البرهان في علوم القرآن - ج ٤

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٤

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٣

إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَ) فخالف بين الجمعين في (١) الأبناء. وفي سورة (١) الأحزاب : (وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ [وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ]) (٢) (الأحزاب : ٥٥). ٤ / ٢٢

ومنه قوله تعالى : (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) (البقرة : ٢٦١) وفي موضع آخر : (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ) (يوسف : ٤٣) فالمعدود واحد. وقد اختلف تفسيره ، فالأول جاء بصيغة جمع الكثرة ، والثاني بجمع القلّة. وقد قيل في توجيهه : إنّ آية البقرة سيقت في بيان المضاعفة والزيادة ، فناسب صيغة جمع الكثرة ، وآية يوسف لحظ فيها [المرئي] (٣) وهو قليل ، فأتى بجمع (٤) القلّة ؛ ليصدّق اللفظ المعنى.

(تنبيه)

جمع التكسير يشمل أولي العلم وغيرهم ، وجمع السلامة يختص في أصل الوضع بأولي العلم ، وإن في غيرهم فبحكم الإلحاق والتشبيه ، كقوله : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (يوسف : ٤) وعلى هذا فأشرف الجمعين جمع السلامة ، وما يجمع جمع التكسير من مذكّر غير العاقل قد يتبع بالصفة المفردة مؤنثة بالتاء ، كما يفعل بالخبر ، تقول : حقوق معقودة ، وأعمال محسوبة ، قال تعالى : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ* وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ* وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ* وَزَرابِيُ) [٢٥٢ / ب] (مَبْثُوثَةٌ) (الغاشية : ١٣ ـ ١٦).

وقال تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُودَةً) (البقرة : ٨٠) وقد يجمع بالألف والتاء في غير المفرد وإن لم يكثر ، إلا أنه فصيح ، ومنه : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) (البقرة : ٢٠٣).

(قاعدة نحويّة)

٤ / ٢٣ نون (٥) ضمير الجمع في جمع العاقلات (٦) ، سواء القلّة كالهندات ، أو الكثرة كالهنود ،

__________________

(١) عبارة المخطوطة (في الأبناء وثنى ، وفي سورة) بزيادة (وثنى).

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) وقع في المطبوعة بياض مكان هذه الكلمة ، وهي من المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (بلفظ).

(٥) تصحفت في المخطوطة إلى (محو).

(٦) تصحفت في المطبوعة إلى (العلاقات).

٢١

فتقول : الهندات يقمن ، والهنود يقمن قال تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ) (البقرة : ٢٣٣) (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) (البقرة : ٢٢٨) هذا هو الأكثر. وقد جاء في القرآن بالإفراد ، قال تعالى : (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) (آل عمران : ١٥) ولم يقل : «مطهرات».

وأما جمع غير العاقل ففيه تفصيل : إن كان للكثرة أتيت بضميره مفردا ، فقلت : الجذوع انكسرت ، وإن كان للقلة ، أتت جمعا. وقد اجتمعا في قوله [تعالى] : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ) (التوبة : ٣٦) إلى أن قال : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة : ٣٦) فالضمير في «منها» يعود إلى «الاثني عشر» وهو جمع كثرة ، ولم يقل «منهن» ، ثم قال سبحانه : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (التوبة : ٣٦) فهذا عائد إلى الأربعة ، وهو جمع قلة.

(فإن قيل) : فما السرّ في هذا حيث كان يؤتى مع الكثرة بضمير المفرد ، ومع القلة بضمير الجمع؟ وهلاّ عكس؟ (قلنا) : ذكر الفراء له سرّا لطيفا ، فقال : لما كان المميّز من (١) جمع الكثرة واحدا ، وحدّ الضمير لأنه من أحد عشر يصير مميزه واحدا ، وهو الدرهم (٢) ، وأما جمع القلة فمميّزه جمع ، لأنّك تقول : ثلاثة دراهم ، [أربعة دراهم] (٣) ، وهكذا ، إلى العشرة تمييزه جمع ، فلهذا أعاد الضمير باعتبار المميّز جمعا وإفرادا ، ومن هذا قوله سبحانه : (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) (لقمان : ٢٧) فأتى بجمع القلة ولم يقل : «بحور» لتناسب نظم الكلام ؛ وهذا هو الاختيار في إضافة العدد إلى جمع القلّة.

٤ ـ / ٢٤ وأما قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (البقرة : ٢٢٨) فأضاف الثلاثة إلى القروء ، وهو جمع كثرة ، ولم يضفها إلى الأقراء التي هي جمع قلة. قال الحريري (٤) : المعنى : لتتربّص كلّ واحدة منهن (٥) ثلاثة أقراء ، فلمّا أسند إلى جماعتهنّ [ثلاثة] (٦) ـ والواجب على كل فرد (٧) منهن ثلاثة ـ أتى بلفظ «قروء» لتدل على الكثرة المرادة ، والمعنى الملموح.

__________________

(١) في المطبوعة (مع).

(٢) تصحفت في المطبوعة إلى (أندرهم).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) هو القاسم بن علي بن محمد ، تقدم التعريف به في ١ / ١٦٤.

(٥) في المخطوطة (من المطلقات).

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) في المخطوطة (واحد).

٢٢

(قاعدة في الضمائر)

وقد صنف ابن الأنباريّ (١) في «بيان الضمائر الواقعة في القرآن» مجلدين ـ وفيه مباحث :

الأول : للعدول إلى الضمائر أسباب :

ـ منها ـ وهو أصل وصفها ـ للاختصار ، ولهذا قام قوله تعالى : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الأحزاب : ٣٥) مقام خمسة وعشرين [كلمة] (٢) لو أتى بها مظهرة وكذا قوله تعالى : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) (النور : ٣١) نقل ابن عطية عن مكّي ، أنه ليس في كتاب الله آية اشتملت على ضمائر أكثر منها ، وهي مشتملة على خمسة وعشرين ضميرا. وقد قيل : في آية الكرسي أحد وعشرون اسما ؛ ما بين ضمير وظاهر.

ـ ومنها ، الفخامة بشأن صاحبه ؛ حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدلّ على نفسه ، ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته ، كقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر : ١) يعني القرآن ، وقوله : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) (البقرة : ٩٧) ومنه ضمير الشأن.

ـ ومنها التحقير ، كقوله تعالى : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة : ١٦٨) يعني الشيطان. وقوله : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) (الأعراف : ٢٧) (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) (الانشقاق : ١٤). ٤ / ٢٥

الثاني : الأصل أن يقدم ما يدلّ [عليه] (٣) الضمير ، بدليل الأكثرية وعدم التكليف ، ومن ثم ورد قوله تعالى : (إِذا تَدايَنْتُمْ) [٢٥٣ / أ] (بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) (البقرة : ٢٨٢) وتقدّم المفعول الثاني في قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ) (الأنعام : ١١٢) فأخّر المفعول الأول ليعود الضمير الأول عليه لقربه.

وقد قسم النحويون ضمير الغيبة إلى أقسام :

ـ (أحدها) ـ وهو الأصل ، أن يعود إلى شيء سبق ذكره في اللفظ بالمطابقة ، نحو : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ [فَغَوى]) (٤) (طه : ١٢١) (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) (هود : ٤٢) (إِذا

__________________

(١) هو أبو بكر محمد بن القاسم الانباري تقدم التعريف به في ١ / ٢٩٩. وبكتابه في ٢ / ٣٤٥.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المخطوطة.

٢٣

أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) (النور : ٤٠) وقوله : (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ) (الأحقاف : ٢٩)

ـ (الثاني) : أن يعود على مذكور في سياق الكلام ، مؤخر في اللفظ مقدم في النية ، كقوله تعالى : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً) (طه : ٦٧) وقوله : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (القصص : ٧٨) وقوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (الرحمن : ٣٩). ٤ / ٢٦

ـ (الثالث) : أن يدل اللفظ على صاحب الضمير بالتضمّن ، كقوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (المائدة : ٨) فإنه عائد على «العدل» المفهوم من «اعدلوا». وقوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (الأنعام : ١٢١) فالضمير يرجع للأكل لدلالة «تأكلوا». وقوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) (النساء : ٨) إلى قوله : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) (النساء : ٨) أي المقسوم ، لدلالة القسمة عليه. ويحتمل أن يعود على ما تركه الوالدان والأقربون ؛ لأنه مذكور ، وإن كان بعيدا.

ـ (الرابع) : [أن يدلّ عليه بالالتزام ، كإضمار النفس] (١) في قوله تعالى :

([فَلَوْ لا] (١) إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) (الواقعة : ٨٣) (كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) (القيامة : ٢٦) [يعني] (٢) أضمر النفس لدلالة ذكر الحلقوم والتراقي عليها. وقوله : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (ص : ٣٢) يعني الشمس. [وقيل] (٣) : بل سبق ما يدلّ عليها ، وهو (بِالْعَشِيِ) لأن العشيّ ما بين زوال الشمس وغروبها ، والمعنى : إذ عرض عليه بعد زوال الشمس حتى توارت الشمس بالحجاب. وقيل : فاعل (تَوارَتْ) ضمير (الصَّافِناتُ) ذكره ابن مالك (٤) ، وابن العربي (٥) في «الفتوحات» (٦)! ...

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) هو محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك جمال الدين أبو عبد الله ، تقدم التعريف به في ١ / ٣٨١.

(٥) هو محمد بن عبد الله بن محمد أبو بكر المعافري ، تقدم التعريف به في ١ / ١٦.

(٦) كذا في الأصول! وهو بعيد عن المراد ، ولعل الصواب «أحكام القرآن» ؛ لأن كتاب «الفتوحات» في التصوّف لا في علوم القرآن ، وانظر القول الذي ساقه الزركشي في «أحكام القرآن» ٤ / ١٦٤٨ في الكلام على سورة ص ، الآية الثامنة ، المسألة الرابعة.

٢٤

ويرجّحه أن اتفاق الضمائر أولى من تخالفها ، وسنذكره في الثامن (١).

٤ ـ / ٢٧ وكذا قوله : (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (العاديات : ٤ ـ ٥) قيل : الضمير لمكان «الإغارة» بدلالة (٢) «والعاديات» عليه ، فهذه الأفعال إنما تكون لمكان.

وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر : ١) أضمر القرآن (٣) ؛ لأن الإنزال يدل عليه وقوله [تعالى] : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) (البقرة : ١٧٨) ف «عفى» يستلزم «عافيا» إذ أغنى ذلك عن ذكره ، وأعيد الهاء من (إِلَيْهِ) عليه.

ـ (الخامس) : أن يدلّ عليه السياق فيضمر ، ثقة بفهم السامع كإضمار «الأرض» في قوله [تعالى] : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) (فاطر : ٤٥) وقوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (الرحمن : ٢٦).

وجعل ابن مالك الضمير للدنيا ، وقال : وإن لم يتقدم [لها ذكر ، لكن تقدّم] (٤) ذكر بعضها ، والبعض يدلّ على الكلّ.

وقوله تعالى : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) (المؤمنون : ٦٧) يعني القرآن أو المسجد الحرام. وقوله : (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) (يوسف : ٢٦).

(يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) (القصص : ٢٦) (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) (النساء : ١١) الضمير يعود على الميت ، وإن لم يتقدم له ذكر ، إلا أنه لمّا قال : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) (النساء : ١١) علم أن ثمّ ميتا يعود الضمير عليه. وقوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) (النساء : ٨) ثم قال : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) (النساء : ٨) أي من الموروث ، وهذا وجه آخر غير (٥) ما سبق.

٤ ـ / ٢٨ وقوله : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها) (الجاثية : ٩) ولم يقل «اتخذه» ، ردا للضمير إلى «شيئا» ، لأنه لم يقتصر على الاستهزاء بما يسمع من آيات الله ؛ بل كان إذا سمع

__________________

(١) انظر ص ٣٣ من هذا الجزء.

(٢) في المخطوطة (بدليل).

(٣) في المخطوطة (الضمير للقرآن).

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (آخر على ما سبق).

٢٥

بعض آيات الله استهزأ بجميعها. وقيل : «شيئا» بمعنى الآية ؛ لأن بعض الآيات آية.

وقد يعود الضمير على الصاحب المسكوت عنه لاستحضاره [٢٥٣ / ب] بالمذكور وعدم صلاحيته له ، كقوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) (يس : ٨) ، فأعاد الضمير للأيدي لأنها تصاحب الأعناق في الأغلال ، وأغنى ذكر الأغلال (١) عن ذكرها. ومثله قوله [تعالى] : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) (فاطر : ١١) ، أي من عمر غير المعمّر ، فأعيد الضمير على غير المعمّر ؛ لأن ذكر المعمّر يدل عليه لتقابلهما ، فكان يصاحبه الاستحضار الذهنيّ.

وقد يعود الضمير على بعض ما تقدم [له] (٢) ، كقوله تعالى : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) (النساء : ١١) ، بعد قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) (النساء : ١١) وقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) (البقرة : ٢٢٨) ؛ فإنه عائد على المطلّقات ؛ مع أن هذا خاصّ بالرّجعى ، وهل (٣) يقتضي ذلك تخصيص الأول؟ فيه خلاف أصوليّ. وقوله : (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) (التوبة : ٣٤) ؛ فإن الفضة بعض المذكور ، فأغنى ذكرها عن ذكر الجميع ؛ حتى كأنه قال : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) (التوبة : ٣٤) ، أصناف ما يكنز.

وقد يعود على اللفظ الأوّل دون معناه ، كقوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) (فاطر : ١١) ، وقد سبق فيه وجه آخر.

٤ ـ / ٢٩ وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) (السجدة : ٢٣) على أحد الأقوال.

ومما يتخرّج عليه : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) (البقرة : ٢٢٨) ، ويستراح من إلزام تخصيص الأول.

وقد يعود على المعنى ، كقوله في آية الكلالة : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) (النساء : ١٧٦) ، ولم يتقدم لفظ مثنى يعود عليه الضمير من «كانتا» ، قال الأخفش (٤) : إنما يثنّى ،

__________________

(١) في المخطوطة (وأغنى عن ذكر الاعناق).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (وهذا يقتضي).

(٤) هو سعيد بن مسعدة أبو الحسن تقدم التعريف به في ١ / ١٣٤.

٢٦

لأن الكلام لم يقع على الواحد والاثنين والجمع ، فثنى الضمير الراجع إليها ، حملا على المعنى ، كما يعود الضمير جمعا في «من» حملا على معناها. وقال الفارسيّ : إنما جازت من حيث كان يفيد العدد ، مجردا من الصغير والكبير.

ـ (السادس) : ألاّ يعود على مذكور ، ولا معلوم بالسياق أو غيره وهو الضمير المجهول الذي يلزمه التفسير بجملة أو مفرد ، فالمفرد في نعم وبئس ، والجملة ضمير الشأن والقصة ، نحو هو زيد منطلق ، وكقوله [تعالى] : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (الإخلاص : ١) ، [أي] (١) الشأن الله أحد. وقوله : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) (الكهف : ٣٨) وقوله : (أَنَا اللهُ) (طه : ١٤) وقوله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) (الحج : ٤٦).

وقد يكون مؤنثا [إذا كان عائده مؤنثا] (١) ، كقوله [تعالى] : (إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا) (الأنعام : ٢٩) ، وأما قوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ) (طه : ٧٤) فذكّر الضمير مع اشتمال الجملة على جهنم وهي مؤنثة ، لأنها في حكم الفضلة ، إذا المعنى : من يأت ربه مجرما يجزه جهنم. ٤ / ٣٠

(تنبيه) : والفرق بينه وبين ضمير الفصل أن الفصل يكون على لفظ الغائب والمتكلم والمخاطب ، قال تعالى : (هذا هُوَ الْحَقَ) (الأنفال : ٣٢). (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ) (المائدة : ١١٧). (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً) (الكهف : ٣٩) ، ويكون له محل من الإعراب ، وضمير الشأن لا يكون إلا غائبا ويكون مرفوع المحلّ ومنصوبه ، قال تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (الاخلاص : ١). (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) (الجن : ١٩).

البحث الثالث : قد يعود على لفظ شيء ، والمراد به الجنس من ذلك الشيء ، كقوله تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) (البقرة : ٢٥) ؛ فإن الضمير في «به» يرجع إلى المرزوق في الدارين جميعا ؛ لأن قوله : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) (البقرة : ٢٥) مشتمل على ذكر ما رزقوه في الدارين. قال الزمخشريّ (٢) : ونظيره : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) (النساء : ١٣٥) ، أي بجنس الفقير والغني ، لدلالة قوله : (غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) على الجنسين ، ولو رجع إلى المتكلم به لوحّده.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) انظر «الكشاف» ١ / ٣٠٤ عند تفسير الآية (١٣٥) من سورة النساء.

٢٧

٤ / ٣١ البحث الرابع : قد يذكر شيئان ويعاد الضمير على أحدهما ، ثم الغالب كونه للثاني ، كقوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [٢٥٤ / أ] (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) (البقرة : ٤٥) ، فأعاد الضمير للصلاة لأنها أقرب. وقوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) (يونس : ٥) والأصل : «قدرهما» لكن اكتفى برجوع الضمير للقمر لوجهين : قربه من الضمير ، وكونه هو الذي يعلم به الشهور ، ويكون به حسابها. وقوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) (التوبة : ٣٤) ، أعاد الضمير على الفضة لقربها. ويجوز أن يكون إلى المكنوز ، وهو يشملها. وقوله : ([وَاللهُ] (١) وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (التوبة : ٦٢) ، أراد يرضوهما ، فخصّ الرسول بالعائد ، لأنه هو داعي العباد إلى الله ، وحجته عليهم ، والمخاطب لهم شفاها بأمره ونهيه ، وذكر الله تعالى في الآية تعظيما ، والمعنى تام بذكر الرسول وحده ، كما قال تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) (النور : ٤٨) ، فذكر الله تعظيما ، والمعنى تام بذكر رسوله. ومثله قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) (الأنفال : ٢٠).

وجعل منه ابن الأنباريّ (٢) : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ [بَرِيئاً]) (٣) (النساء : ١١٢) (٣) [أعاد الضمير للإثم ، لقربه ، ويجوز رجوعه إلى الخطيئة والإثم على لفظها ، بتأويل : ومن يكسب إثما ثم يرم به] (٣). وقال ابن الأنباري : ولم يؤثر الأوّل بالعائد في القرآن كلّه إلا في موضع واحد ، وهو قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) (الجمعة : ١١) ، معناه «[انفضوا] (٤) إليهما» ، فخصّ التجارة بالعائد ، لأنّها كانت سبب الانفضاض عنه ، وهو يخطب.

٤ ـ / ٣٢ (قال) : فأما كلام العرب فإنها تارة تؤثر الثاني بالعائد وتارة الأول ، فتقول : إن عبدك وجاريتك عاقلة ، وإن عبدك وجاريتك (٥) عاقل. (قلت) : ليس من هذا قوله تعالى : (وَإِذا

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) لعلّه محمد بن القاسم أبو بكر تقدم التعريف به في ١ / ٢٩٩.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) في المخطوطة زيادة (إن عبدك وجاريتك ليس بعاقل).

٢٨

رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) (الجمعة : ١١). وقوله : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) (النساء : ١١٢) ، لأن الإخبار عن أحدهما لوجود لفظه ، أو هي لإثبات أحد المذكورين ، فمن جعله نظير هذا فلم يصب إلا أن يدّعي أنّ «أو» بمعنى الواو.

وفي هاتين الآيتين لطيفة ، وهي أنّ الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما ، [أعاده] (١) في الآية الأولى على التجارة ، وإن كانت أبعد ومؤنّثة ، لأنها أجذب لقلوب العباد عن طاعة الله من اللهو ، بدليل أن المشتغلين بها أكثر من اللهو ، ولأنها أكثر نفعا من اللهو. أو لأنها كانت أصلا واللهو تبعا ، لأنه ضرب بالطبل لقدومها على ما عرف من تفسير (٢) الآية. وأعاده في الآية الثانية على الإثم ، رعاية لمرتبة القرب والتذكر.

الخامس : قد يذكر شيئان ، ويعود الضمير جمعا ؛ لأن الاثنين جمع في المعنى ، كقوله تعالى : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (الأنبياء : ٧٨) ، يعني حكم سليمان وداود. وقوله : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) (النور : ٢٦) ، فأوقع «أولئك» وهو جمع ، على عائشة وصفوان بن المعطّل (٣).

[البحث] (٤) السادس : قد يثنى الضمير ويعود على أحد المذكورين ، كقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (الرحمن : ٢٢) ، قالوا : وإنما يخرج من أحدهما. وقوله : (نَسِيا حُوتَهُما) (الكهف : ٦١) وإنما نسيه الفتى.

السابع : قد يجيء الضمير متّصلا بشيء وهو لغيره ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون : ١٢) ، يعني آدم ، ثم قال : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً [فِي قَرارٍ]) (٥)

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ص ٢٨٦ عند تفسير الآية من سورة الجمعة ، ونصه «أصاب أهل المدينة أصحاب الضرر رجوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة الكلبي في تجارة من الشام ، وضرب لها طبل يؤذن الناس بقدومه ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة فخرج إليه الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا منهم أبو بكر وعمر فنزلت هذه الآية فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لم يبق أحد منكم لسال بكم الوادي نارا» ، وأصل هذا الحديث مخرّج في الصحيحين دون ذكر ضرب الطبل.

(٣) هو صفوان بن المعطل بن ربيعة (بالتصغير) ، سكن المدينة وشهد صفوان الخندق والمشاهد ، جرى ذكره في حديث الإفك المشهور في الصحيحين ، وفيه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما علمت عليه إلا خيرا» ومات شهيدا (ابن حجر ، الإصابة ٢ / ١٨٤).

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) ليست في المطبوعة.

٢٩

(المؤمنون : ١٣) ؛ فهذا لولده ، لأن آدم لم يخلق من نطفة. ومنه قوله تعالى : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (المائدة : ١٠١) ، قيل : نزلت في ابن حذافة (١) حين قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أبي؟ قال : حذافة ، فكان نسبه ، فساءه ذلك (٢) [٢٥٤ / ب] ، فنزلت : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) (المائدة : ١٠١). وقيل : نزلت في الحج (٣) ، حين قالوا : أفي كل عام مرة؟ ثم قال : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها) (المائدة : ١٠١) ، يريد : إن تسألوا عن أشياء أخر من [أمور] (٤) دينكم بكم إلى علمها حاجة تبد لكم ، ثم قال : (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ [مِنْ قَبْلِكُمْ]) (٥) (المائدة : ١٠٢) ، أي طلبها ، والسؤال عنها طلب ، فليست الهاء راجعة لأشياء متقدمة ، بل لأشياء أخر مفهومة من قوله : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) (المائدة : ١٠١)

__________________

(١) هو عبد الله بن حذافة السهمي أبو حذافة ، وأمه بنت حرثان من بني الحارث ، من السابقين الأولين يقال شهد بدرا ، مات في خلافة عثمان (ابن حجر ، الإصابة ٢ / ٢٨٧) وقصته في الصحيحين من رواية أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ١٨٧ كتاب العلم (٣) ، باب الغضب في الموعظة ... (٢٨) ، الحديث (٩٢) ، وأخرجه مسلم في الصحيح ٤ / ١٨٣٤ كتاب الفضائل (٤٢) ، باب توقيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترك إكثار سؤاله ... (٣٧) ، الحديث (١٣٨ / ٢٣٦٠) ، ومن رواية أنس رضي‌الله‌عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ١٨٧ ـ ١٨٨ باب من برك على ركبتيه عند الإمام أو المحدث (٢٩) ، الحديث (٩٣) ، وأخرجه مسلم في الصحيح ٤ / ١٨٣٢ ـ ١٨٣٣ الحديث (١٣٦ / ٢٣٥٩) وأوله من رواية أبي موسى رضي‌الله‌عنه «سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشياء كرهها فلما أكثر عليه غضب ثم قال للناس «سلوني عمّ شئتم».

(٢) هناك رجلان سألا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أبيهما ، أحدهما عبد الله بن حذافة ، والآخر هو سعد بن سالم مولى شيبة ، وهو الذي ساءه نسبه قال ابن حجر في فتح الباري ١٣ / ٢٧٠ كتاب الاعتصام (٩٦) ، باب ما يكره من كثرة السؤال ... (٣) ، عند شرحه للحديث (٧٢٩٤) وفيه ذكر «عبد الله بن حذافة» ما نصه : (فإن المساءة في حق هذا [المشار إليه هو سعد بن سالم مولى شيبة ، وقد ذكره ابن حجر آنفا] جاءت صريحة ، بخلافها في حق عبد الله بن حذافة فإنها بطريق الجواز).

(٣) الحديث من رواية علي رضي‌الله‌عنه وفيه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) ، أخرجه ابن ماجة في السنن ٢ / ٩٦٣ كتاب المناسك (٢٥) ، باب فرض الحج (٢) ، الحديث (٢٨٨٤) ، وأخرجه الترمذي في السنن ٣ / ١٧٨ كتاب الحج (٧) ، باب ما جاءكم فرض الحج (٥) ، الحديث (٨١٤) ، ومن رواية أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ولكن ليس فيه ذكر الآية ، أخرجه مسلم في الصحيح ٢ / ٩٧٥ كتاب الحج (١٥) ، باب فرض الحج مرة في العمر (٧٣) ، الحديث (٤١٢ / ١٣٣٧) ، وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير ٢ / ١٠٧ ـ ١٠٨ عند تفسير الآية من سورة المائدة.

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) ليست في المخطوطة.

٣٠

ويدلّ على ما ذكرنا أنه لو كان الضمير عائدا على أشياء مذكورة لتعدّى إليها ب «عن» لا بنفسه ، ولكنه مفعول مطلق لا مفعول به.

وقوله تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (الحج : ٧٨) ، يتبادر إلى الذهن أن الضمير (١) في [قوله] (٢) : (هُوَ) عائد لإبراهيم عليه‌السلام ، لأنه أقرب المذكورين ، وهو مشكل لا يستقيم ، لأن الضمير في قوله : (وَفِي هذا) ، راجع للقرآن ، وهو لم يكن في زمن إبراهيم ، ولا هو قاله. والصواب أن الضمير راجع إلى الله سبحانه ، يعني (سَمَّاكُمُ [الْمُسْلِمِينَ] (٣) مِنْ قَبْلُ ) (الحج : ٧٨) ، [يعني] (٣) في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلكم ، وفي هذا الكتاب الذي أنزل عليكم ، وهو القرآن.

والمعنى : جاهدوا في الله حقّ جهاده ، هو اجتباكم ، وهو سماكم المسلمين من قبل ، وفي هذا الكتاب لتكونوا ، أي سماكم وجعلكم مسلمين لتشهدوا على الناس يوم القيامة.

وقوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) (الحج : ٧٨) ، منصوب بتقدير «اتّبعوا» ، لأنّ هذا الناصب نصبه قوله : (جاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) (الحج : ٧٨) ، لأنّ الجهاد من ملة إبراهيم. ٤ / ٣٤

وفي سورة يس موضعان ، توهّم فيهما كثير من الناس :

أحدهما قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (يس : ٣٧) ، فقد يتوهّم أنّ الضمير في «هم» راجع إلى الليل والنهار ، بناء على أن أقلّ الجمع اثنان ، وهو فاسد لوجهين : أحدهما أنّ النهار ليس مظلما ، والثاني أنّ كون أقلّ الجمع اثنان مذهب مرجوح ، إنما الضمير راجع إلى الكفار الذين يحتج عليهم بالآيات ، و (مُظْلِمُونَ) : داخلو الظلام ، كقولك : «[قوم] (٢) مصبحون» و «ممسون» إذا دخلوا في هذه الأشياء.

والثاني قوله [تعالى] : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (يس : ٨١) ، يظنّ بعضهم أن معناه مثل السموات والأرض ، وهو فاسد لوجهين : أحدهما أنهم ما أنكروا إعادة السموات والأرض حتى يدلّ على إنكارهم (٤) إعادتهما بابتدائهما ؛ وإنما

__________________

(١) في المخطوطة (يتبادر الذهن إلى أن الضمير).

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (إنكاره).

٣١

أنكروا إعادة أنفسهم ، فكان الضمير راجعا إليهم ، ليتحقق حصول الجواب لهم والردّ عليهم.

الثاني لتبيّن المراد في قوله : (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ (١) يُحْيِيَ الْمَوْتى) (الأحقاف : ٣٣).

فإن قيل : إنما أثبت قدرته على إعادة مثلهم لا على إعادتهم أنفسهم ، فلا دلالة فيه عليهم.

قلنا : المراد بمثلهم [«هم»] (٢) كما في قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى : ١١) ، وقولهم : مثلي لا يفعل كذا ، أي أنا ، وبدليل الآية الأخرى.

وقوله : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر : ١٠) ، قد يتوهّم عوده على الله (٣) ، وليس ٤ / ٣٥ كذلك ، وإلا لنصب «العمل» كما تقول : قام زيد وعمرا يضربه ؛ وإنما الفاعل في «يرفعه» عائد إلى العمل ، والهاء للكلم.

قال الفارسيّ في «التّذكرة (٤)» : [الضمير] (٥) المنصوب في (يَرْفَعُهُ) عائد للكلم (٦) ؛ لأن الكلم جمع كلمة ، قال : كلم كالشجر ، في أنه قد وصف بالمفرد في قوله : (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ) (يس : ٨٠) ، وكذلك وصف الكلم بالطيّب ، ولو كان الضمير المنصوب في (يَرْفَعُهُ) عائدا إلى «العمل» (٧) [لكان منصوبا في هذا الوجه. وما جاء التنزيل عليه ، من نحو. (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (الإنسان : ٣١). والضمير المرفوع في (يَرْفَعُهُ) عائد إلى العمل] (٧) ، فلذلك ارتفع العمل ، ولم يحمل على قوله : (يَصْعَدُ) ويضمر له فعل ناصب ، كما أضمرت لقوله : (وَالظَّالِمِينَ) ، والمعنى : يرفع العمل الصالح الكلم الطيّب ، ومعنى «يرفع العمل» أنه لا يحبط ثوابه فيرفع لصاحبه ، ويثاب

__________________

(١) في المخطوطة (بقادر على أن يخلق مثلهم) وصواب الآية كما في المطبوعة.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (عوده لله).

(٤) هو أبو علي الفارسي تقدم التعريف به في ١ / ٣٧٥ ، وبكتابه «التذكرة» في ٢ / ٣٩٤.

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) المراد به قوله تعالى من الآية نفسها بسورة فاطر (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ).

(٧) ليست في المخطوطة.

٣٢

عليه ، وليس كالعمل [٢٥٥ / أ] السيئ الذي يقع معه الإحباط (١) ، فلا يرفع إلى الله سبحانه.

الثامن : إذا اجتمع ضمائر ، فحيث أمكن عودها لواحد فهو أولى من عودها المختلف ، ولهذا لما جوّز بعضهم في قوله تعالى : (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) الخ أن الضمير في (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) (طه : ٣٩) ، للتابوت وما بعده ، وما قبله لموسى عابه الزمخشري (٢) ، وجعله تنافرا ومخرجا للقرآن عن إعجازه ، فقال : «والضمائر كلها راجعة إلى موسى [و] (٣) رجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدّي إليه من تنافر النظم (٤).

٤ ـ / ٣٦ فإن قلت : المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل! [قلت : ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل] (٥) هو موسى في جوف التابوت ؛ حتى لا تفرّق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو [قوام] (٥) إعجاز القرآن ، ومراعاته أهم ما يجب على المفسّر». انتهى ولا مزيد على حسنه.

وقال في قوله : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ [بُكْرَةً وَأَصِيلاً]) (٦) (الفتح : ٩) : «الضمائر لله عزوجل ، والمراد بتعزير الله تعزير دينه ورسوله ، ومن فرّق الضمائر فقد أبعد» (٧).

أي فقد قيل إنها للرسول إلا الأخير ؛ لكن قد يقتضي المعنى التخالف ، كما في قوله تعالى : (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (الكهف : ٢٢) ، الهاء والميم في «فيهم» لأصحاب الكهف ، والهاء والميم في «منهم». لليهود قاله ثعلب والمبرد.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) (المؤمنون : ٥٩) بعد قوله : (إِنَّما سُلْطانُهُ) (النحل : ١٠٠).

__________________

(١) في المخطوطة (الذي يقع الإحباط معه).

(٢) انظر الكشاف ٢ / ٤٣٣ عند تفسير الآية من سورة طه.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) تصحفت في المطبوعة إلى (النظر).

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) انظر «الكشاف» ٣ / ٤٦٣ عند تفسير الآية من سورة الفتح.

٣٣

وقوله : (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) (سبأ : ٤٥).

وقوله : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) (الروم : ٩) ، أي عمروا الأرض الذين كانوا قبل قريش ، أكثر مما عمرتها قريش.

وقوله : (إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) (التوبة : ٤٠) الآية فيها اثنا عشر ضميرا ، خمسة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وله (١) ... والثالث ضمير (فِي الْغارِ) ، لأنه يتعلق باستقرار محذوف ، ٤ / ٣٧ فيحتمل ضميرا ، والرابع (صاحِبُهُ) ، والخامس (لا تَحْزَنْ) ، والسادس (مَعَنا) ، والسابع في (عَلَيْهِ) على قول الأكثر (٢) فيما نقله السهيلي ؛ لأن السكينة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دائما لأنه كان قد علم أنه لا يضره شيء (٣) ، إذ كان خروجه بأمر الله.

وأما قوله : (ثُمَ (٤) أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ) (التوبة : ٢٦) ، فالسكينة نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين ، لأنه خاف على المسلمين ولم يخف على نفسه ، فنزلت [عليه] (٥) السكينة من أجلهم لا من أجله.

وأما قوله تعالى : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) (يوسف : ٤٢) ، قيل : الضميران عائدان على يوسف (٦) [أي فأنسى الشيطان يوسف أن يذكر ربه تعالى ، وقيل يعودان على الفتى الذي ظن يوسف أنه ناج ، فالمعنى أن يوسف] (٦) ، قال للنّاجي : ذكّر الملك بأمري.

ورجّح ابن السيّد (٧) هذا لقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (يوسف : ٤٥) أي بعد حين.

__________________

(١) كذا في المطبوعة والمخطوطة ، وفي العبارة نقص ظاهر.

(٢) في المخطوطة (الأكثرين) ، وعبارة السهيلي توضح بعض غموض عبارة الزركشي ، قال في «الروض الأنف» ٢ / ٢٣٢ ضمن ذكر هجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وقول الله تعالى (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) قال أكثر أهل التفسير : يريد على أبي بكر ، وأما الرسول فقد كانت السكينة عليه).

(٣) عبارة المخطوطة (لأنه قد كان علم أنه لا يضروه شيئا).

(٤) في المخطوطة (فأنزل الله) والصواب ما في المطبوعة لموافقته سياق الكلام عن غزوة حنين.

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) هو عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي تقدم التعريف به في ١ / ٣٤٣.

٣٤

وفي قراءة ابن عامر بعد «أمه» (١) بالتخفيف ، أي نسيان وإلا لم يكن ليذكر تذكّر الفتى بعد النسيان. والذّكر على هذا يحتمل وجهين : أن يكون بمعنى التذكير ، ويكون مصدر ذكرته ذكرا ، فالتقدير : فأنساه الشيطان ذكره عند ربه ، فأضاف الذكر إلى الربّ ، وهو في الحقيقة مضاف إلى ضمير يوسف ، وجاز ذلك لملائمته بينهما.

وقد يخالف بين الضمائر حذرا من التنافر ، كقوله تعالى : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة : ٣٦) ، لما عاد الضمير على «الاثني عشر» ، ثم قال : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (التوبة : ٣٦) ، لما أعاده على «أربعة» ، وهو جمع قلة.

وجوز بعضهم عوده على «الاثني عشر» أيضا ، بل هو الصواب ، لأنه لا يجوز أن ينهى عن الظلم في الأربعة [٢٥٥ / ب] ويبيح الظلم في الثمانية ؛ بل ترك الظلم في الكلّ واجب.

قلت : لكن يجوز التنصيص على أفضليّة الحرم ، فإن الظّلم قبيح مطلقا ، وفيهن أقبح ، فالظاهر الأول. ٤ / ٣٨

التاسع : قد يسدّ مسدّ الضمير أمور :

ـ منها الإشارة ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (الإسراء : ٣٦).

ـ ومنها الألف واللام ، كقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى * وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى * وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (النازعات : ٣٧ إلى ٤١).

وقوله : (نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) (إبراهيم : ٤٤) ، أي رسلك.

وقوله : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ(٢) [فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف : ٩٠) ، أصل الكلام «أجره وصبره» ، ولما كان «المحسنون» جنسا ، و (مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ)] (٢) واحد تحته ، أغنى عمومه من عود الضمير إليه.

__________________

(١) قال أبو حيان في البحر المحيط ٥ / ٣١٤ عند تفسير الآية من سورة يوسف (وقرأ ابن عباس وزيد بن علي والضحاك وقتادة وأبو رجاء وشبيل بن عزرة الضبعي وربيعة بن عمرو «بعد أمه» بفتح الهمزة والميم مخففة وهاء).

(٢) ليست في المخطوطة.

٣٥

وقول الكوفيين : الألف واللام عوض من الضمير.

قال ابن مالك (١) : وعليه يحمل قوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) (ص : ٥٠) وزعم [أبو علي و] (٢) الزمخشري (٣) أن الأبواب بدل من المستكنّ في «مفتّحة».

وهذا تكلّف ، فوجب أن تكون «الأبواب» مرتفعة بمفتحة المذكور ، أو بمثله مقدّرا.

وقد صح أن مفتحة صالح للعمل في الأبواب ، فلا حاجة إلى إبدال أيضا.

٤ ـ / ٣٩ ومنها الاسم الظاهر ، بأن يكون المقام يقتضي الإضمار فيعدل عنه إلى الظاهر ، وقد سبق الكلام عليه في أبواب التأكيد.

العاشر : الأصل في الضمير عوده إلى أقرب مذكور ، ولنا أصل آخر ، وهو أنه إذا جاء مضاف ومضاف إليه ، وذكر بعدهما ضمير عاد إلى المضاف ؛ لأنّه المحدّث عنه دون المضاف إليه ، نحو لقيت غلام زيد فأكرمته ؛ فالضمير للغلام. ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) (إبراهيم : ٣٤).

وعند التعارض راعى ابن حزم والماوردي (٤) الأصل الأول ، فقالا : إن الضمير في قوله [تعالى] : (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (الأنعام : ١٤٥) ، يعود على الخنزير دون لحمه ، لقربه. وقوّاه بعض المتأخرين ، لأن الضمير للمضاف دون المضاف إليه ليس بأصل مطّرد ، فقد يعود إلى المضاف إليه ، كقوله تعالى : (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (النحل : ١١٤).

وكذا الصفة ، فإنها كما في قوله تعالى : (إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) (يوسف : ٤٣).

وللجمهور أن يقولوا : وكذا عوده للأقرب ليس بمطّرد ، فقد يخرج عن الأصل لدليل ، وإذا تعارض الأصلان تساقطا ، ونظر في الترجيح من خارج. بل قد يقال : عوده إلى ما فيه

__________________

(١) هو محمد بن عبد الله جمال الدين أبو عبد الله تقدم التعريف به في ١ / ٣٨١.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) انظر «الكشاف» ٣ / ٣٣٢ عند تفسير الآية من سورة ص وعبارته (وفي مفتحة ضمير الجنات ، والأبواب بدل من الضمير تقديره : مفتحة هي الأبواب).

(٤) الماوردي هو علي بن محمد بن حبيب أبو الحسن الشافعي تقدم التعريف به في ١ / ٢٧٤.

٣٦

العمل بهما أولى كما يقوله الماوردي : إن الضمير يعود إلى الخنزير ، لأن اللحم موجود فيه.

وأما قوله تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (الشعراء : ٤) ، فأخبر ب «خاضعين» عن المضاف إليه ، ولو أخبر عن المضاف لقال : «خاضعة» (١) [أو خضعا ، أو خواضع ، وإنما حسن ذلك لأن خضوع أصحاب الأعناق بخضوع أعناقهم] (١).

٤ / ٤٠ وأما قوله تعالى : (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) (٢) (غافر : ٣٧) ، [فقد] (٣) عاد الضمير في قول المحققين للمضاف [إليه] (٤) وهو موسى ، والظن بفرعون ، وكأنه لما رأى نفسه قد غلط في الإقرار بالإلهيّة من قوله : (إِلهِ مُوسى) استدرك ذلك بقوله هذا.

الحادي عشر : إذا عطف ب «أو» وجب إفراد الضمير ، نحو إن جاء زيد أو عمرو فأكرمه ؛ لأن «أو» لأحد الشيئين ، فأما قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) (النساء : ١٣٥) فقيل : إنّ «أو» بمعنى الواو. وقيل : بل المعنى أن «يكن الخصمان» ، فعاد الضمير على المعنى. وقيل : للتنويع لا للعطف ، وعكس هذا إذا عطف بالواو وجب تثنية الضمير.

فأما [٢٥٦ / أ] قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (التوبة : ٦٢) ، فقد سبق [الكلام] (٥) عليه.

(فائدة) قوله : (إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (النازعات : ٤٦) ، أي «وضحى يومها» ؛ [فدلّ] (٥) بالجزء على الكلّ.

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) نص الآية في المخطوطة (لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا) ويلاحظ أن أول الآية موافق لسورة القصص الآية (٣٨) إلا آخرها فإنه في القصص (من الكاذبين) ، وما وقع في المخطوطة موافق لآية غافر التي في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) ليست في المخطوطة.

٣٧

قال الشيخ عز الدين : وإنما أضاف الضّحى إلى نهار العشية ؛ لأنّه لو أطلقها من غير إضافة لم يحسن الترديد ب «أو» لأن عشية كلّ نهار من الظهر إلى الغروب ، وهو نصف النهار ، وضحاها مقدار ربعه مثلا ، وهو مقدار نصف العشية فلما أضافه إلى نهارها ، علم تقاربهما ، فحسن الترديد. لإفادته الترديد بين اللّبث الطويل [والقصير] (١) ، ولو أطلقه لجاز أن يتوهّم عشية نهار قصير ، وضحى يوم طويل ، فتساوى ذلك الضحى (٢) بالعشية فلا يحسن الترديد بينهما.

٤ ـ / ٤١ (فإن قيل) : كيف يجمع بين قوله : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ) (الأحقاف : ٣٥) ، وهو الجزء اليسير من الزمان ، وبين الضحى والعشية؟ وكيف حسن الترديد؟

(فالجواب) أن هذا الحساب يختلف باختلاف الناس ، فمنهم من يعتقده طويلا ، ومنهم من يحسبه قصيرا ، قال [الله] (٣) تعالى : (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً) (طه : ١٠٣) ، ثم قال : (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً) (طه : ١٠٤). وقد يكون بحسب شدة الأمر وخفته (٤) ، و «لبثتم» يحتمل أن يكون في الدنيا ، ويحتمل أن يكون في البرزخ ؛ والأول أظهر.

(فائدة) وقد يتجوّز بحذف الضمير للعلم به ، كقوله : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (الفرقان : ٤١) أي بعثه ، وهو كثير.

ومنه قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) (البقرة : ٢٣٤) إلى قوله : (يَتَرَبَّصْنَ) إذا جعلناه الخبر ، فالأصل «يتربصن أزواجهن» فوضع الضمير موضع الأزواج لتقدم ذكرهنّ ، فأغنى عن الضمير.

(فائدة) المضمر لا يكون إلا بعد الظاهر لفظا (٥) [أو مرتبة ، أو لفظا ومرتبة ، ولا يكون قبل الظاهر لفظا] (٥) ومرتبة ، إلا في أبواب ضمير الشأن والقصة ، كما سبق ، وباب نعم وبئس ، كقوله تعالى : (فَنِعِمَّا هِيَ) (البقرة : ٢٧١) و (ساءَ مَثَلاً) (الأعراف :

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (ذلك الضحى بتلك العشية).

(٣) لفظ الجلالة ليس في المطبوعة.

(٤) في المخطوطة (وحقيقته).

(٥) ليست في المخطوطة.

٣٨

١٧٧) ، والضمير في «ربّه رجلا». وباب الإعمال ، إذا أعملت الثاني والأول يطلب عمدة ، فمذهب سيبويه أنك تضمر في الأول ، فتقول : ضربوني وضربت الزيدين. ٤ / ٤٢

(فائدة) الضمير لا يعود إلا على مشاهد محسوس ، فأما قوله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (مريم : ٣٥) ، فضمير «له» عائد على الأمر ، وهو إذ ذاك غير موجود ، فتأويله أنه لما كان سابقا في علم الله كونه ، كان بمنزلة المشاهد الموجود ، فصحّ عود الضمير إليه. (وقيل) : [بل] (١) يرجع للقضاء ؛ لدلالة «قضى» عليه ، واللام للتعليل بمعنى «من أجل» ، كقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات : ٨) [أي] (١) من أجل حبّه.

قاعدة فيما يتعلق بالسؤال والجواب

الأصل في الجواب أن يكون مطابقا للسؤال ، إذا كان السؤال متوجّها ، وقد يعدل في الجواب عما يقتضيه السؤال ، تنبيها على أنّه كان من حقّ السؤال أن يكون كذلك ، ويسمّيه السكاكي (٢) الأسلوب الحكيم. وقد يجيء الجواب أعمّ من السؤال للحاجة إليه في السؤال وأغفله المتكلم. وقد يجيء أنقص لضرورة الحال.

٤ ـ / ٤٣ مثال ما عدل عنه قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) (البقرة : ١٨٩) فعدل عن الجواب لمّا قالوا : ما بال الهلال يبدو رقيقا مثل الخيط ، ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلئ ويستوي (٣) ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ؟ فأجيبوا بما أجيبوا [٢٥٦ / ب] به ؛ لينبهوا على أنّ الأهمّ ما تركوا السؤال عنه.

وكقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ(٥) [قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (البقرة : ٢١٥) سألوا عما ينفقون] (٤) ، فأجيبوا ببيان المصرف ؛ تنزيلا لسؤالهم منزلة سؤال غيره ، لينبه على ما ذكرنا ، ولأنه قد تضمّن قوله :

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) انظر «مفتاح العلوم» ص ٣٢٧ الباب الخامس في النداء.

(٣) في المخطوطة (حتى يستوي ويمتلي).

(٤) ليست في المخطوطة.

٣٩

(قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) (البقرة : ٢١٥) بيان ما ينفقونه وهو خير ، ثم زيدوا على الجواب بيان المصرف.

ونظيره : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) (طه : ١٧) ، فيكون طابق وزاد. نعم روي (١) [عن] (٢) ابن عباس أنه قال : جاء عمرو بن الجموح ـ وهو شيخ كبير له مال عظيم ـ فقال : ما ذا أنفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت ، فعلى هذا ليست الآية مما نحن فيه ، لأن السائل لم يتعلق بغير ما يطلب ، بل أجيب (٣) ببعض ما سأل عنه.

وقال ابن القشيريّ (٤) : السؤال الأول كان سؤالا عن النفقة إلى من تصرف ، ودلّ عليه الجواب ، والجواب يخرج على وفق السؤال ؛ وأمّا هذا السؤال الثاني فعن قدر الإنفاق ، ودلّ عليه الجواب أيضا.

ومن ذلك أجوبة موسى عليه‌السلام لفرعون حيث قال فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ* قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) (الشعراء : ٢٣ ـ ٢٤) ، لأن «ما» سؤال عن الماهية أو عن الجنس ، ولمّا كان هذا السؤال [خطأ ؛ لأنّ المسئول] (٥) عنه ليس ترى ماهيته ٤ / ٤٤ فتبين ، ولا جنس له فيذكر ، عدل الكليم عن مقصود السائل (٦) إلى الجواب بما يعرف بالصواب عند كيفية الخطاب ؛ ولا يستحق الجريان معه ، فأجابه بالوصف المنبّه ، عن الظنّ المؤدّي لمعرفته ، لكنه لما [لم] (٧) يطابق السؤال عند فرعون لجهله ، واعتقد الجواب خطأ (قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ [يعجبهم] (٨) أَلا تَسْتَمِعُونَ) (الشعراء : ٢٥) ، فأجابه الكليم بجواب يعمّ الجميع ، ويتضمن الإبطال لعين ما يعتقدونه من ربوبية فرعون لهم بقوله : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء : ٢٦) ، فأجاب بالأغلظ وهو ذكر الربوبية لكلّ ما هو من عالمهم نصّا [فاستهزأ به فرعون وخيّبه] (٨). ولما لم يرهم موسى عليه‌السلام تفطنوا غلّظ عليهم في

__________________

(١) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص ٤٠ ضمن سورة البقرة ، وذكره السيوطي في الدر المنثور ضمن تفسير سورة البقرة ١ / ٢٤٣ وعزاه لابن المنذر.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (أجيب عن بعض).

(٤) هو عبد الرحيم بن عبد الكريم أبو نصر بن القشيري تقدم التعريف به في ٢ / ٢٤٨.

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) تصحفت في المخطوطة إلى (السامع) وعقبها رسم (بل).

(٧) ليست في المخطوطة.

(٨) ليست في المطبوعة.

٤٠