البرهان في علوم القرآن - ج ٤

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٤

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٣

وعن ارتفاعهما في قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) (الروم : ٣٦) وفي قول الشاعر :

من (١) يفعل الحسنات الله يشكرها (٢)

والجواب عن الأول ، وهو السؤال عن علة تعاقب الفعل والفاء ؛ أن الجواب هو جملة تامة ؛ يجوز استقلالها (٣) فلا بدّ من شيء يدل على ارتباطها بالشرط ، وكونها جوابا له ؛ فإذا كانت الجملة فعلية صالحة لأن تكون جزاء ، اكتفي بدلالة الحال على كونها جوابا ؛ لأن الشرط يقتضي جوابا ، وهذه (٤) [الجملة تصلح جوابا ولم يؤت بغيرها ؛ فلزم كونها جوابا. وإذا تعقبت الجواب امتنع دخول الفاء للاستغناء عنها] (٤) ، فإن كانت الجملة غير فعلية لم تكن صالحة للجواب بنفسها ؛ لأنّ الشرط إنما يقتضي فعلين : شرطا وجزاء ؛ فما ليس فعلا ليس من مقتضيات أداة الشرط ؛ حتى يدلّ اقتضاؤها على أنه الجزاء ، فلا بدّ من رابطة ، فجعلوا الفاء رابطة ؛ لأنها للتعقيب ؛ فيدل تعقيبها الشرط بتلك الجملة ؛ على أنها الجزاء ، فهذا هو السبب في تعاقب الفعل والفاء في باب الجزاء.

والجواب عن الثاني : هو أن اجتماع الفعل والفاء في الآيتين [الكريمتين] (٥) غير مبطل للمدّعي بتعاقبهما وهو أن المدعي تعاقبهما ، إذا كان الفعل صالحا لأن يجازى به ؛ وهو إذا ما كان صالحا للاستقبال ؛ لأن الجزاء لا يكون إلا مستقبلا.

وقوله : «صدقت» و «كذبت» المراد بالفعل في الآية المضيّ ؛ فلم يصح أن يكون جوابا فوجبت الفاء.

فإن قيل : فلم سقطت «الفاء» في قوله : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى : ٣٧)؟ قلنا عنه ثلاثة أجوبة :

__________________

(١) في المخطوطة (ومن).

(٢) صدر بيت عجزه :

والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان

وقائله هو عبد الرحمن بن حسان وهو من شواهد سيبويه ٣ / ٦٥ (باب الجزاء) ، والمغني : ٥٦ (أما).

(٣) في المخطوطة (استعمالها بنفسها).

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٥) ليست في المطبوعة.

٢٦١

أحدها : أن «إذا» في الآية ليست شرطا ، بل لمجرد الزمان ؛ والتقدير : والذين هم ينتصرون زمان إصابة البغي لهم.

والثاني : أن «هم» زائدة للتوكيد. والثالث : أنّ الفاء حسّن حذفها كون الفعل ماضيا.

وبالأول يجاب عن قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا) (الجاثية : ٢٥).

والجواب عن الثالث أن الفعل والفاء أيضا من قوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) (الروم : ٣٦) ، فهو أنّ «إذا» قامت [٣٠١ / أ] مقام الفاء ، وسدّت مسدّها ، لحصول الربط بها ، كما يحصل بالفاء ؛ وذلك لأن «إذا» للمفاجأة ، وفي المفاجأة معنى التعقيب.

وأما الأخفش (١) ، فإنه جوّز حذف الفاء حيث يوجب سيبويه (٢) دخولها ، واحتج بقوله تعالى : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (الأنعام : ١٢١).

وبقراءة من قرأ : وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم (الشورى : ٣٠) ، في قراءة نافع وابن عامر (٣).

ولا حجة فيه ، لأن الأول يجوز أن يكون جواب قسم ، والتقدير : والله إن أطعتموهم ؛ فتكون (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) جوابا للقسم ؛ والجزاء محذوف سدّ جواب القسم مسدّه.

وأما الثانية ؛ فلأن «ما» فيه موصولة لا شرطية ، فلم يجز دخول الفاء في خبرها.

(والنوع الرابع): الزائدة ، كقوله تعالى : (فَلْيَذُوقُوهُ [حَمِيمٌ]) (٤) (ص : ٥٧) ، والخبر «حميم» وما بينهما معترض.

وجعل منه الأخفش (٥) : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (الماعون : ٢).

__________________

(١) هو سعيد بن مسعدة تقدم التعريف به في ١ / ١٣٤.

(٢) انظر الكتاب ٣ / ٦٣ ـ ٦٥.

(٣) ذكرها الداني في التيسير : ١٩٥.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) انظر رصف المباني : ٤٤٩ ، والبحر المحيط ٣ / ٤٧٦. والمغني ١ / ١٦٥.

٢٦٢

وقال سيبويه (١) : هي جواب لشرط مقدر أي إن أردت عليه فذلك.

وقوله : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر : ٢) على قول.

٤٤ ـ في

تجيء لمعان كثيرة :

للظرفية : ثم تارة يكون الظرف والمظروف حسين ، نحو زيد في الدار ؛ ومنه : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) (المرسلات : ٤١) ، (فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر : ٢٩ ـ ٣٠) ، (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (النمل : ١٩) ، (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ) (الأحقاف : ١٨).

وتارة يكونان معنويين ؛ نحو رغبت في العلم ، ومنه : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (البقرة : ١٧٩).

وتارة يكون المظروف جسما (٢) ، نحو : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الأعراف : ٦٠).

وتارة يكون الظرف جسما (٢) ، [نحو] (٣) : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (البقرة : ١٠).

والأول حقيقة ، والرابع أقرب المجازات إلى الحقيقة.

وتجيء بمعنى «مع» ، نحو : (فِي تِسْعِ آياتٍ) (النمل : ١٢) (٤) [(ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ)] (٤) (الأعراف : ٣٨) ، (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) (الفجر : ٢٩) ، على قول. (٤) [وأما قوله (ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ) فقيل الأولى للمعيّة والثانية للظرفية وفي ذلك دليل على جواز دخلت الدار الذي هو الأصل] (٤).

وبمعنى «عند» ، نحو : (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) (الشعراء : ١٨).

وللتعليل : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) (يوسف : ٣٢).

وبمعنى «على» كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) (يونس : ٢٢) ؛ بدليل

__________________

(١) في الكتاب ١ / ١٣٨ ـ ١٣٩ (باب الأمر والنهي).

(٢) في المخطوطة (حسيّا).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.

٢٦٣

قوله : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) (المؤمنون : ٢٨) ، وقوله : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) (طه : ٧١) لما في الكلام من معنى الاستعلاء.

وقيل : ظرفية ؛ لأن الجذع للمصلوب بمنزلة القبر للمقبور ؛ فلذلك جاز أن يقال : في.

وقيل : إنّما آثر لفظة «في» للإشعار بسهولة صلبهم ؛ لأن «على» تدلّ على نبوّ (١) يحتاج فيه إلى تحرك (٢) [إلى فوق] (٣).

وبمعنى «إلى» نحو : (فَتُهاجِرُوا فِيها) (النساء : ٩٧). (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) (إبراهيم : ٩).

وبمعنى «من» : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) (النحل : ٨٩).

وللمقايسة وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق ، كقوله تعالى : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) (التوبة : ٣٨). وللتوكيد ، كقوله تعالى : (ارْكَبُوا فِيها) (هود : ٤١).

وبمعنى بعد : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) (لقمان : ١٤) [أي بعد عامين] (٣).

وبمعنى «عن» ، كقوله : (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) (الإسراء : ٧٢) (٤) [قيل لما نزلت : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) (الإسراء : ٧٠) لم يسمعوا ولم يصدقوا ؛ فنزل : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى)] (٤) (الإسراء : ٧٢) أي عن النعيم الذي قلناه ، ووصفناه في الدنيا ، فهو عن (٥) نعيم الآخرة [أعمى] (٦) إذ لم يصدّق.

٤٥ ـ قد

تدخل على الماضي المتصرّف ، وعلى المضارع ؛ بشرط تجرّده عن الجازم والناصب وحرف التنفيس ، وتأتي لخمس معان : التوقّع ، والتقريب ، والتقليل ، والتكثير ، والتحقيق.

__________________

(١) في المخطوطة (ثبوت).

(٢) في المخطوطة (تحوّل).

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة. وانظر تفسير الآية ، ٧ في تفسير القرطبي ١٠ / ٢٩٨.

(٥) في المطبوعة (في).

(٦) ساقطة من المخطوطة.

٢٦٤

فأما التوقع فهو نقيض «ما» [التي] (١) للنفي. وتدخل على الفعل المضارع ، نحو : قد يخرج زيد ، تدلّ على أن الخروج متوقّع ؛ أي منتظر. وأمّا مع الماضي فلا يتحقق الوقوع بمعنى الانتظار ؛ لأن الفعل قد وقع ، وذلك ينافي كونه منتظرا [٣٠١ / ب] ، ولذلك استشكل بعضهم كونها للتوقع مع الماضي ؛ ولكن معنى التوقع فيه أن «قد» تدلّ على أنه كان متوقّعا منتظرا ، ثم صار ماضيا ؛ ولذلك تستعمل في الأشياء المترقبة.

وقال الخليل (٢) : «إن قولك : قد قعد ، كلام لقوم ينتظرون الخبر. ومنه قول المؤذن : قد قامت الصلاة ؛ لأن الجماعة منتظرون».

وظاهر كلام ابن مالك في «تسهيله» (٣) أنها لم تدخل على المتوقّع لإفادة كونه متوقعا بل لتقريبه من الحال. انتهى. ولا يبعد أن يقال : [إنها] (٤) حينئذ تفيد المعنيين.

واعلم أنه ليس من الوجه الابتداء بها إلا أن تكون جوابا لمتوقّع ، كقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون : ١) ؛ لأن القوم توقّعوا علم حالهم عند الله.

وكذلك قوله : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) (المجادلة : ١) ؛ لأنها كانت تتوقع إجابة الله تعالى لدعائها.

وأما التقريب ، فإنها ترد للدلالة عليه مع الماضي فقط ، فتدخل لتقريبه من الحال ؛ ولذلك تلزم «قد» مع الماضي إذا وقع حالا ، كقوله تعالى : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) (الأنعام : ١١٩) ، وأمّا ما ورد دون «قد» فقوله تعالى : (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) (يوسف : ٦٥) ، ف «قد» فيه مقدرة ؛ هذا مذهب المبرد والفراء (٥) وغيرهما. وقيل : لا يقدر قبله قد.

وقال ابن عصفور (٦) : إن جواب القسم بالماضي المتصرف المثبت ، إن كان قريبا من

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) ذكر قوله سيبويه في الكتاب ٤ / ٢٢٣ ، باب عدة ما يكون عليه الكلم (قد). وابن هشام في المغني ١ / ١٧١.

(٣) في المخطوطة (التسهيل) ، وقد تقدم التعريف بالكتاب في ٢ / ٤٥٨. وقد ذكر قوله ابن هشام في المغني ١ / ١٧٤.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) انظر معاني القرآن ١ / ٢٨٢ الآية (٩٠) من سورة النساء. والمقتضب للمبرد ٤ / ١٢٤ باب مسائل باب كان وباب إنّ ، والمغني لابن هشام ١ / ١٧٣.

(٦) هو علي بن مؤمن تقدم التعريف به في ١ / ٤٦٦. ونقل قوله ابن هشام في المغني ١ / ١٧٣.

٢٦٥

زمن الحال دخلت عليه «قد واللام» ، نحو : والله لقد قام زيد ؛ وإن كان بعيدا لم تدخل ، نحو : والله لقام زيد.

وكلام الزمخشري يدلّ على أنّ «قد» مع الماضي في جواب القسم للتوقع ، قال في «الكشاف» (١) عند قوله [تعالى] : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) (الآية : ٥٩) في سورة الأعراف.

فإن قلت : «ما لهم لا يكادون ينطقون باللام إلا مع «قد» ، وقلّ عندهم مثل قوله :

حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا [فما إن حديث ولا صال] (٢)

قلت : إنما كان كذلك ؛ لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها ؛ فكانت مظنّة لمعنى التوقع ؛ الذي هو معنى «قد» عند استماع المخاطب كلمة القسم».

وقال ابن الخباز (٣) : «إذا دخلت «قد» على الماضي أثّرت فيه معنيين : تقريبه من زمن الحال ، وجعله خبرا منتظرا ؛ فإذا قلت : قد ركب الأمير ، فهو كلام لقوم ينتظرون حديثك. هذا تفسير الخليل» (٤). انتهى.

وظاهره أنها تفيد المعنيين معا في الفعل الواحد. ولا يقال : إن معنى التقريب ينافي معنى التوقع ؛ لأن المراد به ما تقدم تفسيره.

وكلام الزمخشري (٥) في «المفصّل» «يدلّ على أن التقريب لا ينفكّ عن معنى التوقّع».

وأما التقليل ، فإنها ترد له مع المضارع ، إمّا لتقليل وقوع الفعل نحو : قد يجود البخيل

__________________

(١) الكشاف ٢ / ٦٧.

(٢) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة والكشاف. والبيت لامرئ القيس من قصيدة مطلعها :

ألا عم صباحا أيها الطّلل البالي

انظر الديوان : ١٤١ ، (طبعة دار صادر بيروت) وهو من شواهد المغني ١ / ١٧٣ الشاهد : ٢٨٨.

(٣) هو أحمد بن الحسين تقدم التعريف به في ٣ / ١٤.

(٤) انظر ص ٢٦٥ الحاشية (٢) من هذا الجزء.

(٥) انظر المفصّل : ٣١٦ ، (ومن أصناف الحرف حرف التقريب).

٢٦٦

وقد يصدق الكذوب. أو للتقليل لمتعلّق [الفعل] (١) ، كقوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) (النور : ٦٤) أي ما هم عليه هو أقلّ معلوماته سبحانه.

وقال الزمخشري (٢) : «هي للتأكيد (٣) ، وقال : إنّ [«قد»] (٤) إن دخلت على المضارع كانت بمعنى «ربما» ، فوافقت «ربما» في خروجها إلى معنى التكثير ؛ والمعنى : إن جميع السموات والأرض مختصا به خلقا وملكا وعلما ، فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين»! وقال في سورة الصف (٥) : [في قوله تعالى : (يا قَوْمِ] (٦) لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) (الآية : ٥) : [قد] معناها التوكيد ، كأنه قال تعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه».

ونصّ ابن مالك (٧) على أنها كانت للتقليل صرفت المضارع إلى الماضي. وقد نازع بعض المتأخرين [٣٠٢ / أ] في أن «قد» تفيد التقليل ، مع أنه مشهور ونص عليه الجمهور ، فقال : قد تدلّ على توقع الفعل عمّن أسند إليه ، وتقليل المعنى لم يستفد من «قد» بل لو قيل : البخيل يجود والكذوب يصدق ، فهم منه التقليل ؛ لأن الحكم على من شأنه البخل بالجود ، وعلى من شأنه الكذب بالصدق ، إن لم يحمل ذلك على صدور ذلك قليلا ، كان الكلام كذبا ؛ لأن آخر يدفع أوله.

وأما التكثير فهو معنى غريب ؛ وله من التوجيه نصيب ، وقد ذكره جماعة من المتأخرين.

وجعل منه الزمخشري (٨) : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) (البقرة : ١٤٤). وجعلها غيره للتحقيق. وقال ابن مالك : إن المضارع هنا بمعنى الماضي ، أي قد رأينا.

وأما التحقيق فترد لتحقيق وقوع المتعلّق مع المضارع والماضي ، لكنه قد يرد والمراد به

__________________

(١) ساقطة من المطبوعة.

(٢) انظر الكشاف ٣ / ٥٩ ، آخر سورة النور والمفصّل : ٣١٧.

(٣) في المخطوطة (للتحقيق).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) الكشاف ٣ / ٩٣.

(٦) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.

(٧) هو محمد بن عبد الله بن مالك تقدم التعريف به في ١ / ٣٨١.

(٨) في الكشاف ١ / ١٠٠.

٢٦٧

المضيّ ، كما في قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) (البقرة : ١٤٤). (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ) (الأنعام : ٣٣). (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) (النور : ٦٤).

وقال الراغب (١) : «إن دخلت على الماضي اجتمعت لكل فعل متجدد ، نحو : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) (يوسف : ٩٠). (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) (آل عمران : ١٣). (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (الفتح : ١٨). (لَقَدْ تابَ اللهُ) (التوبة : ١١٧). ولهذا لا تستعمل في أوصاف الله ، لا يقال : «قد كان الله غفورا رحيما». فأما قوله [تعالى] : ([أَنْ] (٢) سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) (المزمل : ٢٠) ، فهو متأوّل للمرضى في المعنى ؛ كما أن النفي في قولك : ما علم الله زيدا يخرج ، هو للخروج ، وتقديره [«قد يمرضون فيما علم الله] (٣)» وما يخرج زيد فيما علم الله. وإن (٤) دخلت على المضارع فذلك لفعل يكون في حاله (٤) ، نحو : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ [لِواذاً]) (٣) (النور : ٦٣) ، أي قد يتسللون فيما علم الله» (٥).

٤٦ ـ الكاف

للتشبيه ، [نحو] (٦) : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (الرحمن : ٢٤) وهو كثير.

وللتعليل كقوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً) (البقرة : ١٥١) ، قال الأخفش (٧) : أي لأجل إرسالي فيكم رسولا منكم ، فاذكروني. وهو ظاهر في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) (البقرة : ١٩٨). وجعل ابن برهان (٨) النحويّ منه قوله تعالى : (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (القصص : ٨٢).

وللتوكيد : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) (البقرة : ٢٥٩). وقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى : ١١) ، أي ليس شيء مثله ؛ وإلا لزم إثبات المثل.

__________________

(١) هو الحسين بن محمد تقدم التعريف به في ١ / ٢١٨. وانظر قوله في المفردات : ٣٩٤ مادة (قدد).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.

(٤) العبارة في المفردات وإن دخل «قد» على المستقبل من الفعل فذلك الفعل يكون في حالة دون حالة).

(٥) في المخطوطة زيادة وهي (ومجيء للتعليل).

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) انظر قوله في كتابه معاني القرآن ١ / ١٥٣ مختصرا ، وفي المغني ١ / ١٧٦ كاملا.

(٨) هو أحمد بن علي بن برهان تقدم التعريف به في ٢ / ٢٠٨.

٢٦٨

قال ابن جني (١) : «وإنما زيدت لتوكيد نفي المثل ؛ لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة ثانيا».

وقال غيره : «الكاف زائدة ؛ لئلا يلزم إثبات المثل لله تعالى ؛ وهو محال ، لأنها تفيد نفي المثل عن مثله ، لا عنه ، لأنه لو لا الحكم بزيادتها لأدى إلى محال آخر ؛ وهو أنه إذا لم يكن مثل شيء لزم ألاّ يكون شيئا ؛ لأن مثل المثل مثله».

وقيل : «المراد مثل الشيء ذاته وحقيقته ، كما يقال : مثلي لا يفعل كذا ، أي أنا لا أفعل ؛ [وعلى] (٢) هذا لا (٣) تكون زائدة».

وقال ابن فورك (٤) : هي غير زائدة ؛ والمعنى ليس مثل مثله شيء ، وإذا نفيت التماثل عن الفعل (٥) ، فلا مثل لله على الحقيقة.

قال صاحب (٦) «المستوفى» : «ولتأكيد الوجود ، كقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (الإسراء : ٢٤) ، أي أن (٧) تربيتهما لي قد وجدت ، كذلك أوجد رحمتك لهما (٨) يا رب.

٤٧ ـ كان

تأتي للمضيّ ، وللتوكيد ، وبمعنى القدرة كقوله [تعالى] : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) (النمل : ٦٠) ، أي ما قدرتم.

وبمعنى «ينبغي» كقوله [تعالى] : ([قُلْتُمْ] (٩) ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) (النور : ١٦) ، أي لم ينبغ لنا.

__________________

(١) انظر كتابه سر صناعة الإعراب ١ / ٢٩١ (حرف الكاف) ، وانظر أيضا في المغني ١ / ١٧٩ ، ورصف المباني : ٢٧٧.

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (إلا أن تكون).

(٤) في المخطوطة (ابن مالك) وفي الإتقان ٢ / ٣١٤ (ابن فورك) وهو محمد بن الحسن تقدم التعريف به في ١ / ٣٢٤.

(٥) في المخطوطة (المثل).

(٦) هو علي بن مسعود بن محمود تقدم التعريف به وبكتابه في ١ / ٥١٣.

(٧) في المخطوطة (كما).

(٨) في المخطوطة (إياهما).

(٩) ليست في المطبوعة.

٢٦٩

وتكون زائدة ، كقوله تعالى : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (الشعراء : ١١٢) ، أي بما يعملون ؛ لأنه قد كان عالما ما علموه من إيمانهم به. وقد سبقت في مباحث الأفعال.

٤٨ ـ كأن

للتشبيه المؤكد ؛ ولهذا جاء (كَأَنَّهُ هُوَ) (النمل : ٤٢) ، دون غيرها من أدوات التشبيه.

ولليقين ، كما في قوله تعالى : ([وَيْكَأَنَ] (١) اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) (القصص : ٨٢) ، على ما سيأتي.

وقد تخفف ، قال تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) (يونس : ١٢).

٤٩ ـ كأيّن

بمعنى «كم» للتكثير ؛ لأنها كناية عن العدد ، قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ) [٣٠٢ / ب] (عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) (الطلاق : ٨). وفيها قراءتان (٢) : «كائن» على وزن «قائل» و «بائع» «وكأيّن» بتشديد الياء. قال ابن فارس (٣) : «[سمعت] (٤) بعض أهل العربية (٥) يقول : ما أعلم كلمة تثبت فيها النون خطّأ غير هذه».

(٦) [وقال سيبويه (٧) : «أكثر العرب إنما يتكلمون بها (٨) مع من لأنها تأكيد فجعلت كأنها شيء تمّ به الكلام] (٦).

٥٠ ـ كاد

بمعنى قارب ، وسبقت في مباحث الأفعال.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) قرأ ابن كثير «وكاين» حيث وقع بألف ممدودة بعدها همزة مكسورة ، والباقون بهمزة مفتوحة بعد الكاف وياء مكسورة مشدّدة بعدها «وكأيّن» (التيسير : ٩٠).

(٣) هو أحمد بن فارس تقدم التعريف به في ١ / ١٩١ ، وانظر قوله في الصاحبي في فقه اللغة : ١٣٢ (كأيّن).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) تصحفت في المخطوطة والمطبوعة إلى (القرية) وتصويبها من الصاحبي.

(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٧) في الكتاب ٢ / ١٧٠ (باب ما جرى مجرى كم في استفهام) مع تصرف واختصار.

(٨) زيادة من الكتاب يقتضيها السياق.

٢٧٠

٥١ ـ كلاّ

قال سيبويه (١) : «حرف (٢) ردع وزجر». قال الصّفّار (٣) : «إنها تكون اسما للرّد ، إما لردّ ما قبلها ، وإما لردّ ما بعدها ، كقوله تعالى : (كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (التكاثر : ٣ ـ ٤) ، هي ردّ لما قبلها ؛ لأنه لما قال : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) (التكاثر : ١ ـ ٢) ، كان إخبارا بأنهم لا يعلمون الآخرة ولا يصدقون بها ، فقال : (كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ، فلا يحسن الوقف عليها هنا إلا لتبيين ما بعدها ، ولو لم يفتقر لما بعدها لجاز الوقف. وقوله : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ* كَلاَّ) (الهمزة : ٣ ـ ٤) ، هي ردّ لما قبلها ؛ فالوقف عليها حسن». انتهى.

وقال ابن الحاجب (٤) : «شرطه أن يتقدّم ما يردّ بها [ما] (٥) في غرض المتكلم ؛ (٦) سواء كان من كلام غير المتكلّم (٦) على سبيل الحكاية أو الإنكار ، أو من كلام غيره.

كقوله (٧) تعالى : (كَلاَّ) (القيامة : ١١) بعد قوله : (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) (القيامة : ١٠) [وقوله : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ)] (٨) (المعارج : ١١).

وكقوله (٩) [تعالى] : (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قالَ كَلاَّ) (الشعراء : ٦١ ـ ٦٢) (٨) [لأن قوله «قال» حكاية ما يقال بعد تقدم الأول عن الغير] (٨).

وكقولك (١٠) : أنا أهين العالم! كلاّ». انتهى.

وهي نقيض «إي» في الإثبات ، كقوله : (كَلاَّ لا تُطِعْهُ) (العلق : ١٩). وقوله :

__________________

(١) الكتاب ٤ / ٢٣٥ (باب عدّة ما يكون عليه الكلم).

(٢) في المخطوطة (كلمة).

(٣) هو القاسم بن علي البطليوسي تقدم التعريف به في ٢ / ٤٥١.

(٤) هو عثمان بن عمر تقدم التعريف به في ١ / ٤٦٦.

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) العبارة في المخطوطة (سواء إن كان من سبيل المتكلم).

(٧) في المخطوطة (فالأول كقوله).

(٨) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.

(٩) في المخطوطة (والثاني كقوله).

(١٠) في المخطوطة (والثالث كقولك).

٢٧١

(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً* كَلاَّ) (مريم : ٧٨ ـ ٧٩). [وقوله] (١) : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا* كَلاَّ) (مريم : ٨١ ـ ٨٢).

وتكون بمعنى «حقا» صلة لليمين ، كقوله : (كَلاَّ وَالْقَمَرِ) (المدثر : ٣٢). (كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) (الفجر : ٢١).

وقوله : (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين : ١٥) ، (كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) (المطففين : ٧) ، (كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ [لَفِي عِلِّيِّينَ]) (١) (المطففين : ١٨) وأما قوله : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ* كَلاَّ) (الهمزة : ٣ ـ ٤) ، فيحتمل الأمرين.

وقد اختلف القرّاء في الوقف عليها (٣) : فمنهم من يقف عليها أينما وقعت ، وغلّب عليها معنى الزجر. ومنهم من يقف دونها أينما وقعت ؛ ويبتدئ بها ، [وغلّب عليها معنى الزجر.

ومنهم من يقف دونها أينما وقعت ، ويبتدئ بها] (٤) ، وغلّب عليها أن تكون لتحقيق ما بعدها.

ومنهم من نظر إلى المعنيين ، فيقف عليها إذا كانت بمعنى الردع ، ويبتدئ بها إذا كانت بمعنى التحقيق (٥). وهو أولى.

ونقل ابن فارس (٦) عن بعضهم «أن «ذلك» و «هذا» نقيضان [ل «لا» ، وأن «كذلك» نقيض] (٧) ل «كلاّ» ، كقوله تعالى : (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) (محمد : ٤) على [معنى] (٨) : ذلك كما قلنا وكما فعلنا. ومثله : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) (ص : ٥٥).

قال : ويدلّ على هذا المعنى دخول الواو بعد قوله : «ذلك» و «هذا» ؛ لأن ما بعد الواو

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٣) للوقوف على أقوال القراء انظر كتاب «شرح «كلا» و «بلى» و «نعم» والوقف على كل واحد منهن» لمكّي بن أبي طالب ، وكتاب مغني اللبيب لابن هشام ١ / ١٨٨ ـ ١٩٠ (كلاّ).

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٥) في المخطوطة زيادة وهي (بما بعدها).

(٦) هو أحمد بن فارس تقدم التعريف به في ١ / ١٩١. وانظر قوله في كتابه الصاحبي في فقه اللغة : ١٣٤ (كلاّ) بتصرف.

(٧) ما بين الحاصرتين زيادة من «الصاحبي» : ١٣٤.

(٨) ساقطة من المخطوطة.

٢٧٢

يكون معطوفا على ما قبله بها وإن كان مضمرا. وقال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) (الفرقان : ٣٢) ، ثم قال : (كَذلِكَ) ، أي كذلك فعلنا ونفعله من التنزيل ، وهو كثير».

وقيل : إنها إذا كانت بمعنى «لا» فإنها تدخل على جملة محذوفة ، فيها نفي لما قبلها ، والتقدير : ليس الأمر كذلك (١) [كقوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (مريم : ٨١) وليس الأمر كذلك] (١) ؛ وهي على هذا حرف دال على هذا المعنى (١) [لا موضع لها] (١) ، ولا تستعمل عند خلاف النحويين بهذا المعنى إلا في الوقف عليها ، ويكون زجرا وردّا أو إنكارا لما قبلها ؛ وهذا مذهب الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد والزجاج وغيرهم (٥) ؛ لأن فيها معنى التهديد [٣٠٣ / أ] والوعيد ؛ ولذلك لم تقع في القرآن إلا في سورة مكية ، لأن التهديد والوعيد أكثر ما نزل بمكة ؛ لأن أكثر عتوّ المشركين وتجبّرهم بمكة ، فإذا رأيت سورة فيها «كلاّ» ، فاعلم أنها مكية.

وتكون «كلاّ» بمعنى «حقا» عند الكسائي (٦) ، فيبتدأ بها لتأكيد ما بعدها ، فتكون في موضع المصدر ، ويكون موضعها نصبا على المصدر ، والعامل محذوف ، أي أحقّ ذلك حقا.

ولا تستعمل بهذا المعنى عند حذاق النحويين إلا إذا ابتدئ بها لتأكيد ما بعدها.

وتكون بمعنى «ألا» فيستفتح بها الكلام ، وهي على هذا حرف. وهذا مذهب أبي حاتم (٧) ؛ واستدل على أنها للاستفتاح أنه روى أن جبريل نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمس آيات من سورة العلق ، ولما قال : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (الآية : ٥) ، طوى النمط. فهو وقف صحيح ، ثم لما نزل بعد ذلك : (كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) (العلق : ٦) ، فدلّ على أن الابتداء ب «كلاّ» من طريق الوحي ، فهي في الابتداء بمعنى «ألا» عنده.

فقد حصل ل «كلاّ» معاني النفي في الوقف عليها ، و «حقّا» و «ألا» في الابتداء بها.

وجميع «كلاّ» في القرآن ثلاثة وثلاثون موضعا ، في خمس عشرة سورة ، ليس في النصف الأول من ذلك شيء.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.

(٥) انظر مغني اللبيب ١ / ١٨٨.

(٦) ذكر قوله ابن هشام في المغني ١ / ١٨٩.

(٧) هو سهل بن محمد السجستاني تقدم التعريف به في ١ / ٣٠٩. وانظر قوله في المغني ١ / ١٨٩.

٢٧٣

وقوله تعالى : (كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) (المؤمنون : ١٠٠) ، على معنى «ألا» ، واختار قوم جعلها بمعنى حقا. وهو بعيد لأنه يلزم فتح «إنّ» بعدها ، ولم يقرأ به أحد.

٥٢ ـ كلّ

اسم وضع [لضم] (١) أجزاء الشيء على جهة الإحاطة ؛ من حيث كان لفظه مأخوذا من لفظ «الإكليل» و «الكلّة» و «الكلالة» ؛ ممّا هو للإحاطة بالشيء ، وذلك ضربان :

(أحدهما) : انضمام لذات الشيء وأحواله المختصّة به ، وتفيد معنى التمام ، كقوله تعالى : (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (الإسراء : ٢٩) ، أي بسطا تاما. (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) (النساء : ١٢٩) ، ونحوه.

(والثاني) : انضمام الذوات ؛ وهو المفيد للاستغراق.

ثم إن دخل على منكّر أوجب عموم أفراد المضاف إليه ، أو على معرّف أوجب عموم أجزاء ما دخل عليه. وهو ملازم للأسماء ، ولا يدخل على الأفعال.

وأما قوله تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (النمل : ٨٧) ، فالتنوين بدل من المضاف ، أي كلّ واحد. وهو لازم للإضافة معنى ، ولا يلزم إضافته لفظا إلا إذا وقع تأكيدا أو نعتا ، وإضافته منويّة عند تجرده منها.

ويضاف تارة إلى الجمع المعرّف ، نحو كلّ القوم. ومثله اسم الجنس ، نحو : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (آل عمران : ٩٣) ، وتارة إلى ضميره نحو : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (مريم : ٩٥) ، (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (الحجر : ٣٠) ، (ص : ٧٣) ، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (الفتح : ٢٨). وإلى نكرة مفردة نحو : (وَكُلَّ إِنسانٍ [أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ]) (٢) (الإسراء : ١٣) ، (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النساء : ١٧٦) ، (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر : ٣٨).

وربما خلا من الإضافة لفظا وينوى فيه ، نحو : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (الأنبياء : ٣٣) ، (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (النمل : ٨٧) ، (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (مريم : ٩٥) ، (كُلًّا هَدَيْنا) (الأنعام : ٨٤) ، (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الأنبياء : ٨٥) ، (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) (الفرقان : ٣٩).

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) ليست في المخطوطة.

٢٧٤

وهل تنوينه حينئذ تنوين عوض أو تنوين صرف؟ قولان.

قال أبو الفتح (١) : «وتقديمها أحسن من تأخيرها ؛ لأن التقدير : «كلهم» ، فلو أخرت لباشرت العوامل ، مع أنّها في المعنى منزّلة منزلة ما لا يباشره ، فلما تقدّمت أشبهت المرتفعة بالابتداء ؛ في أن كلا منهما لم يل عاملا في اللفظ ، وأما «كلّ» المؤكد بها فلازمة للإضافة.

(٢) [وأجاز الزمخشري (٣) تبعا للفراء (٤) قطعها عن الإضافة لفظا نحو : إنا كلاّ فيها (غافر : ٤٨) وخرّجها ابن مالك (٥) على أن «كلاّ» حال من ضمير الظرف] (٢) وتحصل [أن] (٢) لها ثلاثة أحوال : مؤكّدة ، ومبتدأ بها مضافة ، ومقطوعة عن الإضافة.

فأما المؤكّدة فالأصل فيها [٣٠٣ / ب] أن تكون توكيدا للجملة ، أو ما هو في حكم الجملة مما يتبعّض ، لأنّ موضوعها الإحاطة كما سبق.

وأما المضافة غير المؤكّدة ، فالأصل فيها أن تضاف إلى النكرة الشائعة في الجنس لأجل معنى الإحاطة ، وهو إنّما ما يطلب جنسا يحيط به ، فإن أضفته إلى جملة معرّفة نحو كلّ إخوتك ذاهب ، [قبح] (٨) إلا في الابتداء ، إلا أنّه إذا كان مبتدأ وكان خبره مفردا ، تنبيها على أنّ أصله الإضافة للنكرة لشيوعها.

فإن لم يكن مبتدأ وأضفته إلى جملة معرّفة ، نحو : ضربت (٩) كلّ إخوتك ، وضربت كلّ القوم ، لم يكن في الحسن بمنزلة ما قبله ، لأنك لم تضفه إلى جنس ، ولا معك في الكلام خبر مفرد يدلّ على معنى إضافته إلى جنس [فإن أضفته إلى جنس] (١٠) ، معرّف بالألف واللام حسن ذلك ، كقوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) (الأعراف : ٥٧) ، لأنّ الألف واللام للجنس [لا للعهد] (١٠) ، ولو كانت للعهد لم يحسن ، لمنافاتها معنى الإحاطة.

__________________

(١) في الخصائص ٣ / ٣٣٤ ـ ٣٣٦ بتصرف واختصار.

(٢) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.

(٣) انظر الكشاف ٣ / ٣٧٤.

(٤) انظر كتابه معاني القرآن ٣ / ١٠.

(٥) ذكر قوله وقول الفراء والزمخشري ابن هشام في المغني ١ / ١٩٤. وقراءة النصب ذكرها أبو حيان في البحر المحيط ٧ / ٤٦٩ ، وعزاها لابن السميفع وعيسى بن عمران ، وذكر عندها فوائد جمّة يستفاد منها.

(٨) ساقطة من المخطوطة.

(٩) في المخطوطة (رأيت).

(١٠) العبارة بين الحاصرتين ساقطة من المطبوعة.

٢٧٥

ويجوز أن يؤتى بالكلام على أصله ، فتؤكّد الكلام (١) ب «كل» فتقول : خذ من الثمرات كلها.

(٢) [فإن قيل : فإذا استوى الأمران في قوله : كلّ من كلّ الثمرات ، وكلّ من الثمرات كلّها] (٢) ، فما الحكمة في اختصاص أحد الجائزين في نظم القرآن دون الآخر؟

قال السهيليّ (٤) في «النتائج» : «له حكمة ، وهو أن «من» في الآية لبيان الجنس لا للتبعيض ، والمجرور في موضع المفعول لا في موضع الظرف ، وإنما يريد الثمرات أنفسها ، لأنه أخرج منها شيئا ، وأدخل «من» لبيان الجنس كلّه. ولو قال : «أخرجنا به من الثمرات كلّها» لقيل : أيّ شيء أخرج منها؟ وذهب التوهّم إلى أن المجرور في موضع ظرف وأن مفعول (أخرجنا) فيما بعد ، وهذا يتوهّم مع تقدّم «كلّ» لعلم المخاطبين أن «كلا» إذا تقدمت اقتضت الإحاطة بالجنس ، وإذا تأخرت اقتضت الإحاطة بالمؤكّد بتمامه ؛ جنسا شائعا كان أو معهودا.

وأما قوله تعالى : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) (النحل : ٦٩) ، ولم يقل «من الثمرات كلها» ففيه الحكمة السابقة ، وتزيد فائدة ، و [هي] (٥) أنه قد تقدمها في النّظم : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ ...) (النحل : ٦٧) الآية.

فلو قال بعدها : «[ثم] (٥) كلي من الثمرات كلها» لأوهم أنها للعهد المذكور قبله ، فكان الابتداء ب «كلّ» احضر للمعنى ، وأجمع للجنس ، وأرفع للبس.

وأما المقطوع عن الإضافة ، فقال السّهيليّ : حقها أن تكون مبتدأة مخبرا عنها ، أو مبتدأة منصوبة بفعل بعدها لا قبلها ، أو مجرورة يتعلق خافضها بما بعدها ، كقولك : كلاّ ضربت وبكلّ مررت. فلا بد من مذكورين قبلها ، لأنه إن لم يذكر قبلها جملة ، ولا أضيفت إلى جملة ، بطل معنى الإحاطة فيها ، ولم يعقل لها معنى».

واعلم أن لفظ «كل» لأفراد التذكير ، ومعناه بحسب ما يضاف إليه ، والأحوال ثلاثة :

__________________

(١) في المخطوطة (المعرفة).

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٤) هو عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي تقدم التعريف به في ١ / ٢٤٢ ، وبكتابه في ٣ / ٣٣٥.

(٥) ساقطة من المخطوطة.

٢٧٦

(الأول) : أن يضاف إلى نكرة فيجب مراعاة معناها ، فلذلك (١) جاء الضمير مفردا مذكرا في قوله تعالى (٢) : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) (القمر : ٥٢) ، (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ) (الإسراء : ١٣) ، ومفردا مؤنثا في قوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر : ٣٨) ، (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (آل عمران : ١٨٥) ، ومجموعا مذكرا في قوله : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون : ٥٣) ، في معنى الجمع ؛ لأنه اسم جمع.

وما ذكرناه من وجوب مراعاة المعنى مع النكرة دون لفظ «كل» قد أوردوا عليه نحو قوله تعالى : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) (غافر : ٥) ، وقوله : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ [مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]) (٣) (الحج : ٢٧) ، وقوله : (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ* لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) (الصافات : ٧ ـ ٨). وأجيب بأن الجمع [٣٠٤ / أ] في الأولى باعتبار [معنى] (٣) «الآية» (٤) ، كذلك في الثانية فإن الضّامر اسم جمع ؛ كالجامل والباقر.

وكذلك في الثالثة ؛ إنّما عاد الضمير إلى الجمع المستفاد من الكلام ، فلا يلزم عوده إلى «كلّ».

وزعم الشيخ أثير الدين (٥) في «تفسيره» [أن قوله تعالى] (٦) : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يَسْمَعُ آياتِ اللهِ) (الجاثية : ٧ ـ ٨) ، ثم قال : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (الجاثية : ٩) ، أنه ممّا روعي فيه المعنى بهذا اللفظ.

وليس كذلك ؛ فإن الضمير لم يعد إلى «كل» بل على «الأفّاكين» الدالة عليه (كل أفاك). وأيضا فهاتان (٧) جملتان والكلام في الجملة الواحدة.

(الثاني) : أن تضاف إلى معرفة ، فيجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها ، سواء كانت الإضافة

__________________

(١) في المخطوطة (فإذا).

(٢) في المخطوطة (نحو) بدل (في قوله تعالى).

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) في المطبوعة (الأمة).

(٥) انظر البحر المحيط ٨ / ٤٤.

(٦) العبارة ليست في المطبوعة.

(٧) في المخطوطة (فهذه).

٢٧٧

لفظا ، نحو : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (مريم : ٩٥) ، فراعى لفظ «كلّ». ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «كلّكم راع ، وكلكم مسئول عن رعيته» (١) ولم يقل : راعون ولا مسئولون.

أو معنى ؛ نحو : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) (العنكبوت : ٤٠) ، فراعى لفظها ، وقال : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (النمل : ٨٧) ، فراعى المعنى.

وقد اجتمع مراعاة اللفظ والمعنى في قوله تعالى : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً* لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (مريم : ٩٣ إلى ٩٥) هذا إذا جعلنا «من» موصولة [وهو الظاهر] (٢) ، فإن جعلناها نكرة موصوفة ، خرجت من هذا القسم إلى الأول.

(الثالث) : أن تقطع (٣) عن الإضافة لفظا ، فيجوز مراعاة لفظها ومراعاة معناها [أيضا] (٢).

فمن الأول : (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) (البقرة : ٢٨٥) ، (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (الإسراء : ٨٤) ، (إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) (ص : ١٤) ، ولم يقل : «كذبوا» ، (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) (العنكبوت : ٤٠).

ومن الثاني : (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) (الأنفال : ٥٤) ، (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (الأنبياء : ٣٣) ، (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (الروم : ٢٦) ، (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (النمل : ٨٧).

قال أبو الفتح (٤) : وعلّته أنّ أحد الجمعين عندهم كاف (٥) عن صاحبه ؛ فإن لفظ «كلّ» للأفراد ومعناها الجمع ، وهذا يدل على أنهم قدّروا المضاف إليه المحذوف في الموضعين

__________________

(١) الحديث متفق عليه من رواية عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنهما وأوله «ألا كلكم راع ...» أخرجه البخاري في الصحيح ١٣ / ١١١ ، كتاب الأحكام (٩٣) ، باب قول الله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ ...) (النساء : ٥٩) (١) ، الحديث (٧١٣٨) ، وأخرجه مسلم في الصحيح ٣ / ١٤٥٩ ، كتاب الإمارة (٣٣) ، باب فضيلة الإمام ... (٥) ، الحديث (٢٠ / ١٨٢٩).

(٢) ساقطة من المطبوعة.

(٣) في المخطوطة (يقع).

(٤) انظر الخصائص ٣ / ٣٣٤ وما بعدها (باب في المستحيل ...).

(٥) في المطبوعة (كان).

٢٧٨

جمعا ، فتارة روعي كما إذا صرح به ، وتارة روعي لفظ «كل» ، وتكون حالة الحذف مخالفة لحال الإثبات.

قيل : ولو قال قائل : حيث أفرد يقدّر الحذف مفردا ، وحيث جمع يقدر جمعا ، فيقدّر في قوله : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) (العنكبوت : ٤٠) «كلّ واحد» ، ويقدر في قوله : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (النمل : ٨٧) (١) [«كل نوع مما سبق» لكان موافقا إذا أضيف لفظا إلى نكرة.

وما ذكروه يقتضي أن تقديره : وكلهم أتوه] (١) ، وكلا التقديرين (٢) سائغ ، والمراد الجمع.

ويتعين في قوله تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (الأنبياء : ٣٣) ، أنّ كلا من الشمس والقمر والليل والنهار لا يصحّ وصفه بالجمع. وقد قدر الزمخشري (٣) : (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (الإسراء : ٨٤) ، كلّ أحد ، وهو يساعد ما ذكرناه. وما ذكرناه في هذه الحالة هو المشهور.

وقال السهيليّ (٤) في «نتاج الفكر» : إذا قطعت [«كل»] (٥) عن الإضافة فيجب أن يكون خبرها جمعا ؛ لأنها اسم في معنى الجمع ، تقول : كلّ ذاهبون ؛ إذا تقدم ذكر قوم. وأجاب عن إفراد الخبر في الآيات السابقة ؛ بأن فيها قرينة تقتضي تحسين المعنى بهذا اللفظ دون غيره.

أما قوله : (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (الإسراء : ٨٤) ، فلأنّ قبلها ذكر فريقين مختلفين ، مؤمنين وظالمين ، فلو جمعهم في الأخبار وقال : كلّ يعملون ، لبطل معنى الاختلاف ، وكان لفظ الإفراد أدلّ على المراد ، والمعنى : كلّ فريق يعمل على شاكلته.

وأما قوله : (إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) (٤) (ص : ١٤) ، فلأنّه ذكر قرونا وأمما ، وختم ذكرهم بقوم تبّع ، فلو قال : كلّ كذبوا ، لعاد إلى أقرب مذكور ، فكان يتوهّم أن الإخبار عن قوم تبّع خاصة ، فلما قال : (إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ) (٧) ، علم أنه يريد كلّ فريق منهم كذب ، لأن إفراد الخبر عن «كل» حيث وقع إنما يدل على هذا المعنى.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (الطريقتين).

(٣) في الكشاف ٢ / ٣٧٣.

(٤) هو عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي تقدم التعريف به في ١ / ٢٤٢ وبكتابه في ٣ / ٣٣٥.

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) الآية في المخطوطة (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) (ق : ١٤).

٢٧٩

(مسألة) وتتصل «ما» ب «كلّ» نحو : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها) (البقرة : ٢٥) ، وهي مصدرية ، لكنّها نائبة بصلتها عن [٣٠٤ / ب] ظرف زمان ، كما ينوب عنه المصدر الصريح ، والمعنى : كل وقت.

وهذه تسمّى «ما» المصدرية الظرفية ، أي النائبة عن الظرف ، لا انها ظرف في نفسها ، ف «كلّ» من «كلما» منصوب على الظرفية لإضافته إلى شيء هو قائم مقام الظرف.

ثم ذكر الفقهاء والأصوليون أن «كلما» للتكرار (١). قال الشيخ أبو حيان (٢) : «وإنما ذلك من عموم «ما» ، لأنّ الظرفية مراد بها العموم ، فإذا قلت : أصحبك ما ذرّ لله شارق ، فإنما تريد العموم ، ف «كلّ» أكدت العموم الذي أفادته «ما» الظرفية ؛ لا أن لفظ «كلما» وضع للتكرار كما يدلّ عليه كلامهم ، وإنما جاءت «كل» توكيدا للعموم المستفاد من «ما» الظرفية». انتهى.

وقوله : إن التكرار من عموم «ما» ممنوع ؛ فإن «ما» المصدرية لا عموم لها ، ولا يلزم من نيابتها عن الظرف دلالتها على العموم ؛ وإن استفيد عموم في مثل هذا الكلام فليس من «ما» إنما هو من التركيب نفسه.

وذكر بعض الأصوليين أنها إذا وصلت ب «ما» صارت أداة (٣) لتكرار الأفعال وعمومها قصديّ وفي الأسماء ضمني (٣). قال تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) (النساء : ٥٦) ، وإذا جرّدت من لفظ «ما» ، انعكس الحكم وصارت عامة في الأسماء قصدا ، وفي الأفعال ضمنا.

ويظهر الفرق بينهما في قوله : كل امرأة أتزوّجها فهي [طالق] (٤) : تطلق كلّ امرأة يتزوجها ، وتكون عامة في جميع النساء لدخولها على الاسم وهو قصديّ. ولو تزوج امرأة ثم تزوّجها مرة أخرى لم تطلق في الثانية لعدم عمومها قصدا في الأسماء. ولو قال : كلما تزوجت امرأة فهي طالق ؛ فتزوج امرأة مرارا طلقت في كل مرة لاقتضائها عموم الأفعال قصدا ، وهو التزوج.

__________________

(١) في المخطوطة (لذلك).

(٢) انظر كتابه النهر الماد المطبوع بهامش البحر المحيط ١ / ٨٩ عند تفسير آية (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) (البقرة : ٢٠). وقال في البحر ١ / ٨٨ : «وأحكام «كل» كثيرة وقد ذكرنا أكثرها في كتابنا الكبير الذي سميناه بالتذكرة وسردنا منها جملة لينتفع بها ...».

(٣) العبارة في المخطوطة (التكرار والأفعال فتعم الأفعال وهو بها قصديّ وهو في الأسماء ضمنيّ).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

٢٨٠