البرهان في علوم القرآن - ج ٣

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٣

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٩

المثال الثاني : قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (يوسف : ١٧) قال (١) : معناه : وما أنت مصدّق لنا ، فيقال : ما الحكمة في العدول عن الجناس ، وهلاّ قيل : «وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين» ، فإنّه يؤدي معنى الأول مع زيادة (٢) رعاية التجنيس اللفظي؟ والجواب أن في «مؤمن لنا» من المعنى ما ليس في «مصدّق» ، وذلك أنك إذا قلت : «مصدّق لي» فمعناه. قال لي : صدقت ، وأما «مؤمن» فمعناه مع التصديق إعطاء الأمن ، ومقصودهم التصديق وزيادة ، وهو طلب الأمن ؛ فلهذا عدل إليه.

فتأمل هذه اللطائف الغريبة ، والأسرار العجيبة فإنه نوع من الإعجاز!

فائدة

قال الخفاجي (٣) : «إذا دخل التجنيس نفي عدّ طباقا ، كقوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر : ٩) ، لأن «الّذين لا يعلمون» هم الجاهلون ، قال : وفي هذا يختلط (٤) التجنيس بالطباق.

الطباق

٣ / ٤٥٥ هو أن يجمع بين متضادّين مع مراعاة التقابل ، كالبياض ، والسواد ، والليل والنهار ؛ وهو قسمان : لفظيّ ومعنويّ ؛ كقوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) (التوبة : ٨٢) ، طابق بين الضحك والبكاء ، والقليل والكثير.

ومثله : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (الحديد : ٢٣).

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى * وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا). (النجم : ٤٣ ـ ٤٤).

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) (الكهف : ١٨).

(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (الرعد : ١٠).

__________________

(١) في المخطوطة (فإن).

(٢) في المخطوطة (وزيادة).

(٣) هو عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي تقدم التعريف به في ١ / ١٥٣.

(٤) في المخطوطة (تخليط).

٥٠١

وقوله تعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ...) (آل عمران : ٢٦) الآية.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ* وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ* وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) (فاطر : ١٩ إلى ٢٢).

٣ / ٤٥٦ ثم إذا شرط فيهما (١) شرط وجب أن يشترط في ضدّيهما ضدّ ذلك الشرط ، كقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ...) (الليل : ٥ ـ ٦) الآية ، لما جعل التيسير مشتركا بين الإعطاء والتقى والتصديق ، وجعل ضدّه وهو التعسير مشتركا بين أضداد تلك الأمور ، وهي المنع والاستغناء والتكذيب.

ومنه : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ* قُطُوفُها دانِيَةٌ) (الحاقة : ٢٢ ـ ٢٣) ، قابل بين العلوّ والدنو.

وقوله : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ* وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) (الغاشية : ١٣ ـ ١٤).

وقوله : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (القصص : ٧٣) ، فذكر الليل والنهار وهما ضدّان ، ثم قابلهما بضدّين وهما الحركة والسكون ، على الترتيب ، ثم عبّر عن الحركة بلفظ «الإرداف» فاستلزم الكلام ضربا من المحاسن زائدا على المبالغة ، وعدل عن لفظ الحركة إلى لفظ «ابتغاء الفضل» لكون الحركة تكون للمصلحة دون المفسدة ؛ وهي تسير (٢) إلى الإعانة بالقوة وحسن الاختيار الدالّ على رجاحة العقل ، وسلامة الحسّ ، وإضافة الظرف (٣) إلى [تلك] (٤) الحركة المخصوصة واقعة فيه ، ليهتدي المتحرّك (٥) إلى بلوغ المأرب.

***

ومن الطباق المعنويّ قوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ* قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) (يس : ١٥ ـ ١٦) ، معناه : ربنا يعلم إنا لصادقون.

وقوله : (الَّذِي(٦) جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) (البقرة : ٢٢) ، قال أبو عليّ في

__________________

(١) في المخطوطة (فيها).

(٢) في المخطوطة (تشير).

(٣) في المخطوطة (الطرف).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (التحرك).

(٦) تصحفت في المخطوطة إلى (هو الذي).

٥٠٢

«الحجة (١)» : لمّا كان البناء رفعا للمبنيّ قوبل بالفراش الذي هو على خلاف البناء ، ومن ثمّ وقع البناء على ما فيه ارتفاع في نصيبه إن لم يكن مدرا.

***

٣ / ٤٥٧ ومنه نوع (٢) يسمى الطباق الخفيّ ؛ كقوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (نوح : ٢٥) ، لأن الغرق من صفات الماء ، فكأنه جمع بين الماء [في النار] (٣) والنار ، قال ابن منقذ (٤) : وهي أخفى مطابقة في القرآن.

قلت : ومنه قوله تعالى : (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) (يس : ٨٠) ؛ فكأنه جمع بين الأخضر والأحمر ، وهذا أيضا (٥) فيه تدبيج بديعي.

ومنه : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ) [٢٤٥ / أ](حَياةٌ) (البقرة : ١٧٩) ، لأن [معنى] (٦) القصاص القتل ، فصار القتل سبب الحياة.

قال ابن المعتز (٧) ؛ وهذا من أملح الطباق وأخفاه.

وقوله تعالى في الزخرف : (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) (الآية : ١٧) ؛ لأن «ظلّ» لا تستعمل (٨) إلا نهارا ، فإذا لمح مع ذكر السواد كأنه طباق يذكر البياض مع السواد.

__________________

(١) كتاب الحجة لأبي علي الفارسي تقدم التعريف به في ١ / ٤٨٨.

(٢) تصحفت في المخطوطة إلى (ومرفوع) بدل (ومنه نوع).

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) تصحفت في المخطوطة إلى (ابن سعد) ، وهو أسامة بن مرشد بن علي بن مقلّد بن نصر بن منقذ الكناني الكلبي الشّيزري من أكابر بني منقذ أصحاب قلعة شيزر وعلمائهم وشجعانهم ، ويلقب مؤيد الدولة ومجد الدين وله تصانيف حسان منها «لباب الآداب» و «البديع في نقد الشعر» و «الشيب والشباب» ت ٥٨٤ ه‍ (ياقوت ، معجم الأدباء ٥ / ١٨٨). وقد ذكر قوله السيوطي في الاتقان ٣ / ٢٨٥. النوع الثامن والخمسون في بديع القرآن.

(٥) في المخطوطة (فيه أيضا).

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) هو عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد الهاشمي ولد سنة ٢٤٧ ه‍ كان أديبا بليغا شاعرا مخالطا للعلماء والأدباء أخذ الأدب عن أبي العباس المبرد وثعلب وغيرهما ، وله من التصانيف «الزهر والرياض» و «الجوارح والصيد» و «مكاتبة الإخوان بالشعر» وغيرها ت ٢٩٦ ه‍ (ابن خلكان ، وفيات الأعيان ٣ / ٧٦).

(٨) في المخطوطة (يستعمل).

٥٠٣

وقوله (١) : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) (غافر : ٤١).

٣ / ٤٥٨

المقابلة

وفيها مباحث :

الأول : في حقيقتها

وهي ذكر الشيء مع ما يوازيه (٢) في بعض صفاته ، ويخالفه في بعضها ، وهي من باب «المفاعلة» ، كالمقابلة والمضاربة ، وهي قريبة من الطباق ؛ والفرق بينهما من وجهين :

الأول : أن الطّباق لا يكون إلا بين الضدّين (٣) غالبا ، والمقابلة تكون لأكثر (٤) من ذلك غالبا.

والثاني : لا يكون الطباق إلا بالأضداد ، والمقابلة بالأضداد وغيرها ؛ ولهذا جعل ابن الأثير (٥) الطّباق أحد أنواع المقابلة.

الثاني : في أنواعها

وهي ثلاثة : نظيريّ ، ونقيضيّ ، (٦) [وخلافيّ. والخلافيّ أتمها في التشكيك ، وألزمها بالتأويل ، والنّقيضيّ] (٦) ثانيها ، والنظيريّ ثالثها.

وذكر الشيخ أبو الفضل يوسف بن محمد النحوي القلعيّ (٧) : أن القرآن كلّه وارد عليها بظهور نكته الحكمية العلمية ، من الكائنات والزمانيات والوسائط الروحانيات والأوائل الإلهيات ؛ حيث اتّحدت من حيث تعددت ، واتصلت من حيث انفصلت ؛ وأنها قد ترد على

__________________

(١) في المخطوطة (ومنه).

(٢) تصحفت في المخطوطة إلى (زيه).

(٣) في المخطوطة (ضدين).

(٤) في المخطوطة (الأكثر).

(٥) هو ابن الأثير الجزري صاحب المثل السائر تقدم التعريف به في ٣ / ١٨٩.

(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٧) هو يوسف بن محمد بن يوسف التوزري أبو الفضل المعروف بابن النحوي كان فقيها يميل إلى الاجتهاد من أهل تلمسان أصله من توزر سكن سلجماسة ، وله تصانيف ، نظم «القصيدة المنفرجة» توفي بقلعة بني حماد سنة ٥١٣ ه‍ (التنبكتي ، نيل الابتهاج : ٣٤٩) المطبوع على هامش الديباج.

٥٠٤

شكل المربع تارة ، وشكل المسدس أخرى ، وعلى شكل المثلث ، إلى غير ذلك من التشكيلات ٣ / ٤٥٩ العجيبة ، والترتيبات البديعة ، ثم (١) أورد أمثلة من ذلك.

مثال [مقابلة النظيرين] (٢) ، مقابلة السّنة والنوم في قوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (البقرة : ٢٥٥) ؛ لأنهما جميعا من باب الرقاد المقابل باليقظة.

وقوله : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) (الكهف : ١٨) ، وهذه هي مقابلة النقيضين أيضا ، ثم السّنة والنوم بانفرادهما متقابلان في باب النظيرين ومجموعهما يقابلان النقيض الذي هو اليقظة.

ومثال مقابلة الخلافين ، مقابلة الشرّ بالرشد في قوله تعالى : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) (الجن : ١٠) ، فقابل الشرّ بالرشد ؛ وهما خلافيان ، وضد الرشد الغيّ ، وضد الشر الخير ، والخير الذي يخرجه لفظ الشر ضمنا نظير الرشد قطعا ، والغي الذي يخرجه لفظ الرشد ضمنا نظير الشر قطعا [فقد] (٣) حصل من هذا الشكل أربعة ألفاظ : نطقان وضمنان ؛ فكان بهما رباعيّان.

وهذا الشكل الرباعي يقع في تفسيره على وجوه ، فقد يرد وبعضه مفسّر ، مثل ما ذكرناه ، وقد يرد وكله مفسّر ، كقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى* وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (القيامة : ٣١ ـ ٣٢) فقابل «صدّق» ب «كذّب» «وصلّى» الذي هو أقبل ب «تولّى».

قوله (٤) : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً* إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (الواقعة : ٢٥ ـ ٢٦) ، اللغو في الحيثية المنكرة والتأثيم في الحيثية الناكرة ، واللّغو منشأ المنكر ومبدأ درجاته ، والتأثيم منشأ التكبّر ومبدأ درجاته ، فلا نكير إلا بعد منكر ، ولا اعتقاد (٥) إنكار إلا (٦) بعد اعتقاد تأثيم ، ومنشأ اللغو (٧) في أول طرف (٨) المكروهات وآخره في طرف المحظورات ومبدأ التأثيم.

__________________

(١) في المخطوطة (إن).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) ساقطة من المطبوعة.

(٤) في المخطوطة (وكقوله).

(٥) تكررت هذه العبارة في المخطوطة.

(٦) عبارة المخطوطة (فكان لأبعد).

(٧) في المخطوطة (اللغوي).

(٨) في المخطوطة (طرق).

٥٠٥

٣ / ٤٦٠ ومن ذلك أيضا قوله تعالى : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (البقرة : ٣٠) فقابل الإفساد بالتسبيح والحمد ، وسفك الدماء بالتقديس ، فالتسبيح بالحمد إذن ينفي الفساد ، والتقديس ينفي سفك الدماء ، والتسبيح شريعة للإصلاح ، والتقديس شريعة حقن الدماء ، وشريعة التقديس أشرف من شريعة التسبيح ؛ فإن التسبيح بالحمد للإصلاح لا للفساد (١) ، وسفك الدماء للتسبيح لا للتقديس ؛ وهذا شكل مربّع ، من أرضيّ وهو الإفساد [٢٤٥ / ب] وسفك الدماء ، [وسمائي] (٢) وهو التسبيح والتقديس ، والأرضيّ ذو فصلين ، والسمائيّ ذو فصلين ، ووقع النفس من الطرفين المتوسطين ؛ فالطرفان الإفساد في الطرف الأول ، والتقديس في الطرف الآخر ، والوسطان آخر الأرض ، وأول السماء ، فالأول متشرف (٣) على الآتي والآخر ملفت (٤) إلى الماضي :

وكم في كتاب الله من كلّ موجز

يدور على المعنى وعنه يماصع (٥)

لقد جمع الاسم المحامد كلّها

مقاسيمها مجموعة والمشايع

وهذا القدر الذي ذكره هذا الحبر مرمى (٦) عظيم ، يوصّل إلى أمور غير متجاسر عليها ، كما في آية الكرسيّ وغيرها.

***

وقسم بعضهم المقابلة إلى أربع :

أحدها : أن يأتي بكل واحد من المقدمات مع قرينة من الثواني ، كقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً* وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) (النبأ : ١٠ ـ ١١).

والثانية (٧) : أن يأتي بجميع [المقدمات مع قرينة] (٨) الثواني مرتّبة من أولها ، كما قال تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (القصص : ٧٣).

__________________

(١) في المخطوطة (الافساد).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (مستشرف).

(٤) في المخطوطة (ملتفت).

(٥) المماصعة : المقاتلة والمجالدة (اللسان ٨ / ٣٣٨) مادة (مصع).

(٦) في المخطوطة (مر من).

(٧) في المخطوطة (والثاني).

(٨) العبارة ليست في المطبوعة.

٥٠٦

وكذلك : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (البقرة : ٢١٧).

الثالث : أن يأتي بجميع المقدمات ثم بجميع الثواني مرتبة من آخرها ، ويسمى ردّ ٣ / ٤٦١ العجز على الصدر ، كقوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (آل عمران : ١٠٦ ـ ١٠٧).

الرابع : أن يأتي بجميع المقدمات ثم بجميع الثواني مختلطة غير مرتبة ، ويسمى اللفّ (١) كقوله تعالى : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (البقرة : ٢١٤) فنسبة قوله : (مَتى نَصْرُ اللهِ) (البقرة : ٢١٤) إلى قوله :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) ، كنسبة قوله : (يَقُولَ الرَّسُولُ) إلى : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) ، لأن القولين المتباينين يصدران عن [مقامين] (٢) متباينين.

وكما قال تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام : ٥٢) فنسبة قوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الأنعام : ٥٢) إلى قوله : (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام : ٥٢) كنسبة قوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ) (الأنعام : ٥٢) إلى قوله : (فَتَطْرُدَهُمْ) (الأنعام : ٥٢) (٣) فجمع المقدّمين التاليين بالالتفات (٣).

***

وجعل بعضهم من أقسام التقابل مقابلة الشيء بمثله وهو ضربان :

مقابل (٤) في اللفظ دون المعنى ، كقوله تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً) (٥) (النمل : ٥٠).

__________________

(١) في المخطوطة (الكف).

(٢) ساقطة من المطبوعة.

(٣) عبارة المخطوطة (فجمع المقدمتين وجمع التاليين بالتفات).

(٤) في المخطوطة (يقابل).

(٥) الآية في المخطوطة (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (آل عمران : ٥٤).

٥٠٧

٣ / ٤٦٢ ومقابل في المعنى دون اللفظ ، كقوله تعالى : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) (سبأ : ٥٠) ؛ فإنه لو كان التقابل هنا من جهة اللفظ ، لكان التقدير : «وإن اهتديت ، فإنما اهتديت لها».

وبيان تقابل هذا الكلام من جهة المعنى ، أنّ النفس كلّ ما هو عليها لها ، فهو (١) أعني أن كلّ ما هو وبال عليها وصار لها فهو بسببها ومنها ؛ لأنها أمّارة بالسوء ، وكلّ ما هو مما ينفعها فبهداية (٢) ربها وتوفيقه إياها ، وهذا حكم لكلّ مكلف ، وإنما [أمر] (٣) رسول (٤) الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسند إلى نفسه ، لأنه إذا دخل تحته (٥) مع علو محلّه كان غيره أولى به.

ومن هذا الضرب قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (النمل : ٨٦) ، فإنه لم يدع التقابل [٢٤٦ / أ] في قوله : (لِيَسْكُنُوا فِيهِ و [النَّهارَ]) (٦) مُبْصِراً ، لأن القياس يقتضي أن يكون «والنهار لتبصروا فيه» ، وإنما هو مراعى من جهة المعنى لا من جهة اللفظ ، لأنّ [معنى] (٦) «مبصرا» تبصرون فيه طرق التقلب في الحاجات.

***

واعلم أنّ في تقابل المعاني بابا عظيما يحتاج إلى فضل تأمّل ، وهو يتصل غالبا بالفواصل ، كقوله تعالى : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ* [أَلا إِنَّهُمْ هُمُ]) (٧) (البقرة : ١١ ـ ١٢) إلى قوله (لا يَشْعُرُونَ) (البقرة : ١٢).

(٨) [وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) (البقرة : ١٣) إلى قوله : (لا يَعْلَمُونَ) (البقرة : ١٣).

فانظر فاصلة الثانية (يَعْلَمُونَ) والتي قبلها (يَشْعُرُونَ)] (٨) لأن أمر الديانة والوقوف

__________________

(١) عبارة المخطوطة (فهو لها).

(٢) في المخطوطة (فهداية).

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (الرسول).

(٥) في المخطوطة (معه).

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.

(٨) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

٥٠٨

على أن المؤمنين : يجتمعون وهم مطيعون يحتاج إلى نظر واستدلال ، حتى يكسب الناظر المعرفة والعلم ؛ وإنما النفاق ـ وما فيه من الفتنة والفساد ـ أمر دنيوي مبنيّ على العادات معلوم عند الناس ، فلذلك قال فيه (يَعْلَمُونَ). ٣ / ٤٦٣

وأيضا فإنّه لما ذكر السّفه في الآية الأخرى (١) ـ وهو جهل ـ كان ذكر العلم طباقا وعلى هذا تجيء فواصل القرآن ، وقد سبق في بابه.

***

ومن المقابلة قوله تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) (البقرة : ٢٦٨) ، فتقدم اقتران الوعد بالفقر والأمر بالفحشاء ، ثم قوبل بشيء واحد وهو الوعد ، فأوهم الإخلال بالثاني ، وليس كذلك ؛ وإنما لما كان الفضل مقابلا للفقر ، والمغفرة مقابلة للأمر بالفحشاء ؛ لأن الفحشاء توجب العقوبة ، والمغفرة تقابل العقوبة ، استغني بذكر المقابل عن ذكر مقابله ، لأن ذكر أحدهما ملزوم ذكر الآخر.

تقسيم

٣ / ٤٦٤ من مقابلة اثنين باثنين : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) (التوبة : ٨٢).

ومن مقابلة أربعة بأربعة : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ...) (الليل : ٥ إلى ١٠) الآية.

ومن مقابلة خمس بخمس قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) (البقرة : ٢٦) ، للدلالة على الحقير والكبير (٢) ؛ وهو من الطباق الخفيّ ، الثاني : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) ، الثالث : (يُضِلُّ [بِهِ كَثِيراً] (٣) وَيَهْدِي بِهِ [كَثِيراً] (٣)) ، والرابع (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) (البقرة : ٢٧) ، الخامس (يَقْطَعُونَ) و (أَنْ يُوصَلَ).

ومن مقابلة ست (٤) [بستّ] (٥) : قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ

__________________

(١) وهي قوله تعالى (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) (البقرة : ١٣).

(٢) في المخطوطة (الكثير).

(٣) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.

(٤) في المخطوطة (ستة).

(٥) ساقطة من المخطوطة.

٥٠٩

الْحَياةِ الدُّنْيا) (آل عمران : ١٤) ، ثم قال تعالى : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) (آل عمران : ١٥) ، قابل الجنات والأنهار والخلد والأزواج والتطهير والرضوان بإزاء النساء (١) [والبنين والذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ومن الحكمة العظيمة أن بدأ بذكر النساء] (١) في الدنيا ، وختم بالحرث ، وهما طرفان متشابهان ، وفيهما الشهوة والانعاش (٢) الدنياويّ ، وأخّر ذكر الأزواج كما يجب في الترتيب الأخرويّ ، وختم بالرضوان. ٣ / ٤٦٥

فائدة

قد يجيء نظم الكلام على غير صورة المقابلة في الظاهر ؛ وإذا تؤمل (٣) كان من أكمل المقابلات ؛ ولذلك أمثلة : منها قوله تعالى : (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (٤) (طه : ١١٨ ـ ١١٩) فقابل الجوع بالعري ؛ والظمأ بالضّحى ؛ والواقف مع الظاهر ربّما يحيل أنّ الجوع يقابل بالظمأ ، والعري بالضّحى.

والمدقّق يرى هذا الكلام في أعلى مراتب الفصاحة ؛ لأن الجوع ألم الباطن (٥) والضّحى موجب لحرارة الظاهر ، فاقتضت الآية نفي جميع (٦) الآفات ظاهرا وباطنا ؛ وقابل الخلو بالخلوّ ، والاحتراق بالاحتراق. وهاهنا موضع الحكاية المشهورة بين المتنبي وسيف الدولة (٧) ؛ لما أنشده :

وقفت وما في [الموت] (٨) شكّ لواقف

كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم

٣ / ٤٦٦ [٢٤٦ / ب] ومنها قوله تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ)

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.

(٢) في المطبوعة (والمعاش).

(٣) في المخطوطة (تأمل).

(٤) قال الفراء في معاني القرآن ٢ / ١٩٤ : «ولا تضحى» لا تصيبك شمس مؤذية ، وذكر في بعض التفسير لا تعرق والأول أشبه بالصواب». انتهى.

(٥) في المخطوطة (في الباطن).

(٦) عبارة المطبوعة (جميع نفي).

(٧) الحكاية بتمامها في التبيان في شرح الديوان للعكبري ٣ / ٣٨٦.

(٨) ساقطة من المخطوطة.

٥١٠

(هود : ٢٤) ؛ فإنه [قد] (١) يتبادر فيه سؤال ؛ وهو أنه لم لا قيل : «مثل الفريقين كالأعمى والبصير ، والأصم والسميع» ، لتكون (٢) المقابلة في لفظ «الأعمى» وضده بالبصير ، وفي لفظ «الأصم» وضده السميع.

والجواب أنه يقال : لما ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد السمع ، وبضدّ (٣) ذلك لما ذكر انفتاح البصر أعقبه (٤) بانفتاح السمع ؛ فما تضمّنته الآية الكريمة هو الأنسب في المقابلة والأتمّ في الإعجاز.

رد العجز على الصدر [وعكسه] (٥)

٣ / ٤٦٧ (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) (الأنبياء : ٣٧).

(وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) (المائدة : ٩٦).

العكس

وهو أن يقدّم في الكلام جزء ثم يؤخر ، كقوله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) (الممتحنة : ١٠) وقدره الزّمخشري (٦) ، «أي لاحلّ بين المؤمن والمشرك ، والآية صرّحت بنفي الحلّ من الجهتين ، فقد يستدلّ بها من قال : إن الكفار مخاطبون بالفروع.

ومثله (٧) قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) (المائدة : ٥) أي ذبائحكم ، وهذه رخصة للمسلمين.

إلجام الخصم بالحجة

٣ / ٤٦٨ وهو الاحتجاج على المعنى المقصود بحجة (٨) عقلية ، تقطع المعاند له فيه. والعجب

__________________

(١) ساقطة من المطبوعة.

(٢) في المخطوطة (فتكون).

(٣) في المخطوطة (ويصد).

(٤) في المخطوطة (عقبه).

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) الكشاف ٤ / ٨٨.

(٧) في المخطوطة (ومنه).

(٨) في المخطوطة (الحجة).

٥١١

من ابن المعتز (١) في «بديعه» ، حيث أنكر وجود هذا النوع في القرآن ، وهو من أساليبه.

ومنه قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا) (الأنبياء : ٢٢) ثم قال النحاة : إنّ الثاني امتنع لأجل امتناع الأول ، وخالفهم ابن الحاجب (٢) وقال : الممتنع الأول لأجل [امتناع] (٣) الثاني ؛ فالتعدّد منتف لأجل امتناع الفساد.

وقوله ؛ (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (يس : ٧٩).

وقوله : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ (٤) [بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ] (٤)) (يس : ٨١).

وقوله حكاية عن الخليل : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) (الأنعام : ٨٠) إلى قوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) (الأنعام : ٨٣).

وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (الروم : ٢٧) ؛ المعنى أنّ الأهون أدخل في الإمكان من غيره ؛ وقد أمكن هو ، فالإعادة أدخل في الإمكان من بدء الخلق.

٣ / ٤٦٩ وقوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ [وَلَعَلا]) (٥) ... (المؤمنون : ٩١) الآية ، وهذه حجة عقلية ، تقديرها أنه لو كان خالقان (٦) لاستبدّ كل منهما بخلقه ، فكان الذي يقدر عليه أحدهما لا يقدر عليه الآخر ، ويؤدّي إلى تناهي مقدوراتهما (٧) ؛ وذلك يبطل الإلهية ، فوجب أن يكون الإله واحدا ثم زاد في

__________________

(١) تقدم التعريف به في ٣ / ٥٠٣ وكتابه «البديع» طبع بتحقيق اغناطيوس ترانشكوفسكي بلندن لوزاك عام ١٣٥٤ ه‍ / ١٩٣٥ م ، وأعاد نشره مجمع العلوم الروسي بلننغراد ضمن مجموعة آثار كرانشوفسكي المجلد السادس عام ١٣٨٠ ه‍ / ١٩٦٠ م وأعادت طبعه بالأوفست مكتبة المثنى ببغداد عام ١٣٨٧ ه‍ / ١٩٦٧ م ، وطبع بتحقيق محمد عبد المنعم خفاجي بالقاهرة بمطبعة مصطفى البابي الحلبي عام ١٣٦٤ ه‍ / ١٩٤٥ م ، وطبع بدار الحكمة بدمشق (ذخائر التراث العربي ١ / ٢٤٣).

(٢) هو أبو عمرو عثمان بن عمر تقدم التعريف به في ١ / ٤٦٦.

(٣) ساقطة من المطبوعة.

(٤) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) في المخطوطة (كانا خالقين).

(٧) في المخطوطة (مقدوريهما).

٥١٢

الحجاج فقال : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) (المؤمنون : ٩١) ، أي ولغلب بعضهم بعضا في المراد ، ولو (١) أراد أحدهما إحياء جسم والآخر إماتته لم يصحّ ارتفاع مرادهما ؛ لأن رفع النقيضين محال ، ولا وقوعهما للتضادّ ، فنفى وقوع أحدها دون الآخر ؛ وهو المغلوب (٢) وهذه تسمى دلالة التمانع ، وهي كثيرة في القرآن ، كقوله تعالى : (إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (الإسراء : ٤٢).

وقوله : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) (الأنفال : ٢٣).

وقوله : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) (الواقعة : ٥٨ ـ ٥٩) فبيّن أنّا لم نخلق المنيّ (٣) لتعذّره علينا ، فوجب أن يكون الخالق غيرنا.

***

ومنه نوع منطقيّ وهو استنتاج النتيجة من مقدمتين ، وذلك من أول سورة الحج إلى قوله : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (الآية : ٧) ، فنطق على خمس نتائج من عشر مقدمات ؛ فالمقدمات من أول السورة [إلى قوله] (٤) : (وَأَنْبَتَتْ (٥) مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج : ٥) ، والنتائج من قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) (الحج : ٦) إلى قوله : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ) [٢٤٧ / أ](مَنْ فِي الْقُبُورِ) (الحج : ٧).

وتفصيل ترتيب المقدمات والنتائج أن يقول : أخبر الله أنّ زلزلة الساعة شيء عظيم ، وخبره هو الحق ، ومن أخبر عن الغيب بالحق فهو حق بأنه هو الحق ، وأنه يأتي بالساعة على ٣ / ٤٧٠ تلك الصفات ولا يعلم صدق الخبر إلا بإحياء الموتى ليدركوا ذلك ، ومن يأتي بالساعة يحيي الموتى ؛ فهو يحيي الموتى. وأخبر أنه يجعل الناس من هول الساعة سكارى لشدة العذاب ، ولا يقدر على عموم الناس لشدة العذاب إلا من هو على كل شيء قدير ؛ فإنه على كل شيء قدير. وأخبر أنّ الساعة يجازى فيها من يجادل في الله بغير علم ، ولا بدّ من مجازاته ، ولا يجازى حتى تكون الساعة آتية ، ولا تأتي الساعة حتى يبعث من [في] (٦) القبور ، فهو يبعث

__________________

(١) في المخطوطة (لم).

(٢) في المخطوطة زيادة عبارة وهي (والمغلوب ليس ماله).

(٣) في المخطوطة (المعنى) تصحيف.

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) في المخطوطة (وأنبتنا) وعليه تكون الآية (٧) من سورة (ق).

(٦) ساقطة من المخطوطة.

٥١٣

من في القبور. والله (١) ينزّل الماء على الأرض الهامدة فتنبت من كل زوج بهيج ، والقادر على إحياء الأرض بعد موتها يبعث من القبور.

ومنه قوله (٢) تعالى : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (ص : ٢٦) مقدّمتان ونتيجة ، لأن اتباع الهوى يوجب (٣) الضلال ، والضلال يوجب سوء العذاب ؛ فأنتج أنّ اتباع الهوى يوجب سوء العذاب.

وقوله : (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (الأنعام : ٧٦) ، أي القمر أفل ، وربي فليس بآفل ، فالقمر ليس بربّي ، أثبته بقياس اقتراني جليّ من الشكل الثاني ، واحتج بالتعبير على الحدوث ، والحدوث (٤) على المحدث.

٣ / ٤٧١

التقسيم

وليس المراد به القسمة العقلية التي يتكلم عليها المتكلم ؛ لأنها قد تقتضي أشياء مستحيلة كقولهم : الجواهر لا تخلو إما أن تكون مجتمعة أو متفرقة ، أو لا مفترقة ولا مجتمعة ، أو مجتمعة ومفترقة معا ، أو بعضها مجتمع وبعضها مفترق ، فإن هذه القسمة صحيحة عقلا ، لكن بعضها يستحيل وجوده (٥) [فإن الشيء لا يكون مجتمعا متفرقا في حالة واحدة وإنما المراد هنا بالتقسيم ما يقتضيه المعنى مما يمكن وجوده] (٥) ، وهو استيفاء المتكلّم أقسام الشيء ؛ بحيث لا يغادر شيئا وهو آلة الحصر ومظنة الإحاطة بالشيء ، كقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ (٦) وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) (فاطر : ٣٢) فإنه لا يخلو العالم جميعا من هذه الأقسام الثلاثة (٦) ؛ إما [عاص] (٧) ظالم نفسه ، وإما [سابق] (٨) مبادر إلى الخيرات ، وإما مقتصد فيها ، وهذا من أوضح التقسيمات وأكملها.

__________________

(١) في المخطوطة (وأن الله).

(٢) في المخطوطة (ومنه).

(٣) في المخطوطة (بعض).

(٤) في المخطوطة (وبالحدوث).

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٦) تكرار في المخطوطة.

(٧) ساقط من المطبوعة.

(٨) ساقطة من المخطوطة.

٥١٤

ومثله قوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً* فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ* وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (الواقعة : ٧ إلى ١٠) ، وهذه الآية مماثلة في المعنى للتي قبلها ، وأصحاب المشأمة هم الظالمون لأنفسهم ، وأصحاب الميمنة هم المقتصدون ، والسابقون هم السابقون بالخيرات.

كذلك (١) قوله تعالى : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا) (مريم : ٦٤) الآية ، فاستوفى أقسام الزمان ولا رابع لها.

وقوله : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) (النور : ٤٥) إلى قوله : (ما يَشاءُ) (النور : ٤٥) ، وهو في القرآن كثير ، وخصوصا في سورة براءة.

ومنه قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) (الرعد : ١٢) ، وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار ، ولا ثالث لهما.

٣ / ٤٧٢ وقوله : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ* (٢) [وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ] (٢)) (الروم : ١٧ ـ ١٨) ، فاستوفت أقسام الأوقات ، من طرفي كل يوم ووسطه مع المطابقة والمقابلة.

وقوله : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) (آل عمران : ١٩١) ، فلم بترك سبحانه قسما من أقسام الهيئات.

ومثله آية يونس : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً) [٢٤٧ / ب](أَوْ قائِماً) (الآية : ١٢).

لكن وقع بين ترتيب الآيتين مغايرة أوجبتها المبالغة ، وذلك أنّ المراد بالذّكر في الأولى الصلاة فيجب فيها تقديم (٣) [القيام عند العجز [عن] (٤) القعود ثم عند الاضطجاع وهذه بخلاف الضر فإنه يجب فيه تقديم] (٣) الاضطجاع ، وإذا زال بعض الضرّ قعد المضطجع ، وإذا زال كل الضرّ قام القاعد ، فدعا لتتم الصحة ، وتكمل القوّة.

__________________

(١) في المخطوطة (وكذلك).

(٢) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة وكتب موضعها ( ... الآية).

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٤) زيادة يقتضيها السياق.

٥١٥

فإن قلت : هذا التأويل لا يتم إلا إذا كانت الواو عاطفة ، فإنها تحصل في الكلام حسن اتّساق ، وائتلاف الألفاظ مع المعاني ، وقد عدل عنها إلى «أو» التي سقط معها ذلك.

قلت : يأتي التضرّع على أقسام ، فإنّ منه ما يتضرّع المضرور عند وروده ، ومنه ما يقعده (١) ، ومنه ما يأتي وصاحبه قائم لا يبلغ به شيئا ، والدعاء عنده أولى من التضرّع (٢) ، فإن الصّبر والجزع عند الصدمة الأولى ، فوجب العدول عن الواو ، لتوخّي (٣) الصدق في الخبر ، والكلام [مع ذلك موصوف] (٤) بالائتلاف (٥) ، ويحصل (٦) النّسق ، والخبر بذلك التأويل الأول عن شخص [واحد] (٧) ، وبالثاني عن أشخاص فغلّب الكثرة ، فوجب الإتيان ب «أو» وابتدئ بالشخص الذي تضرع لأن خبره (٨) أشدّ فهو أشدّ تضرعا ، فوجب تقديم ذكره ، ثم القاعد ؛ ثم القائم ، فحصل حسن الترتيب وائتلاف الألفاظ ومعانيها.

٣ / ٤٧٣ وقوله : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) (الشورى : ٤٩ ـ ٥٠) ، قسّم سبحانه حال الزّوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود ، لأنه سبحانه إمّا أن يفرد العبد بهبة الإناث ، أو بهبة الذكور ، أو يجمعهما له ، أو لا يهب شيئا ، وقد جاءت الأقسام في هذه الآية (٩) لينتقل منها إلى أعلى منها ، (١٠) [وهي هبة الذكور فيه ، ثم انتقل إلى أعلى منها] (١٠) وهي وهبتهما جميعا (١١) ، وجاءت كل أقسام العطية بلفظ الهبة ، وأفرد معنى الحرمان بالتأخير ، وقال فيه (يَجْعَلُ) فعدل عن لفظ الهبة للتغاير بين المعاني ، كقوله [تعالى] (١٢) : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) (الواقعة : ٦٣ إلى ٦٥) ، فذكر امتداد (١٣) إنمائه (١٤) بلفظ الزرع ، ومعنى الحرمان بلفظ الجعل.

__________________

(١) في المخطوطة (يقصده).

(٢) في المخطوطة (الصبر).

(٣) في المخطوطة (ولتوخي).

(٤) العبارة ساقطة من المطبوعة.

(٥) في المخطوطة (بائتلاف).

(٦) في المخطوطة (يحصل).

(٧) ساقطة من المخطوطة.

(٨) في المخطوطة (خيره).

(٩) في المخطوطة (الآيات).

(١٠) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(١١) في المخطوطة (هبتها جمعا).

(١٢) ليست في المطبوعة.

(١٣) في المخطوطة (الاعتداد).

(١٤) اضطربت في المخطوطة.

٥١٦

وقيل : إنما بدأ سبحانه بالإناث لوجوه غير ما سبق.

أحدها : جبرا لهنّ ، لأجل (١) استثقال الأبوين لمكانهنّ (٢).

الثاني : أنّ سياق الكلام أنّه فاعل (٣) لما يشاء ، لا (٤) ما يشاء الأبوان ، فإن الأبوين لا يريدان [إلا] (٥) الذكور غالبا وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء ؛ فبدأ بذكر الصنف الذي يشاؤه ولا يريده الأبوان غالبا (٦).

الثالث : أنّه قدم ذكر ما كانت تؤخره (٧) الجاهلية من أمر البنات حتى كانوا يئدونهن (٨) ، أي هذا النوع الحقير عندكم مقدّم عندي في الذّكر.

الرابع : قدّمهنّ لضعفهنّ ، وعند العجز والضعف (٩) تكون العناية أتم.

وقيل : لينقله من الغمّ إلى الفرج (١٠).

وتأمّل كيف عرّف سبحانه الذكور بعد تنكير ، فجبر نقص الأنوثة بالتقديم ، وجبر نقص المتأخر (١١) بالتعريف ، فإنّ التعريف تنويه.

وهذا أحسن مما ذكره الواحدي (١٢) أنه عرّف الذكور لأجل الفاصلة. ٣ / ٤٧٤

ولمّا ذكر الصنفين معا قدّم الذكور ، فأعطى لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير. والله أعلم بما أراد.

بقي سؤال آخر ؛ وهو أنه عطف الثاني والرابع بالواو ، والثالث ب «أو» ولعلّه ، لأنّ هبة كلّ من الإناث والذكور (١٣) قد لا يقترن بها ، فكأنه وهب لهذا الصنف وحده أو مع غيره فلذلك (١٤) [تعينت] (١٥) «أو» فتأمل لطائف القرآن وبدائعه!

__________________

(١) في المخطوطة (لأن أصل).

(٢) في المخطوطة (مكانهن).

(٣) زيادة كلمة (على) بعد (أنه) في المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (إلا).

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) زيادة عبارة (في القدرة) بعد (غالبا) في المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (كان يؤخره).

(٨) تصحفت في المطبوعة إلى (يئدوهن).

(٩) في المخطوطة (لضعف).

(١٠) في المخطوطة (فرج).

(١١) في المخطوطة (التأخير).

(١٢) هو علي بن أحمد الواحدي تقدم التعريف به في ١ / ١٠٥.

(١٣) في المخطوطة (أو الذكور).

(١٤) في المخطوطة (فكذلك).

(١٥) ساقطة من المخطوطة.

٥١٧

ومن هذا التقسيم أخذ بعض العلماء أن الخنثى لا وجود له ؛ لأنه ليس واحدا من المذكورين [٢٤٨ / أ] ، ولا حجّة فيه ، لأنه مقام امتنان ؛ والمنة بغير الخنثى أحسن وأعظم. أو لأنه باعتبار ما في نفس الأمر ؛ والخنثى لا يخرج عن أحدهما.

٣ / ٤٧٥

التعديد (١)

هي إيقاع الألفاظ المبدّدة على سياق واحد ؛ وأكثر ما يؤخذ في الصفات ؛ ومقتضاها ألاّ يعطف بعضها على بعض لاتحاد محلها ، ولجريها (٢) مجرى الوصف في الصدق (٣) على ما صدق ؛ ولذلك يقلّ عطف بعض صفات الله [تعالى] (٤) على بعض في التنزيل ، وذلك كقوله (٥) : (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (البقرة : ٢٥٥).

وقوله : (الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) (الحشر : ٢٤).

وقوله : (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ) (الحشر : ٢٣).

وإنما عطف قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) (الحديد : ٣) ؛ لأنها أسماء متضادّة المعاني في موضوعها (٦) ، فوقع الوهم بالعطف عمن يستبعد ذلك في ذات واحدة ؛ لأن الشيء الواحد لا يكون ظاهرا باطنا من وجه [واحد] (٧) ، وكان العطف فيه أحسن. ولذلك عطف «الناهون» على «الآمرون» ، «وأبكارا» على «ثيّبات» من قوله :

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) (التوبة : ١١٢).

وقوله : (أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) (التحريم : ٥) ، فجاء العطف لأنه لا يمكن اجتماعهما (٨) في محل واحد بخلاف ما قبله.

وقوله : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) (غافر : ٣) ، إنما ٣ / ٤٧٦ عطف فيه بعضا ولم يعطف بعضا ، لأن «غافرا» و «قابلا» يشعران بحدوث المغفرة والقبول ، وهما من صفات الأفعال وفعله في غيره لا في نفسه ، فدخل العطف للمغايرة لتنزلهما منزلة

__________________

(١) في المخطوطة (التعدية).

(٢) في المطبوعة (ويجريها).

(٣) في المخطوطة (الصدف).

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) في المخطوطة (وكذلك قوله).

(٦) في المخطوطة (موضعها).

(٧) ساقط من المطبوعة.

(٨) في المخطوطة (اجتماعها).

٥١٨

الجملتين ، تنبيها على أنه سبحانه يفعل هذا ويفعل هذا ، وأما شديد العقاب فصفة مشبّهة ، وهي تشعر بالدوام والاستمرار ؛ فتدلّ على القوة ، ويشبه ذلك صفات الذات.

وقوله : (ذِي الطَّوْلِ) (غافر : ٣) ، المراد به ذاته ، فترك العطف لاتّحاد المعنى.

وقد جاء قليلا في غير الصفات ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ...) (الأحزاب : ٣٥) الآية ، قال الزمخشريّ (١) : العطف الأول كقوله : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) ، في أنهما جنسان مختلفان ، إذا اشتركا في حكم لم يكن بدّ من توسيط العاطف بينهما ، وأمّا العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع ؛ فكان معناه : أن الجامعين والجامعات لهذه (٢) الصفات أعدّ لهم مغفرة انتهى.

وقال بعضهم : الصفات المتعاطفة (٣) إن علم أن موصوفها واحد من كل وجه ، كقوله : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) (غافر : ٣) ، فإن الموصوف «الله» ، وإما في النوع كقوله : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) (التحريم : ٥) فإن الموصوف الأزواج ، وقوله : (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (التوبة : ١١٢) ؛ فإن الموصوف النوع الجامع للصفات المتقدّمة.

٣ / ٤٧٧ وإن لم يعلم أن موصوفها واحد من جهة وضع اللفظ. فإن دلّ دليل على أنه من عطف الصفات اتبع كهذه الآية ، فإنّ هذه الأعداد لمن جمع الطاعات العشر ، لا لمن انفرد بواحدة (٤) منها ؛ إذ الإسلام والإيمان كلّ منهما شرطه في الآخر ، وكلاهما شرط في حصول الأجر على البواقي ، ومن (٥) كان مسلما مؤمنا فله (٦) أجره ، ولكن ليس هذا الأجر العظيم الذي أعده الله في هذه الآية الكريمة ، وقرن (٧) به إعداد المغفرة زائدا على المغفرة ؛ فلخصوص (٨) هذه الآية جعل الزمخشريّ ذلك من عطف الصفات ، والموصوف واحد ؛ فلو لم يكن كذلك واحتمل تقدير موصوف [٢٤٨ / أ] مع كل صفة وعدمه حمل على التقدير ؛ فإن ظاهر العطف التغاير.

ولا يقال : الأصل عدم التقدير ؛ لأن الظاهر يقدم على رعاية ذلك الأصل.

ومثاله قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ...) (التوبة : ٦٠) الآية ، ولو كان من عطف الصفات لم يستحقّ الصدقة إلا من جميع الصفات الثمان ، ولذلك إذا وقف على الفقهاء والنحاة والفقراء استحق من فيه إحدى الصفات.

__________________

(١) الكشاف ٣ / ٢٣٦.

(٢) في المخطوطة (من).

(٣) في المخطوطة (العاطفة).

(٤) في المخطوطة (بواحد).

(٥) في المخطوطة (ومتى).

(٦) في المخطوطة (له).

(٧) في المخطوطة (وقرر).

(٨) اضطربت في المخطوطة.

٥١٩
٥٢٠