيها المصيبة ، ولا تؤثر في النفس كتأثيرها في [حال الكبر] (١) والثالث أن أمر الجبّ كان بغيا وظلما لأجل الحسد وأمر السجن كان لعقوبة أمر دينيّ هو منزّه عنه ، وكان أمكن في نفسه. والله أعلم بمراده.

ومثله قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) (البقرة : ١٨٧) ، وقال : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) (النساء : ٢٤) ، فحذف الفاعل عند ذكر الرفث وهو الجماع ، وصرح به عند إحلال العقد.

وقال تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) (المائدة : ٣) ، فحذف الفاعل عند ذكر هذه الأمور.

٤ ـ / ٦٢ وقال : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (الأنعام : ١٥١).

وقال : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة : ٢٧٥) ونظائر ذلك [كثيرة] (٢) في القرآن.

وقال السهيليّ في كتاب «الإعلام» (٣) في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) (مريم : ٥٢) وقال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) (القصص : ٤٤) ، والمكان المشار إليه واحد ، قال : ووجه الفرق بين الخطابين أن الأيمن إمّا مشتق من اليمن ، (٤) [وهو البركة ، أو مشارك له في المادة ، فلما حكاه عن موسى في سياق الإثبات أتى بلفظه ، ولمّا خاطب محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سياق النفي عدل إلى لفظ «الغربي» لئلاّ يخاطبه ، فيسلب عنه فيه لفظا مشتقّا من اليمن] (٤) أو مشاركا في المادة ، رفقا بهما في الخطاب ، وإكراما لهما. هذا حاصل ما ذكره بمعناه موضحا.

وهو أصل عظيم في الأدب في الخطاب.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) هو «التعريف والإعلام فيما أبهم من الاسماء والأعلام في القرآن الكريم» وقوله في ص ١٣٣ ومن سورة القصص.

(٤) ليست في المخطوطة.

٥٥

٤ / ٦٣ وقال أيضا في الكتاب المذكور (١) في قوله تعالى : (وَذَا النُّونِ [إِذْ]) (٢) ذَهَبَ مُغاضِباً ... (الأنبياء : ٨٧) الآية أضافه هنا إلى «النون» وهو الحوت ، وقال في سورة القلم : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) (القلم : ٤٨) ، وسماه [هنا] (٣) «ذا النون» ، والمعنى واحد ، ولكن بين اللفظين تفاوت كبير في حسن الإشارة إلى الحالين ، وتنزيل الكلام في الموضعين ، فإنه حين ذكره في موضع الثناء عليه ، قال (ذَا النُّونِ) ، ولم يقل «صاحب الحوت» (٢) [والإضافة ب «ذو» أشرف من الإضافة «بصاحب» ثم أضافه إلى النون وهو الحوت] (٢) ولفظ النون أشرف لوجود هذا الاسم في حروف الهجاء ، في أوائل السور ، نحو (ن وَالْقَلَمِ) وليس في اللفظ الآخر ما يشرفه. فالتفت إلى تنزيل الكلام في الآيتين يلح لك ما أشرت إليه في هذا ، فإن التدبر لإعجاز القرآن واجب مفترض» (٤).

وقال الشيخ أبو محمد المرجاني (٥) في قوله تعالى : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (النمل : ٢٧) ، خاطبه بمقدمة الصدق مواجهة ، ولم يقدّم الكذب ، لأنّه متى أمكن حمل الخبر على الصدق لا يعدل عنه ، ومتى كان يحتمل ويحتمل ، قدّم الصدق ؛ ثم لم يواجهه بالكذب ، بل أدمجه في جملة الكذابين ، أدبا في [٢٦٠ / ب] الخطاب.

[قلت] (٦) ومثله : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ* وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (يوسف : ٢٦ ـ ٢٧) وكذا قوله تعالى عن مؤمن آل فرعون : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ).

(غافر : ٢٨) وهذان المثالان من باب إرخاء العنان للخصم ، ليدخل في المقصود بألطف موعود.

قاعدة

٤ ـ / ٦٤ من أساليب القرآن : حيث ذكر الرحمة والعذاب ، أن يبدأ بذكر الرحمة ، كقوله تعالى :

__________________

(١) انظر «التعريف والإعلام» ص ١١٣ ـ ١١٤ ومن سورة الأنبياء عليهم‌السلام.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) هنا نهاية قول السهيلي.

(٥) لعله محمد بن أبي بكر بن علي بن يوسف المعروف بالمرجاني ولد سنة (٧٦٠ ه‍) بمكة وسمع بها على قاضي الديار المصرية عز الدين بن جماعة ، ورحل إلى دمشق فقرأ على المسند شمس الدين محمد بن أحمد الأسمري المنبجي ، وعني بفنون من العلم ومهر في العربية ومتعلقاتها وله معرفة بالأدب ، توفي وقت العصر من يوم السبت خامس شهر رجب سنة (٨٢٧ ه‍) (العقد الثمين ١ / ٤٢٩ ـ ٤٣٢).

(٦) ليست في المطبوعة.

٥٦

(يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ [وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ]) (١) (المائدة : ١٨) ، (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) (فصلت : ٤٣) وعلى هذا جاء قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكاية عن الله تعالى : «إنّ رحمتي سبقت غضبي» (٢).

وقد خرج عن هذه القاعدة مواضع اقتضت الحكمة فيها تقديم ذكر العذاب ترهيبا وزجرا :

منها : قوله في سورة المائدة : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ [وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]) (٣) (المائدة : ٤٠) ، لأنها وردت في [سياق] (٤) ذكر قطّاع الطّريق والمحاربين والسّراق (٥) ، فكان المناسب تقديم ذكر العذاب ؛ ولهذا ختم آية السرقة ب «عزيز حكيم» ، وفيه الحكاية المشهورة (٦) ، وختمها بالقدرة مبالغة في الترهيب ، لأن من توعّده قادر على إنفاذ الوعيد ، كما قاله الفقهاء في الإكراه على الكلام ونحوه.

ومنها قوله في سورة العنكبوت : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) (العنكبوت : ٢١) ، لأنّها في سياق حكاية إنذار إبراهيم لقومه.

٤ ـ / ٦٥ ومثلها : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ* قُلْ

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ١٣ / ٥٢٢ كتاب التوحيد (٩٧) ، باب قول الله تعالى (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ...) البروج : ٢١ (٥٥) ، الحديثان (٧٥٥٣ ـ ٧٥٥٤) ، وأخرجه مسلم في الصحيح ٤ / ٢١٠٨ كتاب التوبة (٤٩) ، باب في سعة رحمة الله ... (٤) ، الحديث (١٥ / ٢٧١٥) وأوله «لما قضى الله الخلق كتب كتابا ...».

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) الإشارة إلى الآية (٣٣) وهي قوله تعالى (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ ...) ، وإلى الآية (٣٨) وهي قوله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) من السورة نفسها.

(٦) ذكرها أبو حيان في البحر المحيط ٣ / ٤٨٤ عند تفسير الآية من سورة المائدة فقال : (روي أن بعض الأعراب سمع قارئا يقرأ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ...) إلى آخرها وختمها بقوله «والله غفور رحيم» فقال : ما هذا كلام فصيح! فقيل له : ليست التلاوة كذلك ، وإنما هي (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فقال : بخ بخ عزّ فحكم فقطع).

٥٧

سِيرُوا) (العنكبوت : ١٩ ـ ٢٠) [إلى قوله] (١) : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت : ٢٠) ، وبعدها : (بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (العنكبوت : ٢٢).

ومنها في آخر الأنعام قوله : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام : ١٦٥) ، لأنّ سورة الأنعام كلّها مناظرة للكفار (١) [ووعيد لهم ، خصوصا وفي آخرها قبل هذه الآيات ، بيسير : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ...) (الأنعام : ١٥٩) الآية ، وهو تهديد ووعيد إلى قوله : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا ...) (الأنعام : ١٦٤) الآية ، وهو تقريع للكفار] (١) وإفساد لدينهم إلى قوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) (الأنعام : ١٦٥) ، فكان المناسب تقديم ذكر العقاب (٢) ، ترهيبا للكفار ، وزجرا لهم عن الكفر والتفرق ، وزجرا للخلائق عن الجور في الأحكام.

ونحو ذلك في أواخر الأعراف : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأعراف : ١٦٧) ؛ لأنّها في سياق ذكر معصية أصحاب السّبت وتعذيبه إياهم ، فتقديم العذاب مناسب.

٤ ـ / ٦٦ والفرق بين هذه الآية وآية الأنعام ، حيث أتى هنا باللام ، فقال : (لَسَرِيعُ الْعِقابِ) دون هناك ، أنّ اللام تفيد التوكيد ، فأفادت هنا تأكيد سرعة العقاب ؛ لأنّ العقاب المذكور هنا عقاب عاجل ، وهو عقاب بني إسرائيل بالذّلّ والنّقمة ، وأداء الجزية بعد المسخ ، لأنه في سياق قوله : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) (الأعراف : ١٦٧) ، فتأكيد السرعة أفاد بيان التعجيل ، وهو مناسب ، بخلاف العقاب المذكور في [سورة] (٣) الأنعام ، فإنّه آجل ، بدليل قوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الأنعام : ١٦٤) ، فاكتفى [فيه] (٤) بتأكيد «إنّ». ولمّا اختصت آية الأعراف بزيادة العذاب (٥) عاجلا اختصّت بزيادة التأكيد لفظا ب «إنّ» ، وجميع ما في القرآن على هذا اللفظ يناسبه التقديم والتأخير ، وعليه دليلان : أحدهما : تفصيليّ ، وهو الاستقراء ، فانظر أيّ آية تجد فيها مناسبا لذلك ، والثاني : إجماليّ وهو أن القرآن

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (العذاب).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (العقاب).

٥٨

[كلام] (١) أحكم الحكماء ، فيجب أن يكون على مقتضى الحكمة ؛ فوجب اعتباره كذلك وهذان دليلان عامّان في مضمون هذه الفائدة وغيرها.

وأما قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) (الأنعام : ١٤٧) ، ولم يقل : «ذو عقوبة شديدة» ، لأنّه إنما [٢٦١ / أ] قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمة الله في الاجتراء على معصيته ؛ وذلك أبلغ في التهديد ، معناه : لا تغترّوا بسعة رحمة الله ، فإنه مع ذلك لا يردّ عذابه.

ومثله قوله تعالى : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) (مريم : ٤٥) وقد سبقت.

فائدة في الفرق بين الخطاب بالاسم والفعل

وأنّ الفعل يدلّ على التجدّد والحدوث ، والاسم على الاستقرار والثبوت ، ولا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر.

٤ ـ / ٦٧ فمنه قوله تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ) [بالوصيد] (٢) (الكهف : ١٨) ، فلو قيل «يبسط» لم يؤدّ الغرض ؛ لأنه لم يؤذن بمزاولة الكلب البسط ، وأنه يتجدّد له شيء بعد شيء ، ف «باسط» أشعر بثبوت الصفة.

وقوله : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ) (فاطر : ٣) ، لو قيل «رازقكم» لفات ما أفاده الفعل من تجدّد الرزق شيئا بعد شيء ؛ ولهذا جاءت الحال في صورة المضارع ، مع أن العالم الذي يفيده ماض ، كقولك : جاء زيد يضرب ، وفي التنزيل : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) (يوسف : ١٦) ، إذ المراد أن يريد صورة ما هم عليه وقت المجيء ، وأنّهم آخذون في البكاء يجددونه شيئا بعد شيء ، وهذا هو سرّ (٣) الإعراض عن اسم الفاعل والمفعول ، إلى صريح الفعل والمصدر.

ومن هذا يعرف لم قيل : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) (البقرة : ٢٧٤) ، ولم يقل «المنفقين» في غير موضع؟ وقيل كثيرا : «المؤمنون» و «المتقون» ؛ لأن حقيقة النفقة أمر فعليّ شأنه الانقطاع والتجدد ، بخلاف الإيمان فإن له حقيقة تقوم بالقلب يدوم مقتضاها ، وإن غفل عنها ، وكذلك التقوى والإسلام ، والصبر والشكر ، والهدى والضلال ، والعمى والبصر ، فمعناها ،

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (من الاعراض).

٥٩

أو معنى وصف الجارحة كلّ هذه لها مسميات حقيقية أو مجازية تستمرّ ، وآثار تتجدّد وتنقطع ، فجاءت بالاستعمالين ؛ إلاّ أن لكلّ محلّ ما يليق به ، فحيث يراد تجدد حقائقها أو آثارها فالأفعال ، وحيث يراد ثبوت الاتصاف بها فالأسماء. وربما بولغ في الفعل فجاء تارة بالصيغة الاسمية ، كالمجاهدين والمهاجرين والمؤمنين ؛ لأنه للشأن [والصفة] (١) ، هذا مع أن لها في القلوب أصولا ، وله ببعض معانيها التصاق قوّى هذا التركيب ، إذ القلب فيه جهاد الخواطر [وعقد العزائم على فعل الجهاد وغيره ، وفيه هجران الخواطر] (٢) الرديئة ، والأخلاق الدنيئة ، وعقد على فعل المهاجرة ، كما فيه عقد على الوفاء بالعهد. وحيث يستمر المعاهد عليه إلى غير ذلك.

٤ ـ / ٦٨ وانظر هنا [إلى] (٣) لطيفة ؛ وهو أنّ ما كان من شأنه ألاّ يفعل إلا مجازاة ، وليس من شأنه أن يذكر الاتصاف به ، لم يأت إلا في تراكيب الأفعال ، كقوله تعالى : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) (إبراهيم : ٢٧) ، [و (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ)] (٤) (الرعد : ٢٧) وقال : (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) (الحج : ٥٤) : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (الرعد : ٧).

وأما قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (القصص : ٥٩) ، فإنّ الإهلاك نوع اقتدار بيّن ، مع أنّ جنسه مقتضى به على الكلّ ؛ عالين وسافلين (٥) ؛ لا كالضلال الذي جرى مجرى العصيان.

ومنه قوله تعالى : (تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف : ٢٠١) ، لأن البصر صفة لازمة للمتقي ، وعين الشيطان ربما حجبت ، فإذا تذكّر رأى المذكور ، ولو قيل : «يبصرون» ، لأنبأ عن تجدّد واكتساب فعل لا عود صفة.

وقوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (الشعراء : ٧٨) ، أتى بالماضي في «خلق» ، لأن خلقه مفروغ منه ، وأتى بالفاء دون الواو ، لأنه

كالجواب ؛ إذ من صوّر المنيّ ، قادر على أن يصيّره ذا هدى ؛ وهو للحصر ، لأنهم كانوا يزعمون [٢٦١ / ب] أن آلهتهم تهديهم ، ثم قال : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) (الشعراء : ٧٩) ، فأتى بالمضارع لبيان تجدد الإطعام والسقيا ، وجاءت الواو دون الفاء ، لأنهم كانوا لا يفرقون بين المطعم والساقي ، ويعلمون

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) في المخطوطة زيادة وهي (عالين وسافلين ، لظاهر الربوبية مرادا ، لا كالضلال).

٦٠