البرهان في علوم القرآن - ج ٣

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٣

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٩

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

القسم الثاني (١) :

الصفة

وهي مخصصة إن وقعت صفة للنكرة ، وموضحة للمعرفة ، وتأتي (٢) لأسباب :

(أحدها) : لمجرد المدح والثناء ، ومنه صفات الله تعالى ، كقوله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة : ١) فليس ذكر الوصف هنا للتمييز لأنه ليس له مثل ـ تعالى [الله] (٣) عن ذلك ـ حتى يوضّح بالصفة. وأخذ أبو الطيب هذا المعنى فذكر أسامي بعض ممدوحه ، ثم قال : ٢ / ٤٢٣

أساميا لم تزده معرفة

وإنّما لذّة ذكرناها (٤)

فقوله : «لم تزده» بيان أنها للإطناب والثناء ، لا للتعريف والتبيين.

وقيل : إنّ الصفات (٥) الجارية على القديم (٦) سبحانه المراد بها التعريف ، فإنّ تلك الصفات حاصلة له ، لا لمجرد الثناء ، ولو كانت للثناء لكان الاختيار قطعها ؛ ومنه قوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) (المائدة : ٤٤) فهذا الوصف للمدح ليس غير ؛ لأنه ليس (٧) يمكن أن يكون ثمّة (٨) نبيّون غير مسلمين ، كذا قاله الزمخشري (٩). قال : «وأريد بها التعريض باليهود ، وأنهم بعداء من ملّة الإسلام التي (١٠) هي دين الأنبياء (١١) [كلهم ، وأن اليهود بمعزل عنها» والتحقيق أن هذه الصفة للتمييز ، وقد أطلق الله وصف الإسلام على الأنبياء] (١١) وأتباعهم ؛

__________________

(١) هذا القسم تابع للنوع السادس والأربعين في أساليب القرآن وفنونه البليغة ، وقد تقدم القسم الأول ، وهو التوكيد الصناعي ص ٤٨٦.

(٢) في المخطوطة (أو).

(٣) لفظ الجلالة ليس في المخطوطة.

(٤) البيت في ديوانه ٤ / ٢٧٥ (بشرح أبي البقاء العكبري) ، من قصيدة له يمدح فيها عضد الدولة أبا شجاع.

(٥) في المخطوطة (صفاته).

(٦) تصحفت في المخطوطة إلى (التقديم).

(٧) في المخطوطة (لا).

(٨) في المخطوطة (ثم).

(٩) الكشاف ١ / ٣٤٠ ـ ٣٤١.

(١٠) في المخطوطة (الذي هو).

(١١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

٥

والأصل في المدح التمييز بين الممدوح وغيره بالأوصاف الخاصة ، والإسلام وصف عام ، فوصفهم بالإسلام ، إما باعتبار الثناء عليه أو الثناء عليهم بعد النبوة تعظيما وتشريفا (١) ، أو باعتبار أنهم بلغوا من هذا الوصف غايته ؛ لأن معنى (٢) ذلك يرجع إلى معنى الاستسلام والطاعة الراجعين إلى تحقيق معنى العبودية ، التي هي أشرف أوصاف العباد ، فكذلك يوصفون [١٤٤ / ب] بها في أشرف حالاتهم ، وأكمل أوقاتهم.

وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) (البقرة : ١٢٨) أي ، مستسلمين لأمرك ، لقضائك ، وكذا قول يوسف : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) (يوسف : ١٠١) [وكذلك] (٣) قوله : (النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) (٤) [لِلَّذِينَ هادُوا] (٤) (المائدة : ٤٤) تنويه بقدر الإسلام ، وتنبيه على عظم أمره ، فإن الصفة تعظم بعظم موصوفها كما وصفت الملائكة المقربون بالإيمان في قوله [تعالى] (٥) (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ [بِهِ]) (٥) (غافر : ٧) تنويها بقدر الإيمان ، وحضّا للبشر على التحلّي به ، ليكونوا كالمقربين في وصف الإيمان ، حتى قيل : أوصاف الأشراف ؛ أشرف الأوصاف.

(الثاني) : لزيادة البيان ، [كذا] قاله ابن مالك (٦) ؛ ومثّله بقوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِ) (الأعراف : ١٥٨) ، وليس ما قاله بواضح ؛ فإن «رسول الله» كما يستعمل في نبينا صلوات الله وسلامه عليه (٧) ، يستعمل في غيره بطريق الوضع ، وتعريفه إنما حصل بالإضافة.

(فإن قال) : قد كثر استعماله في نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إنه لم يبق الذهن يتبادر إلا إليه! (قلنا) : ليس هذا من وضعه بل ذلك من الاستعمال وقد استعمل في غيره ، قال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (الأعراف : ١٥٨) وفي موضع آخر : (رُسُلُ اللهِ) (الأنعام : ١٢٤) وفي حق عيسى :

__________________

(١) في المخطوطة (تشريفا لهم).

(٢) في المخطوطة (معناه) بدل (معنى ذلك).

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) هو جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك تقدم التعريف به في ١ / ٣٨١.

(٧) في المخطوطة (عليه وسلامه). تقديم وتأخير.

٦

(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) (آل عمران : ٤٩) وفي حق موسى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) (المزمل : ١٥).

ثم إن الصفة إنما تكون مثل الموصوف أو دونه في التعريف ، وأمّا أن تكون فوقه فلا ؛ لأنها على كل حال تابعة والتابع دون المتبوع. (فإن قيل) : كيف يصحّ أن يزال إبهام الشيء بما هو أبهم منه؟ (فالجواب) : أن التعريف لم يقع بمجرد الصفة ؛ وإنما حصل بمجموع الصفة والموصوف ، لأنهما كالشيء الواحد. ٢ / ٤٢٥

(الثالث) : لتعيينه (١) للجنسية ، كقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (الأنعام : ٣٨) لأن المعنيّ بدابة والذي (٢) سيق له الكلام الجنسية لا الإفراد ، بدليل قوله تعالى : (إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) فجمع (أُمَمٌ) محقّق إرادة الجنس من الوصف اللازم للجنس المذكور ، وهو كون الدابة غير منفكة عن كونها في الأرض ، وكون الطائر غير منفك كونه طائرا بجناحيه ، لينتفي توهم الفرديّة ، هذا معنى ما أشار إليه السكاكيّ (٣) في «المفتاح».

وحمل بعضهم كلامه على أنه إنما ذكر الوصف ليعلم أن المراد ليس دابّة مخصوصة ، وهو بعيد ، لأن ذلك معلوم قطعا بدون الوصف ، لأنّ النكرة المنفية ـ لا سيما مع «من» الاستغراقية ـ قطعية. وقال الزمخشريّ (٤) : إن معنى زيادة (فِي الْأَرْضِ) و (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) يفيد زيادة التعميم (٥) والإحاطة ؛ حتى كأنه قيل : «وما من دابة من جميع ما في الأرض ، وما من طائر من جميع ما يطير بجناحيه». ٢ / ٤٢٦

ويحتمل [أن] (٦) يقال : إن الطّيران لما كان يوصف به من يعقل كالجانّ والملائكة ، فلو لم يقل : (بِجَناحَيْهِ) لتوهّم الاقتصار على جنسها ممّن يعقل ، فقيل : (بِجَناحَيْهِ) ليفيد إرادة

__________________

(١) في المخطوطة (تعيينه).

(٢) اضطربت عبارة المخطوطة كما يلي (بدا منه والمدعي). بدل (بدابة والذي).

(٣) هو يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكاكي تقدم ذكره في ١ / ١٦٣ ، وانظر قوله في كتابه مفتاح العلوم : ١٩٠.

(٤) الكشاف ٢ / ١٢ ـ ١٣.

(٥) في المخطوطة (التعظيم).

(٦) في المخطوطة : (إن).

٧

هذا الطير المعتقد فيه عدم المعقولية بعينه. وقيل : إن الطيران يستعمل لغة في الخفة ، وشدة الاسراع في المشي ، كقول الحماسي (١) :

طاروا إليه زرافات ووحدانا

فقوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) رافع (٢) لاحتمال هذا المعنى. وقيل : لو اقتصر على ذكر الطائر فقال : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ) لكان ظاهر العطف يوهم (٣) : «ولا طائر في الأرض» ؛ لأن المعطوف عليه إذا قيّد بظرف أو حال يقيّد به المعطوف ، وكان ذلك يوهم اختصاصه بطير الأرض (٤) الذي لا يطير بجناحيه ، كالدجاج والإوز [١٤٥ / أ] والبط ونحوها ، فلما قال : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) زال هذا الوهم ، وعلم أنه ليس بطائر (٥) مقيّد ؛ إنما (٦) تقيدت به الدابة.

وأما قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) (البقرة : ١١) مع أن المعلوم أن الفساد لا يقع إلا في الأرض ، قيل : في ذكرها تنبيه (٧) على أن [هذا] (٨) المحلّ الذي فيه شأنكم وتصرفكم ومنه مادة حياتكم ـ وهي سترة أموالكم ـ جدير ألاّ يفسد فيه ، إذ محل الإصلاح لا ينبغي أن يجعل محلّ الإفساد.

وهذا بخلاف قوله تعالى في سورة براءة : (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (التوبة : ٧٤) لأن المراد نفي النصير عنهم في جميع الأرض ، فلو لم يذكر لاحتمل [أن يكون] (٩) ذلك خاصّا ببعضها.

وأما قوله تعالى : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) (التوبة : ٣٠) [وقوله تعالى] (١٠) : (إِنَّما

__________________

(١) هو أنيف بن قريط العنبري وصدر البيت* كنّا إذا ما أتانا صارخ فزع* وانظر ديوان الحماسة ١ / ٢٢ (بشرح المرزوقي).

(٢) في المخطوطة (راجع).

(٣) في المخطوطة (يفهم).

(٤) في المخطوطة (بطيران الطير) بدل (بطير الأرض).

(٥) في المخطوطة (كطائر) بدل (ليس بطائر).

(٦) تصحفت في المخطوطة إلى (أحيا).

(٧) في المخطوطة (تنبيها).

(٨) ساقطة من المطبوعة.

(٩) ساقط من المخطوطة.

(١٠) ليست في المخطوطة.

٨

يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) (النساء : ١٠) وقوله تعالى : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج : ٤٦) ونحوها من المقيّد ـ إذ القول لا يكون إلاّ بالفم ، والأكل إنما يكون في البطن ـ ففوائده مختلفة :

ـ فقيل : (بِأَفْواهِهِمْ) للتنبيه على أنه قول لا دليل عليه ؛ بل ليس فيه إلا مجرد اللسان ، أي لا يعضده حجة ولا برهان ، وإنما هو لفظ فارغ من معنى تحته ، كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم ، لا تدلّ (١) على شيء مؤثر ؛ لأن القول الدال على معنى قول بالفم ومؤثر في القلب ، وما لا (٢) معنى له مقول بالفم لا غير ؛ أو المراد بالقول المذهب ؛ أي هو مذهبهم بأفواههم لا بقلوبهم ؛ لأنه لا حجة عليه توجب اعتقاده بالقلب.

ـ وقيل : إنه رافع لتوهم إرادة حديث النفس ؛ كما في قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) (المجادلة : ٨).

ـ وقيل : لأن القول يطلق على الاعتقاد ، فأفاد (بِأَفْواهِهِمْ) التنصيص على أنه باللسان دون القلب ، ولو لم يقيّد لم يستفد هذا المعنى ؛ ويشهد له : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ [إِنَّكَ]) (٣) ... (المنافقون : ١) الآية فلم يكذّب ألسنتهم ، بل كذّب ما انطوى عن ضمائرهم ؛ من خلافه (٤) ، وإنما قال (٥) : (فِي بُطُونِهِمْ ناراً) (النساء : ١٠) لأنه (٦) يقال : أكل في بطنه ، إذا أمعن ، وفي بعض بطنه ، إذا اقتصر ، قال : ٢ / ٤٢٨

كلوا في بعض بطنكم تعفّوا

فإنّ زمانكم زمن خميص (٧)

فكأنه قيل : يأكلون ما يجرّ ـ إذا امتلأت (٨) بطونهم ـ نارا. وإنما قال : (الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج : ٤٦) فإنه سبحانه لما دعاهم إلى التفكر والتعقل وسماع أخبار من مضى من

__________________

(١) في المخطوطة (يدل).

(٢) في المخطوطة (ولا) بدل (وما لا).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (خلافهم).

(٥) في المخطوطة (وقال) بدل (وإنما قال).

(٦) في المخطوطة (الآية).

(٧) البيت من شواهد سيبويه ولم يذكر قائله انظر الكتاب ١ / ٢١٠ باب الصفة المشبهة بالفاعل فيما عملت فيه.

(٨) في المخطوطة (امتلأ).

٩

الأمم ، وكيف أهلكهم بتكذيبهم رسله ومخالفتهم لهم قال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) (الحج : ٤٦).

قال ابن قتيبة (١) : وهل شيء أبلغ في العظمة والعزّة من هذه الآية! لأن الله تعالى أراد : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بالكفر والعتوّ فيروا بيوتا خاوية قد سقطت على عروشها ، وبئرا يشرب أهلها فيها (٢) قد عطلت ، وقصرا بناه ملكه بالشّيد خلا (٣) من السكن ، وتداعى بالخراب ، فيتعظوا بذلك ، ويخافوا من عقوبة الله ، مثل الذي نزل بهم! ثم ذكر (٤) تعالى أن أبصارهم الظاهرة لم تعم عن النظر والرؤية وإن عميت قلوبهم التي في صدورهم. ٢ / ٤٢٩

ـ وقيل : لما كانت (٥) [العين قد يعنى بها القلب ، في نحو قوله تعالى : (الَّذِينَ كانَتْ] (٥) أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) (الكهف : ١٠١) جاز أن يعنى بالقلب العين ، فقيد القلوب بذكر محلّها رفعا لتوهم إرادة غيرها.

ـ وقيل : ذكر محل العمى الحقيقيّ الذي هو أولى باسم العمى من عمى البصر ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الشديد بالصّرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (٦) ، أي هذا أولى [١٤٥ / ب] بأن يكون شديدا منه ، فعمى القلب هو الحقيقيّ لا عمى البصر ، فأعمى القلب أولى أن يكون أعمى من أعمى العين ، فنبّه بقوله : ([الَّتِي] (٧) فِي الصُّدُورِ) (الحج : ٤٦) على أن العمى الباطن في العضو الذي عليه الصدر ، لا العمى الظاهر في العين التي (٨) محلّها الوجه.

__________________

(١) هو عبد الله بن مسلم ، أبو محمد ابن قتيبة ، تقدم التعريف به في ١ / ١٦٠.

(٢) في المخطوطة (منها).

(٣) في المخطوطة (قد خلت) بدل (خلا).

(٤) في المخطوطة (دل).

(٥) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٦) الحديث متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ١٠ / ٥١٨ ، كتاب الأدب (٧٨) ، باب الحذر من الغضب ... (٧٦) ، الحديث (٦١١٤). وأخرجه مسلم في الصحيح ٤ / ٢٠١٤ ، كتاب البر ... (٤٥) ، باب فضل من يملك نفسه ... (٣٠) ، الحديث (١٠٧ / ٣٦٠٩).

(٧) ليست في المخطوطة.

(٨) في المخطوطة (الذي).

١٠

فوائد تتعلق بالصفة

(الأولى) : اعلم أن الصفة العامة لا تأتي بعد الصفة الخاصة ؛ لا تقول : هذا رجل فصيح متكلم ، لأن المتكلم أعمّ من الفصيح ؛ إذ كل فصيح متكلّم ولا عكس. وإذا تقرر هذا أشكل قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (مريم : ٥٤) [إذ لا يجوز أن يكون] (١) (نَبِيًّا) (٢) صفة ل (رسول) ، لأن النبيّ أعمّ من الرسول ، إذ كل رسول من الآدميين نبيّ ولا عكس. والجواب أن يقال : إنه حال من الضمير في (رَسُولاً) والعامل في الحال ما في «رسول» من معنى «يرسل» (٣) ، أي كان إسماعيل مرسلا في حال نبوته ، وهي حال مؤكدة ، كقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) (البقرة : ٩١). ٢ / ٤٣٠

(الثانية) : تأتي الصفة لازمة لا للتقييد [فلا مفهوم لها] (٤) كقوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) (المؤمنون : ١١٧) قال الزمخشريّ (٥) : هي كقوله : (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) (الأعراف : ٣٣) وهي صفة لازمة [نحو قوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)] (٦) (الأنعام : ٣٨) جيء بها للتوكيد ؛ لا أن يكون في الآلهة ما يجوز [إلاّ] (٧) أن يقوم عليه برهان. ويجوز (٨) أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء ، كقولك : من أحسن إلى زيد ـ لا أحقّ بالإحسان منه ـ فالله مثيبه. وقال الماتريديّ (٩) : هذا لبيان خاصة الإشراك بالله ألاّ تقوم (١٠) على صحته حجة ، لا بيان أنه نوعان ، كما في قوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (الأنعام : ٣٨) هو بيان خاصة الطيران ، لا أنه نوعان.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (فنبيّا).

(٣) في المخطوطة (مر قبل).

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٥) الكشاف ٣ / ٥٨.

(٦) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (إلا أن يقوم).

(٨) في المخطوطة (ويحتمل).

(٩) هو محمد بن محمد بن محمود ، أبو منصور الماتريدي ، نسبة إلى «ما تريد» وهي محلّة بسمرقند كان إمام علم الكلام في وقته ، وناصر أهل السنّة ، ألّف كتبا كثيرة منها «التفسير» و «أوهام المعتزلة» و «التوحيد» و «الردّ على القرامطة». ت ٣٣٣ ه‍ (الفوائد البهية : ١٩٥).

(١٠) في المخطوطة : (يقوم).

١١

وقوله : (سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام : ١٤٠) والسّفه لا يكون إلا عن جهل. وقيل (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بمقدار قبحه. وقوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) (البقرة : ٦١) ولا يكون قتلهم إلا كذلك لأن (١) معناه «بغير الحق» في اعتقادهم ؛ لأن التصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمّهم وإن كانت تلك الصفة لازمة للفعل ، كما في عكسه : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) (الأنبياء : ١١٢) لزيادة معنى في التصريح بالصفة. وقال بعضهم : ولأن قتل النبيّ قد يكون بحق ، كقتل إبراهيم [عليه‌السلام] (٢) ولده ـ ولو وجد ـ لكان بحق. وقال الزمخشريّ (٣) : «إنما قيّده لأنهم لم يقتلوا ولم يفسدوا في الأرض ، وإلا استوجبوا القتل بسبب كونه شبهة. وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم ، ولو أنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يوجب عندهم القتل».

وكقوله تعالى (٤) : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) (البقرة : ١٩٧) (٥) [مع أن ذلك منهيّ عنه في غير الحج أيضا ، لكن خصص بالذكر هنا لتأكيد الأمر وخطره في الحج] (٥) ، وأنه لو قدّر جواز مثل ذلك في غير الحج لم يجز في الحج ، كيف وهو لا يجوز مطلقا! وقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (البقرة : ١٩٦) ولم يذكر مثل ذلك في قوله [تعالى] (٦) : (ثُمَّ أَتِمُّوا (٧) الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (البقرة : ١٨٧) لأن الرياء يقع في الحج كثيرا ، فاعتنى فيه بالأمر بالإخلاص.

وقوله تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) (القصص : ٥٠) واتباع الهوى لا يكون إلا كذلك. وقيل : بل يكون الهوى في الحق ، فلا يكون من هذا النوع. وقوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة : ٥٠) فإن حكمه تعالى حسن لمن يوقن ولمن لا يوقن ، لكن لما كان القصد ظهور حسنه والاطلاع عليه وصفه بذلك ؛ لأن الموقن هو الذي يطلع على ذلك دون الجاهل.

__________________

(١) في المخطوطة (إن).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) الكشاف ١ / ٧٢.

(٤) في المخطوطة (وقوله) بدل (وكقوله تعالى).

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) تصحفت في المخطوطة إلى (وأتمّوا).

١٢

وقوله [تعالى] (١) (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) (البقرة : ٧٩) والكتابة لا تكون (٢) إلا باليد ؛ ففائدته مباشرتهم ذلك التحريف بأنفسهم ، وذلك زيادة في [١٤٦ / أ] تقبيح فعلهم ؛ فإنه يقال : كتب فلان كذا وإن لم يباشره بل أمر به ، كما في قول عليّ : «كتب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم [يوم] (٣) الحديبية» (٤).

(الثالثة) : قد تأتي الصفة بلفظ والمراد غيره ، كقوله تعالى : (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) (البقرة : ٦٩) قيل : المراد : «سوداء ناصع» (٥) وقيل : بل على بابها ومنه قوله تعالى : (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) (المرسلات : ٣٣) قيل : كأنه أينق سود ، وسمي الأسود من الإبل أصفر ، لأنه سواد تعلوه صفرة.

(الرابعة) : قد تجيء للتنبيه على التعميم ، كقوله تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) (الأنعام : ١٤١) مع أن المعلوم أنما يؤكل إذا أثمر ، فقيل : فائدته نفي توهم توقّف الإباحة على الإدراك والنضج بدلالته على الإباحة من أول إخراج الثمرة. وقوله [تعالى] (٦) : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) (الفلق : ٥) وقوله : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الأنعام : ١٥٢) فإن غير مال اليتيم كذلك ، لكن إنما خصه بالذّكر ، لأن الطمع فيه أكثر لعجزه وقلة الناصر له ؛ بخلاف مال البالغ ، أو لأن التخصيص بمجموع الحكمين ؛ وهما النهي عن قربانه بغير الأحسن. وقوله : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام : ١٥٢) مع أن الفعل كذلك ، وقصد به ليعلم وجوب العدل في الفعل من باب أولى ، كقوله : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (الإسراء : ٢٣). ٢ / ٤٣٣

(الخامسة) : قد يحتمل اللفظ كثيرا من الأسباب السابقة ، وله أمثلة ، منها قوله تعالى :

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (والكتاب لا يكون).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) الحديث متفق عليه ، أخرجه البخاري في الصحيح ٥ / ٣٠٣ ، كتاب الصلح (٥٣) ، باب كيف يكتب هذا ما صالح ... (٦) ، الحديث (٢٦٩٩). وأخرجه مسلم في الصحيح ٣ / ١٤١٠ ، كتاب الجهاد والسير (٣٢) ، باب صلح الحديبية ... (٣٤) ، الحديث (٩٢ / ١٧٨٣). وفي كتابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده الشريفة يوم الحديبية خلاف بين العلماء.

(٥) قال ابن قتيبة في تفسير الغريب ص ٥٣ : وقد ذهب قوم إلى أن الصفراء : السوداء ، وهذا غلط في نعوت البقر. وإنما يكون ذلك في نعوت الإبل ، يقال : بعير أصفر أي أسود.

(٦) ليست في المخطوطة.

١٣

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) (النحل : ٥١) فإن (١) ابن مالك (٢) وغيره من النحويين جعلوه نعتا ، قصد به مجرد التأكيد (٣). ولقائل (٤) أن يقول : [إن] (٥) (إِلهَيْنِ) مثنّى وال (اثْنَيْنِ) (٦) للتثنية ، فما فائدة الصفة؟ وفيه وجوه :

ـ أحدها (٧) : قاله ابن الخباز (٨) : «إن فائدتها توكيد نهي الإشراك بالله سبحانه ، وذلك لأن العبرة في النهي عن اتخاذ الإلهين (٩) ؛ إنما هو لمحض كونهما اثنين فقط ، ولو وصف (إِلهَيْنِ) بغير ذلك من الصفات ، كقوله : «لا تتخذوا إلهين عاجزين» لأشعر بأن القادرين يجوز أن يتخذا ، فمعنى التثنية شامل لجميع الصفات ؛ فسبحان من دقت حكمته في كل شيء». ونظير هذا ما قال الأخفش في قوله : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) (النساء : ١٧٦).

ـ الثاني : أن الوحدة تطلق ويراد بها النوعية ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما نحن وبنو عبد المطلب شيء واحد» (١٠) ، وتطلق ويراد بها العدد ، نحو (١١) «إنما زيد رجل واحد» ، فالتثنية باعتبارها.

فلو (١٢) قيل : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ) فقط لصحّ في موضوعه (١٣) أن يكون نهيا عن اتخاذ جنسين آلهة ؛ وجاز أن (١٤) يتخذ من نوع واحد أعداد آلهة (١٥) ؛ لأنه يطلق عليهم أنهم واحد ، لا سيما وقد

__________________

(١) في المخطوطة (قال).

(٢) هو محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك جمال الدين أبو عبد الله ، تقدم في ١ / ٣٨١.

(٣) في المخطوطة (التوكيد).

(٤) في المخطوطة (لأن لقائل).

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) في المطبوعة (والاثنان).

(٧) في المطبوعة (أحدهما).

(٨) هو أحمد بن الحسين بن أحمد الإربلي ، شمس الدين ، ابن الخباز ، النحوي الضرير. كان أستاذا بارعا علاّمة زمانه في النحو واللغة والفقه والعروض والفرائض. وله المصنفات المفيدة منها : «النهاية في النحو و «شرح ألفيّة ابن معطي» ت ٦٣٧ ه‍ في الموصل (بغية الوعاة ١ / ٣٠٤).

(٩) في المخطوطة (إلهين).

(١٠) الحديث من رواية جبير بن مطعم رضي‌الله‌عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ٦ / ٢٤٤ ، كتاب فرض الخمس (٥٧) ، باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام وأنه ... (١٧) ، الحديث (٣١٤٠).

(١١) في المخطوطة (مثل).

(١٢) في المخطوطة (فإن قيل).

(١٣) في المخطوطة (موضعه).

(١٤) في المخطوطة (وإن جاز) بدل (وجاز أن).

(١٥) في المخطوطة (الآلهة).

١٤

يتخيّل أن الجنس الواحد لا تتضادّ مطلوباته ، فيصح ، فلما قال : (اثْنَيْنِ) بيّن فيه قبح التعديد للإله ، وأنه منزّه عن العددية. وقد أومأ إليه الزمخشري [بقوله] (١).

(٢) [وكذا القول في (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) فيتبع كل واحد مما يؤكد فيه العدد ليدلّ على أن القصد إليه ـ قال الزمخشري ـ] (٢) «ألا ترى أنك لو قلت : إنما هو إله ولم تصفه بواحد لم يحسن ، وقيل لك : إنك نفيت الإلهية لا الوحدانية».

ـ الثالث : أنّه لما كان النهي واقعا على التعدّد والاثنينيّة دون الواحد أتى بلفظ الاثنين ، لأن قولك : «لا تتخذ ثوبين» يحتمل النهي عنهما جميعا ، ويحتمل النهي عن الاقتصار عليهما ، فإذا قلت : «ثوبين اثنين» علم المخاطب أنك نهيته عن التعدد والاثنينيّة دون الواحد ، وأنّك إنما أردت منه الاقتصار على [ثوب] (٣) واحد ، فتوجه النفي إلى نفس التعدد والعدد ، فأتى باللفظ الموضوع له ، الدالّ عليه فكأنه قال : «لا تعدّد الآلهة [١٤٦ / ب] ، ولا تتخذ عددا تعبده ، إنما هو إله واحد». ٢ / ٤٣٥

ـ الرابع : أن «اتخذ» هي التي تتعدى إلى مفعولين ، ويكون (اثْنَيْنِ) مفعولها الأول و (إِلهَيْنِ) مفعولها الثاني ؛ وأصل الكلام : «لا تتخذوا اثنين إلهين» ثم قدم المفعول الثاني على الأول. ويدلّ على التقديم والتأخير أنّ (إِلهَيْنِ) أخصّ من (اثْنَيْنِ) واتخاذ اثنين يقع على ما يجوز ؛ و [على] (٤) ما لا يجوز ؛ وأما اتخاذ اثنين إلهين (٥) فلا يقع إلا على ما لا يجوز.

وقدم (إِلهَيْنِ) على (اثْنَيْنِ) إذ المقصود بالنهي اتخاذهما إلهين ؛ فالنهي وقع على معنيين : الآلهة المتخذة ، وعلى هذا فلا بدّ من ذكر «الاثنين» و «الإلهين» (٦) ؛ إذ هما مفعولا الاتّخاذ.

قال صاحب (٧) «البسيط» : «وهذا الوجه هو الجيّد ، ليخرج بذلك على التأكيد ؛ وأما إذا جعل (إِلهَيْنِ) مفعول (تَتَّخِذُوا) و (اثْنَيْنِ) صفة ، فإنه أيضا لا يخرج عن الوصف إلى

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) ما بين الحاصرتين ليس من المطبوعة ، وانظر قول الزمخشري في الكشاف ٢ / ٣٣٢.

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) عبارة المخطوطة (إلهين اثنين).

(٦) في المخطوطة (وإلهين).

(٧) هو الحسن بن شرف شاه الأسترآباذي ، تقدم التعريف به وبكتابه في ٢ / ٤٦٤.

١٥

التأكيد ؛ [لأنه] (١) لا يستفاد من (اثْنَيْنِ) ما استفيد من (إِلهَيْنِ) لأن الأول يدلّ على العدد والجنس ، والثاني على مجرد الاثنينية.

قال : وهذا الحكم في قوله تعالى : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (هود : ٤٠) في دخول (اثْنَيْنِ) في حد الوصف إلاّ أنّ من قرأ بتنوين «كلّ» فإنه حذف المضاف إليه ، وجعل التنوين عوضا عنه ، و (زَوْجَيْنِ) مفعول (احْمِلْ) (هود : ٤٠) أو (فَاسْلُكْ) (٢) و (اثْنَيْنِ) (المؤمنون : ٢٧) نعت. و (مِنْ) يحتمل أنه متعلق بفعل الأمر ، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف ، لكونه حالا من نكرة تقدم عليها ؛ والتقدير : احمل أو اسلك فيها زوجين اثنين من كل صنف.

ومن قرأ بإضافة (كُلٍ) (٣) احتمل وجهين : أحدهما أن تجعل : (اثْنَيْنِ) (٤) المفعول ، والجار والمجرور متعلق بفعل الأمر المحذوف كما تقدم. والثاني جعل (مِنْ) زائدة على رأي الأخفش ، و (كُلٍ) هي المفعول و (اثْنَيْنِ) صفة». ٢ / ٤٣٦

ـ الخامس : أنه بدل ، وينوى بالأول الطّرح ، واختاره النّيلي (٥) في «شرح الحاجبية» قال : لما فيه من حسم مادة التأويل. ونظير السؤال في الآية قوله [تعالى] (٦) : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) (النساء : ١٧٦) فإن مروان بن سعيد (٧) المهلّبي سأل أبا الحسن الأخفش ، فقال : ما الفائدة في هذا الخبر؟ أراد مروان أن لفظ (كانَتَا) تفيد التثنية ، فما فائدة تفسيره الضمير المسمى باثنتين ، مع أنه لا يجوز «فإن كانتا ثلاثا» ولا فوق ذلك ، فلم يفصّل الخبر الاسم في شيء؟

فأجاب (٨) أبو الحسن ؛ بأنه أفاد العدد المحض مجردا عن الصفة (٩) ، أي قد كان يجوز

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (اسلك).

(٣) قرأ حفص (من كل) بالتنوين في (كل) وقرأ الباقون بغير تنوين فيهما (مكي ، التبصرة : ٢٢٣)

(٤) في المخطوطة (الاثنين).

(٥) هو محمد بن الحسن الرؤاسي النيلي ، تقدم التعريف به في ٢ / ٤٠٢.

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) تصحف الاسم في المخطوطة والمطبوعة إلى مروان بن سعد ، والتصويب من معجم الأدباء ١٩ / ١٤٦ ، وهو مروان بن سعيد بن عباد بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة المهلبي ، أحد أصحاب الخليل بن أحمد المتقدمين في النحو المبرّزين فيه. وما جرى بينه وبين الأخفش نقله الحريري في درة الغواص ص ١٧.

(٨) في المخطوطة (وأجاب).

(٩) في المخطوطة (القصة).

١٦

أن يقال : «فإن كانتا صغيرتين فلهما كذا» أو «كبيرتهن فلهما كذا» أو «صالحتين» أو غير ذلك من الصفات ، فلما قال : (اثْنَتَيْنِ) أفهم أن فرض الثلثين (١) تعلق بمجرد كونهما اثنتين فقط (٢) ، وهي فائدة لا تحصل من ضمير المثنى. ومعناه أنهم كانوا في الجاهلية يورّثون البنين دون البنات ، وكانوا يقولون : لا نورّث إلا من يحمل الكلّ وينكئ العدوّ ؛ فلما جاء الإسلام بتوريث البنات أعلمت الآية (٣) أن العبرة في أحد الثلثين من الميراث منوط بوجود اثنتين من الأخوات ، من غير اعتبار أمر زائد على العدد. قال الحريري (٤) : ولقد (٥) أبدع مروان في استنباطه وسؤاله ، وأحسن أبو الحسن في كشف إشكاله!

ولقد (٦) نقل ابن الحاجب في «أماليه» (٧) هذا الجواب عن أبي علي الفارسي (٨) ـ وقد بيّنا أنه من كلام الأخفش ـ ثم اعترض عليه بأنّ اللفظ وإن كان صالحا لإطلاقه [على المثنى] (٩) مجردا عن الصفات لا يصحّ إطلاقه خبرا دالا على التجريد من الصفات ، وإنما يعنى باللفظ ذاته الموضوعة له ؛ ألا ترى أنك إذا قلت : «جاءني رجل» ، لا يفهم إلا ذات ، من غير أن يدلّ على تجريد [١٤٧ / أ] عن مرض أو جنون أو عقل ، فكذلك «اثنين» لا تدل إلا على مسمى «اثنتين» فقط فلم يستفد (١٠) منه شيء زائد على المستفاد من ضمير التثنية. ٢ / ٤٣٧

ثم لو سلم صحة إطلاق اللفظ كذلك فلا يصحّ هاهنا ؛ إذ لو صحّ لجاز أن يقال : «فإن (١١) [كانتا على أي صفة حصل» ولو قيل ذلك لم يصحّ ، لأن تثنية الضمير في] (١١) (كانَتَا) عائد (١٢)

__________________

(١) العبارة في درة الغواص : (الثلثين للاختين).

(٢) عبارة الحريري : (فقط على أي صفة ...).

(٣) في المخطوطة (علمت الأمة).

(٤) هو القاسم بن علي بن محمد الحريري ، تقدمت ترجمته في ١ / ١٦٤. وانظر قوله في كتابه درة الغواص ص ١٧.

(٥) عبارة الحريري : (ولعمري قد ...).

(٦) في المخطوطة (وقد).

(٧) كتاب «الأمالي النحوية» لابن الحاجب أبي عمرو عثمان بن عمر بن يونس تقدم التعريف به في ١ / ٥١١.

(٨) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار ، أبو علي الفارسي ، تقدم ذكره في ١ / ٣٧٥.

(٩) ساقطة من المخطوطة.

(١٠) تصحفت في المخطوطة إلى (يفسد).

(١١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(١٢) في المخطوطة (عائدا).

١٧

على الكلالة [والكلالة] (١) تكون واحدا واثنين وجماعة (٢) ؛ فإذا أخبر باثنتين حصلت به فائدة.

ثم لما كان الضمير (٣) الذي في «كانتا» العائد (٤) على الكلالة هو في معنى اثنين صحّ أن [تثنيه لأن] (٥) تثنيته فرع عن الإخبار [باثنين] (٥) ؛ إذ لو لاه لم يصح أنه لم تستفد التثنية إلا من اثنين.

وقد أورد على ذلك اعتراض آخر ؛ وهو أن هذه الآية مماثلة لقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) (النساء : ١١) ثم قال : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً) (النساء : ١١) (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) (النساء : ١١) ولو كان على ما ذكرتم لوجب أن يصح إطلاق الأولاد على الواحد كما في الكلالة ، وإلا لكان الضمير لغير مذكور! والجواب بشيء يشمل (٦) الجميع ؛ وهو أن الضمير قد يعود على الشيء باعتبار المعنى الذي سيق إليه ونسب إلى صاحبه ؛ فإذا قلت : إذا جاءك رجال ، فإن كان واحدا (٧) فافعل به كذا ، وإن كان اثنين فكذا ؛ صح إعادة الضمير باعتبار المعنيين ؛ لأن المقصود الجائي ، وكأنك قلت : وإن كان الجائي من الرجال ؛ لأنه علم من قولك : «إذا جاءك» (٨) ؛ والآية سيقت لبيان (٩) [الوارثين الأولاد ؛ فكأنه قيل : «فإن كان] (٩) الوارث من الأولاد» ؛ لأنّه المعنى الذي سيق له الكلام ، فقد دخلت «الاثنان» باعتبار هذا المعنى. ٢ / ٤٣٨

ويجوز أن تبقى الآية الأولى على ما ذكرنا ويختص هذا الجواب بهذه.

(قلت) : وفي هذه الآية ثلاثة أجوبة [أخر] (١٠) :

ـ أحدها : أنه كلام محمول على المعنى أي : «فإن كان من ترك اثنتين» وهذا مقيّد ؛

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (أو جماعة).

(٣) في المخطوطة (المضمر).

(٤) في المخطوطة (عائدا).

(٥) ساقط من المخطوطة.

(٦) في المخطوطة (يسمى).

(٧) في المخطوطة (واحد).

(٨) في المخطوطة (جاءك الرجال).

(٩) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(١٠) ساقطة من المخطوطة.

١٨

فأضمره على ما بعده ، و «من» يسوغ معها ذكر الاثنين ؛ لأنه لفظ مفرد يعبّر به عن الواحد والاثنين والجمع ؛ فإذا وقع (١) الضمير موقع «من» جرى مجراها في جواز الاخبار عنها بالاثنين.

ـ الثاني : أن يكون من الأشياء التي جاءت على أصولها المرفوضة ؛ كقوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) (المجادلة : ١٩) وذلك أنّ حكم الاعداد فيما دون العشرة أن تضاف إلى المعدود ؛ كثلاثة رجال ، وأربعة أبواب (٢) ، فكان القياس أن يقول : اثنين (٣) رجل ، وواحد رجل ؛ ولكنهم رفضوا ذلك لأنك تجد لفظة تجمع العدد والمعدود ، فتغنيك عن إضافة أحدهما إلى الآخر ؛ وهو قولك (٤) : رجلان ورجل ؛ وليس كذلك [لأنك تجد] (٥) ما فوق الاثنين ؛ ألا ترى أنك إذا قلت : ثلاثة ، لم يعلم المعدود ما هو؟ وإذا قلت : رجال ، لم يعلم عددهم ما هو؟ فأنت مضطر إلى ذكر [العدد] (٦) والمعدود ، فلذلك (٧) قيل : كان (٨) الرجال ثلاثة ولم يقل : كان الرجلان اثنين ، ولا الرجلان كانا اثنين ، فإذا استعمل (٩) شيء من ذلك كان استعمالا للشيء المرفوض ؛ كقوله :

ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل (١٠)

(فإن قيل) : كيف يحمل القرآن عليه؟ وإنما هو في الشعر؟ (قيل) : إنا وجدنا في القرآن أشياء جاءت على الأصول المرفوضة «كاستحوذ» [ونظائرها] (١١). ٢ / ٤٣٩

ـ الثالث : أن المراد «فإن كانتا اثنتين فصاعدا» ، فعبّر بالأدنى عنه وعما فوقه. قاله ابن

__________________

(١) في المخطوطة (فأوقع) بدل (فإذا وقع).

(٢) في المخطوطة (أثواب).

(٣) في المخطوطة (اثني).

(٤) في المخطوطة (كقولك).

(٥) ساقطة من المطبوعة.

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (فكذلك).

(٨) في المخطوطة (لو كان).

(٩) في المخطوطة (استعملت).

(١٠) هذا عجز بيت لشمّاء الهذلية ، وصدره : «كأنّ خصييه من التّدلدل» وهو من شواهد الزمخشري في المفصل ص ١٨٤. باب ومن أصناف الاسم المثنى وابن هشام في شذور الذهب ص ٥٩٩ ، باب العدد.

(١١) ساقطة من المخطوطة.

١٩

الضائع (١) النحويّ. (قلت) : ونظائرها قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ) (البقرة : ٢٨٢) فإن الرجولية المثنّاة فهمت من الضمير ؛ بدليل : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) (البقرة : ٢٨٢) فالظاهر أن (٢) قوله : (رَجُلَيْنِ) حال لا خبر ، فكأن (٣) المعنى : «فإن لم يوجدا حال كونهما رجلين». ومثله قوله تعالى : (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) (آل عمران : ٣٦) فإنّ الأنوثة فهمت من قوله : (وَضَعَتْها).

وأورد بعضهم السؤال في الأول ؛ (فقال) : الضمير في (يَكُونا) للرّجلين ، لأن (الشّهيدين) قيّدا بأنهما من [١٤٧ / ب] الرجال ؛ فكأنّ (٤) الكلام : «فإن لم يكن الرجلان رجلين» ، وهذا محال. (وأجاب بعضهم) بما أجاب به الأخفش في آية المواريث (٥) : إنّ الخبر هنا أفاد العدد المجرّد عن الصفة. وهذا ضعيف ؛ إذ وضع فيه «الرّجلين» موضع «الاثنين» ، وهو تجوّز بعيد ؛ والذي ذكره الفارسيّ المجرّد منهما (٦) ، الرّجولية أو الأنوثية أو غيرها من الصفات ؛ فكيف يكون لفظ موضوع لصفة ما دالا على نفيها (٧)! على أنّ في جواب الفارسي هناك نظرا ؛ فإنه لم يزد على أن جعل نفس السؤال جوابا! كأنه قيل : لم ذكر العدد وهو متضمّن للضمير؟ فقال : لأنه يفيد العدد المجرد ، فلم يزد الألفاظ تجردا. (قال) : وأمّا من أجاب بأن (رَجُلَيْنِ) منصوب على الحال المبيّنة و «كان» تامة فهو أظرف من الأول ، فإنه سئل عن وجه النظم ، وأسلوب البلاغة ونفي ما لا يليق بها من الحشو ، فأجاب بالإعراب ، ولم يجب عن السؤال بشيء ؛ والذي يرد عليه وهو خبر يرد عليه وهو حال ، وما زادنا إلا التكلّف في جعله حالا. ٢ / ٤٤٠

والذي يظهر في جواب السؤال هو أن (شَهِيدَيْنِ) لما صحّ أن يطلق على المرأتين بمعنى «شخصين شهيدين» قيده بقوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ) (البقرة : ٢٨٢) ثم أعاد الضمير في قوله

__________________

(١) هو علي بن محمد الكتامي ، تقدم التعريف به في ٢ / ٣٦٤.

(٢) في المخطوطة (فإن).

(٣) في المخطوطة (لكان والمعنى) بدل (فكأن المعنى).

(٤) في المخطوطة (وكان).

(٥) يريد قوله تعالى (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) (النساء : ١٧٦). انظر قول الأخفش ص ٢ / ٤٣٦.

(٦) في المخطوطة (منها).

(٧) في المخطوطة (نعتها).

٢٠