البرهان في علوم القرآن - ج ٣

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٣

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٩

ثم قال : «خالدين» وهو حال من الضمير.

وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) (الأنعام : ٢٥).

و [قوله] (١) : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) (التوبة : ٤٩).

و [قوله] (١) : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ [لَنَصَّدَّقَنَ]) (٢) ...

(التوبة : ٧٥) إلى قوله : (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) (التوبة : ٧٦).

وقد يجري الكلام على أوله في الإفراد ، كقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ ...) (البقرة : ٢٠٤) الآيتين ، فكرر فيها ثمانية ضمائر ، كلّها عائد على لفظ «من» ، ولم يرجع منها شيء على معناها ، مع أن المعنى على الكثرة.

وقد يقتصر على معناها في الجميع ، كقوله تعالى في سورة يونس : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) (يونس : ٤٢). وما ذكرنا من البداءة باللفظ عند الاجتماع هو الكثير ، قال الشيخ علم الدين العراقي (٣) : ولم يجيء في القرآن البداءة بالحمل على المعنى إلا في موضع واحد ؛ وهو قوله تعالى : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) (الأنعام : ١٣٩) فأنث «خالصة» حملا على معنى «ما» ، ثم راعى اللفظ فذكّر ؛ وقال : (وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا).

واعترض بعض الفضلاء وقال : إنما يتمّ ما قاله من البداءة بالحمل على المعنى في ذلك ؛ إذا كان الضمير الذي في الصّلة التي [هي] (٤) في بطون هذه الأنعام يقدر مؤنثا ؛ أما (٥) إذا قدر مذكّرا فالبداءة إنما هو بالحمل على اللفظ.

وأجيب بأنّ اعتبار اللفظ والمعنى أمر يرجع إلى الأمور التقديرية ؛ لأن اعتبار الأمرين أو

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) هو عبد الكريم بن علي بن عمر تقدم التعريف به في ٣ / ١٠٢.

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) عبارة المخطوطة (وإذا).

٤٤١

أحدهما إنما يظهر في اللفظ ؛ وإذا كان كذلك صدق أنّه إنما بدئ في الآية بالحمل على المعنى ؛ فيتم كلام (١) العراقيّ.

ونقل الشيخ أبو حيان في «تفسيره» (٢) عن ابن عصفور (٣) : أن الكوفيّين لا يجيزون الجمع بين الجملتين إلا بفاصل بينهما ؛ ولم يعتبر البصريون الفاصل ، قال : ولم يرد السماع إلا بالفاصل ، كما ذهب إليه الكوفيون. ونازعه الشيخ أثير الدين (٤) بقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (البقرة : ١١١) ، وقال : ألا تراه كيف جمع بين الجملتين دون فصل! انتهى.

والذي ذكره ابن عصفور في «شرح المقرب» (٥) [له] (٦) : شرط الكوفيون في جواز اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى الفصل ؛ فيجوّزون : من يقومون اليوم وينظر في أمرنا إخوتنا ، [ولا يجوّزون : من يقومون وينظر في أمرنا إخوتنا ؛] (٧) لعدم الفصل ، وإنما [٢٣٣ / أ] ورد السماع بالفصل. انتهى.

وهذا يقتضي أنّ الكوفيين لا يشترطون الفصل عند اجتماع الجملتين ؛ إلا أن يقدّم اعتبار المعنى ويؤخّر اعتبار اللفظ كما في قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (البقرة : ١١١) إنما بدئ فيه بالحمل على اللفظ.

وقال ابن الحاجب (٨) : إذا حمل على اللفظ جاز الحمل بعده على المعنى ؛ وإذا حمل على المعنى ضعف الحمل بعده على اللفظ ؛ لأن المعنى أقوى ، فلا يبعد الرجوع إليه بعد اعتبار اللفظ ، ويضعف بعد اعتبار المعنى القويّ الرجوع إلى الأضعف (٩).

__________________

(١) عبارة المخطوطة (بالحمل على معنى كلام العراقي).

(٢) انظر البحر المحيط ١ / ٣٥٠ عند تفسير الآية (١١١) من سورة البقرة ، وفي ٤ / ٢٣٢ عند تفسير الآية (١٣٩) من سورة الأنعام ، فقد ذكر قول شيخه علم الدين العراقي ، الذي أورده الزركشي آنفا.

(٣) هو علي بن مؤمن تقدم التعريف به في ١ / ٤٦٦.

(٤) هو محمد بن يوسف بن علي الغرناطي أثير الدين ، أبو حيان الاندلسي صاحب «البحر المحيط» السابق ذكره.

(٥) حققه عبد الرحمن محمد العمار كرسالة ماجستير بجامعة الإمام محمد بن سعود كلية اللغة العربية بالرياض سنة ١٤٠١ ه‍ / ١٩٨١ م (النشرة الإخبارية ٣ / ٧).

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) ليست في المخطوطة.

(٨) هو عثمان بن عمر بن أبي بكر تقدم التعريف به في ١ / ٤٦٦.

(٩) عبارة المخطوطة (الرجوع إلى ضعف).

٤٤٢

وهذا معترض بأن الاستقراء دلّ على أن اعتبار اللفظ أكثر من اعتبار المعنى ، وكثرة موارده تدل على قوله ؛ وأما العود إلى اللفظ بعد اعتبار المعنى فقد ورد به (١) التنزيل ، كما ورد باعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ ، فثبت أنه يجوز الحمل على كل واحد منهما ، بعد الآخر من غير ضعف.

وأما قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً [نُؤْتِها]) (٢) (الأحزاب : ٣١) فقرأه الجماعة بتذكير «يقنت» حملا على لفظ «من» في التذكير «وتعمل» بالتأنيث ، حملا على معناها ؛ لأنها للمؤنث. وقرأ حمزة والكسائي «يعمل» (٣) بالتذكير فيهما حملا على لفظها رعاية للمناسبة في المتعاطفين. وتوجيه الجماعة أنّه لما تقدم على الثاني صريح التأنيث في «منكنّ» حسن الحمل على المعنى.

وقال أبو الفتح في «المحتسب» (٤) : لا يجوز مراجعة اللفظ بعد انصرافه عنه إلى المعنى. وقد يورد عليه قوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف : ٣٦ ـ ٣٧) ثم قال : (حَتَّى إِذا جاءَنا) (الزخرف : ٣٨) ، فقد راجع (٥) اللفظ بعد الانصراف عنه إلى المعنى ؛ إلا أن يقال : إن الضمير في «جاء» يرجع إلى الكافر لدلالة السياق عليه ؛ لا إلى «من».

ومنه الفرق بين «أسقى» و «سقى» بغير همز ؛ لما [لا] (٦) كلفة معه في السقيا ؛ ومنه قوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (الدهر : ٢١) فأخبر أن السقيا في الآخرة لا يقع فيها كلفة ، بل جميع ما يقع فيها من الملاذّ يقع فرصة وعفوا ، بخلاف «أسقى» بالهمزة ،

__________________

(١) في المخطوطة (بها).

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) قال البنا في إتحاف فضلاء البشر ص ٣٥٥ عند سورة الأحزاب : (واختلف في ويعمل صالحا نؤتها فحمزة والكسائي وخلف بياء التذكير فيهما ، على إسناد الأول إلى لفظ «من» ، والثاني لضمير الجلالة لتقدمها ووافقهم الأعمش ؛ والباقون بتاء التأنيث في «يعمل» على إسناده لمعنى «من» وهن النساء).

(٤) انظر «المحتسب» لابن جني ٢ / ١٧٩ عند سورة الأحزاب ، ولكن نص هذه العبارة أقرب ما يكون من عبارة «الخصائص» له ٢ / ٤٢٠ فصل في الحمل على المعنى ، وقد تقدم التعريف «بالمحتسب» في ١ / ٤٨١.

(٥) في المخطوطة (فراجع).

(٦) ليست في المخطوطة.

٤٤٣

فإنه لا بدّ فيه من الكلفة بالنسبة للمخاطبين (١) ؛ كقوله تعالى : (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) (المرسلات : ٢٧) ، (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) (الجن : ١٦) ، لأن الإسقاء في الدنيا لا يخلو من الكلفة أبدا.

و [منه] (٢) قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (الحجر : ١٩) ، قال أبو مسلم (٣) محمد بن بحر الأصبهاني في «تفسيره» (٤) إنما خصّ الموزون بالذكر دون المكيل ، لأمرين :

أحدهما : أن غاية المكيل ينتهي إلى الموزون ، لأن سائر المكيلات إذا صارت قطعا دخلت في باب الموزون وخرجت عن المكيل ، فكان الوزن أعمّ من المكيل.

والثاني : أن في الموزون معنى المكيل ؛ لأن الوزن هو طلب مساواة الشيء بالشيء ومقايسته وتعديله به ، وهذا المعنى ثابت في المكيل ، فخصّ الوزن بالذكر لاشتماله على معنى المكيل.

وقال الشريف المرتضى في «الغرر» (٥) : هذا خلاف المقصود ؛ بل المراد بالموزون القدر (٦) الواقع بحسب الحاجة ، فلا يكون ناقصا عنها ولا زائدا عليها زيادة مضرّة.

ومنه قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً) (العنكبوت : ١٤) ، فذكر في مدة اللّبث السنة ، وفي الانفصال العام ؛ للإشارة إلى (٧) أنه كان في شدائد في مدته كلّها ،

__________________

(١) عبارة المخطوطة (إلى المخاطبين).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) تصحفت كنيته في المطبوعة إلى (أبو سلمة) ، وفي المخطوطة (أبو مسلمة) تقدم التعريف به في ٢ / ٣٧٧.

(٤) ذكره ياقوت في معجم الأدباء ١٨ / ٣٦ فقال (وله من الكتب : كتاب «جامع التأويل لمحكم التنزيل» على مذهب المعتزلة أربعة عشر مجلدا) ، وقد طبع قسم منه باسم «ملتقط جامع التأويل لمحكم التنزيل» عنى بترتيبه سعيد الأنصاري كلكتا ١٣٤٨ ه‍ / ١٩٢٩ م (معجم الدراسات القرآنية ص ٥٩١).

(٥) هو علي بن الحسين بن موسى تقدم التعريف به في ٣ / ١٢٤ ، وكتابه «غرر الفوائد ودرر القلائد» المعروف «بأمالي المرتضى» طبع في الهند سنة ١٢٧٢ ه‍ / ١٨٥٥ م ، ثم طبع في القاهرة مطبعة السعادة سنة ١٣٢٥ ه‍ / ١٩٠٧ م (معجم سركيس : ١١٢٤) ، ثم طبع في القاهرة بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم مطبعة عيسى البابي الحلبي سنة ١٣٧٤ ه‍ / ١٩٥٤ م (معجم المنجد ١ / ٨١) ، ثم صورته دار الكتاب العربي عن طبعة محمد أبو الفضل إبراهيم سنة ١٤٠٠ ه‍ / ١٩٨٠ م.

(٦) في المخطوطة (المقدار).

(٧) في المخطوطة (إلا أنه).

٤٤٤

إلا خمسين عاما قد جاءه الفرج والغوث ؛ فإن السّنة تستعمل غالبا في موضع الجدب ؛ ولهذا سمّوا شدة القحط سنة.

قال السّهيليّ (١) : ويجوز أن يكون الله سبحانه قد علم أن عمره كان ألفا ؛ إلا أن الخمسين منها كانت أعواما ، فيكون (٢) عمره ألف [٢٣٣ / ب] سنة ينقص منها ما بين السنين الشمسية والقمرية في الخمسين خاصة ؛ لأن الخمسين عاما بحسب الأهلّة أقل من خمسين سنة شمسية ، بنحو [من] (٣) عام ونصف.

وابن على هذا المعنى قوله : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج : ٤) وقوله : (أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (السجدة : ٥) ؛ فإنه كلام ورد في موضع التكثير والتتميم بمدّة ذلك اليوم ، والسنة أطول من العام.

النّحت

نحو الحوقلة والبسملة ، جعله ابن الزملكاني (٤) من نظوم القرآن ، ومثّله بقوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (النساء : ٧٩) ، قال : وكفى (٥) ، من كفيته الشيء ؛ ولم يجيء للعرب كفيته بالشيء ، فجعل بين الفعلين الفعل المذكور ؛ وهو متعدّ ، وخصّ من الفعل اللازم وهو اكتفيت به ، بالباء ، وكذلك انتصب «شهيدا» على التمييز أو الحال ؛ كأنه قيل : كفى بالله [فاكتف به] (٦) ، فاجتمع فيه الخبر والأمر.

الإبدال

من كلامهم إبدال الحروف ، وإقامة بعضها مقام بعض ؛ يقولون : مدحه ومدهه ، وهو كثير ، ألف فيه المصنفون ، وجعل منه ابن فارس (٧) «قوله تعالى : (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ

__________________

(١) هو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد تقدم التعريف به في ١ / ٢٤٢.

(٢) عبارة المخطوطة (مكان ألفا إلا خمسين منها كانت أعواما ، فكان عمره ألف ، ينقص منها ...).

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) هو عبد الواحد بن عبد الكريم تقدم التعريف به في ١ / ١٣٥.

(٥) في المخطوطة (كيف من كفيته).

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) هو أحمد بن فارس بن زكريا تقدم التعريف به في ١ / ١٩١ وانظر قوله في كتابه «الصاحبي» ص ١٧٣ باب الإبدال.

٤٤٥

كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (الشعراء : ٦٣) ، فقال : فالراء واللام متعاقبان ، كما تقول العرب : فلق الصبح وفرقه. قال : وذكر عن الخليل ـ ولم أسمعه سماعا ـ أنه قال في قوله تعالى : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) (الاسراء : ٥) ، [إنما أراد «فحاسوا»] (١) فقامت الجيم مقام الحاء.

قال ابن فارس : وما أحسب الخليل قال هذا ، ولا أحقّه عنه».

قلت : ذكر ابن جني في «المحتسب» (٢) : «أنها قراءة أبي السّمال (٣) ، وقال : قال أبو زيد (٤) ـ أو غيره : قلت له : إنما هو «فجاسوا» ، فقال : حاسوا وجاسوا واحد. وهذا يدل على أنّ بعض القراء يتخير بلا رواية! ولذلك نظائر». انتهى.

وهذا الذي قاله ابن جني غير مستقيم ، ولا يحلّ لأحد أن يقرأ إلا بالرواية. وقوله : «إنهما بمعنى واحد» لا يوجب القراءة بغير الرواية كما ظنه أبو الفتح وقائل ذلك ، والقارئ به هو أبو السّوّار الغنويّ لا أبو السّمال فاعلم ذلك. كذلك أسنده الحافظ أبو عمرو الداني (٥) ، فقال : حدثنا المازنيّ ، قال : سألت أبا السّوار الغنوي ، فقرأ : «فحاسوا» بالحاء غير الجيم ، فقلت : إنما هو «فجاسوا» قال : حاسوا وجاسوا واحد ، يعني أن اللفظين بمعنى واحد ؛ وإن كان أراد أن القراءة بذلك تجوز في الصلاة ، والغرض كما جازت بالأولى ، فقد غلط في ذلك وأساء (٦).

٣ / ٣٨٩ وزعم الفارسيّ في «تذكرته» (٧) في قوله : (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) (ص : ٣٢) ، أنه

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) انظر «المحتسب» ٢ / ١٥ سورة بني إسرائيل ، و «البحر المحيط» لأبي حيان ٦ / ١٠ سورة الإسراء.

(٣) قعنب بن أبي قعنب أبو السّمّال بفتح السين وتشديد الميم وباللام العدوي البصري ، له اختيار في القراءة شاذ عن العامة رواه عنه أبو زيد ، سعيد بن أوس ، وأسند الهذلي قراءة أبي السمال عن هشام البربري عن عباد بن راشد عن الحسن عن سمرة عن عمر ، وهذا سند لا يصح. (ابن الجزري ، غاية النهاية ٢ / ٢٧) ، وعبارة المطبوعة (قراءة أبو السّمّال).

(٤) هو سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري تقدم التعريف به في ١ / ٤٧٠.

(٥) هو عثمان بن سعيد تقدم التعريف به في ١ / ١٤٩.

(٦) وانظر لابن خالويه «مختصر في شواذ القرآن» ص ٧٥ شواذ سورة الإسراء حيث قال («فحاشوا خلال الديار» بالحاء والشين أبو السّمّال ، «فجوّسوا خلال الديار» بتشديد الواو في بعض المصاحف) ، وقال الزمخشري في «الكشاف» ٢ / ٣٥٢ (وقرأ طلحة «فحاسوا» بالحاء ، وقرئ «فجوّسوا») ، وقال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ١٠ / ٢١٦ (وقرأ ابن عباس «حاسوا» بالحاء المهملة) ، فهذه القراءة من الشواذ حيث لم يوردها البنا في «إتحاف فضلاء البشر» وعن حكم القراءة بالشواذ في الصلاة انظر ما ذكره الزركشي سابقا في ١ / ٤٨١.

(٧) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي الفارسي تقدم التعريف به في ١ / ٣٧٥ ، وتقدم التعريف بكتابه «التذكرة» في ٢ / ٣٩٤.

٤٤٦

بمعنى حبّ الخيل ؛ وسميت الخيل خيرا لما يتصل بها من العز والمنعة كما روي : «الخيل معقود بنواصيها الخير» (١) ، وحينئذ فالمصدر مضاف إلى المفعول به.

وقيل في قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) (الحجر : ٢٢) : إن أصله «ملاقح» ، لأنه يقال : ألقحت الريح السحاب ، أي جمعته ، وكل هذا تفسير معنى ، وإلا فالواجب صون القرآن أن يقال فيه مثل ذلك.

وذكر أبو عبيدة (٢) في قوله : (إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً) (الأنفال : ٣٥) ، معناه «تصددة» ، فأخرج الدال الثانية ياء لكسرة الدال الأولى ، كما حكاه صاحب «الترقيص» (٣).

وحكي عن أبي رياش في قول امرئ القيس (٤) :

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسلي

معناه «تنسلل» فأخرج اللام الثانية ياء لكسرة اللام الأولى ؛ ومثله قول الآخر :

وإنّي لأستنعي وما بي نعسة

لعلّ خيالا منك يلقى خياليا (٥)

أراد [٢٣٤ / أ] أستنعس ؛ فأخرج السين ياء.

__________________

(١) في المخطوطة (الخير معقود بنواصي الخيل) ، ونص الحديث كما هو في المطبوعة ، أخرجه من رواية جرير بن عبد الله رضي‌الله‌عنه ، مسلم في الصحيح ٣ / ١٤٩٣ كتاب الإمارة (٣٣) ، باب الخيل في نواصيها الخير ... (٢٦) ، الحديث (٩٧ / ١٨٧٢).

(٢) هو معمر بن المثنى تقدم التعريف به في ١ / ٣٨٣ ، وانظر كتابه «مجاز القرآن» ١ / ٢٤٦ سورة الأنفال ، ولم نجد عبارة الزركشي عنده ، ولعل صاحب «الترقيص» تصرف في العبارة ونقل عنه الزركشي

(٣) هو محمد بن المعلى بن عبد الله الأزدي النحوي أبو عبد الله ، روى عن الفضل بن سهل وأبي كثير الأعرابي ، وله «شرح ديوان تميم بن مقبل وغير ذلك» (ياقوت ، معجم الأدباء ١٩ / ٥٥) ، وكتابه «الترقيص» ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون ١ / ٤٠١.

(٤) عجز بيت من ديوان امرئ القيس ص ٣٧ وصدره : وإن تك قد ساءتك مني خليقة ... ، وهو من معلقته ومطلعها :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل

أما أبو رياش فهو أحمد بن إبراهيم الشيباني اللغوي من أهل اليمامة ، روى عن مشايخ زمانه بالبصرة ، وكان فصيح اللسان روى عنه عبد السلام البصري وطبقته ت (٣٣٩ ه‍) (القفطي إنباء الرواة ١ / ٦٠).

(٥) البيت للمجنون ، ذكره الجرجاني في أسرار البلاغة ص ٢٥٩ فصل وهذا نوع آخر في التعليل ، وفيه «وإني لأستغشي».

٤٤٧

وقال الفارسيّ في «التذكرة» : قرأ الحسن (١) ـ أو من قرأ له ـ قوله تعالى : فيما حكى عن يعقوب (٢) في القلب والإبدال : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) (الأنعام : ١٤٥) ، «غير ٣ / ٣٩٠ عائد» ، واستحسنه الفارسي ألاّ يعود إليه كما يعود في حال السعة من العشاء إلى الغداء.

وقيل في قوله تعالى : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ [بِغَيْرِ عِلْمٍ]) (٣) (الأنعام : ١٠٠) : إنّ خرقه واخترقه ، وخلقه ، واختلقه بمعنى [واحد] (٣) ؛ هو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير (٤) ، وقول قريش في الملائكة.

وجوّز الزمخشري كونه (٥) من خرق الثوب ؛ إذا شقّه أي أنهم اشتقوا له بنين وبنات.

٣ / ٣٩١

المحاذاة

ذكره ابن فارس (٦) ، وحقيقته أن يؤتى باللفظ على وزن الآخر لأجل انضمامه (٧) إليه ؛ وإن كان لا يجوز فيه ذلك لو استعمل منفردا ؛ كقولهم : أتيته الغدايا والعشايا ، فقالوا : الغدايا لانضمامها إلى العشايا.

قيل : ومن هذا كتابة المصحف ، كتبوا : (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) (الضحى : ٢) بالياء ؛ وهو من ذوات الواو (٨) ؛ لما قرن بغيره مما يكتب بالياء.

ومنه قوله تعالى : (لَسَلَّطَهُمْ [عَلَيْكُمْ]) (٩) (النساء : ٩٠) فاللام التي [في] (١٠) (لَسَلَّطَهُمْ) جواب (لَوْ). ثم قال : (فَلَقاتَلُوكُمْ) فهذه حوذيت بتلك اللام ؛ وإلا فالمعنى : لسلّطهم عليكم فقاتلوكم (١١).

__________________

(١) عبارة المطبوعة (قرأ أبو الحسن) والصواب ما أثبتناه من المخطوطة ، وهو الحسن البصري.

(٢) هو يعقوب بن إسحاق الحضرمي أبو محمد المقرئ تقدم التعريف به في ١ / ٤٧٠.

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) عبارة المخطوطة (في العزير والمسيح) ، والإشارة هنا إلى قوله تعالى في سورة التوبة (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ...) الآية (٣٠) وانظر في قصة العزير تفسير ابن كثير ٢ / ٣٦١ ـ ٣٦٢.

(٥) انظر الكشاف ٢ / ٣١ عند تفسير الآية (١٠٠) من سورة الأنعام.

(٦) هو أحمد بن فارس وانظر قوله في كتابه «الصاحبي» ص ١٩٥ ـ ١٩٦ باب المحاذاة.

(٧) عبارة المخطوطة (بانضمامه).

(٨) في المخطوطة (من ذوات الياء) والصواب ما في المطبوعة.

(٩) ليست في المطبوعة.

(١٠) ليست في المخطوطة.

(١١) في المخطوطة (فلقاتلوكم) والصواب ما في المطبوعة.

٤٤٨

ومثله : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) (النمل : ٢١) فهما لا ما قسم ـ ثم قال : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي [بِسُلْطانٍ مُبِينٍ]) (١) ، فليس ذا موضع قسم ؛ لأنه حذر (٢) الهدهد ؛ فلم يكن ليقسم على الهدهد أن يأتي بعذر ، لكنه لما جاء به على أثر ما يجوز فيه القسم أجراه مجراه.

ومنه الجزاء على (٣) الفعل بمثل لفظه نحو : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ* اللهُ يَسْتَهْزِئُ ٣ / ٣٩٢ بِهِمْ) (البقرة : ١٤ ـ ١٥) أي مجازيهم جزاء الاستهزاء.

وقوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (آل عمران : ٥٤) (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) (التوبة : ٧٩). (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (الشورى : ٤٠).

قواعد (٤) في النفي

قد تقدّم في شرح معاني الكلام جمل من قواعده ؛ ونذكر هاهنا زيادات.

اعلم أنّ نفي الذات الموصوفة قد يكون نفيا للصفة دون الذات ، وقد يكون نفيا للذات.

وانتفاء النهي (٥) عن الذات الموصوفة قد يكون نهيا عن الذات ، وقد يكون نهيا عن الصفة دون الذوات ، قال الله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِ) (الإسراء : ٣٣) ، فإنه نهى عن القتل بغير الحق. وقال [تعالى] : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) (الأنعام : ١٥١).

ومن الثاني قوله : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) (المائدة : ٩٥) ، (وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران : ١٠٢) ، أي فلا يكون موتكم إلا على حال كونكم ميّتين على الإسلام ، فالنهي في الحقيقة [عن كونهم] (٦) على خلاف حال الإسلام ؛ كقول القائل : لا تصلّ إلا وأنت خاشع ، فإنه ليس نهيا عن [الصلاة ، بل عن] (٧) ترك الخشوع.

وقوله : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ...) (النساء : ٤٣) الآية.

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) كذا في الأصول ، ولكن عبارة «الصاحبي» (لأنه عذر للهدهد).

(٣) في المطبوعة (عن) والصواب ما في المخطوطة كما في عبارة «الصاحبي».

(٤) في المخطوطة (قاعدة).

(٥) في المخطوطة (النفي).

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) ليست في المخطوطة.

٤٤٩

وقد ذكروا أن النفي بحسب ما يتسلّط عليه يكون أربعة أقسام :

الأول : بنفي المسند نحو ، ما قام زيد بل قعد ، ومنه قوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) (البقرة : ٢٧٣) فالمراد نفي السؤال من أصله ؛ لأنهم متعفّفون ؛ ويلزم من نفيه نفي الإلحاف.

الثاني : أن ينفى المسند إليه ، فينتفي المسند ، نحو ما قام زيد [إذا كان زيد غير موجود ؛ لأنه يلزم من عدم زيد] (١) نفي القيام. ومنه قوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر : ٤٨) ، أي لا شافعين لهم فتنفعهم شفاعتهم.

ومنه قول الشاعر (٢) :

على لاحب لا يهتدى بمناره (٣)

أي : على طريق لا منار له ، فيهتدى به ؛ ولم يكن مراده أن يثبت المنار فينتفي الاهتداء به.

الثالث : أن ينفى المتعلق دون المسند [٢٣٤ / ب] والمسند إليه ، نحو ما ضربت زيدا بل عمرا.

الرابع : أن ينفى قيد المسند إليه أو المتعلق ؛ نحو ما جاءني رجل كاتب بل شاعر ، وما رأيت رجلا كاتبا بل شاعرا ؛ فلما كان النفي قد ينصبّ على المسند وقد ينصبّ على المسند إليه أو المتعلق ، وقد ينصبّ على القيد احتمل في قولنا : ما رأيت رجلا كاتبا. أن يكون المنفيّ هو القيد ؛ فيفيد الكلام رؤية غير الكاتب (٤) ؛ وهو احتمال مرجوح ؛ ولا يكون (٥) المنفيّ المسند ؛ أي الفعل ، بمعنى أنه لم يقع منه رؤية عليه ؛ لا على رجل ولا على غيره ؛ وهو في المرجوحية كالذي قبله.

نفي الشيء رأسا

لأنه عدم كمال وصفه أو لانتفاء ثمرته ، كقوله تعالى في صفة أهل النار : (لا يَمُوتُ فِيها

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) صدر بيت لامرئ القيس عجزه : إذا سافه العود النّباطي جرجرا. انظر ديوانه ص ٩٥ من قصيدة مطلعها : سما لك شوق بعد ما كان أقصرا* وحلّق سليمى بطن قوٍّ فعرعرا

(٣) في المطبوعة (لمناره) وما أثبتناه من المخطوطة والديوان.

(٤) في المخطوطة هنا زيادة هي (للمفهوم ، وهذا الاحتمال راجح أن يكون المنفي الواقع عليه الفعل وهو الرجل ، ويلزم من ذلك انتفاء رؤية الكاتب)

(٥) في المخطوطة (وأن يكون).

٤٥٠

وَلا يَحْيى) (طه : ٧٤) فنفى عنه الموت ، لأنه ليس بموت صريح ، ونفى عنه الحياة ، لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة ، كقوله تعالى : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) (الحج : ٢) أي ما هم بسكارى مشروب ولكن سكارى فزع.

وقوله : (لا يَنْطِقُونَ* وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (المرسلات : ٣٥ ـ ٣٦) ، وهم قد نطقوا بقولهم : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) (الأنعام : ٢٧) ، ولكنهم لما نطقوا بما لم ينفع فكأنهم لم ينطقوا.

وقوله : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) (الأعراف : ١٧٩).

وقوله : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (الملك : ١٠).

و [منه] (١) قوله : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (الأعراف : ١٩٨) ، فإنّ المعتزلة احتجوا [به] (١) على نفي الرؤية ، لأنّ النظر لا يستلزم الإبصار ، ولا يلزم من قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (القيامة : ٢٣) إبصار.

وهذا وهم ، لأن الرؤية تقال (٢) على أمرين : أحدهما الحسبان [كقوله : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) (الحج : ٢) أي تحسبهم] (٣) ، الثاني العلم ، [(ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى) (غافر : ٢٩) والرؤية في] (٣) الآية من المعنى الأول ، أي تحسبهم ينظرون إليك ؛ لأنّ لهم أعينا (٤) مصنوعة بأجفانها وسوادها يحسب الإنسان أنها تنظر إليه بإقبالها عليه ، وليست تبصر شيئا.

ومنه : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) (التوبة : ١٢).

ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة : ١٠٢) ؛ فإنّه وصفهم أولا بالعلم على سبيل التوكيد القسميّ ، ثم نفاه أخيرا عنهم لعدم جريهم على موجب العلم ؛ كذا قاله السكاكي (٥) وغيره.

وقد يقال : لم يتوارد النفي والإثبات على محلّ واحد ، لأنّ المثبت أولا نفس العلم ، والمنفي إجراء (٦) العمل بمقتضاه ، ويحتمل حذف المفعولين أو اختلاف أصحاب الضميرين.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (تفاد).

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) في المخطوطة (لأنهم أعين).

(٥) هو أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي تقدم التعريف به في ١ / ١٦٣ ، وانظر قوله في كتابه «مفتاح العلوم» ص ١٧٢ الفن الأول في تفصيل اعتبارات الإسناد الخبري ، ومنه الخبر الإنكاري.

(٦) في المخطوطة (آخر).

٤٥١

قال : ونظيره في النفي والإثبات قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (الأنفال : ١٧).

قلت : المنفيّ أولا التأثير ، والمثبت ثانيا نفس الفعل.

ومن هذه القاعدة يزول الإشكال في قوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (المائدة : ٦٧) والمعنى : إن لم تفعل بمقتضى ما بلغت فأنت في حكم غير المبلّغ ، كقولك لطالب العلم إن لم تعمل بما علمت فأنت لم تعلم شيئا ، أي في حكم من لم يعلم.

***

ومنه نفي الشيء مقيدا والمراد نفيه مطلقا ؛ وهذا من أساليب العرب يقصدون به المبالغة في النفي وتأكيده ، كقولهم : فلان لا يرجى خيره ، ليس المراد أن فيه خيرا لا يرجى ، [وإنما] (١) غرضهم أنه (٢) لا خير فيه على وجه من الوجوه.

ومنه : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) (آل عمران : ٢١) فإنه يدلّ أنّ قتلهم لا يكون إلا بغير حقّ ، ثم وصف القتل بما لا بد أن يكون [عليه] (١) من الصفة ، [٢٣٥ / أ] وهي وقوعه (٣) على خلاف الحق.

وكذلك قوله : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) (المؤمنون : ١١٧) إنها وصف لهذا الدعاء ، وأنه لا يكون إلا [عن] (٤) غير برهان.

وقوله : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) (البقرة : ٤١) ، تغليظ وتأكيد في تحذيرهم الكفر.

وقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) (البقرة : ٤١) ؛ لأنّ كلّ ثمن لها لا يكون إلا قليلا ، فصار نفي الثمن القليل نفيا لكل ثمن.

وقوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) (البقرة : ٢٧٣) ، فإنّ ظاهره نفي الإلحاف في المسألة ، والحقيقة نفي المسألة البتة ؛ وعليه أكثر المفسرين ، بدليل قوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) (البقرة : ٢٧٣) ، ومن لا يسأل لا يلحف قطعا ؛ ضرورة أنّ نفي الأعمّ يستلزم نفي الأخصّ.

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) في المخطوطة (أن).

(٣) تصحفت في المخطوطة إلى (قوله).

(٤) ليست في المخطوطة.

٤٥٢

ومثله قوله : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ [يُطاعُ]) (١) (غافر : ١٨) ، ليس المراد نفي الشفيع بقيد الطاعة ؛ بل نفيه مطلقا ؛ وإنما قيّده بذلك لوجوه :

أحدها : أنه تنكيل بالكفار ؛ لأنّ أحدا لا يشفع إلا بإذنه ؛ وإذا شفّع يشفّع ، لكن الشفاعة مختصّة بالمؤمنين ، فكان نفي الشفيع المطاع تنبيها على حصوله لأضدادهم ؛ كقولك لمن يناظر شخصا ذا صديق نافع : لقد حدّثت صديقا نافعا ، وإنما تريد التنويه بما حصل لغيره ، لأنّ له صديقا ولم ينفع.

الثاني : أنّ الوصف اللازم للموصوف ليس بلازم أن يكون للتقييد ؛ بل بدل الأعراض (٢) من تحسينه أو تقبيحه ، نحو : له مال يتمتع به ، وقوله تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) (سبأ : ٤٤) (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (البقرة : ١٧٤).

الثالث : قد يكون الشفيع غير مطاع في بعض الشفاعات ، وقد ورد في بعض الحديث ما يوهم صورة الشفاعة من غير إجابة ، كحديث الخليل مع والده يوم القيامة (٣) ؛ وإنما دلّ على التلازم دليل الشرع.

وقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) (الإسراء : ١١١) أي [من] (٤) خوف الذلّ ، فنفى الوليّ لانتفاء خوف الذلّ ؛ فإن اتخاذ الوليّ فرع عن خوف الذل وسبب عنه.

وقوله [تعالى] : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (البقرة : ٢٥٥) ، نفى الغلبة ؛ والمراد نفي أصل النوم [لا النوم] (٥) والسّنة عن ذاته ؛ ففي الآية التصريح بنفي النوم وقوعا وجوازا ، أمّا

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المطبوعة (بل يدلّ لأغراض).

(٣) إشارة إلى حديث أخرجه البخاري في الصحيح ٦ / ٣٨٧ كتاب الأنبياء (٦٠) ، باب قول الله تعالى (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (النساء : ١٦٥) ... ، الحديث (٣٣٥٠) ونصّه : عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغيرة ، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم : يا رب إنّك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون ، فأيّ خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى : إني حرّمت الجنة على الكافرين. ثمّ يقال : يا إبراهيم ما تحت رجليك ، فينظر فاذا هو بذيخ متلطخ ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» والذيخ : ذكر الضباع ، وأراد بالتلطخ : برجيعة أو بالطين.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) ليست في المطبوعة.

٤٥٣

وقوعا فبقوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (البقرة : ٢٥٥) ، وأما جوازا فبقوله : (الْقَيُّومُ) ، وقد جمعهما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام» (١).

(٢) [وقوله : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) (يونس : ١٨) ؛ أي بما لا وجود له ، لأنه لو وجد لعلمه موجودا لوجوب (٣) تعلق علم الله تعالى بكل معلوم] (٢).

وقوله تعالى : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) (آل عمران : ٩٠) ، على قول من نفى القبول لانتفاء سببه ، وهو التوبة ، لا يوجد توبة فيوجد قبول.

وعكسه : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) (الأعراف : ١٠٢) ، فإنّه نفي لوجدان العهد ؛ لانتفاء سببه ، وهو الوفاء بالعهد.

[وقوله] (٢) (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (يوسف : ٤٠) ، أي من حجّة ، أي لا حجة عليها ، فيستحيل إذن أن ينزل بها حجة. ونظيره من السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدجّال أعور والله ليس بأعور» (٤) ، أي بذي جوارح كوامل بتخيل [له أن له] (٥) جوارح نواقص.

ونظيره قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) (الكهف : ١٠٩) ليس المراد أن كلمات الله تنفد بعد نفاد البحر ؛ بل لا تنفد أبدا ، لا قبل نفاد البحر ولا بعده. وحاصل الكلام : لنفد البحر ولا تنفد كلمات ربي.

ووقع في شعر جرير قوله (٦) :

__________________

(١) أخرجه من رواية أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه ، مسلم في الصحيح ١ / ١٦٢ كتاب الإيمان (١) ، باب في قوله عليه‌السلام : إن الله لا ينام ... (٧٩) ، الحديث (٢٩٣ / ١٧٩).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) العبارة في المطبوعة (بوجود الوجوب ، تعلق علم الله ...) والصواب ما أثبتناه من المخطوطة.

(٤) متفق عليه من رواية عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنهما ، أخرجه البخاري في الصحيح ١٣ / ٣٨٩ كتاب التوحيد (٩٧) ، باب قول الله تعالى (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (طه : ٣٩) (١٧) ، الحديث (٧٤٠٧) ، ومسلم في الصحيح ٤ / ٢٢٤٧ كتاب الفتن (٥٢) ، باب ذكر الدجال وصفته (٢٠) ، الحديث (١٠٠ / ١٦٩) ولفظه : «إن الله تعالى ليس بأعور ، ألا وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى».

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) البيت في ديوانه ص ٣٨٥ (طبعة دار صادر) من قصيدة مطلعها :

ألم تر أنّ الجهل أقصر باطله

وأمسى عماء قد تجلّت مخايله

٤٥٤

فيا لك (١) يوما خيره قبل شرّه

تغيّب واشيه وأقصر عاذله

قال الأصمعيّ : أنشدته (٢) كذلك لخلف الأحمر (٣) ، فقال : أصلحه :

فيا لك [٢٣٥ / ب] يوما (٤) خيره دون شرّه

فإنه لا خير لخير (٥) بعده شر ، وما زال العلماء يصلحون أشعار العرب ، قال الأصمعيّ : فقلت : والله لا أرويه أبدا إلا كما أوصيتني (٦).

نقل ابن رشيق هذه الحكاية في «العمدة» وصوّبها (٧)!.

__________________

(١) في الديوان (وذلك يوم).

(٢) تصحفت في المخطوطة إلى (أشبه).

(٣) هو خلف الأحمر بن حيان بن محرز ، أحد رواة الغريب واللغة والشعر ونقّاده والعلماء به ، وهو أحد الشعراء المحسنين. وكان يبلغ من حذقه واقتداره على الشعر أن يشبه شعره بشعر القدماء ، ووصفه العلماء بعلم الشعر. وكان قد تعبّد في آخر عمره. وكان أبو نواس تلميذا له ، ويفتخر به. من مصنفاته «جبال العرب» توفي في حدود (١٨٠). (القفطي ، إنباه الرواة ، ١ / ٣٨٣).

(٤) تصحفت في المخطوطة إلى (ذلك يوم).

(٥) تصحفت العبارة في المخطوطة إلى (فإنه لا خير دون خير بعده شر).

(٦) الخبر ذكره المرزباني في «المرشح» ص ١٢٥.

(٧) هو الحسن بن رشيق القيرواني ، الفاضل الأديب ، الجليل القدر. ولد سنة (٣٧٠). قرأ الأدب بالمحمّديّة ، وقال الشعر قبل أن يبلغ الحلم ، رحل إلى القيروان وعمره ست عشرة سنة وامتدح بها. وله من التصانيف «العمدة في محاسن الشعر وآدابه» ، اشتمل من هذا النوع على ما لم يشتمل عليه تصنيف من نوعه. وله كتاب «الشذوذ» وغيرها. توفي سنة (٤٥٠). (القفطي ، إنباه الرواة ١ / ٣٣٣). وكتابه «العمدة في محاسن الشعر وآدابه» طبع في تونس سنة ١٢٨٣ ه‍ / ١٨٦٥ م ، وطبع في القاهرة بمطبعة السعادة بتصحيح محمد بدر النعساني سنة ١٣٢٦ ه‍ / ١٩٠٧ م ، وطبع بالقاهرة بعناية أمين هندية مطبعة السعادة سنة ١٣٤٤ ه‍ / ١٩٢٥ م ، وطبع بتحقيق محيي الدين عبد الحميد الطبعة الأولى بالمطبعة التجارية سنة ١٣٥٣ ه‍ / ١٩٣٤ م ، والثانية سنة ١٣٧٤ ه‍ / ١٩٥٥ م ، والثالثة في المكتبة التجارية سنة ١٣٨٢ ه‍ / ١٩٦٣ م ، والطبعة الرابعة في بيروت دار الجيل سنة ١٣٩٣ ه‍ / ١٩٧٤ ، وطبع في بيروت بتحقيق مفيد قميحة دار الكتب العلمية سنة ١٤٠٣ ه‍ ١٩٨٣ م ، ثم طبع أخيرا في بيروت بتحقيق محمد قرقزان دار المعرفة سنة ١٤٠٨ ه‍ / ١٩٨٨ م ، وقد ساق ابن رشيق قصة الأصمعي مع خلف في «العمدة» ٢ / ٩٨٥ ـ ٩٨٦ باب في أغاليط الشعراء والرواة (٩١) ، وهذا نصها : (قال الأصمعي : قرأت على أبي محرز خلف بن حيان الأحمر شعر جرير ، فلما بلغت إلى قوله :

وليل كإبهام الحبارى محبّب

إليّ هواه غالب لي باطله

٤٥٥

قال ابن المنير (١) : ووقع لي (٢) أن الأصمعيّ وخلف الأحمر وابن رشيق أخطئوا جميعا وأصاب جرير وحده ؛ لأنه لم يرد إلا «فيا لك يوم خير لا شر فيه» ، وأطلق «قبل» للنفي كما قلناها ، في قوله تعالى : (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) (الكهف : ١٠٩) ، وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (الرعد : ٢) وقوله : (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) (الأعراف : ١٩٥) ؛ فإنّ ظاهره نفي هذه الجوارح ، والحقيقة توجب نفي الإله (٣) عمّن [يكون له فضلا عمّن] (٤) لا يكون له.

وقوله : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (لقمان : ١٥) ، فالمراد لا ذاك ولا علمك به ؛ أي كلاهما غير ثابت.

وقوله : (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) (آل عمران : ١٥١) ؛ أي شركاء لا

__________________

رزقنا به الصّيد الغرير ، ولم تكن

كمن نبله محرومة وحبائله

فيا لك يوما خيره قبل شرّه

تغيّب واشيه ، وأقصر عاذله

قال خلف : ويحه ، وما ينفعه خير يؤول إلى شرّ؟ فقلت : هكذا قرأته على أبي عمرو بن العلاء ، قال : صدقت ، وكذا قال جرير ، وكان قليل التّنقيح لألفاظه ، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلاّ كما سمع ، قلت : فكيف يجب أن يكون؟ قال : الأجود أن يكون :

«خيره دون شرّه»

فاروه كذلك ، فقد كانت الرّواة قديما تصلح أشعار الأوائل ، فقلت : والله لا أرويه إلا كذا.

قلت أنا : أمّا هذا الإصلاح ، فمليح الظّاهر ، غير أنّه خلاف قصد الشاعر ، وذلك أنّ الشاعر أراد أنّه كان ليله في وصال ، ثم فارق حبيبه نهارا ، وذلك هو الشّرّ الذي ذكر.

والرّواية جعله لم يفارق ، فغيّر عليه المعنى ، إلاّ أن تكون الرواية :

«ويوم كإبهام الحبارى»

فحينئذ : على أنّ «دون» تحتمل ما قصده ، وتحتمل معنى «قبل» فهي لفظة مشتركة ، وتكون أيضا بمعنى «بعد» لأنها من الأضداد ، ولكن في غير هذا الموضع.

فإنه لم يصوب كلام خلف في بيت جرير إذ قال «غير أنه خلاف قصد الشاعر» لذا لا يتجه لابن رشيق نقد ابن المنيّر الذي ذكره الزركشي.

(١) هو أحمد بن محمد بن منصور تقدم التعريف به في ١ / ١٧٦.

(٢) تصحفت في المخطوطة إلى (الا).

(٣) تصحفت في المطبوعة إلى (الآية).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

٤٥٦

ثبوت لها أصلا ، ولا أنزل الله بإشراكها حجة [أي تلك] (١) ، وإنزال الحجة كلاهما منتف.

وقوله : (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) (يونس : ١٨) ، أي ما لا ثبوت له ولا علم الله متعلقا به ؛ نفيا للملزوم وهو النيابة بنفي لازمه ، وهو وجوب كونه معلوما للعالم بالذات ، لو كان [له] (٢) ثبوت ، بأي اعتبار كان.

٣ / ٤٠١ وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) (آل عمران : ٩٠) (٣) [أصله لن يتوبوا فلن يكون لهم قبول توبة ، فأوثر الإلحاق ذهابا إلى انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم ؛ وهو قبول التوبة الواجب في حكمه تعالى وتقدّس] (٣).

وقوله : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (النور : ٣٣) ومعلوم أنه لا إكراه على الفاحشة لمن لا يريد تحصنا ، لأنها نزلت فيمن يفعل ذلك.

ونظيره : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) (آل عمران : ١٣٠) ، وأكل الربا منهيّ عنه قليلا وكثيرا ؛ لكنها نزلت على سبب ؛ وهو فعلهم ذلك ؛ ولأنه مقام تشنيع عليهم ، وهو بالكثير أليق.

وقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ...) (غافر : ٨٤) الآية ، المعنى آمنا بالله دون الأصنام وسائر ما يدعى إليه دونها ، إلا أنّهم نفوا الإيمان بالملائكة والرسل والكتب المنزّلة والدار الآخرة والأحكام الشرعية ، ولهذا إنه لمّا ردّ بقوله :

[(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ] (٤) لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) (غافر : ٨٥) ، بعد إثباته [إيمانهم] (٤) ، لأنّه ضروري لا اختياري ، أوجب (٥) ألاّ يكون الكلام مسوقا لنفي أمور يراعى فيها الحصر والتقييد ، [كقوله] (٤) : (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) (الملك : ٢٩) ، فإنه لم يقدّم المفعول في «آمنا» حيث لم يرد ذلك المعنى ، فركّب تركيبا يوهم إفراد الإيمان بالرحمن عن سائر ما يلزم من الإيمان.

__________________

(١) ساقطة من المطبوعة.

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) العبارة في المخطوطة (ولهذا حيث لا يكون الكلام مسبوقا بالنفي أمور تراعى).

٤٥٧

وقوله [تعالى] : (يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) (الأعراف : ١٤٦) ، فقيل من هذا الباب ، فهي صفة لازمة ، وقيل التكبّر قد يكون بحق ، وهو التنزه عن الفواحش والدنايا والتباعد من فعلها.

وأما قوله : (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) (الأعراف : ٣٣) ، (١) [فإن أريد بالبغي الظلم كان قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ)] (١) تأكيدا ، وإن أريد به الطلب كان قيدا.

٣ / ٤٠٢

قاعدة

اعلم أن نفي العام يدلّ على نفي الخاص ، وثبوته لا يدل على ثبوته ، وثبوت الخاص يدلّ على ثبوت العام ، ولا يدل نفيه على نفيه ؛ ولا شكّ أن زيادة المفهوم من اللفظ توجب الالتذاذ به ، فلذلك كان نفي العام أحسن من نفي الخاص ، وإثبات الخاص أحسن من إثبات العام.

***

فالأول : كقوله [٢٣٦ / أ] تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) (البقرة : ١٧) ، ولم يقل : «بضوئهم» (٢) بعد قوله : (أَضاءَتْ) لأن النور أعم من الضوء ؛ إذ يقال على القليل والكثير ؛ وإنما يقال الضوء على النور الكثير ولذلك قال [تعالى] : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (يونس : ٥) ففي الضوء دلالة على الزيادة ، فهو أخصّ من النور ، وعدمه (٣) لا يوجب عدم الضوء ، لاستلزام عدم العام عدم الخاص ، فهو أبلغ من الأول ، والغرض إزالة النور عنهم أصلا ، ألا ترى ذكره بعده (٤) : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ [لا يُبْصِرُونَ]) (٥) (البقرة : ١٧).

وهاهنا دقيقة ، وهي أنه قال : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) (البقرة : ١٧) ، ولم يقل : «أذهب نورهم» لأن الإذهاب بالشيء إشعار له بمنع عودته ، بخلاف الذهاب ؛ إذ يفهم من الكثير استصحابه في الذهاب ، ومقتضى [ذلك] (٥) منعه من الرجوع.

ومنه قوله تعالى : ([يا قَوْمِ] (٦) لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) (الأعراف : ٦١) ، ولم يقل :

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (ببصرهم).

(٣) في المخطوطة (فقده).

(٤) في المخطوطة (عقبه).

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) ليست في المخطوطة.

٤٥٨

«ضلال» ؛ كما قالوا : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ) (الأعراف : ٦٠) ، لأنّ نفي الواحد يلزم ٣ / ٤٠٣ منه نفي الجنس البتة.

وقال الزمخشري : «لأن الضلالة أخصّ من الضلال ، فكان أبلغ في نفي الضلال عنه ، فكأنّه قال : ليس بي شيء من الضلال ، كما لو قيل : ألك تمرة فقلت : ما لي تمرة» (١).

ونازعه ابن المنيّر (٢) وقال : تعليله (٣) نفيها أبلغ لأنها (٤) أخص [وهذا غير مستقيم ، فإنّ نفي الأعم أخصّ من نفي الأخص] (٥) ، ونفي الأخص أعم من نفي الأعمّ ، فلا يستلزمه لأن الأعم لا يستلزم الأخصّ. فإذا قلت هذا ليس بإنسان لم يلزم سلب الحيوانية عنه ، وإذا قلت : هذا ليس بحيوان ، لم يكن إنسانا ، والحق أن يقال : الضلالة أدنى من الضلال ، لأنها لا تطلق إلا على الفعلة منه ، والضلال يصلح للقليل والكثير ، ونفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى [لا] (٦) من جهة كونه أخصّ ، [بل] (٦) من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى».

***

والثاني : كقوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (آل عمران : ١٣٣) ، ولم يقل «طولها» ، لأن العرض أخصّ ، إذ كل ما له عرض فله طول ، ولا ينعكس. وأيضا فإذا كان للشيء صفة يغني ذكرها عن ذكر صفة (٧) أخرى ، تدلّ عليها كان الاقتصار عليها أولى من ذكرها ؛ لأن ذكرها كالتكرار ، وهو مملّ ، وإذا ذكرت فالأولى تأخير الدلالة على الأخرى ؛ حتى لا تكون المؤخرة قد تقدمت الدلالة عليها.

وقد يخلّ بذلك مقصود آخر كما في قوله : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (مريم : ٥١) لأجل السجع وإذا كان ثبوت شيء أو نفيه يدل على ثبوت آخر أو نفيه ، كان الأولى الاقتصار على الدالّ على الآخر ، فإن ذكرت فالأولى تأخير الدال. ٣ / ٤٠٤

__________________

(١) انظر «الكشاف» ٢ / ٦٧ عند تفسير الآية (٦١) من سورة الأعراف ، وعبارة الزمخشري «ألك تمر؟ فقلت ما لي تمرة».

(٢) هو أحمد بن محمد بن منصور تقدم التعريف به في ١ / ١٧٦ ، وقوله في حاشيته على الكشاف المعروفة «بالانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال» ٢ / ٦٧.

(٣) تصحفت في المخطوطة إلى (قوله).

(٤) عبارة المخطوطة (تعليله نفيها لأنها أبلغ من نفي الأخص).

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (صفات).

٤٥٩

وقد يخلّ بذلك لمقصود آخر ؛ كما في قوله تعالى : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها) (الكهف : ٤٩) وعلى قياس ما قلنا ينبغي الاقتصار على صغيرة ، وإن ذكرت الكبيرة منها فلتذكر أولا.

وكذلك قوله [تعالى] : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) (الإسراء : ٢٣) وعلى ذلك القياس يكفي «لهما أف» أو يقول «ولا تنهرهما» ، «فلا تقل لهما أف» ؛ وإنما عدل عن ذلك للاهتمام بالنهي عن التأفيف ، والعناية بالنهي ؛ [حتى] (١) كأنه قال : نهى عنه مرتين : مرة بالمفهوم ، وأخرى بالمنطوق.

وكذلك قوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (البقرة : ٢٥٥) فإنّ النوم غشية ثقيلة تقع على القلب تمنعه معرفة الأشياء ، والسّنة مما يتقدمه من النعاس ، فلم يكتف بقوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) (البقرة : ٢٥٥) ؛ دون ذكر النوم ؛ لئلا يتوهم أن السّنة إنما لم تأخذه لضعفها ، ويتوهم أن النوم قد يأخذه لقوته ؛ فجمع بينهما لنفي التوهمين ، أو السّنة [٢٣٦ / ب] في الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في القلب ؛ تلخيصه هو منزه عن جميع المفتّرات ، ثم أكّد نفي السنة والنوم بقوله : ([لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ] (٢) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (البقرة : ٢٥٥) لأنّه خلقهما بما فيهما ، والمشاركة إنما تقع فيما فيهما ، ومن يكن له ما فيهما ؛ فمحال نومه ومشاركته ؛ إذ لو وجد شيء من ذلك لفسدتا بما فيهما.

وأيضا فإنه يلزم من [نفي] (٣) السّنة نفي النوم أنه لم يقل : لا ينام (٤) ؛ وإنما قال : (لا ٣ / ٤٠٥ تَأْخُذُهُ) (البقرة : ٢٥٥) [يعني] (٥) لا تغلبه ؛ فكأنه يقول : لا يغلبه القليل ولا الكثير من النوم. والأخذ في اللغة بمعنى القهر والغلبة ؛ ومنه سمّي الأسير : مأخوذا وأخيذا. وزيدت «لا» في قوله : (وَلا نَوْمٌ) (البقرة : ٢٥٥) لنفيهما عنه بكل حال ، ولو لاها لاحتمل ان يقال : لا تأخذه سنة و [لا] (٥) نوم في حال واحدة ، وإذا ذكرت صفات فإن كانت للمدح فالأولى الانتقال فيها من الأدنى إلى الأعلى ؛ ليكون المدح متزايدا بتزايد الكلام ؛

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) عبارة المخطوطة (ان قال لا ينام).

(٥) ليست في المخطوطة.

٤٦٠