البرهان في علوم القرآن - ج ٣

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٣

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٩

وهذا قريب من الذي قبله ، ويفترقان في أن الأول يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء والنداء جملة ، ويجب صرفه إلى [غير] (١) الغنم ، وهذا يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء والنداء جملة ، وإن لم يفهمهما ، والأصنام ـ من حيث كانت (٢) لا تسمع الدعاء جملة ـ يجب أن يكون داعيها وناديها (٣) أسوأ حالا من منادي الغنم. ذكر (٤) ذلك الشريف المرتضى (٥) في كتاب «غرر الفوائد».

ومنه قوله تعالى ؛ (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ ...) (آل عمران : ١١٧) الآية ، وإنما وقع التشبيه على الحرث الذي أهلكته الريح (٦) [يقول أن يجعله على الحرث وصوله إلى الريح التي أهلكت الحرث لما كانت الريح من الأمر بسبب] (٦) ، قيل فيه إضمار ، أي مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك الريح.

قال (٧) ثعلب : فيه تقديم وتأخير ، أي كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم أصابته ريح فيها صرّ فأهلكته.

٣ / ٤٣١ وأما قوله تعالى : ((٨) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ (٨) مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) (البقرة : ١٦٥) ، فإنّ التقدير : كما يحب المؤمنون الله ، قال : وحذف الفاعل ، لأنه غير ملتبس.

واعترض عليه بأنه لا حاجة لذلك ، فإن المعنى حاصل بتقديره مبنيا للفاعل.

وأجيب بأنه تقدير معنى ، لكن محافظة على اللفظ فلا يقدّر الفاعل ، إذ الفاعل في باب المصدر فضلة ، فلذلك جعله كذلك في التقدير.

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (كان).

(٣) في المخطوطة (ومناديها).

(٤) في المخطوطة (وذكر).

(٥) هو علي بن الحسين بن موسى تقدم التعريف به في ٣ / ٤٢٤ وبكتابه في ٣ / ٤٤٤ وانظر قوله في الكتاب ١ / ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٧) في المخطوطة (وقال).

(٨) تصحفت في المخطوطة إلى (اتخذوا من دون).

٤٨١

٣ / ٤٣٢

الاستعارة

هي من أنواع البلاغة ، وهي كثيرة في القرآن ، ومنهم من أنكره ؛ بناء على إنكار المجاز في القرآن ، والاستعارة مجاز ، وقد سبق تقديره. ومنع القاضي عبد الوهاب المالكي (١) إطلاق لفظ الاستعارة فيه ، لأن فيها إبهاما للحاجة ، وهذا كما منع بعضهم لفظ (٢) : القرآن [٢٤١ / أ] (٣) [أو لفظي بالقرآن] (٣) مخلوق ، وهو لا ينكر وقوع المجاز ، والاستعارة فيه إنما توقف على إذن الشرع.

ولا شك أن المجوّزين للإطلاق شرطوا عدم الإبهام ؛ وقد يمنعون الإبهام ؛ وقد يمنعون الإبهام المذكور لأنه في الاصطلاح اسم لأعلى مراتب الفصاحة.

وقال الطرطوشي (٤) : «إن أطلق المسلمون الاستعارة فيه أطلقناها وإن امتنعوا امتنعنا ؛ ويكون هذا من قبيل أن الله تعالى عالم ، والعلم هو العقل ، ثم لا نصفه به لعدم التوقيف». انتهى.

والمشهور تجويز الإطلاق.

ثم فيها مباحث :

الأول

٣ / ٤٣٣ وهي (٥) «استفعال» من العارية ، ثم نقلت إلى نوع من التخييل لقصد المبالغة في التخييل والتشبيه مع الإيجاز ؛ نحو لقيت أسدا ، وتعني به الشجاع.

وحقيقتها أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إلى شيء لم يعرف بها ، وحكمة ذلك

__________________

(١) هو عبد الوهاب بن علي بن نصر التغلبي الفقيه القاضي المالكي ولد سنة ٣٦٢ ه‍ كان فقيها أديبا شاعرا حسن النظر جيد العبارة وحدّث بشيء يسير كان ثقة ولم يلق من المالكيين أحدا أفقه منه وله من التصانيف «التلقين» وهو مع صغر حجمه من خيار الكتب وأكثرها فائدة و «المعونة» و «شرح الرسالة» وغيرها ت ٤٦٢ ه‍ (ابن خلكان ، وفيات الأعيان ٣ / ٢١٩.

(٢) في المخطوطة (لفظة).

(٣) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.

(٤) تصحفت في المطبوعة إلى (الطرطوسي) وما صوبناه من المخطوطة. وهو محمد بن الوليد بن محمد بن خلف الطرطوشي تقدم التعريف به في ٢ / ١١٣.

(٥) في المخطوطة (هي).

٤٨٢

إظهار الخفيّ ، وإيضاح الظاهر الذي ليس بجلي ، أو بحصول المبالغة أو للمجموع (١).

فمثال إظهار الخفيّ قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) (الزخرف : ٤) ، فإنّ حقيقته أنه في أصل الكتاب ؛ فاستعير لفظ «الأم» للأصل ؛ لأن الأولاد تنشأ من الأمّ ، كما تنشأ الفروع من الأصول. وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئيّ حتى يصير مرئيا ، فينتقل السامع من حدّ السماع إلى حدّ العيان ؛ وذلك أبلغ في البيان.

ومثال إيضاح ما ليس بجليّ ليصير جليّا ، قوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) [من الرحمة] (٢) (الإسراء : ٢٤) ؛ لأن المراد أمر الولد بالذلّ لوالديه رحمة ؛ فاستعير للذل (٣) أولا «جانب» (٤) ، ثم للجانب «جناح» (٥) ؛ وتقدير الاستعارة القريبة : «واخفض لهما جانب الذل» ، أي اخفض جانبك ذلا.

وحكمة الاستعارة في هذا جعل ما ليس بمرئيّ مرئيا ؛ لأجل حسن البيان ، ولما كان المراد خفض جانب الولد للوالدين ؛ بحيث لا يبقي الولد من الذلّ لهما والاستكانة (٦) مركبا ؛ احتيج من الاستعارة إلى ما هو أبلغ من الأولى ؛ فاستعير الجناح ، لما فيه من المعاني التي [لا] (٧) تحصل من خفض الجناح ؛ لأنّ من ميّل جانبه (٨) [إلى جهة السفل أدنى ميل ، صدق عليه أنه خفض جانبه] (٨) ؛ والمراد خفض يلصق الجنب بالأرض (٩) ولا يحصل ذلك إلا بخفض الجناح كالطائر ؛ وأما قول أبي تمام :

لا تسقني ماء الملام (١٠) [فإنّني

صبّ قد استعذبت ماء بكائي(١١)  

فيقال : إنه أرسل إليه قارورة ، وقال : ابعث إليّ فيها شيئا من ماء الملام] (١٠) ؛ فأرسل

__________________

(١) في المخطوطة (المجموع).

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) تصحفت في المطبوعة (للولد) وقد ذكر هذا الفصل السيوطي في الإتقان ٣ / ١٣٤ ، النوع الثالث والأربعون.

(٤) في المخطوطة (جانبا).

(٥) في المخطوطة (جناحا).

(٦) في المخطوطة (والاستعانة).

(٧) ساقطة من المخطوطة.

(٨) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٩) تصحفت في المطبوعة إلى (بالإبط). وما أثبتناه من المخطوطة والاتقان.

(١٠) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(١١) البيت في ديوانه : ١ / ٢٥. وقد ذكر القزويني في الإيضاح : ١٨٠.

٤٨٣

أبو (١) تمام : أن ابعث لي ريشة من جناح الذّلّ أبعث إليك من ماء الملام. ٣ / ٤٣٤

وهذا (٢) لا يصحّ له تعلّق به ، والفرق بين التشبيهين ظاهر ؛ لأنه ليس جعل الجناح للذلّ كجعل الماء للملام ، فإن الجناح للذلّ مناسب ؛ فإن الطائر إذا وهي وتعب بسط جناحه وألقى نفسه إلى الأرض. وللإنسان أيضا جناح : فإنّ يديه جناحاه ، وإذا خضع واستكان يطأطىء من رأسه ، وخفض من بين يديه ، فحسن عند ذلك جعل الجناح للذلّ ، وصار شبها مناسبا ، وأما ماء الملام فليس كذلك في مناسبة التشبيه فلذلك استهجن (٣) منه. على أنه قد يقال : إنّ الاستعارة التخييلية (٤) فيه تابعة للاستعارة بالكناية ؛ فإنّ تشبيه الملام بظرف الشراب لاشتماله على ما يكرهه الشارب لمرارته ، ثم استعار الملام له كمائه ، ثم يخرج منه شيء يشبّه بالماء ؛ فالاستعارة في اسم الماء.

الثاني

في أنها قسم من أقسام المجاز ؛ لاستعمال اللفظ في غير ما وضع له.

وقال الإمام فخر الدين : ليس بمجاز لعدم النقل. وفي الحقيقة هي تشبيه محذوف الأداة لفظا وتقديرا ؛ ولهذا حدّها بعضهم بادعاء معنى الحقيقة في الشيء ، مبالغة في التشبيه.

كقولهم : انشقت عصاهم [٢٤١ / ب] ؛ إذا تفرقوا ، وذلك للعصا لا للقوم ، ويقولون : كشفت الحرب عن ساق.

ويفترقان [في] (٥) أن التشبيه (٦) إذا ذكرت معه الأداة فلا خفاء أنه تشبيه ؛ وإن حذفت فهذا يلتبس بالاستعارة ؛ فإذا ذكرت المشبه كقولك : زيد الأسد ، فهذا تشبيه [بليغ] (٧) ، كقوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) (البقرة : ١٨) ، وإن لم يذكر المشبه به فهو استعارة ، كقوله :

لدى أسد شاكي السّلاح مقذّف (٨)

له لبد أظفاره لم تقلّم (٩)

__________________

(١) في المخطوطة (إلى أبي).

(٢) في المخطوطة (فهذا).

(٣) في المخطوطة (استحق).

(٤) اضطربت في المخطوطة إلى (التحها).

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) في المخطوطة (الشبه).

(٧) ساقطة من المخطوطة.

(٨) في المخطوطة (غضنفر).

(٩) البيت لزهير بن أبي سلمى من معلقته التي مطلعها أمن أمّ أوفي دمنة لم تكلم * انظر ديوانه : ٨٤ طبعة دار صادر بيروت.

٤٨٤

فهذه استعارة نقلت لها وصف الشجاع ؛ إلى عبارة صالحة للأسد ، لو لا قرينة ٣ / ٤٣٥ [السلاح] (١) لشككت : هل أراد الرجل الشجاع أو الأسد الضاري؟

الثالث

لا بدّ فيها من ثلاثة أشياء أصول : مستعار ، ومستعار منه ، وهو اللفظ ؛ ومستعار له وهو المعنى ؛ ففي قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) (مريم : ٤) المستعار الاشتعال ، والمستعار منه النار ، والمستعار له الشيب ، والجامع بين المستعار منه والمستعار له مشابهة ضوء النهار لبياض الشيب.

وفائدة ذلك وحكمته وصف ما هو أخفى بالنسبة (٢) إلى ما هو أظهر. وأصل الكلام أن يقال : واشتعل شيب الرأس ؛ وإنما قلب للمبالغة ؛ لأنه يستفاد منه عموم الشيب لجميع الرأس ؛ ولو جاء الكلام [على وجهه] (٣) لم يفد ذلك العموم. ولا يخفى أنه أبلغ من قولك :

كثر (٤) الشيب في الرأس ؛ وإن كان ذلك حقيقة المعنى ؛ والحقّ أن المعنى يعار ؛ أولا ثم بواسطته يعار اللفظ ، ولا تحسن الاستعارة إلا حيث كان الشبه مقرّرا بينهما ظاهرا ؛ وإلاّ فلا بدّ من التصريح بالشبه ؛ فلو قلت : رأيت نخلة أو خامة وأنت تريد مؤمنا إشارة إلى قوله : «مثل المؤمن كمثل النخلة» (٥) أو «الخامة» (٦) لكنت كالملغز (٧).

ومن أحسن الاستعارة قوله تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (التكوير : ١٨) ؛ وحقيقته (٨) «بدأ انتشاره» و «تنفس» أبلغ ؛ فإن ظهور الأنوار في المشرق من أشعة الشمس قليلا قليلا ، بينه وبين إخراج النّفس مشاركة شديدة.

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (بالشبه).

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (أكثر).

(٥) إشارة إلى حديث عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما أخرجه مسلم في الصحيح ٤ / ٢١٦٤ ـ ٢١٦٥ كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (٥٠) ، باب مثل المؤمن مثل النخلة (١٥) ، الحديث (٦٤ / ٢٨١١).

(٦) إشارة إلى حديث متفق عليه من رواية كعب بن مالك رضي‌الله‌عنه أخرجه البخاري في الصحيح ١٠ / ١٠٣ ، كتاب المرتضى (٧٥) ، باب ما جاء في كفارة المرض ... (١) ، الحديث (٥٦٤٣) ، ومسلم في الصحيح ٤ / ٢١٦٣ ، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (٥٠) ، باب مثل المؤمن كالزرع ... (١٤) الحديث (٥٩ / ٢٨١٠) و (الخامة) هي الطاقة الفضة اللينة من الزرع. (النهاية ٢ / ٨٩) مادة (خوم).

(٧) في المخطوطة (كاللغز).

(٨) في المخطوطة (وتحقيقه).

٤٨٥

وقوله : (اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) (يس : ٣٧) ، لأن انسلاخ [الشيء عن] (١) الشيء أن يبرأ [منه] (١) ويزول عنه حالا فحالا ، كذلك انفصال الليل عن النهار ؛ والانسلاخ أبلغ من الانفصال لما فيه من زيادة البيان.

وقوله : (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) (الكهف : ٢٩).

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (القلم : ١٦).

وقوله : (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) (المدثر : ٥٠) ، ويقولون للرجل المذموم : إنما هو حمار.

وقوله : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) (القيامة : ٢٩).

(أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) (النازعات : ١٠) أي في الخلق الجديد.

(بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) (المطففين : ١٤).

(خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (البلد : ٤) (٢) [أي ضيق وشدة] (٢).

(لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) (العلق : ١٥).

(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (المسد : ٤).

[وقوله] (٣) (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) (الدخان : ٢٩).

(وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (العنكبوت : ٦٧).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) (الشعراء : ٢٢٥).

(أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) (الأعراف : ١٣١) والمراد حفظهم وما يحصل لهم.

وقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ) (الإسراء : ٧٨) ، أي أتمها (٤) كما أمرت [به] (٥).

(إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) (الإسراء : ٦٠) ، أي عصمك منهم ، رواه شعبة عن أبي رجاء (٦) عن الحسن.

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) في المخطوطة (ائتمر بها).

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) تصحفت في المطبوعة إلى أبي وجاء ، وما صوّبناه من المخطوطة وتفسير الطبري. والأثر أخرجه ابن أبي شيبة والطبري في التفسير ١٥ / ٧٥ وابن المنذر وابن أبي حاتم (عزاه لهم السيوطي في الدر المنثور ٤ / ١٩٠).

٤٨٦

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) (الزخرف : ٤).

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) (الأنعام : ٥٩).

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) (الأعراف : ١٥٤).

(فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) (الإسراء : ١٢).

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) (الأنبياء : ١٨) ، فالدمغ والقذف مستعار.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) (الكهف : ١١) ، يريد لا إحساس بها ، من غير صمم.

وقوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) (الحجر : ٩٤) ، فإنه أبلغ من «بلّغ» ، وإن كان بمعناه ، لأن تأثير الصّدع أبلغ من تأثير التبليغ ؛ فقد لا يؤثّر التبليغ ، والصدع يؤثّر جزما.

الرابع

٣ / ٤٣٨ تنقسم إلى مرشّحة ـ وهي أحسنها ـ وهي أن تنظر إلى جانب المستعار وتراعيه ، كقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) (البقرة : ١٦) ، فإن المستعار منه الذي هو الشراء هو المراعى (١) هنا ، وهو الذي رشّح لفظتي الربح والتجارة للاستعارة لما بينهما [٢٤٢ / أ] من الملاءمة.

وإلى تجريدية ؛ وهي أن تنظر إلى جانب المستعار له ، ثم تأتي بما يناسبه ويلائمه ، كقوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) (النحل : ١١٢) ، فالمستعار اللباس ، والمستعار له الجوع ، فجرد (٢) الاستعارة ، بذكر لفظ الأداة المناسبة (٣) للمستعار له وهو الجوع ، لا المستعار وهو اللباس ، ولو أراد ترشيحها لقال : وكساها لباس الجوع. وفي هذه الآية مراعاة المستعار له ؛ الذي هو المعنى ، وهو الجوع والخوف ؛ لأن ألمهما يذاق ولا يلبس. [ولا يكسى] (٤).

وقد تجيء ملاحظة المستعار الذي هو اللفظ ، كقوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ

__________________

(١) في المخطوطة (المدعي).

(٢) في المطبوعة (فمجرد) تصحيف.

(٣) في المخطوطة (لمناسبة).

(٤) ساقطة من المطبوعة.

٤٨٧

الْحَطَبِ) (المسد : ٤) ، (١) [إذا حملنا الحطب على النميمة فاعتبر اللفظ فقال : «حمالة»] (١) ولم يقل : «رواية» فيلاحظ المعنى.

وأما الاستعارة بالكناية فهي ألاّ يصرّح بذكر المستعار ، بل تذكر بعض لوازمه تنبيها به عليه ، كقوله (٢) : شجاع يفترس أقرانه ، وعالم يغترف منه الناس ، تنبيها على أن الشجاع أسد والعالم بحر.

ومنه المجاز العقلي كلّه عند السكاكي (٣).

٣ / ٤٣٩ ومن أقسامها ـ وهو دقيق ـ أن يسكت عن ذكر المستعار ثم يومى إليه بذكر شيء من توابعه وروادفه ؛ تنبيها عليه ، فيقول : شجاع (٤) يفترس أقرانه ، فنبّهت (٥) بالافتراس على أنك قد استعرت له الأسد.

ومنه قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) (البقرة : ٢٧) ، فنبّه بالنقض الذي هو من توابع الحبل وروادفه ، على أنه قد استعار للعهد الحبل لما فيه من باب الوصلة (٦) بين المتعاهدين.

ومنها قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (الفرقان : ٢٣) ، لأن حقيقته «عملنا» لكن (قَدِمْنا) أبلغ ؛ لأنه يدلّ على أنه عاملهم (٧) معاملة القادم من سفره ؛ لأنه من أجل إمهالهم السابق عاملهم ؛ كما يفعل الغائب عنهم إذا قدم فرآهم على خلاف ما أمر به. وفي هذا تحذير من الاغترار بالإمهال.

وقوله : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) (الحاقة : ١١) ، لأن حقيقة «طغى» علا ، والاستعارة أبلغ ، لأن «طغى» ، علا قاهرا (٨).

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (كقولك).

(٣) انظر كتابه مفتاح العلوم : ٣٥٩ ، الأصل الثاني من علم البيان في المجاز ، ما هو المجاز.

(٤) في المخطوطة (جواد).

(٥) في المخطوطة (فنبه).

(٦) في المخطوطة (الصلة).

(٧) في المخطوطة (معاملتهم).

(٨) في المخطوطة (فأقهر).

٤٨٨

وكذلك : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) (الحاقة : ٦) ، لأن حقيقة «عاتية» شديدة ، والعتوّ أبلغ ، لأنه شدّة فيها تمرد.

وقوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ...) (الإسراء : ٢٩) ، الآية ؛ وحقيقته : لا تمنع ما تملك كلّ المنع ، والاستعارة أبلغ ، لأنّه جعل منع النائل بمنزلة غلّ [اليدين إلى] (١) العنق ، وحال الغلول (٢) أظهر.

وقوله تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) (الزلزلة : ٢) ، قيل : أخرجت ما فيها من الكنوز. ٣ / ٤٤٠

وقيل : يحيي به الموتى ، وأنها أخرجت موتاها ، فسمى الموتى ثقلا تشبيها بالحمل الذي يكون في البطن ؛ لأن الحمل يسمى ثقلا ، قال تعالى : (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) (الأعراف : ١٨٩).

ومنها : جعل الشيء للشيء وليس له من طريق الادعاء والإحاطة به نافعة في آيات الصفات ، كقوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (القمر : ١٤).

وقوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (الزمر : ٦٧). ويسمّى التخييل : قال الزّمخشري (٣) : ولا تجد بابا في علم البيان أدقّ ولا أعون في تعاطي المشبهات منه ، وأما قوله تعالى : (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (الصافات : ٦٥) قال الفرّاء (٤) : فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه جعل طلعها رءوس الشياطين في القبح.

والثاني ؛ أن العرب تسمي بعض الحيات شيطانا (٥) ؛ وهو ذو القرن.

والثالث : أنّه شوك (٦) قبيح المنظر ، يسمى رءوس الشياطين.

فعلى الأول يكون تخييلا ، وعلى الثاني يكون تشبيها مختصّا.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (الحلول).

(٣) انظر «الكشاف» : ٣ / ٣٥٦ عند تفسير الآية من سورة الزمر.

(٤) انظر معاني القرآن ٢ / ٣٨٧.

(٥) في المخطوطة (شياطين).

(٦) في المخطوطة (إنه نبت شوك).

٤٨٩

تقسيم آخر

الاستعارة فرع التشبيه ، فأنواعها كأنواعه خمسة :

٣ / ٤٤١ الأول : استعارة حسّيّ لحسّيّ بوجه حسيّ ، كقوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [٢٤٢ / ب] (مريم : ٤) ؛ فإن المستعار منه هو النار ، والمستعار له هو الشّيب ، والوجه هو الانبساط ؛ فالطرفان حسّيان والوجه أيضا حسّيّ ، وهو استعارة بالكناية ؛ لأنّه ذكر التشبيه ، [وذكر المشبّه] (١) وذكر المشبه به مع لازم من لوازم المشبه به ؛ وهو الاشتعال.

وقوله : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) (الكهف : ٩٩) ، [أصل] (١) الموج حركة المياه (٢) ؛ فاستعمل في حركتهم على سبيل الاستعارة.

***

الثاني : حسّي لحسّيّ (٣) بوجه عقلي ، كقوله تعالى : (أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) (الذاريات : ٤١) فالمستعار له الريح. والمستعار منه المرأة ، وهما حسّيّان ، والوجه المنع من ظهور النتيجة (٤) ، والأثر وهو عقلي وهو أيضا استعارة بالكناية.

قال في «الإيضاح» (٥) : وفيه نظر ، لأن العقيم صفة للمرأة لا اسم لها ؛ ولهذا جعل صفة للريح ، لا اسما. والحق أن المستعار منه ما في المرأة من الصفة التي تمنع من الحبل والمستعار له ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر وإلقاح شجر.

وهو مندفع بالعناية ، لأن المراد من قوله : «المستعار منه» المرأة التي عبّر عنها بالعقيم ، ذكرها السكاكي (٦) بلفظ ما صدق عليه. (٧) [والغرض الوصف العنواني] (٧).

ومنه قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) (يس : ٣٧) ، المستعار له ظلمة النهار من ظلمة الليل ، والمستعار منه ظهور المسلوخ عند جلدته ، والجامع عقليّ وهو ترتب أحدهما على الآخر.

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (الماء).

(٣) في المخطوطة (حسي).

(٤) في المخطوطة (القحفة).

(٥) للخطيب القزويني وانظر كتابه ص ١٦٩.

(٦) انظر كتابه مفتاح العلوم : ٣٨٨ ـ ٣٨٩. والإيضاح للقزويني : ١٦٩.

(٧) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

٤٩٠

وقوله : (فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) (يونس : ٢٤) ، أصل الحصيد ٣ / ٤٤٢ النبات والجامع الهلاك ، وهو أمر عقليّ.

***

الثالث : معقول لمعقول ، كقوله تعالى : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [هذا]) (١) (يس : ٥٢) ، فالرقاد (٢) مستعار للموت ؛ وهما أمران معقولان ، والوجه عدم ظهور الأفعال ؛ وهو عقليّ ، والاستعارة تصريحيّة لكون المشبه به مذكورا.

وقوله : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) (الأعراف : ١٥٤) المستعار السكوت ، والمستعار له الغضب ، والمستعار منه الساكت ، وهذه ألطف الاستعارات ، لأنها استعارة معقول لمعقول ، لمشاركته في أمر معقول.

***

الرابع : محسوس لمعقول ، كقوله تعالى : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) (البقرة : ٢١٤) ، أصل (٣) التماسّ في الأجسام ، فاستعير لمقاساة الشدة ، وكون المستعار منه حسيّا ، والمستعار له عقليا (٤) ، وكونها تصريحيّة ظاهر (٥) ، والوجه اللحوق وهو عقليّ.

وقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) (الأنبياء : ١٨) فالقذف والدمغ مستعاران.

وقوله : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) (آل عمران : ١١٢).

وقوله : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) (آل عمران : ١٨٧).

وقوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) (الأنعام : ٦٨) وكلّ ٣ / ٤٤٣ خوض ذكره الله في القرآن فلفظه مستعار من الخوض في الماء.

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) في المخطوطة (المرقد).

(٣) في المخطوطة (قيل).

(٤) في المخطوطة (عقلا).

(٥) في المخطوطة (ظاهرة).

٤٩١

وقوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) (الحجر : ٩٤) استعارة لبيانه عما أوحي إليه ، كظهور ماء في الزجاجة عند انصداعها.

وقوله : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) (التوبة : ١٠٩) ، البنيان مستعار وأصله للحيطان.

وقوله : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) (هود : ١٩) العوج مستعار.

وقوله : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (إبراهيم : ١) وكلّ ما في القرآن من الظلمات والنور مستعار.

وقوله : (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (الفرقان : ٢٣).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) (الشعراء : ٢٢٥) ؛ الوادي مستعار ، وكذلك الهيمان ، وهو على غاية الإيضاح.

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) (الإسراء : ٢٩).

***

الخامس : استعارة معقول لمحسوس : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) (الحاقة : ١١) المستعار منه التكبّر (١) ، والمستعار له الماء ، والجامع الاستعلاء المفرط (٢).

وقوله : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) (الحاقة : ٦) ، العتوّ هاهنا مستعار.

٣ / ٤٤٤ وقوله : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) (الملك : ٨) فلفظ الغيظ مستعار.

وقوله : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) (الإسراء : ١٢) ، فهو أفصح [٢٤٣ / أ] من مضيئة.

(حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) (محمد : ٤).

ومنها الاستعارة بلفظين ، كقوله تعالى : (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) (الإنسان : ١٦) ؛ يعني تلك الأواني ليس من الزجاج ، ولا من الفضة ، بل في صفاء القارورة وبياض الفضة. وقد سبق عن الفارسيّ جعله من التشبيه.

__________________

(١) في المخطوطة (الكبر).

(٢) في المخطوطة (المضمر).

٤٩٢

ومثله : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) (الفجر : ١٣) ، ينبي عن الدوام والسوط ينبي عن الإيلام ؛ فيكون المراد ـ والله أعلم ـ تعذيبهم عذابا دائما مؤلما.

التورية

٣ / ٤٤٥ وتسمى الإيهام والتخييل والمغالطة والتوجيه ؛ وهي أن يتكلّم المتكلم بلفظ مشترك بين معنيين : قريب وبعيد ، ويريد المعنى البعيد ، يوهم (١) السامع أنه أراد القريب ؛ مثاله قوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) (الرحمن : ٦) ، أراد بالنجم النبات الذي لا ساق له ، والسامع يتوهم أنه أراد الكوكب ، لا سيما مع تأكيد الإيهام بذكر الشمس والقمر.

وقوله : (وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) (آل عمران : ٣٩) والمراد المعرفة.

وقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) (الغاشية : ٨) ، أراد بها في نعمة وكرامة ، والسامع يتوهم أنه أراد من النعومة.

وقوله : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) (الذاريات : ٤٧) أراد بالأيد القوة الخارجة.

وقوله : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) (الانسان : ١٩) ، أي مقرّطون تجعل في آذانهم القرطة ، والحلق الذي في الأذن يسمى قرطا وخلدة ، والسامع يتوهم أنه من الخلود.

وقوله : (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) (محمد : ٦) ، أي علّمهم منازلهم فيها ، أو يوهم إرادة العرف ، الذي هو الطيّب.

وقوله : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) (المائدة : ٤) (٢).

وقوله : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ) (التوبة : ٢١) فذكر «رضوان» مع «الجنات» مما يوهم إرادة خازن الجنات (٣).

وكان الأنصار يقولون : (راعِنا) (البقرة : ١٠٤) أي أرعنا (٤) سمعنا (٥) وانظر إلينا ٣ / ٤٤٦ والكفار يقولونها «فاعل» من الرعونة. وقال أبو جعفر (٦) : هي بالعبرانية ، [فلما عوتبوا] (٧)

__________________

(١) في المخطوطة (وتوهم).

(٢) زيادة عبارة في المخطوطة بعد الآية وهي (هل هي الكواكب).

(٣) في المخطوطة (الجنان).

(٤) في المخطوطة (أراعنا).

(٥) في المخطوطة (سمعك).

(٦) الطبري في تفسيره ١ / ٣٧٦.

(٧) ساقطة من المخطوطة.

٤٩٣

قالوا : إنما نقول مثل ما يقول المسلمون ، فنهي المسلمون عنها (١).

وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (الشورى : ٢٨) فقوله : [(الْوَلِيُ) هو] (٢) من أسماء الله [تعالى] (٣) ، ومعناه الوليّ لعباده (٤) بالرحمة والمغفرة ، وقوله : (الْحَمِيدُ) يحتمل أن يكون من «حامد» لعباده المطيعين ، أو «محمود» في السراء والضراء ، وعلى هذا فالضمير راجع إلى الله سبحانه.

ويحتمل أن يكون الوليّ من أسماء المطر (٥) ، وهو مطر الربيع ، والحميد بمعنى المحمود ، وعلى هذا فالضمير عائد على الغيث.

وقوله : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) (يوسف : ٤٢) ، فإن لفظة «ربك» رشحت لفظة «ربّه» لأن تكون (٦) تورية ؛ إذ يحتمل أنه أراد بها الإله سبحانه والملك ، فلو اقتصر على قوله : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) (يوسف : ٤٢) ، ولم تدلّ لفظة «ربه» إلا على الإله فلما تقدمت لفظة «ربك» احتمل المعنيين.

تنبيه

كثيرا ما تلتبس التورية بالاستخدام ؛ والفرق (٧) بينهما أن التورية استعمال المعنيين في (٨) اللفظ وإهمال الآخر ؛ وفي الاستخدام استعمالهما معا بقرينتين.

٣ / ٤٤٧ وحاصله أنّ المشترك إن استعمل في مفهومين (٩) معا فهو الاستخدام ؛ وإن أريد أحدهما مع لمح الآخر باطنا فهو التورية.

ومثال الاستخدام قوله تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ* يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) (الرعد : ٣٨ ـ ٣٩) ، فإنّ لفظة «كتاب» يراد بها الأمد المحتوم والمكتوب ، وقد توسطت بين

__________________

(١) لتمام الفائدة راجع تفسير الطبري ١ / ٣٧٣ ـ ٣٧٦.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) في المخطوطة (بعباده).

(٥) العبارة في المخطوطة (من أسماء الله المطر). تصحيف.

(٦) في المطبوعة (يكون).

(٧) في المطبوعة (والفراق).

(٨) في المخطوطة (من اللفظ).

(٩) في المخطوطة (مفهوميه).

٤٩٤

لفظتين ، فاستخدمت أحد مفهوميها ، وهو الأمد واستخدمت «يمحو» المفهوم الآخر ، وهو المكتوب.

وقوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ (١) [وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ] (١)) (النساء : ٤٣) ؛ فإن الصلاة تحتمل إرادة نفس الصلاة (٢) ، وتحتمل إرادة موضعها (٣) فقوله : (حَتَّى تَعْلَمُوا) (النساء : ٤٣) استخدمت إرادة نفس الصلاة ، وقوله [٢٤٣ / ب] : (إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ) (النساء : ٤٣) ، استخدمت إرادة موضعها.

التجريد

٣ / ٤٤٨ وهو أن تعتقد أن في الشيء من نفسه معنى آخر ، كأنه مباين له ، فتخرج ذلك إلى ألفاظه بما (٤) اعتقدت ذلك ، كقولهم : لئن لقيت زيدا لتلقينّ معه (٥) الأسد ، ولئن سألته لتسألنّ منه البحر. فظاهر هذا أن فيه من نفسه أسدا وبحرا (٦) وهو عينه هو (٧) الأسد والبحر ؛ لا أنّ هناك شيئا منفصلا (٨) عنه ، كقوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (آل عمران : ١٩٠) ، فظاهر هذا أن في العالم من نفسه آيات ، (٩) وهو عينه ونفسه تلك الآيات (٩).

وكقوله (١٠) تعالى : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١١) (البقرة : ٢٦٠) ، وإنما هذا ناب عن قوله : «واعلم أنّي عزيز حكيم».

ومنه قوله (١٢) تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ]) (١٣) (ق : ٣٧).

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٢) تكررت هذه العبارة في المخطوطة.

(٣) زيادة عبارة مضطربة في المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (لما).

(٥) في المخطوطة (منه).

(٦) في المخطوطة (أسد ونحر).

(٧) في المخطوطة (وهو).

(٨) في المخطوطة (منفعلا).

(٩) تكررت هذه العبارة في المخطوطة.

(١٠) في المخطوطة (وقوله).

(١١) الآية في المخطوطة (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (البقرة : ٢٥٩).

(١٢) في المخطوطة (وقوله).

(١٣) تمام الآية ليس في المطبوعة.

٤٩٥

وقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب : ٢١).

وقوله : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) (فصلت : ٢٨) ، ليس المعنى أن الجنّة فيها دار خلد وغير دار خلد ، بل [كلّها] (١) دار خلد ؛ فكأنك (٢) لما قلت : في الجنة دار الخلد اعتقدت أن الجنة منطوية على دار نعيم ودار أكل وشرب وخلد ، فجردت منها هذا الواحد ، كقوله :

وفي الله إن لم تنصفوا حكم عدل (٣)

٣ / ٤٩٩ وقوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) (الأنعام : ٩٥) ، على أحد التأويلات في الآية عن ابن مسعود : «هي النطفة تخرج من الرجل ميّتة ، وهو حيّ ، ويخرج الرجل منها حيّا وهي ميتة (٤) ، قال ابن عطية : في تفسيره هذه الآية : إن لفظة الإخراج في تنقل النطفة حتى تكون رجلا ، إنما هو عبارة عن تغيير الحال ، كما تقول في صبّي جيّد البنية : يخرج من هذا رجل قويّ.

وقد يحتمل قوله : (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) (الأنعام : ٩٥) ، أي الحيوان كله ميتة ، ثم (٥) يحييه قال : وهو معنى التجريد.

وذكر الزمخشريّ (٦) أن عمرو بن عبيد (٧) قرأ في قوله تعالى : (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (الرحمن : ٣٧) ، بالرفع ، بمعنى حصلت منها وردة ، قال : وهو من التجريد.

وقرأ عليّ وابن عباس في سورة مريم : يرثني وارث من آل يعقوب (مريم : ٦) ، (٨) [قال ابن جنّي (٩) : هذا هو التجريد ، وذلك أنه يريد : وهب لي من لدنك وليّا يرثني منه وارث من آل يعقوب] (٨) ، وهو الوارث نفسه ، فكأنه جرّد منه وارثا.

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (وكأنك).

(٣) البيت لأبي الخطار الكلبي ذكره ابن جني في الخصائص ٢ / ٤٧٥ ، باب التجريد. وصدره أقادت بنو مروان ظلما دماءنا وهو في لسان العرب ١٢ / ١٤٢ مادة (حكم).

(٤) أخرجه الطبري في التفسير ٣ / ١٤٩ ، وهو المرجح عنده.

(٥) تصحفت في المخطوطة إلى (لم).

(٦) الكشاف ٤ / ٥٣.

(٧) تصحف الاسم في المخطوطة إلى (عبيد بن عمير) وهو عمرو بن عبيد أبو عثمان البصري ، الزاهد العابد ، القدري كبير المعتزلة ، روى عن أبي العالية وأبي قلابة ، والحسن البصري وعنه الحمادان ، وابن عيينة. قال النسائي : ليس بثقة. وقال ابن المبارك : دعا إلى القدر فتركوه له كتاب «العدل» و «التوحيد» وغيرهما. ت ١٤٤ ه‍ (سير أعلام النبلاء ٦ / ١٠٤).

(٨) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٩) انظر المحتسب لابن جني ٢ / ٣٨.

٤٩٦

التجنيس

٣ / ٤٥٠ وهو إمّا بأن تتساوى حروف الكلمتين ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) (الروم : ٥٥).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (الصافات : ٧٢ ـ ٧٣) ، وفي ذلك ردّ على من قال (١) : ليس منه في القرآن غير الآية الأولى.

وإما بزيادة في إحدى الكلمتين ، كقوله تعالى : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ* إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (القيامة : ٢٩ ـ ٣٠).

وإما لاحق ، بأن يختلف أحد الحرفين ، كقوله : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ* وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات : ٧ ـ ٨).

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (القيامة : ٢٢ ـ ٢٣).

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) (الأنعام : ٢٦).

(بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) (غافر : ٧٥).

وقوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ [أَوِ الْخَوْفِ]) (٢) (النساء : ٨٣).

وإما في الخطّ ، وهو أن تشتبها (٣) في الخط لا اللفظ ، كقوله تعالى : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف : ١٠٤).

وقوله : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء : ٧٩ ـ ٨٠).

وأما في السمع لقرب أحد المخرجين من الآخر ، كقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (القيامة : ٢٢ ـ ٢٣).

تنبيهات

الأول : نازع ابن أبي الحديد (٤) في الآية الأولى وقال : عندي أنه ليس بتجنيس أصلا ،

__________________

(١) هو ابن الأثير الجزري ، وانظر كتابه المثل السائر : ٢٤٦.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (يشتبها).

(٤) هو عبد الحميد بن هبة الله المعتزلي تقدم في ٢ / ٢٥١. وانظر كتابه الفلك الدائر : ١٣.

٤٩٧

وأن الساعة في الموضعين بمعنى واحد ، والتجنيس أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى ، وألا تكون إحداهما حقيقة والأخرى مجازا ؛ بل تكونا (١) حقيقتين ؛ وإنّ زمان القيامة (٢) ـ وإن طال ـ لكنّه عند الله [تعالى] (٣) في حكم الساعة الواحدة ؛ لأنّ قدرته (٤) لا يعجزها [٢٤٤ / أ] أمر ، ولا يطول عندها زمان ؛ فيكون إطلاق لفظة «الساعة» على أحد الموضعين حقيقة ، وعلى الآخر مجازا ؛ وذلك يخرج الكلام من التجنيس ؛ كما لو قلت (٥) : ركبت حمارا ، ولقيت حمارا ، وأردت بالثاني البليد (٦). وأيضا لا يجوز (٧) أن يكون المراد بالساعة الساعة الأولى خاصّة (٨) ؛ وزمان البعث ، فيكون لفظ الساعة مستعملا في الموضعين حقيقة بمعنى واحد ؛ فيخرج عن (٩) التجنيس.

***

الثاني : يقرب منه الاقتضاب ، وهو أن تكون الكلمات يجمعها أصل واحد في اللغة ، كقوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) (الروم : ٤٣).

وقوله : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) (البقرة : ٢٧٦).

وقوله : (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) (الواقعة : ٨٩).

٣ / ٤٥٢ وقوله : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (فصلت : ٥١).

(قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) (الشعراء : ١٦٨).

(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) (الرحمن : ٥٤).

(يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) (يوسف : ٨٤).

(تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (النور : ٣٧).

__________________

(١) في المخطوطة (يكونا).

(٢) في المخطوطة (القيد).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (قدرها).

(٥) في المخطوطة (قال).

(٦) في المخطوطة (البلبل).

(٧) عبارة المخطوطة (وأيضا لم لا يجوز).

(٨) في المخطوطة (حاضر).

(٩) في المخطوطة (من).

٤٩٨

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) (الأنعام : ٧٩).

(اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [أَرَضِيتُمْ]) (١) (التوبة : ٣٨).

***

الثالث : اعلم أن الجناس من المحاسن اللفظية لا المعنوية ، ولهذا تركوه عند قوة المعنى بتركه ؛ ولذلك (٢) مثالان :

أحدهما قوله : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) (الصافات : ١٢٥) ، فذكر الرازي في «تفسيره» (٣) : «أن الكاتب الملقب بالرشيد (٤) ، قال : لو قيل : «أتدعون بعلا وتدعون أحسن الخالقين». [لكان] (٥) تحصل (٦) به رعاية معنى التجنيس أيضا ؛ مع كونه موازنا ل «تذرون».

وأجاب الرازي : بأن فصاحة القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكلّفات ، بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ».

وقال بعضهم : مراعاة المعاني أولى من مراعاة الألفاظ ، فلو كان «أتدعون» «وتدعون» ٣ / ٤٥٣ كما قال هذا القائل لوقع الإلباس على القارئ فيجعلهما بمعنى واحد تصحيفا منه ، وحينئذ (٧) فينخرم اللفظ ، إذا قرأ و «تدعون» الثانية بسكون الدال ؛ لا سيما وخط المصحف الإمام لا ضبط فيه ولا نقط.

قال : ومما صحّف من القرآن بسبب ذلك وليس بقراءة قوله تعالى : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) (الأعراف : ١٥٦) بالسين المهملة.

وقوله : (إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) (التوبة : ١١٤) بالباء الموحدة.

وقوله : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس : ٣٧) بالعين المهملة.

وقرأ ابن عباس : «من تدعون» (٨) على الاستفهام.

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) في المخطوطة (ولهذا).

(٣) انظر ٢٦ / ١٦١ و١٦٢.

(٤) في المطبوعة (بالرشيدي) وما صوبناه من المخطوطة وتفسير الرازي.

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) في المخطوطة (يحصل).

(٧) في المخطوطة (حينئذ).

(٨) تصحفت في الأصول إلى (فرعون) والتصويب من السياق السابق.

٤٩٩

قلت : وأجاب الجويني (١) عن هذا بما يمكن أن يتخلّص منه : أن «يذر» (٢) أخصّ من «يدع» (٣) وذلك لأن (٤) الأول بمعنى ترك الشيء اعتناء (٥) ، بشهادة الاشتقاق ، نحو الإيداع ، فإنه عبارة عن ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها ، ولهذا يختار لها من هو مؤتمن عليها ؛ ومن ذلك الدّعة بمعنى الراحة (٦). وأما «تذر» فمعناها الترك مطلقا ، والترك (٧) مع الإعراض والرّفض (٨) الكليّ ؛ ولا شكّ أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول ؛ فأريد هنا تبشيع حالهم في الإعراض عن ربهم ، وأنهم بلغوا الغاية في الإعراض.

قلت : ويؤيده قول الراغب (٩) : يقال : فلان (١٠) يذر الشيء أي يقذفه لقلة الاعتداد (١١) به. والوذرة (١٢) قطعة من اللحم لقلة الاعتداد به ، نحو (١٣) قولهم : «هو لحم على وضم» ، قال تعالى : (أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) (الأعراف : ٧٠) ، وقال تعالى : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) (الأعراف : ١٢٧) ، (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (الأنعام : ١١٢) (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) (البقرة : ٢٧٨) وإنما قال : (تَذَرُونَ) ولم يقل «تتركون» و «تخلّفون» لذلك. انتهى.

وعن الشيخ كمال الدين ابن الزملكانيّ (١٤) [أنه أجاب] (١٥) عن هذا السؤال بأنّ التجنيس تحسين ، وإنما يستعمل في مقام الوعد والإحسان ؛ وهذا مقام تهويل ، والقصد فيه المعنى ، فلم يكن لمراعاة اللفظة (١٦) فائدة.

وفيه نظر ، فإنه ورد في قوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ...) [٢٤٤ / ب]([ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ]) (١٧) (الروم : ٥٥).

__________________

(١) كذا في المخطوطة والمطبوعة وفي الإتقان ٣ / ٣٧٤ (الخويي).

(٢) في المخطوطة (يدع) تصحيف.

(٣) في المخطوطة (يذر) تصحيف.

(٤) في المخطوطة (أن).

(٥) في المخطوطة (اعتنى به).

(٦) في المخطوطة (الراعة) تصحيف.

(٧) في المخطوطة (أو الترك).

(٨) في المخطوطة (واللفظ).

(٩) انظر المفردات : ٥١٨ مادة (وذر).

(١٠) في المطبوعة (فلا) تصحيف.

(١١) في المخطوطة (اعتياده).

(١٢) في المطبوعة (والوزرة). وفي المخطوطة (ومنه الوذرة).

(١٣) في المخطوطة (في نحو).

(١٤) تقدم التعريف به في ١ / ١٣٥.

(١٥) ساقطة من المخطوطة.

(١٦) في المخطوطة (اللفظ).

(١٧) ليست في المطبوعة.

٥٠٠