البرهان في علوم القرآن - ج ٣

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٣

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٩

من التذكير والتأنيث ؛ يريد أنّك إذا أردت القرب من المكان ، قلت : زيد قريب من عمرو ، وهند قريبة من العباس ، فكذا في النسب.

وقال أبو عبيدة (١) : ذكّر «قريب» لتذكير المكان ، أي مكانا قريبا. وردّه ابن الشجري (٢) بأنه لو صحّ لنصب «قريب» على الظرف.

وقال الأخفش : المراد بالرحمة هنا المطر ؛ لأنه قد تقدم ما يقتضيه ، فحمل المذكّر عليه.

وقال الزّجاج : لأن الرحمة والغفران بمعنى واحد ؛ وقيل : لأنها والرحم سواء.

ومنه : (وَأَقْرَبَ رُحْماً) (الكهف : ٨١) ، فحملوا الخبر على المعنى ، ويؤيده قوله تعالى : ([هذا] (٣) رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) (الكهف : ٩٨).

وقيل : الرحمة مصدر ، والمصادر كما لا تجمع لا تؤنث.

وقيل : «قريب» على وزن «فعيل» و «فعيل» يستوي فيها المذكر والمؤنث حقيقيّا كان أو غير حقيقي. ونظيره قوله تعالى : (وَهِيَ رَمِيمٌ) (يس : ٧٨).

وقيل : من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، مع الالتفات إلى المحذوف ، فكأنه قال : وإنّ مكان رحمة الله قريب ، ثم حذف المكان وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره.

وقيل : من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، أي إنّ رحمة الله شيء قريب أو لطيف ، أو برّ أو إحسان.

وقيل : من باب إكساب المضاف حكم المضاف إليه ؛ إذا كان صالحا للحذف والاستغناء عنه بالثاني ، والمشهور في هذا تأنيث المذكر لإضافته إلى مؤنث ، كقوله :

مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرياح النّواسم (٤)

فقال : «تسفهت» والفاعل مذكر ؛ لأنه اكتسب تأنيثا من الرياح ، إذ الاستغناء عنه جائز ، وإذا كانت الإضافة على هذا تعطي المضاف تأنيثا لم يكن له. فلأن تعطيه تذكيرا لم يكن له ـ

__________________

(١) ذكره أبو عبيدة في مجاز القرآن ١ / ٢١٦ سورة الأعراف ، الآية (٥٦).

(٢) انظر الأمالي الشجرية ١ / ٢٢٧ ضمن فصل : مما أنكر على أبي طيب.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) البيت ذكره ابن منظور في مواضع من لسان العرب دون ذكر نسبته ، في ٣ / ٢٨٨ مادة عود ، وفي ٤ / ٤٤٦ مادة صدر ، وفي ١١ / ٥٣٦ مادة قبل ، وفي ١٣ / ٤٩٩ مادة سفه.

٤٢١

كما في الآية الكريمة ـ أحقّ وأولى ؛ لأنّ التذكير [٢٢٨ / ب] أولى والرجوع إليه أسهل من الخروج عنه.

وقيل : من الاستغناء بأحد المذكورين لكون الآخر تبعا له ، ومعنى من معانيه.

ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (الشعراء : ٤) ، فاستغنى عن خبر الأعناق بخبر أصحابها ؛ والأصل هنا إن رحمة الله قريب (١) ، وهو قريب من المحسنين ، فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود (٢) ، وسوغ ظهور ذلك المعنى.

ونظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (الشورى : ١٧) ، قال البغويّ (٣) : «لم يقل «قريبة» لأن تأنيثها غير حقيقيّ ، ومجازها الوقت ، وقال الكسائيّ : إتيانها قريب».

وقيل في قوله تعالى : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) (الحاقة : ٦) ، ولم يقل : «صرصرة» كما قال : (بِرِيحٍ [صَرْصَرٍ] (٤) عاتِيَةٍ) (الحاقة : ٦) لأنّ الصرصر وصف مخصوص بالريح لا يوصف به غيرها ، فأشبه باب «حائض» ونحوه ؛ بخلاف «عاتية» فإن غير الريح من الأسماء المؤنثة يوصف به.

وأما قوله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) (المزمل : ١٨) ، ففي تذكير «منفطر» خمسة أقوال : أحدها : للفراء (٥) ، أن السماء تذكر وتؤنث ، فجاء «منفطر» على التذكير.

والثاني : لأبي علي أنّه من باب اسم الجنس الذي بينه وبين واحدة التاء ، مفرده سماءة ؛ واسم الجنس يذكر ويؤنث ، نحو : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (القمر : ٢٠).

والثالث : للكسائيّ ، أنه ذكّر حملا على معنى السقف.

__________________

(١) في المخطوطة (قريبة).

(٢) في عبارة المخطوطة زيادة في هذا الموضع وهي (عن خبر الموجود إليه أسهل من الخروج عنه ، وسوغ ذلك ظهور المعنى).

(٣) ذكره البغوي في معالم التنزيل ٤ / ١٢٣ عند تفسير الآية (١٧) من سورة الشورى ، وتمام عبارته (ومجازه : الوقت قريب ، وقال الكسائي : إتيانها قريب).

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) انظر معاني القرآن ٣ / ١٩٩ عند تفسير الآية (١٨) من سورة المزمل.

٤٢٢

والرابع : لأبي عليّ (١) أيضا على معنى النسب ؛ أي ذات انفطار ؛ كقولهم : امرأة مرضع ، أي ذات رضاع.

والخامس : للزمخشريّ (٢) ، أنه صفة لخبر محذوف مذكّر ، أي شيء منفطر.

وسأل أبو عثمان المازنيّ (٣) بحضرة المتوكل (٤) قوما من النحويّين ، منهم ابن السّكيت (٥) وأبو [بكر] (٦) بن قادم (٧) عن قوله تعالى : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (مريم : ٢٨) : كيف جاء بغير هاء. ونحن نقول : امرأة كريمة إذا كانت هي الفاعل [وبغي هنا الفاعل] (٨) وليست بمنزلة «القتيل» التي هي بمعنى «المفعول»؟ فأجاب ابن قادم وخلّط ، فقال له المتوكّل : أخطأت ، قل يا بكر (٩) ـ للمازني ، قال : «بغيّ» ليس ل «فعيل» وإنما هو «فعول» والأصل فيه «بغوي» ، فلما التقت واو وياء ، وسبقت إحداهما بالسكون أدغمت الواو في الياء ، فقيل : «بغيّ» كما تقول : امرأة صبور ، بغير هاء ؛ لأنها بمعنى صابرة ؛ فهذا حكم «فعول» إذا عدل عن فاعله ، فإن عدل عن مفعوله جاء بالهاء ، كما قال.

منها اثنتان وأربعون حلوبة (١٠)

__________________

(١) انظر قولي أبي علي وقول الكسائي عند أبي حيان في البحر المحيط ٨ / ٣٦٥ ـ ٣٦٦ عند تفسير سورة المزمل.

(٢) قول الزمخشري في الكشاف ٤ / ١٥٥ سورة المزمل.

(٣) هو بكر بن محمد بن بقية أبو عثمان المازني تقدم التعريف به في ٢ / ٣٦٥.

(٤) هو جعفر بن محمد بن هارون الرشيد ، لقبه المتوكل على الله بن المعتصم بالله ، خليفة عباسي ولد ببغداد وبويع له بعد وفاة أخيه الواثق سنة (٢٣٢ ه‍) وكان جوادا محبا للعمران ، من آثاره «المتوكلية» ببغداد أنفق عليها أموالا كثيرة ، ثم أقام في سامراء إلى أن اغتيل فيها ليلا بإغراء ابنه المنتصر سنة ٢٤٧ ه‍ (الأعلام للزركلي ٢ / ١٢٧).

(٥) هو يعقوب بن إسحاق أبو يوسف تقدم التعريف به في ١ / ٤٠٢.

(٦) كذا ورد في المطبوعة والمخطوطة ، والصواب في كنيته (أبو جعفر) كما جاء في مصادر ترجمته.

(٧) هو محمد بن عبد الله بن قادم أبو جعفر النحوي ، كان حسن النظر في علل النحو وكان من أعيان أصحاب الفراء وأخذ عنه ثعلب ، وكان ابن قادم يعلّم «المعتز» قبل الخلافة وكان قد حقد عليه بطريق تأديبه له ، فلما ولي بعث إليه فقيل له : أجب أمير المؤمنين فقال لعياله : عليكم السلام فخرج ولم يرجع إليهم وذلك في سنة ٢٥١ ه‍ (ياقوت معجم الأدباء ١٨ / ٢٠٧).

(٨) ليست في المطبوعة.

(٩) في المخطوطة (يا أبا بكر) والصواب ما في المطبوعة.

(١٠) صدر بيت لعنترة من المعلقة عجزه : (سودا كخافية الغراب الأسحم) ، انظر ديوان عنترة ص ١٧.

٤٢٣

بمعنى «محلوبة» حكاه التوحيدي في «البصائر» (١).

وقال البغويّ في قوله تعالى : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (يس : ٧٨) «ولم يقل «رميمة» ، لأنه معدول عن فاعله ، وكلما كان معدولا عن جهته ووزنه كان مصروفا عن فاعلة ، كقوله : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (مريم : ٢٨) ، أسقط الهاء ؛ لأنها مصروفة عن «باغية» (٢).

وقال الشريف المرتضى (٣) في قوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود : ١١٨ ـ ١١٩) إن الضمير في ذلك يعود للرحمة ، وإنما لم يقل و «لتلك» (٤) ؛ لأنّ تأنيث الرحمة غير حقيقي ، كقوله [تعالى] : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) (الكهف : ٩٨) ولم يقل «هذه» ؛ على أن قوله : (إِلاَّ مَنْ رَحِمَ) (هود : ١١٩) ، كما يدل [٢٢٩ / أ] على الرحمة يدل على «أن (٥) يرحم» ويجوز رجوع الكتابة إلى قوله إلا أن يرحم ، والتذكير في موضعه.

قال : ويجوز أن يكون قوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود : ١١٩) كناية عن اجتماعهم على الإيمان ، وكونهم فيه أمة واحدة ، ولا محالة أنه لهذا خلقهم.

ويطابق هذه [الآية] (٦) قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات : ٥٦) ، قال : فأما قوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود : ١١٨) فمعناه الاختلاف في الدين والذهاب عن الحق فيه بالهوى ، والشبهات ، وذكر أبو مسلم بن بحر (٧) فيه معنى غريبا ، فقال : معناه أنّ خلف هؤلاء الكفار (٨) يخلف سلفهم في الكفر ، لأنه سواء قولك : خلف

__________________

(١) هو أبو حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي تقدم التعريف به في ١ / ٣٤٢ وكتابه «البصائر» تقدم التعريف به في ١ / ٤١٤.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره معالم التنزيل ٤ / ٢٠ تفسير سورة يس.

(٣) هو علي بن الحسين بن موسى أبو القاسم الشريف المرتضى ، ولد سنة (٣٥٥ ه‍) ، وكانت إليه نقابة الطالبيين وكان شاعرا مشتهرا يعرف النحو واللغة ، روى عن جماعة من النحاة وروي عنه ، وله الكثير من المصنفات أهمها «الغرر والدرر» (القفطي إنباه الرواة ٢ / ٢٤٩) ، وقوله في كتابه «أمالي المرتضى» ١ / ٧٠ نقله الزركشي مع تصرف واختصار.

(٤) في الأصول (وتلك) والتصويب من «أمالي المرتضى».

(٥) في المخطوطة زيادة في العبارة هي (أن الرحمة يرحم ، فيجوز).

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) هو محمد بن بحر الأصفهاني تقدم التعريف به في ٢ / ٣٧٧.

(٨) في المخطوطة (الكافرين).

٤٢٤

بعضهم بعضا ، وقولك اختلفوا كما سواء قولك : قتل بعضهم بعضا ، وقولهم : اقتتلوا. ومنه قولهم : لا أفعله ما اختلف العصران ، أي [جاء] كل واحد منهم بعد الآخر.

واختلف في قوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) (النحل : ٦٦) ، فقال الكسائيّ ، أي من بطون ما ذكرنا.

وقال الفراء (١) : ذكّر لأنه ذهب إلى المعنى ؛ يعني معنى النّعم ، وقيل : الأنعام تذكر وتؤنث.

وقال أبو عبيدة (٢) : أراد البعض ، أي من بطون أيها كان ذا لبن.

وأنكر أبو حاتم (٣) تذكير الأنعام ، لكنه أراد معنى النعم.

تأنيث المذكّر

كقوله تعالى : (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها) (المؤمنون : ١١) ؛ فأنث «الفردوس» ، وهو مذكّر ، حملا على معنى الجنة.

وقوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (الأنعام : ١٦٠) ؛ [فأنّث «عشر»] (٤) حيث جرّدت من الهاء مع إضافته (٤) [إلى الأمثال ، وواحدها مذكر ، وفيه أوجه :

أحدها : أنّث لإضافة] (٤) الأمثال إلى مؤنث ؛ وهو ضمير الحسنات ، والمضاف يكتسب (٥) أحكام المضاف إليه ، فتكون كقوله : (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) (يوسف : ١٠).

والثاني : هو من باب مراعاة المعنى ؛ لأنّ الأمثال في المعنى مؤنثة ؛ لأن مثل الحسنة حسنة لا محالة ، فلما أريد توكيد الإحسان إلى المطيع ، وأنه لا يضيع شيء من عمله ؛ كأنّ الحسنة المنتظرة واقعة ، جعل التأنيث في أمثالها منبهة (٦) على ذلك الوضع ، وإشارة إليه ، كما جعلت الهاء في قولهم : راوية وعلامة (٧) ، تنبيها على المعنى المؤنث [المراد] (٨) في أنفسهم ،

__________________

(١) انظر قول الكسائي والفراء في معاني القرآن ٢ / ١٠٨ ـ ١٠٩ تفسير سورة النحل.

(٢) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١ / ٣٦٢.

(٣) هو سهل بن محمد بن عثمان أبو حاتم السجستاني تقدم التعريف به في ١ / ٣٠٩.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (يكتسي).

(٦) في المخطوطة (شبهة على ذلك).

(٧) في المخطوطة (سرا وعلانية) والصواب ما في المطبوعة.

(٨) ليست في المخطوطة.

٤٢٥

وهو الغاية والنهاية ؛ ولذلك أنث المثل هنا توكيدا لتصوير الحسنة في نفس المطيع ؛ ليكون ذلك أدعى له إلى الطاعة ، حتى كأنه قال : «فله عشر حسنات أمثالها» حذف وأقيمت صفته مقامه ، وروعي ذلك المحذوف الذي هو المضاف إليه ، كما يراعى المضاف في نحو قوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) (النور : ٤٠) ، [أي «أو كذي ظلمات»] (١) ، وراعاه في قوله : (يَغْشاهُ مَوْجٌ) (النور : ٤٠) ، وهذا الوجه هو الذي عوّل عليه الزمخشري (٢) ، ولم يذكر سواه.

وأما ابن جني فذكر في «المحتسب» (٣) الوجه الأول ، وقال : فإن قلت : فهلا حملته على حذف الموصوف ، (٤) [فكأنه قال : «فله عشر حسنات وأمثالها»؟ قيل : حذف الموصوف] (٤) وإقامة الصفة (٥) مقامه ليس بمستحسن في القياس ؛ وأكثر ما أتى في الشعر ، ولذلك حمل (دانِيَةً) من قوله : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) (الإنسان : ١٤) ؛ على أنه وصف جنة أو «وجنة دانية» عطف على «جنة» من قوله (٦) : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً) (الإنسان : ١٢) ؛ لما قدّر حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، حتى عطف على قوله : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) (الإنسان : ١٣) فكانت حالا معطوفة على حال.

وفي «كشف المشكلات» (٧) للأصبهاني ، حذف الموصوف هو اختيار سيبويه ، وإن كان لا يرى حسن «ثلاثة مسلمين» بحذف الموصوف (٨) [لكن المثل [٢٢٩ / ب] وإن كان معنى جرى مجرى الاسم في «مررت بمثلك» ولا يستقل به الموصوف] (٨).

وقوله تعالى حكاية عن لقمان : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ [مِنْ خَرْدَلٍ]) (٨) (لقمان : ١٦) فأنث الفعل المسند ل (مِثْقالَ) وهو مذكّر ، [ولكن] (٩) لما أضيف إلى «حبّة» اكتسب منه [التأنيث] (٩) ، فساغ تأنيث فعله.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) انظر الكشاف ٢ / ٥٠ عند تفسير الآية (١٦٠) من سورة الأنعام.

(٣) هو أبو الفتح عثمان بن جني تقدم التعريف به في ١ / ٣٦١ ، وتقدم التعريف بكتابه «المحتسب» في ١ / ٤٨١.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) تصحفت عبارة المطبوعة إلى (وإقامة الموصوف مقامه).

(٦) في المطبوعة (من قولهم).

(٧) ذكره في كشف الظنون ٢ / ١٤٩٥ وعنوانه «كشف مشكلات القرآن».

(٨) ليست في المطبوعة.

(٩) ليست في المخطوطة.

٤٢٦

وذكر أبو البقاء في (١) قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (آل عمران : ١٨٥) أنّ التأنيث [في] (٢) «ذائقة» باعتبار معنى «كلّ» [لأن معناها التأنيث ، قال : لأن كلّ نفس نفوس ولو ذكّر على (٣) لفظ «كلّ»] جاز ـ يعني أنه لو قيل : كلّ نفس ذائق [كذا] (٤) ، جاز.

وهو مردود ؛ لأنه يجب اعتبار ما يضاف إليه «كلّ» إذا كانت نكرة ، ولا يجوز أن يعتبر كلّ.

وقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) (البقرة : ٢٧١) ؛ فإنّ الظاهر عود الضمير إلى الإبداء ؛ بدليل قوله : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (البقرة : ٢٧١) فذكّر الضمير العائد على الإخفاء ، ولو قصد الصدقات لقال : «فهي» ؛ وإنما أنّث (هي) والذي عاد إليه مذكّر ، على حذف مضاف ، أي وإبداؤها نعم ما هي ، كقوله : القرية اسألها.

ومنه (٥) (سَعِيراً) (الفرقان : ١١) وهو مذكر ، ثم قال : (إِذا رَأَتْهُمْ) (الفرقان : ١٢) فحمله على النار.

وأما قوله : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي [خَلَقَهُنَ]) (٦) (فصلت : ٣٧) ، فقيل : الضمير عائد على الآيات المتقدمة في اللفظ.

وقال البغويّ (٧) إنما قال (خَلَقَهُنَ) بالتأنيث ، لأنه أجري على طريق جمع التكسير ، ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث» ؛ لأنه فيما لا يعقل.

وقيل في قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (النساء : ١) ، إن المراد آدم فأنثه ردّا إلى النفس. وقد قرئ شاذّا «من نفس واحد» (٨).

__________________

(١) انظر إملاء ما من به الرحمن ١ / ٩٤ تفسير الآية (١٨٥) من سورة آل عمران.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) عبارة المخطوطة (في لفظ).

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) عبارة المخطوطة (وقوله سعيرا).

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) انظر معالم التنزيل ٤ / ١١٥ عند تفسير الآية (٣٧) من سورة فصلت.

(٨) ذكره أبو حيان في البحر المحيط ٣ / ١٥٤ عند تفسير الآية (١) من سورة النساء ، فقال : (والمراد بقوله من (نَفْسٍ واحِدَةٍ) آدم ، وقرأ الجمهور (واحِدَةٍ) بالتاء ... ، وقرأ ابن أبي عبلة «واحد» على مراعاة المعنى).

٤٢٧

وحكى الثعلبي في تفسيره (١) في سورة «اقترب» (٢) بإسناده إلى المبرّد (٣) ؛ سئل عن ألف مسألة ، منها : ما الفرق بين قوله تعالى : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) (يونس : ٢٢) ، وقوله : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) (الأنبياء : ٨١) وقوله : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (الحاقة : ٧) ، و (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (القمر : ٢٠) ، فقال : كلّ ما ورد عليك من هذا الباب ، فلك أن تردّه إلى اللفظ تذكيرا ، ولك أن تردّه إلى المعنى تأنيثا ؛ وهذا من قاعدة أن اسم الجنس تأنيثه غير حقيقي ، فتارة يلحظ معنى الجنس فيذكّر ، وتارة معنى الجماعة فيؤنث ؛ قال تعالى في قصة شعيب : (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) (هود : ٩٤) ، وفي قصة صالح : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) (هود : ٦٧) وقال : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) (البقرة : ٧٠) ، وقرئ : «تشابهت» (٤).

وأبدى السّهيلي (٥) للحذف والإثبات معنى حسنا فقال : إنما حذفت منه ؛ لأن «الصيحة» فيها [بمعنى] (٦) العذاب والخزي ، إذ كانت منتظمة بقوله [سبحانه] (٧) : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) (هود : ٦٦) ، فقوي التذكير ؛ بخلاف قصة شعيب ، فإنّه لم يذكر فيها ذلك.

وأجاب غيره : بأنّ الصيحة يراد بها المصدر بمعنى الصياح ، فيجيء فيها التذكير ، فيطلق ويراد بها الوحدة من المصدر ، فيكون التأنيث أحسن.

وقد أخبر سبحانه عن العذاب الذي أصاب به قوم شعيب بثلاثة أمور ، كلّها مفردة اللفظ :

أحدها : الرجفة ، في قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) (العنكبوت : ٣٧).

والثاني : الظّلة ، في قوله : (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) (الشعراء : ١٨٩).

والثالث : الصيحة ، وجمع لهم الثلاثة ؛ لأن الرجفة بدأت بهم فأصحروا في الفضاء ، خوفا من سقوط الأبنية عليهم ، فضربتهم الشمس [٢٣٠ / أ] بحرّها ، ورفعت لهم الظّلة ،

__________________

(١) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم تقدم التعريف به في ١ / ١٠٥ ، وتفسيره المسمى «الكشف والبيان في تفسير القرآن» مطبوع في اسطنبول سنة ١٣٥٠ ه‍ / ١٩٣١ م (ذخائر التراث العربي ١ / ٤٢٨) ، وحققه عبد الله أبو السعود بدر سنة ١٤٠٣ ه‍ / ١٩٨٣ (أخبار التراث العربي ٨ / ١٦).

(٢) هي سورة الأنبياء (٢١).

(٣) عبارة المخطوطة (أن المبرد).

(٤) ذكره أبو حيان في البحر المحيط ١ / ٢٥٤ عند تفسير الآية (٧٠) من سورة البقرة ، فقال : (وقرأ أبي «تشابهت»).

(٥) هو أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد تقدم التعريف به في ١ / ٢٤٢.

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) ليست في المطبوعة.

٤٢٨

فهرعوا إليها يستظلون بها من الشمس ، فنزل عليهم [فيها] (١) العذاب وفيه الصيحة ؛ فكان ذكر الصيحة مع الرجفة والظلّة أحسن من ذكر الصياح ، فكان ذكر التاء أحسن.

فإن قلت : ما الفرق بين قوله سبحانه : (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) (النحل : ٣٦) ، وبين قوله : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) (الأعراف : ٣٠).

قيل : الفرق بينهما من وجهين :

لفظي ومعنويّ :

أما اللفظي ، فهو أن الفصل بين الفعل والفاعل في قوله : (حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) (الأعراف : ٣٠) ، أكثر منها في قوله : (حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) (النحل : ٣٦) ، والحذف مع كثرة (٢) الحواجز أحسن.

وأما المعنويّ فهو أنّ «من» [في] (٣) قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) (النحل : ٣٦) ، راجعة على الجماعة ، وهي مؤنثة لفظا ؛ بدليل : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) (النحل : ٣٦) ، ثم قال : (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) (النحل : ٣٦) ، أي من تلك الأمم ، ولو قال «ضلت» لتعينت التاء ـ والكلامان واحد وإن كان معناهما واحدا ـ فكان إثبات التاء أحسن من تركها ، لأنها ثابتة فيما هو من معنى الكلام المتأخر.

وأما (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) (الأعراف : ٣٠) ، فالفريق مذكّر ، ولو قال (٤) : «ضلّوا» لكان بغير تاء ، وقوله : (حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) (الأعراف : ٣٠) في معناه ، فجاء بغير تاء ، وهذا اسلوب لطيف من أساليب العرب ، أن يدعوا حكم اللفظ [الواجب] (٥) في قياس لغتهم ، إذا كان في مركّبه كلمة لا يجب لها حكم ذلك الحكم.

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) عبارة المخطوطة (مع كثرة آخر الحواجز).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) عبارة المخطوطة (ولو قال : فريقا ضلوا).

(٥) ليست في المخطوطة.

٤٢٩

تنبيه

جاء عن ابن مسعود : «ذكّروا القرآن» (١). ففهم منه ثعلب أنّ ما احتمل تأنيثه وتذكيره كان تذكيره أجود.

وردّ بأنه يمتنع إرادة تذكير غير الحقيقي التأنيث ، لكثرة ما في القرآن منه بالتأنيث : (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ) (الحج : ٧٢). (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) (القيامة : ٢٩).

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ) (إبراهيم : ١١) وإذا امتنع إرادة غير الحقيقي ، فالحقيقيّ أولى.

قالوا : ولا يستقيم إرادة أن ما احتمل التذكير والتأنيث غلّب فيه التذكير ، لقوله تعالى : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) (ق : ١٠). (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (الحاقة : ٧) ، فأنّث مع جواز التذكير ، قال تعالى : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (القمر : ٢٠) ، (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ) (يس : ٨٠). قال : فليس المراد ما فهم ، بل المراد الموعظة والدعاء ، كما قال تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ ...) (ق : ٤٥) إلاّ أنّه حذف الجارّ ، والمقصود ذكّروا الناس بالقرآن ، أي ابعثوهم على حفظه كيلا ينسوه.

وقال الواحدي (٢) : إنّ قول ابن مسعود على ما ذهب إليه ثعلب ، والمراد أنه إذا احتمل اللفظ التذكير والتأنيث ولم يحتج في التذكير إلى مخالفة المصحف ذكّر ، نحو : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) (البقرة : ٤٨).

قال : ويدلّ على إرادته هذا أن أصحاب عبد الله من قراء الكوفة كحمزة والكسائي ذهبوا إلى هذا فقرءوا ما كان من هذا القبيل بالتذكير ، نحو : يوم يشهد عليهم ألسنتهم (٣) (النور : ٢٤). وهذا في غير الحقيقي.

ضابط التأنيث ضربان :

حقيقيّ وغيره ، فالحقيقي لا يحذف التأنيث من فعله غالبا إلا أن يقع فصل ، نحو : قام

__________________

(١) ذكره ابن منظور في لسان العرب ٤ / ٣١٠ مادة «ذكر» فقال (وفي الحديث : القرآن ذكر فذكروه ، أي أنه جليل خطير فأجلّوه).

(٢) هو علي بن أحمد بن محمد تقدم التعريف به في ١ / ١٠٥.

(٣) ذكره البناء في إتحاف فضلاء البشر ص ٣٢٤ سورة النور فقال : (واختلف في (يَوْمَ تَشْهَدُ) فحمزة والكسائي وخلف بالياء من تحت ، والباقون بالتاء من فوق ، وجه التذكير أن التأنيث مجازي).

٤٣٠

اليوم هند ، وكلما كثر الفصل حسن الحذف ، والإثبات مع الحقيقي أولى ما لم يكن جمعا. وأمّا غير الحقيقي فالحذف فيه مع الفصل حسن ، قال تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) (البقرة : ٢٧٥) ، فإن كثر الفصل ازداد حسنا ، ومنه : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) (هود : ٦٧) ويحسن الإثبات أيضا ؛ نحو : (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) (هود : ٩٤) فجمع بينهما في سورة هود.

وأشار بعضهم إلى ترجيح الحذف ، واستدلّ عليه بأن الله [٢٣٠ / ب] تعالى قدّمه عليه حيث جمع بينهما في سورة واحدة. وفيما قاله نظر.

التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وعكسه

قد سبق منه كثير في نوع الالتفات ؛ ويغلب ذلك فيما إذا كان مدلول الفعل من الأمور الهائلة المهدّدة المتوعّد بها ، فيعدل فيه إلى لفظ الماضي تقريرا وتحقيقا لوقوعه ، كقوله تعالى : ([وَ] (١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ) (النمل : ٨٧).

وقوله في الزمر : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ) (الزمر : ٦٨).

وقوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) (إبراهيم : ٢١).

وقوله : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ) (الكهف : ٤٧) ؛ أي نحشرهم.

وقوله : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً) (الأعراف : ٤٨). ثم تارة يجعل المتوقع فيه كالواقع ، فيؤتى بصيغة الماضي مرادا به المضيّ ، تنزيلا للمتوقّع منزلة ما وقع ، فلا يكون تعبيرا عن المستقبل بلفظ الماضي ، بل جعل المستقبل ماضيا مبالغة.

ومنه : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (النحل : ١). (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) (الأعراف : ٤٤) ونحوه.

***

وقد يعبّر عن المستقبل بالماضي مرادا به المستقبل ؛ فهو مجاز لفظي ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ) (النمل : ٨٧) ؛ فإنه لا يمكن أن يراد به المضيّ ، لمنافاة

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

٤٣١

(يُنْفَخُ) الذي هو مستقبل في الواقع. وفائدة التعبير عنه بالماضي (١) [الإشارة إلى استحضار التحقق ، وإنه من شأنه لتحققه أن يعبّر عنه بالماضي] (١) وإن لم يرد معناه. والفرق بينهما أنّ الأول مجاز ، والثاني لا مجاز فيه إلا من جهة اللفظ فقط.

***

وقوله : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى) (المائدة : ١١٦) ؛ أي يقول ، عكسه لأن المضارع يراد به الديمومة والاستمرار ، كقوله [تعالى] : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) (البقرة : ٤٤).

وقوله : (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران : ٥٩) ، أي فكان استحضارا لصورة تكوّنه.

وقوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) (البقرة : ١٠٢) أي ما تلت.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ) (الحجر : ٩٧) ، أي علمنا.

فإن قيل : كيف يتصور التقليل في علم الله؟

قيل : المراد أنهم أقل معلوماته ؛ ولأن المضارع هنا بمعنى الماضي ف «قد» فيه للتحقيق لا التقليل.

وقوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) (البقرة : ٩١) ، أي فلم قتلتم! وقوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (البينة : ١) أي لم يتفارقوا (٢) حتى تأتيهم.

وقوله : (مُنْفَكِّينَ) (البينة : ١) ، قال مجاهد (٣) : «منتهين» وقيل : زائلين من الدنيا.

وقال الأزهري (٤) : «ليس هو من باب «ما انفك» و «ما زال» إنما هو من انفكاك الشيء إذا انفصل عنه».

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المطبوعة (يتعارفوا) والصواب ما في المخطوطة ، كما نقله الأزهري أيضا في تهذيب اللغة ٩ / ٤٥٨ فقال (وقال ابن عرفة الملقب بنفطويه : معنى قوله «منفكين» مفارقين).

(٣) انظر تفسير مجاهد ٢ / ٧٧٤ تفسير سورة البينة.

(٤) انظر تهذيب اللغة ٩ / ٤٥٩ مادة «فك» ثم عقب بقوله (كما فسّره ابن عرفة) ، والأزهري هو أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر ، تقدم التعريف به في ١ / ٣٠٩.

٤٣٢

وقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ [بِذُنُوبِكُمْ]) (١) (المائدة : ١٨) ، المعنى : فلم عذّب آباءكم بالمسخ والقتل؟ لأن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يؤمر بأن يحتجّ عليهم بشيء لم يكن [بعد] (٢) ؛ لأن الجاحد يقول : إني لا أعذّب ، لكن احتجّ عليهم بما قد كان.

وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) (الحج : ٦٣). فعدل عن لفظ «أصبحت» إلى «تصبح» ، قصدا للمبالغة في تحقيق اخضرار الأرض لأهميته ؛ إذ (٣) هو المقصود بالإنزال.

فإن قلت : كيف قال النحاة : إنه يجب نصب الفعل المقرون بالفاء إذا وقع في جواب الاستفهام ، كقوله [تعالى] : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) (الأعراف : ٥٣) و «فتصبح» هنا مرفوع؟

قلت : لوجوه :

أحدها : أنّ شرط الفاء المقتضية للنصب أن تكون سببية ، وهنا ليست كذلك ، بل هي للاستئناف (٤) ؛ لأن الرؤية ليست سببا للإصباح.

الثاني : أن شرط النصب أن ينسبك من الفاء وما قبلها شرط وجزاء ، وهنا ليس كذلك ؛ لأنه لو قيل : إن تر أن الله أنزل [ماء] (٥) تصبح ؛ لم يصح ؛ لأن إصباح (٦) الأرض حاصل ؛ سواء رئي أم لا.

فإن قيل : شاع في كلامهم إلغاء فعل الرؤية ، كما في قوله : «ولا تزال ـ تراها ـ ظالمة» أي ولا تزال ظالمة ؛ وحينئذ فالمعنى منصبّ إلى الإنزال [لا إلى الرؤية] (٧) ؛ ولا شك أنّه يصحّ أن [٢٣١ / أ] يقال : «إن أنزل تصبح» ، فقد انعقد الشرط والجزاء.

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة وهو المقصود.

(٤) في المخطوطة (بل في الاستئناف).

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) تصحفت في المخطوطة إلى (اصحاب).

(٧) ليست في المخطوطة.

٤٣٣

قلت : إلغاء فعل الرؤية في كلامهم جائز لا واجب ؛ فمن أين لنا ما يقتضي تعيين حمل الآية عليه؟

الثالث : إن همزة الاستفهام إذا دخلت على موجب تقلبه (١) إلى النفي ، كقوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ [مِنْ دُونِ اللهِ]) (٢) (المائدة : ١١٦) ، وإذا دخلت على نفي تقلبه (١) إلى الإيجاب ؛ فالهمزة في الآية للتقرير ، فلما انتقل الكلام من النفي إلى الإيجاب لم ينتصب الفعل ، لأن شرط النصب (٣) كون السابق منفيّا محضا : ذكره العزيزي في «البرهان» (٤).

ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة السجدة : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) (السجدة : ٢٧).

الرابع : «أنه لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض لأن معناه إثبات الاخضرار ، فكان ينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار ، مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت فتشكر! إن نصبت فأنت ناف لشكره ، شاك تفريطه ، وإن رفعت فأنت مثبت لشكره. ذكر هذا الزمخشري في «الكشاف» (٥) ، قال : وهذا ومثاله مما يجب أن يرغب له من اتّسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله».

وقال ابن الخباز (٦) : النصب يفسد المعنى ؛ لأنّ رؤية المخاطب الماء الذي أنزله الله ليس سببا للاخضرار ؛ وإنما الماء نفسه هو سبب الاخضرار.

ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) (فاطر : ٩) ، فقال : «تثير» مضارعا ، وما قبله وما بعده ماضيا ، مبالغة في تحقيق إثارة الرياح السحاب للسامعين وتقدير تصوّره في أذهانهم.

__________________

(١) في المخطوطة (نقلته).

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) في المطبوعة (لأن شرط النفي) وما أثبتناه من المخطوطة.

(٤) هو أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك المعروف بشيذلة تقدم التعريف به في ١ / ١١٢ ، وتقدم التعريف بكتابه في ٢ / ٢٢٤.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٣٩ عند تفسير الآية (٦٣) من سورة الحج.

(٦) هو أحمد بن الحسين بن أحمد الإربلي شمس الدين ، تقدم التعريف به في ٣ / ١٤.

٤٣٤

فإن قيل : أهمّ الأفعال المذكورة في الآية إحياء الموتى ، وقد ذكر بلفظ الماضي ، وما ذكرته يقتضي أولويّة ذكره بلفظ المضارع ، إذ هو أهمّ ، وإثارة السحاب سبب أعيد على قريب.

قيل : لا نسلم بأهميّة إحياء الأرض بعد موتها ؛ فالمقدّمات المذكورة أهمّها وأدلها على القدرة أعجبها وأبعدها عن قدرة البشر ، وإثارة السحاب أعجبها ؛ فكان أولى بالتخصيص بالمضارع ؛ وإنما قال : إن إثارة السحاب أعجب لأن سببها أخفى ؛ من حيث أنّا (١) نعلم بالعقل (٢) أن نزول الماء سبب في اخضرار الأرض ، وإثارة السحاب وسوقه (٣) سبب نزول الماء. فلو خلّينا وظاهر العقل لم نعلم (٤) : إن الرياح سببها ؛ لعدم إحساسنا بمادّة السحاب وجهته [ولطافة الريح عن إدراك الحس] (٥).

ومن لواحق ذلك العدول عن المستقبل إلى اسم المفعول ، لتضمّنه معنى الماضي ، كقوله [تعالى (ذلِكَ] (٥) يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) (هود : ١٠٣) ، تقريرا للجمع فيه ، وأنّه لا بد أن يكون [معادا] (٦) للناس ، مضروبا لجميعهم ، وإن شئت فوازن بينه وبين قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ]) (٥) (التغابن : ٩) ، لتعرف (٧) صحة هذا المعنى.

فإن قلت : الماضي أدلّ على [هذا] (٥) المقصود من اسم المفعول ، فلم عدل عنه إلى ما دلالته أضعف؟ قلت : لتحصل المناسبة بين «مجموع» و «مشهور» في استواء شأنهما طلبا للتعديل في العبارة.

ومنه العدول عن المستقبل إلى اسم الفاعل ، كقوله تعالى : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) الذاريات : ٦) ، فإن اسم الفاعل ليس حقيقة في الاستقبال ، بل في الحال.

__________________

(١) في المخطوطة (من حيث انا لا نعلم).

(٢) في المطبوعة (نعلم بالفعل).

(٣) رسمها في المخطوطة (ونوقصه).

(٤) في المطبوعة (لم نقل).

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (يطلعك على صحة).

٤٣٥

مشاكلة اللفظ للفظ

هي قسمان : أحدهما ـ وهو الأكثر ـ المشاكلة بالثاني للأول ؛ نحو «أخذه ما قدم وما حدث». وقوله تعالى : (وَامْسَحُوا) [٢٣١ / ب](بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) (المائدة : ٦) ؛ على مذهب الجمهور وأن الجرّ للجوار : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ* وَالسَّماءَ رَفَعَها) (الرحمن : ٦ ـ ٧).

وقد تقع المشاكلة بالأول للثاني كما في قراءة إبراهيم بن أبي عبلة (١) : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) (الفاتحة : ٢) بكسر الدال ، وهي أفصح من ضم اللام للدال (٢).

مشاكلة اللفظ للمعنى

ومتى كان اللفظ جزلا كان المعنى كذلك ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) (آل عمران : ٥٩) ، ولم يقل من «طين» كما أخبر به سبحانه في غير موضع : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (ص : ٧١) [(خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (ص : ٧٦)] (٣) إنما عدل عن الطين الذي هو مجموع الماء والتراب إلى ذكر مجرّد التراب لمعنى لطيف ؛ وذلك أنّه أدنى العنصرين وأكثفهما ، لما كان المقصود مقابلة من ادّعى في المسيح الإلهية أتى بما يصغّر أمر خلقه عند من ادعى ذلك ؛ فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب

__________________

(١) تصحفت في المطبوعة إلى (عبيلة) ، وهو إبراهيم بن أبي عبلة شمر بن يقظان ثقة كبير تابعي ، له حروف في القراءات واختيار خالف فيه العامة ، أخذ القراءة عن أم الدرداء الصغرى هجيمة بنت يحيى وعن غيرها ، وأخذ عنه الحروف موسى بن طارق وروى عنه مالك بن أنس وابن المبارك وخلق ، ومن كلامه : «من حمل شاذ العلماء حمل شرا كبيرا» (ت ١٥٣ ه‍) (الجزري طبقات القراء ١ / ١٩).

(٢) عزو الزركشي القراءة بكسر الدال إلى ابن أبي عبلة مجانب للصواب ، إذ هو مخالف لما جاء في المصادر ، فالقراءة معزوة للحسن البصري ، وقراءة ابن أبي عبلة هي ضم اللام تبعا للدال ، قال ابن خالويه في مختصر شواذ القرآن ص ١ شواذ سورة الفاتحة (الحمد لله الحسن البصري ورؤبة ، الحمد لله إبراهيم بن أبي عبلة) ، وقال أبو حيان في البحر المحيط ١ / ١٨ تفسير سورة الفاتحة (والجمهور قرءوا بضم دال (الْحَمْدُ) واتبع إبراهيم بن أبي عبلة ميمه لام الجر لضمة الدال ، كما أتبع الحسن وزيد بن على كسرة الدال ، كما أتبع الحسن وزيد بن علي كسرة الدال لكسرة اللام) ، وقال البناء في إتحاف فضلاء البشر ص ١٢٢ (وعن الحسن الحمد لله حيث وقع بكسر الدال اتباعا لكسرة لام الجر بعدها).

(٣) ليست في المطبوعة.

٤٣٦

أمسّ في المعنى من غيره من العناصر ؛ ولما أراد سبحانه الامتنان على [بني] (١) إسرائيل [بعيسى عليه‌السلام] (٢) أخبرهم أنه (٣) يخلق [لهم] (١) من الطين كهيئة الطير ، تعظيما لأمر ما يخلقه بإذنه ؛ إذ كان [المعنى] (٢) المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه (٤) ليعظّموا قدر النعمة به.

ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) (النور : ٤٥) [فإنه] (١) سبحانه إنما اقتصر على ذكر الماء دون بقية العناصر ؛ لأنّه أتى بصيغة الاستغراق ، وليس في العناصر الأربع ما يعمّ جميع المخلوقات إلا الماء ليدخل الحيوان البحريّ فيها.

ومنه قوله تعالى : ([تَاللهِ] (٥) تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) (يوسف : ٨٥) ؛ فإنه سبحانه أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها ؛ فإنّ «والله» و «بالله» أكثر استعمالا وأعرف من «تالله» لما كان الفعل الذي جاور القسم أغرب الصيغ التي في بابه ؛ فإنّ «كان» وأخواتها أكثر استعمالا من «تفتأ» وأعرف عند العامة ؛ ولذلك أتى بعدها بأغرب ألفاظ الهلاك بالنسبة ، وهي لفظة «حرض» : ولما أراد غير ذلك [قال] (٦) : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) (فاطر : ٤٢) ، لما كانت جميع الألفاظ مستعملة.

ومنه قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (هود : ١١٣) ؛ فإنه سبحانه لما نهى عن الركون إلى الظالمين ، وهو الميل إليهم والاعتماد عليهم ، وكان دون ذلك (٧) مشاركتهم في الظلم ، أخبر أنّ العقاب [على ذلك دون العقاب] (٨) على الظلم ؛ وهو مسّ النار الذي هو دون الإحراق والاضطرام ؛ وإن كان المسّ قد يطلق ويراد به الإشعار بالعذاب.

ومنه قوله تعالى : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) (المائدة : ٢٨) ؛ فإنه نشأ في الآية سؤال ، وهو أن الترتيب في الجمل الفعلية تقديم الفعل وتعقيبه بالفاعل ، ثم بالمفعول ، فإن كان في الكلام مفعولان : أحدهما تعدّى وصول الفعل

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) في المطبوعة (أن يخلق).

(٤) في المخطوطة (بجعله).

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (وكان ذلك دون).

(٨) ليست في المخطوطة.

٤٣٧

إليه بالحرف (١) ، والآخر [تعدى] (٢) بنفسه ، قدم ما تعدّى إليه الفعل بنفسه ؛ وعلى ذلك جاء قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) (٣) (الفتح : ٢٤).

إذا ثبت هذا ، فقد يقال : كيف توخّى حسن الترتيب في عجز الآية دون صدرها؟ والجواب أنّ حسن الترتيب منع منه في صدر الآية مانع أقوى ، وهو مخافة أن يتوالى ثلاثة أحرف متقاربات المخرج ؛ فيثقل الكلام بسبب ذلك ؛ فإنه لو قيل «لئن بسطت يدك إليّ» والطاء والتاء [والياء] (٢) متقاربة [٢٣٢ / أ] المخرج ؛ فلذلك حسن تقديم المفعول الذي تعدّى الفعل إليه بالحرف على [الفعل] (٤) الذي تعدى إليه بنفسه ؛ ولمّا أمن هذا المحذور في عجز الآية لما اقتضته البلاغة من الإتيان باسم الفاعل موضع الجملة الفعلية ، لتضمّنه معنى الفعل الذي تصحّ به المقابلة ، جاء الكلام على ترتيبه : من تقديم المفعول الذي تعدّى الفعل إليه بنفسه ، على المفعول الذي تعدى إليه بحرف [الجرّ] (٥). وهذا أمر يرجع إلى تحسين اللفظ ؛ وأما المعنى فعلى نظم الآية ؛ لأنه لما كان الأول حريصا على التعدّي على الغير قدّم المتعدي [إليه] (٦) على الآلة ، فقال : (إِلَيَّ يَدَكَ) ولما كان الثاني غير حريص على ذلك ، لأنه نفاه عنه ، قدّم الآلة فقال : (يَدِيَ إِلَيْكَ) ؛ ويدل لهذا أنه عبّر عن (٧) الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم.

ويؤيد ذلك أيضا قوله [تعالى] في سورة الممتحنة : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ]) (٨) (الممتحنة : ٢) ؛ لأنه لمّا نسبهم للتعدي (٩) الزائد قدّم ذكر المبسوط [إليهم] (١٠) على الآلة ؛ وذلك الجواب السابق لا يمكن في هذه الآية.

ومثله قوله [تعالى] : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (النجم : ٣١) ؛ مقتضى الصناعة أن يؤتى بالتجنيس للازدواج في صدر الآية ،

__________________

(١) عبارة المخطوطة (أحدهما تعدى وصول الحرف إليه بالفعل).

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) في المخطوطة (هو الذي كف أيديكم عنهم وأيديهم عنكم).

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) في المخطوطة (مع الأول).

(٨) ليست في المطبوعة.

(٩) في المخطوطة (إلى التعدي).

(١٠) ليست في المخطوطة.

٤٣٨

كما أتي به في عجزها ، لكن منعه توخّي الأدب والتهذيب في نظم الكلام ؛ وذلك أنه لما كان الضمير الذي في «يجزي» عائدا على الله سبحانه ، وجب أن يعدل عن لفظ المعنى الخاصّ إلى رديفه ، حتى لا تنسب السيئة إليه (١) سبحانه ، فقال في موضع السيئة (بِما عَمِلُوا) فعوض عن تجنيس المزاوجة بالإرداف لما فيه من الأدب مع الله بخلاف قوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (الشورى : ٤٠) ، فإن هذا المحذور منه مفقود ، فجرى (٢) الكلام على مقتضى الصناعة.

ومنه قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) (النجم : ٤٩) ؛ فإنّه سبحانه خصّ الشّعرى بالذّكر دون غيرها من النجوم ؛ وهو ربّ كلّ شيء ، لأن العرب ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة (٣) عبد الشّعرى ، ودعا خلقا إلى عبادتها.

وقوله [تعالى] : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء : ٤٤) ، ولم يقل : «لا تعلمون» لما في الفقه من الزيادة على العلم.

وقوله حكاية عن إبراهيم : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) (مريم : ٤٥) فإنه لم يخل هذا الكلام من حسن الأدب مع أبيه ، حيث لم يصرّح فيه بأن العذاب لاحق له ، ولكنه قال : (إِنِّي أَخافُ) (مريم : ٤٥) فذكر الخوف والمسّ ، [و] (٤) ذكر العذاب ونكّره ولم يصفه بأنه يقصد التهويل ، بل قصد استعطافه ؛ ولهذا ذكر «الرحمن» ولم يذكر «المنتقم» ولا «الجبار» على ، حد قوله :

 فما يوجع الحرمان من كفّ حازم

كما يوجع الحرمان من كفّ رازق

ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ(٤) [ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (الأنعام : ١٠) فإنه قد يقال : ما الحكمة في التعبير بالسخرية دون الاستهزاء؟ وهلاّ قيل : «فحاق بالذين استهزءوا بهم»] (٤) ليطابق ما قبله؟

__________________

(١) عبارة المخطوطة (حتى لا تنسب السيئة إلى الله تعالى سبحانه).

(٢) عبارة المخطوطة (في الكلام).

(٣) كذا في المطبوعة والمخطوطة ، ولكن قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١١٩ (أول من عبده أبو كبشة ، أحد أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل أمهاته ، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن أبي كبشة) ، فالصواب أنه «أبو كبشة».

(٤) ليست في المخطوطة.

٤٣٩

والجواب أن الاستهزاء هو إسماع الإساءة ، والسخرية قد تكون في النفس [غير ممنوع] (١) ولهذا يقولون (٢) : سخرت منه كما يقولون (٢) : عجبت منه ؛ ولا يقال : تجنّب ذلك [لما في ذلك] (٤) من تكرار الاستهزاء [ثلاث] (٣) مرات ؛ لأنه قد كرر السخرية ثلاثا في قوله تعالى : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) (هود : ٣٨) ، وإنما لم يقل : «نستهزئ بكم» لأن الاستهزاء ليس من فعل الأنبياء.

[٢٣٢ / ب] وأما قوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (البقرة : ١٥) فالعرب تسمي الجزاء على الفعل باسم الفعل ، كقوله : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (التوبة : ٦٧) ؛ وهو مجاز حسن ؛ وأما الاستهزاء الذي نحن بصدده فهو استهزاء حقيقة ، لا يرضى به إلا جاهل.

ثم قال سبحانه : (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) (الأنعام : ١٠) ، أي حاق بهم من الله الوعيد البالغ لهم على ألسنة الرسل ما كانوا به يستهزءون بألسنتهم ، فنزّلت كلّ كلمة منزلتها.

وقوله [تعالى] : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (البقرة : ١٤٩) ولم يذكر الكعبة ، لأن البعيد يكفيه مراعاة الجهة ، فإن استقبال عينها حرج عليه ، بخلاف القريب ؛ ولما خصّ الرسول بالخطاب تعظيما وإيجابا لشرعته عمّم تصريحا بعموم الحكم (٤) ، وتأكيدا لأمر القبلة.

قاعدة

إذا اجتمع الحمل على اللفظ والمعنى ، بدئ باللفظ ثم بالمعنى ، (٥) [هذا هو الجادّة في القرآن ، كقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) (البقرة : ٨) ، أفرد أوّلا باعتبار اللفظ ، ثم جمع ثانيا باعتبار المعنى] (٥) ، فقال : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة : ٨) فعاد الضمير (٥) [مجموعا ؛ كقوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (الطلاق : ١١) ، فعاد الضمير] (٥) من «يدخله» مفردا على لفظ «من» ،

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) عبارة المخطوطة في الموضعين (تقول).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) عبارة المخطوطة (تعظيما له بالمشروعية ، عمم تصريحا لعموم الحكم).

(٥) ليست في المخطوطة.

٤٤٠