البرهان في علوم القرآن - ج ٤

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٤

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٣

فلا يجوز من غير [تكرار] (١) الجار فيه ؛ نحو مررت به وبزيد ، كقوله تعالى : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (المؤمنون : ٢٢) ، (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ) (فصلت : ١١) ، (جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (الإسراء : ٤٥).

وأما قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) (الأحزاب : ٧) ، فإن جعلنا (وَمِنْ نُوحٍ) معطوفا على (مِنْكَ) ، فالإعادة لازمة ، وإن جعل معطوفا على (النَّبِيِّينَ) فجائزة.

وقال الكوفيون : لا تلزم الإعادة ، محتجّين بآيات :

ـ (الأولى) : قراءة حمزة (٢) : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) (النساء : ١) ، بالجرّ عطفا على الضمير في (بِهِ). (فإن قيل) : ليس الخفض على العطف (٣) ؛ وإنما هو على القسم ، وجوابه : (إِنَّ [اللهَ] (٤) كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء : ١).

(قلنا) : ردّه الزجّاج (٥) بالنهي عن الحلف بغير الله وهو عجيب ؛ فإن ذلك على المخلوقين.

٤ ـ / ١١٦ (الثانية) : قوله تعالى : ([لَكُمْ] (٦) فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) (الحجر : ٢٠) [وفي] (٦) ، (وَمَنْ لَسْتُمْ) أوّلها المانعون كابن [٢٧٠ / أ] [الدّهّان] (٧) بتقدير [: «ويرزق من لستم» ، والزجاج بتقدير :] (٧) «أعني من لستم» (٨). قال أبو البقاء (٩) : لأن المعنى : «أعشناكم وأعشنا (١٠) من لستم» ، وقدّم أنها نصب ب (جعلنا) ، قال :

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) قال ابن الجزري في «النشر» ٢ / ٢٤٧ عند سورة النساء (واختلفوا في (وَالْأَرْحامَ) فقرأ حمزة بخفض الميم ، وقرأ الباقون بنصبها).

(٣) تصحفت في المخطوطة إلى (على الرفع).

(٤) لفظ الجلالة ليس في المخطوطة.

(٥) انظر «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج ٢ / ٦ سورة النساء.

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) ليست في المخطوطة.

(٨) انظر «معاني القرآن وإعرابه ٣ / ١٧٧ سورة الحجر.

(٩) انظر إملاء ما من به الرحمن» ٢ / ٧٣ سورة الحجر.

(١٠) تصحفت في المطبوعة إلى (أغناكم وأغنى ...) والتصويب من المخطوطة ومن عبارة أبي البقاء في الإملاء.

١٠١

والمراد [ب] (١) (مَنْ) العبيد والإماء والبهائم فإنها مخلوقة لمنافعها.

ـ (الثالثة) : قوله تعالى : (وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (البقرة : ٢١٧) وليس من هذا الباب ، لأنّ (الْمَسْجِدِ) معطوف على (سَبِيلِ اللهِ) في قوله : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (البقرة : ٢١٧). ويدلّ لذلك أنه [سبحانه] (٢) صرّح بنسبة الصدّ إلى المسجد في قوله : ([أَنْ] صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٣) (المائدة : ٢).

وهذا الوجه حسن ، لو لا [ما] (٣) يلزم منه الفصل بين (صَدٌّ) و [هو مصدر ومعموله وهو] (٤) (الْمَسْجِدِ) بقوله : (وَكُفْرٌ [بِهِ]) (٤) ، وهو أجنبيّ. ولا يحسن أن يقال : إنّه معطوف على (الشَّهْرِ) (٥) (البقرة : ٢١٧) ، لأنهم لم يسألوا عنه ، ولا على (٦) (سَبِيلِ) ؛ [لأنّه] (٧) إذ ذاك من تتمّة المصدر ، ولا يعطف على المصدر قبل تمامه.

ـ (الرابعة) : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ) (الأنفال : ٦٤) ، قالوا : الواو عاطفة ل (مَنِ) على الكاف المجرورة ، والتقدير : حسبك من اتبعك.

وردّ بأن الواو للمصاحبة ([وَ]) (٧) مَنِ في محلّ نصب عطفا على الموضع ؛ كقوله :

فحسبك والضحّاك سيف مهنّد (٨)

ـ (الخامسة) : قوله تعالى : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (البقرة : ٢٠٠) [إذ جعل

__________________

(١) سقطت من الأصول ، وأثبتناها من عبارة أبي البقاء العكبري.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) في قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ).

(٦) في المخطوطة (ولا عن).

(٧) ليست في المخطوطة.

(٨) عجز بيت صدره :

إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا

فحسبك والضحاك سيف مهند

ذكره ابن يعيش في «شرح المفصل» ٢ / ٥١ مبحث المفعول معه ، وذكره ابن منظور في «لسان العرب» ١ / ٣١٢ مادة «حسب» و ٢ / ٣٩٥ مادة «هيج» و ١٥ / ٦٦ مادة «عصا» ، وذكره ابن هشام في «مغني اللبيب» ٢ / ٥٦٣ باب المنصوبات المتشابهة الشاهد (٨٠٠).

١٠٢

(أَشَدَّ) مجرورا قال الزمخشري (١) : «إنه في موضع جر عطفا على ما أضيف إليه الذكر في قوله (كَذِكْرِكُمْ)] (٢) ؛ كما تقول : كذكر قريش آباءهم ، أو [قوم] (٣) أشد منهم ذكرا». لكن هذا عطف على الضمير المخفوض ؛ وذلك لا يجوز [إلا] (٤) على قراءة حمزة. وقد ٤ / ١١٧ خالفه الجمهور وجعلوه مجرورا عطفا على (ذكركم) المجرور بكاف التشبيه ، تقديره : «أو كذكركم أشدّ» فجعل للذكر ذكرا مجازا ؛ وهو قول الزجاج (٥) ؛ وتابعه ابن عطية (٦) وأبو البقاء (٧) وغيرهما.

ومما اختلف فيه العطف على عاملين ، نحو ليس زيد بقائم ولا قاعد عمرو ؛ على أن يكون «[ولا] (٨) قاعد» معطوفا على «قائم» ، و «عمرو» على «زيد». منعه الجمهور وأجازه الأخفش (٩) ، محتجا بقوله تعالى : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (الجاثية : ٥) ، ثم قال : (آياتٌ) (١٠) بالنصب عطفا على قوله : (لَآياتٍ) المنصوب ب «إنّ» في أول الكلام ، و (اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) مجرور بالعطف على (السَّماواتِ) (الجاثية : ٣) ، المجرور بحرف الجرّ الذي هو «في» ، فقد وجد العطف على عاملين. وأجيب بجعل (آيات) تأكيد ل «آيات» الأولى.

__________________

(١) انظر «الكشاف» ١ / ١٢٥ عند تفسير الآية من سورة البقرة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) سقطت من المطبوعة وهي زيادة منّا لا يستقيم المعنى بدونها ، وأما عبارة المخطوطة فهي : (وذلك لا يجوز عند ذكر قراءة حمزة ...) وقراءة حمزة التي يستشهد بها المصنّف وفيها عطف على الضمير هي قوله تعالى في أول سورة النساء : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) بكسر الميم عطفا على الضمير في (بِهِ) ، وانظر «إتحاف فضلاء البشر» ص ١٨٥.

(٥) انظر قول الزجاج في كتابه «معاني القرآن وإعرابه» ١ / ٢٧٤.

(٦) انظر قول ابن عطية في تفسيره «المحرر الوجيز» ١ / ٥٦٣.

(٧) انظر قول أبي البقاء العكبري في «إملاء ما من به الرحمن» ١ / ٨٧.

(٨) ليست في المخطوطة.

(٩) انظر قول الأخفش في «البحر المحيط» ٨ / ٤٣ عند تفسير الآيات من سورة الجاثية.

(١٠) الآيات المشار إليها قوله تعالى (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ* وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ* وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الجاثية : ٣ ـ ٥) ، والقراءة بنصب (آياتٌ) هي لحمزة والكسائي ويعقوب انظر «إتحاف فضلاء البشر» ص ٣٨٩.

١٠٣

قواعد في العدد

القاعدة الأولى

[في] (١) اسم الفاعل المشتق من العدد ، له استعمالان :

ـ (أحدهما) : أن يراد به واحد من ذلك العدد ؛ فهذا يضاف للعدد الموافق له ، نحو رابع أربعة ؛ وخامس خمسة ، وليس فيه إلاّ الإضافة خلافا لثعلب ؛ فإنه أجاز. ثالث ثلاثة بالتنوين ، قال [الله] (٢) تعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ) (التوبة : ٤٠) وهذا القسم لا يجوز إطلاقه في حق الله تعالى ، ولهذا قال تعالى : ([لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ] (٣) قالُوا إِنَّ [اللهَ] (٣) ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (المائدة : ٧٣).

ـ (الثاني) : أن يكون بمعنى التصيير ، وهذا يضاف إلى العدد المخالف له في اللفظ ؛ بشرط أن يكون أنقص منه بواحد ؛ كقولك : ثالث اثنين ، ورابع ثلاثة ، وخامس أربعة ، كقوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ) (المجادلة : ٧) ، أي يصيّرهم بعلمه وإحاطته أربعة وخمسة.

(فإن قيل) : كيف بدأ بالثلاث ، وهلاّ جاء : «ما يكون من نجوى واحد إلا هو ثانية ، ولا اثنين إلا هو ثالثهم»؟ (٤) [(قيل) : لأنه سبحانه لمّا علم أن بعض عباده كفر بهذا اللفظ ، وادّعى أنه ثالث ثلاثة ، فلو قال : ما يكون من نجوى واحد إلاّ هو ثانيه ، لثارت ضلالة من كفر بالله وجعله ثانيا ، وقال : وهذا قول الله هكذا. ولو قال : ولا اثنين إلا هو ثالثهم] (٤) ، لتمسّك به الكفّار ، فعدل سبحانه عن هذا لأجل ذلك ، ثم قال : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ) (المجادلة : ٧) ، فذكر هذين المعنيين بالتلويح لا بالتصريح ، فدخل تحته ما لا يتناهى ، وهذا من بعض إعجاز القرآن.

[القاعدة] (٥) الثانية

حقّ ما يضاف إليه العدد من الثلاثة إلى العشرة أن يكون اسم جنس أو اسم جمع ، وحينئذ فيجرّ ب «من» نحو (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) (البقرة : ٢٦٠). ويجوز إضافته ، نحو : (تِسْعَةُ رَهْطٍ) (النمل : ٤٨). وإن كان غيرهما من الجموع ، أضيف إليه الجمع على

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) لفظ الجلالة ليس في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٥) ليست في المخطوطة.

١٠٤

مثال جمع القلّة من التكسير ، وعلّته أن المضاف موضوع للقلة ، فتلزم إضافته [٢٧٠ / ب] إلى جمع قلة ، طلبا لمناسبة المضاف إليه المضاف في القلّة ؛ لأنّ المفسّر على حسب المفسّر ، فتقول : ثلاثة أفلس وأربعة أعبد ، قال تعالى : (مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) (لقمان : ٢٧).

وقد استشكل على هذه القاعدة قوله تعالى : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (البقرة : ٢٢٨) ، فإن «قروء» جمع كثرة ، وقد أضيف إلى الثلاثة ، ولو جاء على القاعدة لقال «أقراء». والجواب من أوجه :

ـ (أحدها) : أنه أوثر جمع الكثرة هنا ؛ لأنّ بناء القلة شاذّ ، فإنه جمع «قرء» بفتح القاف ، وجمع «فعل» على «أفعال» شاذّ ، [قياسا] (١) فجمعوه على «فعول» إيثارا للفصيح ، فأشبه ما ليس له إلا جمع كثرة ؛ فإنه يضاف إليه ، كثلاثة دراهم. ذكره ابن مالك.

ـ (والثاني) : أنّ القلة بالنسبة إلى كل واحد من المطلّقات ؛ وإنّما أضاف [إلى] (١) جمع الكثرة نظرا إلى كثرة المتربّصات ؛ لأنّ كل واحدة تتربصن ثلاثة. حكاه في «البسيط» (٢) عن أهل المعاني.

(الثالث) : أنه على حذف مضاف ، أي ثلاثة أقراء قروء.

(الرابع) : أن الإضافة نعت في تقدير الانفصال ؛ لأنه بمعنى «من» التي للتبعيض ، أي ثلاثة أقراء من قروء. كما أجاز المبرّد (٣) «ثلاثة حمير» و «ثلاثة كلاب» ؛ على إرادة «من» أي من حمير ومن كلاب.

[القاعدة] (٤) الثالثة

ألفاظ العدد نصوص ، ولهذا لا يدخلها تأكيد ؛ لأنّه لدفع المجاز ، في إطلاق الكلّ وإرادة البعض ؛ وهو منتف في العدد. وقد أورد على ذلك آيات شريفة.

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) حسن بن محمد الأسترآباذي ركن الدين تقدم التعريف به وبكتابه في ٢ / ٤٦٤.

(٣) انظر قول المبرد في «المقتضب» ٢ / ١٥٨ ضمن باب العدد.

(٤) ليست في المخطوطة.

١٠٥

(الأولى) : قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (البقرة : ١٩٦) [فأكد العشرة بالكاملة] (١) ، والجواب أن التأكيد هنا ليس لدفع نقصان أصل العدد ، بل لدفع نقصان الصّفة ، لأن الغالب في البدل أن يكون دون المبدل منه ؛ معناه (٢) أن الفاقد للهدي لا ينقص من أجره شيء (٣).

(الثانية) : قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً) (العنكبوت : ١٤) ولو كانت ألفاظ العدد نصوصا لما دخلها الاستثناء ؛ إنما يكون عاما. والجواب أن التجوّز قد يدخل في الألف ، فإنها تذكر (٤) في سياق المبالغة ، للتكثير ، والاستثناء رفع ذلك.

(الثالثة) : قوله تعالى : (٥) [(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) (النحل : ٥١) ، وقد سبق في باب التأكيد الجواب عنه.

(الرابعة) : قوله تعالى :] (٥) (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) (التوبة : ٨٠). وقوله (سَبْعُونَ ذِراعاً) (الحاقة : ٣٢) ، قالوا : المراد بها الكثرة ، وخصوص السبعين ليس مرادا ؛ وهذا مجاز. وكذا قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) (الملك : ٤) ، قيل المراد : المراجعة من غير حصر ، وجيء بلفظ التثنية ، تنبيها على أصل الكثرة ، وهو مجاز.

[فعل]

[و] (٦) من ذلك لفظ «فعل» كثيرا ما يجيء كناية عن أفعال متعددة ؛ وفائدته الاختصار ؛ كقوله تعالى : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة : ٧٩). (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) (النساء : ٦٦). وقوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) (البقرة : ٢٤) ، أي لم تأتوا

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) في المخطوطة (فأبان) وفي نسخة (فأفاد).

(٣) إشارة إلى قوله تعالى في الآية نفسها (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ).

(٤) في المخطوطة (تدخل).

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) ليست في المطبوعة ، ووقع سقط في الأصل قبل هذا الكلام ، ويمكن أن ينتظم هذا الفصل تحت عنوان جامع هو «في ألفاظ يظن بها الاشتراك».

١٠٦

بسورة من مثله ، ولن تأتوا بسورة من مثله. وحيث أطلقت في كلام الله ، [فهي] (١) محمولة على الوعيد الشديد ، كقوله [تعالى] (١) : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) (الفيل : ١). (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) (إبراهيم : ٤٥).

[كان]

ومن ذلك الإخبار عن ذات الله أو صفاته [وغيرها] (٢) ب «كان». وقد اختلف النحاة وغيرهم في أنها تدلّ على الانقطاع ، على مذاهب :

ـ (أحدها) : أنها تفيد الانقطاع ؛ لأنها فعل يشعر بالتجدّد.

ـ (والثاني) : لا تفيده ؛ بل تقتضي الدوام والاستمرار ، وبه جزم ابن معط (٣) في ألفيته ؛ حيث قال :

وكان للماضي الذي ما انقطعا

وقال الراغب (٤) في قوله [تعالى] : (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (الإسراء : ٢٧) : «نبّه بقوله : «كان» على أنه لم يزل منذ أوجد منطويا على الكفر».

(والثالث) : «أنّه عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام ؛ وليس فيه دليل على [٢٧١ / أ] عدم سابق ، ولا على انقطاع طارئ ، ومنه قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الأحزاب : ٥٠) ، قاله الزمخشري (٥) في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران : ١١٠).

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) هو يحيى بن عبد المعطي بن عبد النور الزواوي. الملقب زين الدين النحوي الحنفي. ولد سنة (٥٦٤). كان أحد أئمة عصره في النحو واللغة اشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به ، وتصدّر بالجامع العتيق بمصر لإقراء الأدب. وصنّف تصانيف مفيدة منها «الألفية» في النحو و «الفصول» في النحو أيضا. توفي سنة (٦٢٨) ودفن بقرب تربة الإمام الشافعي. (ابن خلكان ، وفيات الأعيان ٦ / ١٩٧) وألفيته المسماة : «الدرة الألفية في علم العربية» وتعرف باسم «ألفية ابن معط» أو «الأرجوزة الوجيزة المغربية» وأولها :

يقول راجي ربه الغفور

يحيى بن معط بن عبد النور

طبعت في ليبسك بعناية سترستين سنة ١٩٠٠ م / ١٣٢٠ ه‍ (ذخائر التراث العربي : ٢٤٦).

(٤) انظر «المفردات» ص ٤٣٤ مادة : كفر.

(٥) انظر «الكشاف» ١ / ٢٠٩ ضمن تفسير الآية من سورة آل عمران.

١٠٧

وذكر ابن عطية في سورة الفتح أنها حيث وقعت في صفات الله [تعالى] فهي مسلوبة الدلالة على الزّمان. والصّواب من هذه المقالات مقالة الزمخشري ، وأنها تفيد اقتران معنى الجملة التي تليها بالزمن الماضي لا غير ، [ولا] (١) دلالة لها نفسها على انقطاع ذلك المعنى ولا بقائه (٢) ؛ بل إن أفاد الكلام شيئا من ذلك كان لدليل آخر.

إذا علمت هذا فقد وقع في القرآن إخبار الله تعالى عن صفاته الذاتية وغيرها بلفظ «كان» كثيرا ، [نحو] (١) : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) (٣) (النساء : ١٤٨). (واسِعاً حَكِيماً) (٤) (النساء : ١٣٠). (غَفُوراً رَحِيماً) (٥) (الأحزاب : ٥٩). (تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء : ٦٤). (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) (الأنبياء : ٨١). (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (الأنبياء : ٧٨).

فحيث وقع الإخبار «بكان» عن صفة ذاتية ؛ فالمراد الإخبار عن وجودها ، وأنها لم تفارق ذاته ؛ ولهذا يقررها بعضهم بما زال ؛ فرارا مما يسبق إلى الوهم ، إن كان يفيد انقطاع المخبر به عن الوجود لقولهم : دخل في خبر كان. قالوا : فكان وما زال (٦) مجازان ، يستعمل أحدهما في معنى الآخر مجازا بالقرينة. وهو تكلّف لا حاجة إليه ، وإنما معناها ما ذكرناه من أزلية الصفة ، ثم تستفيد بقاءها في الحال وفيما لا يزال بالأدلة العقلية ، وباستصحاب الحال.

وعلى هذا التقدير سؤالان :

ـ (أحدهما) : إن البارئ سبحانه وصفاته موجودة قبل الزمان (٧) [والمكان ، فكيف تدلّ «كان» الزمانيّة على أزلية صفاته ؛ وهي موجودة قبل الزمان؟

(وثانيهما) : مدلول «كان» اقتران مضمون الجملة بالزمان اقترانا مطلقا ، فما الدليل على استغراقه الزمان؟

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) تصحفت في المخطوطة إلى (نهاية).

(٣) في المخطوطة (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) النساء : ١٣٤.

(٤) في المخطوطة (واسعا عليما) وهو تحريف والصواب ما في المطبوعة.

(٥) في المخطوطة زيادة (حكيما عليما) وليست في المصحف بهذا النسق إنما فيه (عَلِيماً حَكِيماً) في مواضع أولها النساء : ١١.

(٦) في المخطوطة زيادة (فكان وما زال إخبارا مجازان).

(٧) ليست في المخطوطة.

١٠٨

والجواب عن الأوّل أن الزمان] نوعان : حقيقيّ وهو مرور الليل والنهار ، أو مقدار حركة الفلك على ما قيل فيه. وتقديريّ وهو ما قبل ذلك وما بعده ، كما في قوله تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (مريم : ٦٢) ، ولا بكرة هناك ولا عشيا ؛ و [إنما] (١) هو زمان تقديري فرضيّ.

وكذلك قوله [تعالى] (٢) : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [وَما بَيْنَهُما]) (١) فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ (الفرقان : ٥٩) ، مع أن الأيام الحقيقية لا توجد إلا بوجود السموات والأرض والشمس والقمر ؛ وإنّما الإشارة إلى أيام تقديرية.

وعن الثاني أنّ «كان» لمّا دلّت على اقتران مضمون الجملة بالزمان ، لم يكن بعض أفراد الأزمنة أولى بذلك من بعض ، فإمّا ألاّ يتعلق مضمونها بزمان فيعطّل ، أو يعلّق بعضها [دون] (٣) بعض ، وهو ترجيح بلا مرجح ؛ أو يتعلّق بكلّ زمان ، وهو المطلوب.

وحيث وقع الإخبار بها عن صفة فعلية ، فالمراد تارة الإخبار عن قدرته عليها في الأزل ، نحو كان الله خالقا ورازقا ومحييا ومميتا ، وتارة تحقيق نسبتها إليه ، نحو : (وَكُنَّا فاعِلِينَ) (الأنبياء : ٧٩). وتارة ابتداء الفعل وإنشاؤه ؛ نحو : (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) (القصص : ٥٨) ؛ فإن الإرث إنما يكون بعد موت المورّث ، والله سبحانه مالك كل شيء على الحقيقة ، من قبل ومن بعد.

وحيث أخبر بها عن صفات الآدميين فالمراد التنبيه على أنها فيهم غريزة وطبيعة مركوزة في نفسه ، [نحو] (٤) : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (الإسراء : ١١). (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب : ٧٢). ويدل عليه قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (المعارج : ١٩ إلى ٢١) ، أي خلق على هذه الصفة ، وهي [حال] (٢) مقدّرة أو بالقوة ، ثم تخرج إلى الفعل.

وحيث أخبر بها عن أفعالهم دلّت على اقتران مضمون الجملة بالزمان ، نحو : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) (الأنبياء : ٩٠). ومن هذا الباب الحكاية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلفظ

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المخطوطة.

١٠٩

«كان يصوم» و «كنا نفعل». و [هو] (١) عند أكثر الفقهاء والأصوليين [يفيد] (١) الدّوام ؛ فإن عارضه ما يقتضي عدم الدوام مثل أن يروى : «كان يمسح [٢٧١ / ب] مرة» (٢) ثم نقل «أنه يمسح ثلاثا» (٣) ، فهذا من باب تخصيص العموم ، وإن روي النفي والإثبات تعارضا.

وقال الصّفّار (٤) في «شرح سيبويه» : إذا استعملت للدلالة على الماضي فهل تقتضي الدوام والاتصال أم لا؟ مسألة خلاف ؛ وذلك أنك إذا قلت : كان زيد قائما ، فهل هو الآن قائم؟ الصحيح أنه ليس كذلك ، هذا هو المفهوم ضرورة ؛ وإنما حملهم على جعلها للدوام ما ورد من مثل قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الأحزاب : ٧٣) ، (٥) [وقوله : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) (الإسراء : ٣٢) وهذا عندنا يتخرج على أنه جواب لمن سأل : هل كان الله غفورا رحيما] (٥)؟ وأما الآية الثانية ، فالمعنى أي قد كان عندكم فاحشة وكنتم تعتقدون فيه ذلك ، فتركه يسهل عليكم.

قال ابن الشجري «في أماليه» (٦) : «اختلف في «كان» [في] (٧) نحو قوله : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء : ١٥٨) ، على قولين :

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ، باب في وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٧) ، الحديث (١٨ / ٢٣٥) ولفظه «شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم». (٣) متفق عليه من رواية عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ٢٥٩ كتاب الوضوء (٤) ، باب الوضوء ثلاثا ثلاثا (٢٤) ، الحديث (١٥٩) ، وأخرجه مسلم في الصحيح ١ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥ كتاب الطهارة (٣) ، باب صفة الوضوء وكماله (٣) ، الحديث (٣ / ٢٢٦) ولفظه «أن عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه دعا بوضوء ...» ومتفق عليه من رواية عبد الله بن زيد رضي‌الله‌عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ٢٩٧ كتاب الوضوء (٤) ، باب مسح الرأس مرة (٤٢) ، الحديث (١٩٢) ، وأخرجه مسلم في الصحيح ١ / ٢١٠ كتاب الطهارة

(٤) أخرجه من رواية عثمان وعلي وابن عمر رضي‌الله‌عنهم ، الدار قطني في السنن ١ / ٩١ ـ ٩٢ كتاب الطهارة ، باب دليل تثليث المسح الأحاديث (١ ـ ٧) ، وانظر نصب الراية ١ / ٣٠ ـ ٣٤ كتاب الطهارات ، الحديث (١٢ ـ ١٣) ، وانظر التلخيص الحبير ١ / ٧٨ ـ ٨٥ كتاب الطهارة ، باب سنن الوضوء ، الأحاديث (٧٩ ـ ٨٥).

(٥) هو القاسم بن علي البطليوسي تقدم التعريف به في ٢ / ٤٥١ ، والتعريف بكتابه في ٢ / ٤٨٧.

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) انظر «الأمالي الشجرية» ٢ / ١٩٤ ـ ١٩٥ المجلس الرابع والستون.

(٨) ليست في المخطوطة.

١١٠

ـ (أحدهما) : أنها بمعنى «لم يزل» كأنّ القوم شاهدوا عزّا وحكمة ومغفرة ورحمة ، فقيل لهم : لم يزل الله كذلك ، قال : وهذا قول سيبويه.

ـ (والثاني) : أنها تدلّ على وقوع الفعل فيما مضى من الزمان ؛ فإذا كان فعلا متطاولا لم يدلّ دلالة قاطعة على أنه زال وانقطع ، كقولك : كان فلان صديقي ، لا يدلّ هذا على أن صداقته قد زالت ؛ بل يجوز بقاؤها ، ويجوز زوالها.

فمن الأول : قوله تعالى : (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) (النساء : ١٠١) ، لأن عداوتهم باقية» (١).

ومن الثاني : قوله تعالى : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) (المائدة : ١١٧).

وقال بعضهم : يدلّ على أن خبرها كان موجودا في الزمن الماضي ، وأما في الزمن الحاضر فقد يكون باقيا مستمرا ، وقد يكون منقطعا ، فالأول كقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الأحزاب : ٧٣) وكذا سائر صفاته ؛ لأنّها باقية مستمرة.

قال السّيرافيّ (٢) : قد يرجع الانقطاع بالنسبة للمغفور لهم والمرحومين ؛ بمعنى أنهم انقرضوا فلم يبق من يغفر له ، ولا من يرحم فتنقطع المغفرة والرحمة.

وكذا : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء : ١٧٠) ، ومعناه الانقطاع فيما وقع عليه العلم والحكمة ، لا نفس العلم والحكمة. وفيه نظر. وقال ابن برّيّ (٣) ما معناه : إنّ «كان» تدل على تقديم الوصف وقدمه ، وما ثبت قدمه استحال عدمه ؛ وهو كلام حسن.

وقال منصور بن فلاح اليمني (٤) في كتاب «الكافي» : قد تدلّ على الدوام بحسب

__________________

(١) انتهى نقل الزركشي عن ابن الشجري ملخصا.

(٢) هو الحسن بن عبد الله بن المرزبان تقدم التعريف به في ١ / ٤١٤.

(٣) هو عبد الله بن بري بن عبد الجبار المقدسي الشافعي النحوي اللغوي. ولد بمصر سنة (٤٩٩). قرأ العربية على مشايخ زمانه من المصريين والقادمين على مصر ، وانفرد بهذا الشأن ، وقصده الطلبة من الآفاق. وكان جمّ الفوائد ، كثير الاطلاع. وله من التصانيف «اللباب» و «حاشية على كتاب الصحاح» وغيرها. توفي سنة (٥٨٢) بمصر. (القفطي ، إنباه الرواة ٢ / ١١٠).

(٤) هو منصور بن فلاح بن محمد ، تقي الدين أبو الخير ، المشهور بابن فلاح اليمني. له مؤلفات في العربية منها «الكافي» جزء في غاية الحسن يدل على معرفته بأصول الفقه. توفي سنة (٦٨٠). (السيوطي ، بغية الوعاة ٢ / ٣٠٢) ، وكتابه «الكافي في أصول الفقه» ذكره أيضا البغدادي في «إيضاح المكنون» ٢ / ٢٥٨.

١١١

القرائن ، كقوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الأحزاب : ٧٣). (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء : ١٣٤). (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (النساء : ١٠٣). دلّت على الدوام المتصف بتلك الصفات ودوام التعبد بالصفات. وقد تدل على الانقطاع ، نحو : كان [هذا] (١) الفقير غنيّا ، وكان لي مال.

وقال أبو بكر الرازي : «كان» في القرآن على خمسة أوجه :

١ ـ بمعنى الأزل والأبد ، كقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء : ١٧٠).

٢ ـ وبمعنى المضيّ المنقطع ، كقوله : (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ) (النمل : ٤٨) ؛ وهو الأصل في معاني «كان» ، كما تقول : كان زيد صالحا أو فقيرا أو مريضا أو نحوه.

٣ ـ وبمعنى (٢) الحال ، كقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (آل عمران : ١١٠) ، وقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (النساء : ١٠٣).

٤ ـ وبمعنى الاستقبال ، كقوله تعالى : (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) (الإنسان : ٧).

٥ ـ وبمعنى «صار» ، كقوله : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (البقرة : ٣٤).

(مسألة) كان فعل ماض ، وإذا وقعت بعد «إن» كانت في المعنى للاستقبال.

وقال المبرّد : تبقى على المضيّ لتجردها ، للدلالة على الزمان فلا يغيرها أداة الشرط ، قال تعالى : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ [فَقَدْ عَلِمْتَهُ]) (٣) (المائدة : ١١٦) (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ) (يوسف : ٢٦). وهذا ضعيف لبنائه [٢٧٢ / أ] على أنها للزمان وحده ، والحقّ خلافه ؛ بل تدلّ على الحدث والزمان كغيرها من الأفعال.

وقد استعملت مع «إن» للاستقبال ، قال تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ [صادِقِينَ]) (٤)

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (وكان بمعنى).

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) ليست في المخطوطة.

١١٢

(البقرة : ٣١). وأما : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ) (المائدة : ١١٦) ، فتأوّله ابن السراج (١) على تقدير «إن أكن قلته» ، وكذا (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ) «إن يكن (٢) قميصه».

(مسألة) إذا نفيت «كان» وأخواتها ، فهي كغيرها من الأفعال. وزعم ابن الطراوة (٣) أنها إذا نفيت كان اسمها مثبتا والخبر منفيا ، قال : لأنّ النفي إنما يتسلّط على الخبر ، كقوله تعالى : (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا) (الجاثية : ٢٥) ، فالقول مثبت والحجّة [هي] (٤) المنفية ؛ وما ذهب إليه غير لازم ، إذ [قد] (٤) قرئ (٤) [(ما كانَ حُجَّتَهُمْ) بالرفع (٥) على أنه اسم كان ، ولكن تأوّله على أن «كان» ملغاة ، أي زائدة ، تقديره : «ما حجتهم إلا».

وهذا إن ساغ له هاهنا فلا يسوغ له تأويله قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا) (الأنعام : ٢٣) ، فإنه قرئ] (٤) بالرفع (٦) ولا يمكن أن تكون هنا ملغاة.

[جعل]

ومن ذلك «جعل» وهي أحد الأفعال المشتركة ؛ التي هي أمهات الأحداث ؛ وهي : «فعل ، و «عمل» ، و «جعل» و (٧) «طفق» ، و «أنشأ» ، و «أقبل». وأعمّها «فعل» يقع على القول والهمّ وغيرهما : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (النحل : ٥٠). ودونه «عمل» لا ينتظم (٨) النية والهمّ والعزم والقول : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) (الفرقان : ٢٣) ، أي من صلاة وصدقة وجهاد. ول «جعل» أحوال :

__________________

(١) هو محمد بن السري أبو بكر المعروف بابن السرّاج تقدم التعريف به في ١ / ١٢.

(٢) في المخطوطة (إن يكن كان قميصه).

(٣) هو سليمان بن محمد بن عبد الله المالقي تقدم التعريف به في ٢ / ٤٣٢.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) قال البنا الدمياطي في «إتحاف فضلاء البشر» ص ٣٩٠ عند سورة الجاثية (وعن الحسن (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) بالرفع اسم كان ... ، والجمهور بالنصب على أنها الخبر).

(٦) انظر «إتحاف فضلاء البشر» ص ٢٠٦ عند سورة الأنعام.

(٧) في المخطوطة زيادة (وأطلق).

(٨) في المطبوعة (لأنه يعم) وما أثبتناه من المخطوطة.

١١٣

ـ (أحدها) : بمعنى «سمّى» ، كقوله تعالى : ([الَّذِينَ] (١) جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (الحجر : ٩١) ، أي سموه كذبا ، وقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (الزخرف : ١٩) على قول. ويشهد له قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) (النجم : ٢٧).

ـ (الثاني) : بمعنى المقاربة ، مثل «كاد» و «طفق» ، لكنها تفيد ملابسة الفعل والشروع فيه ، تقول : جعل يقول ، وجعل يفعل كذا ؛ إذا شرع فيه.

ـ (الثالث) : بمعنى الخلق والاختراع ، فتعدّى لواحد ، كقوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (الأنعام : ١) ، أي خلقهما. (فإن قيل) : ما الفرق بين الجعل والخلق؟ (قيل) : «إن الخلق فيه معنى التقدير ، وفي الجعل معنى التصيير (٢) كإنشاء شيء من شيء ، أو تصيير شيء شيئا. أو نقله من مكان ، ويتعدى لمفعول واحد» ؛ لأنه لا يتعلق (٣) إلا بواحد ، وهو المخلوق.

وأيضا ، فالخلق يكون عن عدم سابق ؛ حيث لا يتقدم مادة ولا سبب محسوس ، والجعل يتوقف على موجود مغاير للمجعول ، يكون منه المجعول أو عنه ، كالمادة والسبب.

ولا يرد في القرآن العظيم لفظ «جعل» في الأكثر مرادا به الخلق ؛ إلا حيث يكون قبله ما يكون عنه أو منه ، [أو] (٤) شيئا فيه محسوسا عنه ، فيكوّن ذلك المخلوق الثاني ، بخلاف «خلق» فإن العبارة تقع كثيرا [به] (٤) عمّا لم يتقدم وجوده وجود مغاير ، يكون عنه هذا الثاني ، قال الله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (الأنعام : ١) وإنما الظّلمات والنّور عن أجرام توجد بوجودها ، وتعدم بعدمها.

وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) (الرعد : ٣). وقال : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) (الزخرف : ١٢). وقال سبحانه في سورة الأعراف : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) (الأعراف : ١٨٩). وفي سورة النساء : (وَخَلَقَ مِنْها

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة و «الكشاف» ٢ / ٢ هي (التضمين).

(٣) عبارة المخطوطة (لأنه ما يتعلق إلا من واحد).

(٤) ليست في المخطوطة.

١١٤

زَوْجَها) (النساء : ١) ؛ فهو يدلّ على أنهما [قد] (١) يستعملان استعمال المترادفين.

ـ (الرابع) : بمعنى النقل من حال إلى حال والتصيير ، فيتعدى إلى مفعولين ؛ إما حسّا كقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) (البقرة : ٢٢) (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) (نوح : ١٩) (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) (الأنبياء : ٥٨) (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) (القصص : ٤١) (وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) (الإسراء : ٦). [وإمّا عقلا مثل] (١) (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) (ص : ٥) (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (فاطر : ١).

ونحو قوله : (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (إبراهيم : ٣٥) ، وقوله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) (النبأ : ١٠) ، لأنه يتعلق بشيئين : المنقول وهو الليل ؛ والمنقول إليه وهو اللباس.

وأبين منه قوله تعالى : (٢) [(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) (الكهف : ٨) ، (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) (هود : ٨٢) ، (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) (النبأ : ٩) والمعاش في قوله :] (٢) (وَجَعَلْنَا (٣) النَّهارَ مَعاشاً) (النبأ : ١١) اسم زمان [٢٧٢ / ب] لكون الثاني هو الأول ويجوز أن يكون مصدرا لمعنى المعيش (٤) : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (المؤمنون : ٥٠) ، ومعناه صيّرناه ، لأنّ مريم إنما صارت مع ولدها عليه‌السلام لمّا خلق من جسدها لا من أب ، فصارا عند ذلك آية للعالمين. ومحال أنه يريد : «خلقناهما» لأن مريم لم تخلق في حين خلق ولدها ؛ بل كانت موجودة قبله ، ومحال تعلّق القدرة بجعل الموجود موجودا في حال بقائه.

فأما قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (الزخرف : ٣) ؛ فهو من هذا الباب على جهة الاتساع. أي صيرناه يقرأ بلسان عربيّ ، لأن غير القرآن ما هو عبريّ وسريانيّ ؛ ولأن معاني القرآن في الكتب السالفة ، بدليل قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء : ١٩٦) ، (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) (الأعلى : ١٨).

وبهذا احتجّ من أجاز القراءة (٥) بالفارسية ، قال : لأنه ليس في زبر الأولين من القرآن إلا

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) تصحفت في المخطوطة إلى (وجعل).

(٤) في المخطوطة (مصدرا بمعنى العيش).

(٥) في المخطوطة (من أجاز قراءة القرآن) ، وانظر لمسألة القراءة بغير العربية «أحكام القرآن» للجصاص ٣ / ٣٤٨ عند تفسير الآية من سورة الشعراء.

١١٥

المعنى ، والفارسية تؤدي المعنى. وإذا عرف هذا ، فكأنه نقل المعنى من لفظ القرآن فصيره عربيا.

وأخطأ الزمخشري (١) حيث جعله بالخلق ؛ وهو مردود صناعة ومعنى. أمّا الصّناعة ، فلأنه يتعدّى لمفعولين ، ولو كان بمعنى الخلق لم يتعدّ إلا إلى واحد ، وتعديته لمفعولين ـ وإن احتمل هذا المعنى ـ لكن بجواز إرادة التسمية أو التصيير على ما سبق. وأمّا المعنى فلو كان بمعنى «خلقنا التلاوة العربية» فباطل ؛ لأنه ليس الخلاف في حدوث ما يقوم بألسنتنا ؛ وإنما الخلاف في أنّ كلام الله الذي هو أمره ونهيه وخبره ؛ فعندنا أنه صفة من صفات ذاته ، وهو قديم.

وقالت القدرية (٢) : إنه صفة فعل أوجده بعد عدمه ، وأحدثه لنفسه ، فصار عند حدوثه متكلّما بعد أن لم يكن ، فظهر أن الآية على تأويله ليس فيها تأويل (٣) لعقيدته الباطلة.

وقال الآمدي (٤) في «أبكار الأفكار» : الجعل فيه بمعنى التسوية ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (الحجر : ٩١) ، أي يسمّونه كذبا.

قال : ويحتمل أن الجعل على بابه ، والمراد القرآن بمعنى القراءة دون مدلولها ، فإنّ القرآن قد يطلق بمعنى القراءة ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أذن الله [لشيء أذنه] (٥) لنبيّ يتغنّى في القرآن» (٦) أي بالقراءة.

__________________

(١) انظر «الكشاف» ٣ / ٤١١ عند تفسير الآية من سورة الزخرف.

(٢) قال الجرجاني في «التعريفات» ص ٢٢٢ (القدرية : هم الذين يزعمون أن كل عبد خالق لفعله ، ولا يرون الكفر والمعاصي بتقدير الله تعالى).

(٣) في المطبوعة (ليس فيها تضمن).

(٤) هو علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي الفقيه الأصولي ، الملقب سيف الدين الآمدي. ولد سنة (٥٥١) ه. اشتغل بفنون المعقول وحفظ منه الكثير ، ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه العلوم ، واشتغل عليه الناس وانتفعوا به. وله من التصانيف «أبكار الأفكار» و «دقائق الحقائق» و «رموز الكنوز» وغيرها. توفي سنة (٦٣١) ودفن بسفح جبل قاسيون. (ابن خلّكان ، وفيات الأعيان ٣ / ٢٩٣) وكتابه ذكره حاجي خليفة أيضا في كشف الظنون ١ / ٤ وقال («أبكار الأفكار في الكلام» ... ، وهو مرتب على ثماني قواعد متضمنة بجميع مسائل الأصول ، في العلم (١) ، في النظر (٢) ، في الموصل إلى المطلوب ... ، ومختصره «رموز الكنوز» له أيضا).

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ٩ / ٦٨ كتاب فضائل القرآن

١١٦

وقال بعضهم : قاعدة العرب في الجعل أن يتعدى (١) لواحد ، وتارة يتعدى لاثنين ؛ فإن تعدى لواحد لم يكن إلا بمعنى الخلق ، وأما إذا تعدى لاثنين فيجيء بمعنى الخلق ، كقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) (الإسراء : ١٢) ، وبمعنى التسمية : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (الزخرف : ١٩) ، (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (الحجر : ٩١).

ويجيء بمعنى التصيير ، كقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (المؤمنون : ٥٠) ، أي صيرناهما.

إذا علمت هذا فإذا (٢) ثبت أن الجعل المتعدي لاثنين ليس نصّا في الخلق ، بل يحتمل الخلق وغيره لم (٣) يكن في الآية تعلّق للقدرية على خلق القرآن ، لأنّ الدليل لا بدّ أن يكون قطعيا لا احتمال فيه. ويجوز أن يكون بمعنى الخلق على معنى : جعلنا التلاوة عربية. (قلت) : وهذا يمنع إطلاقه ؛ وإن جوزنا حدوث الألفاظ ، لأنها لم تأت عن السلف ، بل نقول : القرآن غير مخلوق على الإطلاق.

ـ (الخامس) : بمعنى الاعتقاد ، كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) (الأنعام : ١٠٠) ، (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) (النحل : ٦٢). وكذلك قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (الزخرف : ١٩) أي اعتقدوهم إناثا.

ويجوز أن يكون كما قبله (٤) ؛ ووجه النقل فيه هو أنّ الملائكة في نفس الأمر ليسوا (٥) إناثا ، فهؤلاء الكفار نقلوهم باعتقادهم ، فصيروهم في الوجود الذهنيّ إناثا. ومنهم من جعلها

__________________

(٦٦) ، باب من لم يتغن بالقرآن (١٩) ، الحديث (٥٠٢٣ و ٥٠٢٤) ، وأخرجه مسلم في الصحيح ١ / ٥٤٥ كتاب صلاة المسافرين (٦) ، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن (٣٤) ، الحديث (٢٣٢ / ٧٩٢).

(١) في المخطوطة (أنه تارة يتعدى).

(٢) في المطبوعة (فإذن).

(٣) في المطبوعة (ولم يكن).

(٤) أي : الرابع ، وهو بمعنى النقل من حال إلى حال والتصيير.

(٥) في المخطوطة (ليس هم إناثا).

١١٧

بمعنى التسمية ، كقوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة : ٢٢) أي لا تسمّوها أندادا [وأنتم تعلمون ؛ أي لا تسموها أندادا] (١) ولا تعتقدوها ؛ لأنهم ما سموها حتى اعتقدوها. وكذلك : (الَّذِينَ جَعَلُوا) [٢٧٣ / أ] (الْقُرْآنَ عِضِينَ) (الحجر : ٩١) ، أي سموه وجزّءوه أجزاء ، فجعلوا بعضه شعرا ، وبعضه سحرا ، وبعضه أساطير الأولين.

وقال الزجاج [في] (١) : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ) (الزخرف : ١٩) ، إنها بمعنى (٢) [القول والحكم على الشيء] (٢) وقوله : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) (التوبة : ١٩) ، أي اعتقدتم هذا مثل هذا.

فأما قوله : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) (ص : ٢٨) ، فالنقل والتصيير راجعان (٣) إلى الحال ، أي لا تجعل حال هؤلاء مثل حال هؤلاء ، ولا تنقلها إليها. وكذلك قوله : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) (الرعد : ١٦) ، أي اعتقدوا له شركاء.

ـ (السادس) : بمعنى الحكم بالشيء على الشيء ، ويكون في الحق والباطل.

فالحق ، كقوله [تعالى] (٤) : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص : ٧).

والباطل ، كقوله [تعالى] (٤) : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ [وَالْأَنْعامِ]) (٤) (الأنعام : ١٣٦) الآية.

وبمعنى أوجب ، كقوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي [كُنْتَ عَلَيْها) (البقرة : ١٤٣) ، أي] (٥) أوجبنا الاستقبال إليها. وكقوله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) (المائدة : ١٠٣) ، [(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها)] (٥) (البقرة : ١٤٣) ومعنى «كنت عليها» (٦) أي أنت عليها ، كقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران : ١١٠) ، أي أأنتم.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) وقع بياض في بعض الأصول مكانها ، واتصل الكلام بما بعده في نسختنا فجاءت العبارة فيها كالتالي : (إنها بمعنى قوله (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ ...)) ، وعبارة الزجاج في «معاني القرآن وإعرابه» ٤ / ٤٠٧ عند الآية (١٩) من سورة الزخرف (الجعل هاهنا في معنى القول والحكم على الشيء ...).

(٣) في المخطوطة (راجع).

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) في المخطوطة تكرر (أي كنت عليها ، أي أنت عليها).

١١٨

ـ (السابع) : ذكره الفارسي ، بمعنى «ألقى» فيتعدى لمفعولين : أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجرّ ، كما في قولك : جعلت متاعك بعضه فوق بعض. [ومثله قوله : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ)] (١) (الرعد : ٣). ومنه قوله تعالى : (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) (الأنفال : ٣٧) [أي يلقي] (٢) و «بعضه» بدل من الخبيث. وقوله : «على بعض» أي فوق بعض. ومثله قوله : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) (الرعد : ٣) ، أي ألقى ، بدليل قوله في الآية الأخرى التي علّل فيها المراد بخلق الجبال ، وأبان إنعامه ، فقال : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (النحل : ١٥).

(فائدة) قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) (الإسراء : ١٢) ، (قيل) : كيف يستعمل لفظ «الجعل» هنا مع أن المجعول عنه ينتفي (٣) أن يتحقّق قبل «الجعل» مع ضده (٤) المجعول ، كقولك : «جعلت زيدا قائما» ، فهو قبل ذلك كان متّصفا بضد القيام ، وهنا لم يوجد «الجعل» إلا على هذه الصفة ، فكيف يصحّ استعمال «الجعل» فيه؟

(والجواب) أنّ الليل جوهر قام به السواد ، والنهار جوهر قام به النور ، وكذلك الشمس جسم قام به ضوء ، والأجسام والجواهر متقدمة على الأعراض بالذات ، والعرب تراعي مثل هذا ، نقل الفرّاء أنهم قالوا : أحسنت إليك فكسوتك ؛ فجعلوا الإحسان متقدما على الكسوة ؛ بدليل العطف بالفاء ، وليس ذلك إلا تقدّم ذاتيّ ، لأن الإحسان في الخارج هو نفس الكسوة.

ولك أن تقول : لا نسلّم أن الإحسان نفس الكسوة ؛ بل معنى يقوم بالنفس تنشأ عنه الكسوة.

حسب

يتعدّى لمفعولين. وحيث جاء بعدها أن والفعل ، كقوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) (آل عمران : ١٤٢) ، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) (التوبة : ١٦) ونظائره ، فمذهب

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) في المطبوعة (ينبغي).

(٤) في المطبوعة (صفة).

١١٩

سيبويه (١) [أنها] (٢) سادّة مسدّ المفعولين ، ومذهب المبرّد أنها سادّة مسدّ المفعول الواحد ، والثاني عنده مقدّر. ويشهد لسيبويه أنّ العرب لم يسمع [من] (٢) كلامهم نطق بما ادعاه من التصريح به ، ولو كان كما ذكره لنطقوا به ولو مرّة.

كاد

وللنحويين فيها أربعة مذاهب :

ـ (أحدها) : أن إثباتها إثبات ونفيها نفي ، كغيرها من الأفعال.

ـ (والثاني) : أنها تفيد الدّلالة على وقوع الفعل بعسر ، وهو مذهب ابن جنّي.

ـ (والثالث) : أن إثباتها نفي ونفيها إثبات ، فإذا قيل : «كاد يفعل» ، فمعناه أنه لم يفعله ، بدليل قوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) (الإسراء : ٧٣) ، وإذا قيل «لم يكد يفعل» فمعناه أنه فعله ، بدليل قوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) (البقرة : ٧١).

ـ (والرابع) : التفصيل في النفي بين المضارع [والماضي ، فنفي المضارع] (٣) نفي ، ونفي الماضي إثبات ، بدليل : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) (البقرة : ٧١) ، وقوله : (لَمْ يَكَدْ يَراها) (النور : ٤٠) ، مع أنه لم ير شيئا ، وهذا حكاه ابن أبي الربيع (٤) [٢٧٣ / ب] في «شرح الجمل» وقال : إنه الصحيح.

والمختار هو الأول ؛ وذلك ، لأن معناها المقاربة ، فمعنى «كاد يفعل» قارب الفعل ، ومعنى «ما كاد يفعل» لم يقاربه ، فخبرها منفيّ دائما. أما إذا كانت منفية فواضح ، لأنّه إذا انتفت مقاربة الفعل اقتضى عقلا عدم حصوله ، ويدلّ له قوله تعالى : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) (النور : ٤٠) ، ولهذا كان أبلغ من قوله : «لم يرها» لأن من لم ير قد يقارب الرؤية.

__________________

(١) انظر مذهب سيبويه في «الكتاب» ١ / ٣٩ باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين ... ، وانظر مذهب المبرد في «المقتضب» ٣ / ٦٨ ـ ٧٣ باب الأفعال التي تسمّى أفعال المقاربة.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) هو عبيد الله بن أحمد بن عبيد الله تقدم التعريف به في ٢ / ٥٠٢ ، وكتابه «شرح الجمل» ذكره السيوطي في بغية الوعاة ٢ / ١٢٥ وقال عنه (شرح الجمل : عشرة مجلدات لم يشذ عنه مسألة في العربية) ، وذكره البغدادي في هداية العارفين ١ / ٦٤٩ فقال (شرح جمل الكبيرة للزجاجي في النحو).

١٢٠