البرهان في علوم القرآن - ج ٣

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٣

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٩

وأعظم موقعا ، لتنزيله منزلة الواقع. والفائدة في المستقبل [إذا] (١) أخبر (٢) به عن الماضي لتتبين هيئة الفعل باستحضار صورته ، ليكون السامع كأنه شاهد ، وإنما عبر (٣) في الأمر بالتوبيخ بالماضي بعد قوله : (يُنْفَخُ) (النمل : ٨٧) للإشعار بتحقيق الوقوع وثبوته ، وأنه كائن لا محالة ، كقوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) (إبراهيم : ٢١) ، والمعنى : «يبرزون» ، وإنما قال : (وَحَشَرْناهُمْ) (الكهف : ٤٧) بعد (نُسَيِّرُ) (الكهف : ٤٧) (وَتَرَى) (الكهف : ٤٧) ، وهما مستقبلان ، لذلك.

التضمين

وهو إعطاء الشيء معنى الشيء ، وتارة يكون في [الأسماء ، وفي] (٤) : الأفعال ، وفي الحروف ، فأمّا في الأسماء فهو أن تضمّن اسما معنى اسم ؛ لإفادة معنى الاسمين جميعا ، كقوله [تعالى] : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَ) (الأعراف : ١٠٥) ، ضمّن «حقيق» معنى «حريص» ليفيد أنه محقوق بقول الحقّ وحريص عليه.

وأما الأفعال فأن تضمّن فعلا [معنى فعل] (٤) آخر ، ويكون فيه معنى الفعلين جميعا ؛ وذلك بأن يكون الفعل يتعدّى بحرف ، فيأتي متعديا بحرف آخر ليس من عادته التعدّي به ، فيحتاج إمّا إلى تأويله أو تأويل الفعل ، ليصحّ تعدّيه به.

واختلفوا أيّهما أولى؟ فذهب أهل اللغة وجماعة من النحويين إلى أنّ التوسع في الحرف وأنه واقع موقع غيره من الحروف أولى.

وذهب المحققون إلى أن التوسع في الفعل وتعديته بما لا يتعدى لتضمّنه معنى ما يتعدى بذلك الحرف أولى ؛ لأن التوسع في الأفعال أكثر.

مثاله قوله تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) (الإنسان : ٦) ، فضمّن «يشرب» معنى «يروى» ، لأنّه يتعدى (٥) بالباء ، فلذلك دخلت الباء ، وإلا ف «يشرب» يتعدّى بنفسه ، فأريد باللّفظ الشرب والريّ معا ، فجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة هي (عبر).

(٣) في المخطوطة هي (يخبر).

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) عبارة المطبوعة (لأنه لا يتعدى بالباء) ، وما أثبتناه من المخطوطة.

٤٠١

وقيل : التجوّز في الحرف ؛ وهو الباء ؛ فإنها بمعنى «من».

وقيل : لا مجاز أصلا ، بل العين هاهنا إشارة إلى المكان الذي ينبع منه الماء ، لا إلى الماء نفسه ، نحو نزلت بعين ، فصار كقوله : مكانا يشرب به.

وعلى هذا : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) (آل عمران : ١٨٨) ، قاله الراغب (١).

وهذا بخلاف المجاز ؛ فإنّ فيه العدول عن مسمّاه بالكليّة ، ويراد [٢٢٤ / ب] به غيره ، كقوله [تعالى] : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) (الكهف : ٧٧) ، [فإنّه] (٢) استعمل «أراد» في معنى مقاربة السقوط ؛ لأنه من لوازم الإرادة ، وإنّ من أراد شيئا فقد قارب فعله ، ولم يرد باللفظ هذا المعنى الحقيقيّ الذي هو الإرادة البتة. والتضمين [أيضا مجاز ؛ لأنّ اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا ، والجمع بينهما مجاز خاصّ يسمونه بالتضمين] (٢) ، تفرقة بينه وبين المجاز المطلق.

ومن التضمين قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) (البقرة : ١٨٧) ؛ لأنه لا يقال : رفثت [إلى] (٢) المرأة : لكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك.

وهكذا قوله : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) (النازعات : ١٨) ؛ وإنما يقال : هل لك في كذا؟ لكن المعنى أدعوك إلى أن تزكّى.

وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) (الشورى : ٢٥) ، فجاء ب «عن» ، لأنه ضمّن التوبة معنى العفو والصفح.

وقوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) (البقرة : ١٤) ، وإنما يقال : خلوت به ، لكن ضمّن «خلوا» معنى «ذهبوا» وانصرفوا» ، وهو معادل لقوله : (لَقُوا) (البقرة : ١٤) ؛ وهذا أولى من قول من قال : إنّ «إلى» هنا بمعنى الباء ، أو بمعنى «مع».

__________________

(١) انظر قول الراغب في المفردات ص ٣٥٥ كتاب العين ، وفي ٣٨٧ كتاب الفاء ، والراغب هو أبو القاسم الحسين بن محمد تقدم التعريف به في ١ / ٢١٨.

(٢) ليست في المخطوطة.

٤٠٢

وقال مكّي (١) : إنما [لم] (٢) تأت الباء ؛ لأنه يقال : خلوت به إذا سخرت منه ، فأتى ب «إلى» لدفع هذا الوهم.

وقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف : ١٦) ، قيل : الصراط منصوب على المفعول به ، أي لأكرّهنّ لهم (٣) صراطك ، أو لأملّكنّه لهم ، و «أقعد» وإن كان غير متعدّ ضمّن معنى فعل متعدّ.

وقوله : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) (الكهف : ٢٨) ، ضمّن «تعد» معنى «تنصرف» فعدّى ب «عن». قال ابن الشجريّ (٤) : «ومن زعم أنه كان حق الكلام ؛ «لا تعد عينيك عنهم» بالنصب ؛ لأن «تعد» متعدّ بنفسه فباطل ، لأن عدوت وجاوزت بمعنى واحد ، وأنت لا تقول : جاوز فلان عينيه (٥) عن فلان ، ولو كانت التلاوة بنصب العينين (٦) لكان اللفظ بنصبهما (٧) محمولا أيضا على : لا تصرف عينيك (٨) عنهم ، وإذا كان كذلك ، فالذي وردت [به] (٩) التلاوة من رفع العينين (١٠) يؤول إلى معنى النصب فيها ؛ إذ كان (لا تَعْدُ عَيْناكَ) بمنزلة «لا تنصرف» ومعناه لا تصرف عينيك (١١) عنهم ، فالفعل مسند إلى العينين (١٠) ، وهو في الحقيقة موجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قال : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ) (التوبة : ٨٥) ، أسند الإعجاب إلى الأموال ، والمعنى لا تعجب بأموالهم» (١٢).

وقوله : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) (إبراهيم : ١٣) ، ضمّن معنى «لتدخلنّ» أو «لتصيرنّ» ؛ وأما قول شعيب : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها [إِلاَّ أَنْ يَشاءَ]) (١٣) (الأعراف :

__________________

(١) هو مكي بن حموش بن محمد بن مختار القيسي تقدم التعريف به في ١ / ٢٧٨.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) عبارة المطبوعة (لألزمنّ لك صراطك).

(٤) هو أبو السعادات هبة الله بن علي بن حمزة ، تقدم التعريف به في ٢ / ٣٧٦ وانظر قوله في كتابه «الأمالي الشجرية» ١ / ١٤٨ المجلس الثاني والعشرون.

(٥) في المطبوعة والمخطوطة تحرفت إلى (عينه) والتصويب من الأمالي الشجرية.

(٦) في المطبوعة والمخطوطة (العين) والصواب من الأمالي.

(٧) في المطبوعة والمخطوطة (يتضمنها) والصواب من الأمالي.

(٨) في المطبوعة والمخطوطة (عينك) والصواب من الأمالي.

(٩) ليست في المخطوطة.

(١٠) في المطبوعة والمخطوطة (العين) والصواب من الأمالي.

(١١) في المطبوعة والمخطوطة (عينك) والصواب من الأمالي.

(١٢) هنا ينتهي قول ابن الشجري.

(١٣) ليست في المطبوعة.

٤٠٣

٨٩) فليس اعترافا بأنه كان فيهم ، بل مؤوّل على ما سبق ، وتأويل آخر وهو أن يكون من نسبة فعل البعض إلى الجماعة ، أو قاله على طريق المشاكلة لكلامهم ، وهذا أحسن.

وقوله : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) (الحج : ٢٦) ، ضمّن «لا تشرك» معنى «لا تعدل» والعدل : التسوية ، أي لا تسوّي به شيئا.

[وقوله] (١) : (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) (هود : ٢٣) ضمّن معنى «أنابوا» فعدّى بحرفه.

وقوله : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) (القصص : ١٠) ضمّن (لَتُبْدِي بِهِ) (القصص : ١٠) معنى «تخبر به» أو «لتعلم» ليفيد الإظهار معنى الإخبار (٢) ؛ لأن الخبر قد يقع سرّا غير ظاهر.

وقوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (الإسراء : ٧٩) ، جوّز الزمخشري (٣) نصب (مَقاماً) ، على [الظرف على] (١) تضمين (يَبْعَثَكَ) [معنى «يقيمك»] (١).

وقوله : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) (يونس : ٧١) ، قال الفارسي (٤) : ومن قرأ «فأجمعوا» بالقطع أراد فأجمعوا أمركم و [اجمعوا] (٥) شركاءكم ، كقوله :

متقلّدا سيفا ورمحا

وقوله : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) (سبأ : ٢٣) ، قال ابن سيده (٦) : عدّاه : ب «عن» لأنه في معنى كشف الفزع.

وقوله : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (المائدة : ٥٤) ، فإنه يقال : ذلّ له ، لا عليه ، ولكنه هنا ضمّن معنى التعطف والتحنّن.

وقوله : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) (البقرة : ٢٢٦) ضمن [(يُؤْلُونَ)] (٧) (البقرة : ٢٢٦) معنى «يمتنعون» من وطئهن بالأليّة.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) عبارة المخطوطة (ليفيد الإخبار معنى الخبر).

(٣) انظر قوله في الكشاف ٢ / ٣٧٢ عند تفسير الآية (٧٩) من سورة الإسراء.

(٤) انظر الكشاف ٢ / ١٩٧ عند تفسير الآية (٧١) من سورة يونس ، والفارسي هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار تقدم التعريف به في ١ / ٣٧٥ وانظر إتحاف فضلاء البشر» ص ٢٥٣ سورة يونس.

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) هو علي بن أحمد بن إسماعيل تقدم التعريف به في ١ / ١٥٩.

(٧) ليست في المخطوطة.

٤٠٤

وقوله : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) (الصافات : ٨) أي لا يصغون.

[٢٢٥ / أ](إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) (القصص : ٨٥) ، أي أنزل.

(فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) (الأحزاب : ٣٨) ، أي أحلّ له.

(وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (آل عمران : ٥٥) أي مميّزك.

(إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس : ٨١) أي لا يرضى.

(فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) (فصلت : ٦) ، أي أنيبوا [إليه] (١) وارجعوا.

(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) (الحاقة : ٢٩) ، أي زال.

(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) (النور : ٦٣) ، فإنه يقال (٢) : خالفت زيدا ، من غير احتياج لتعديه بالجارّ ، وإنما جاء (٣) محمولا على «ينحرفون» أو «يزيغون».

ومثله تعدية «رحيم» بالباء في نحو : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (الأحزاب : ٤٣) حملا على «رءوف» ، في نحو : (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (التوبة : ١٢٨) ، ألا ترى أنك تقول : رأفت به ، ولا تقول : رحمت به ، ولكن لما وافقه في المعنى تنزّل منزلته في التعدية.

وقوله : (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص : ٢٤) ، ضمّن معنى «سائل».

(الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ [يَسْتَوْفُونَ]) (٤) (المطففين : ٢) ، قال الزمخشري : ضمن معنى «تحاملوا» فعداه ب «على» والأصل فيه «من» (٥).

تنبيهان

الأول : الأكثر أن يراعى في التعدية ما ضمّن منه ، وهو المحذوف لا المذكور ، كقوله تعالى : (الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) (البقرة : ١٨٧) ، أي الإفضاء.

وقوله : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) (الإنسان : ٦) ، أي يروى [بها] (٦) ، وغيره مما سبق.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (فإنك تقول).

(٣) في المخطوطة (وإنما جاز).

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) هذه العبارة معنى قول الزمخشري الذي ذكره في الكشاف ٤ / ١٩٤ عند تفسير الآية (٢) من سورة المطففين.

(٦) ليست في المخطوطة.

٤٠٥

ولم أجد مراعاة الملفوظ به إلا في موضعين : أحدهما قوله تعالى : (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) (الأنبياء : ٦٠) على قول ابن الضائع (١) أنّه ضمن «يقال» معنى «ينادي» و «إبراهيم» نائب عن الفاعل ؛ وأورد على نفسه : [كيف] (٢) عدّي باللام ، والنداء لا يتعدى به؟ وأجاب بأنه روعي الملفوظ به ؛ وهو القول ؛ لأنه يقال : قلت له الثاني : قوله : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) (القصص : ١٢) ؛ فإنه قد يقال : كيف يتعلّق التكليف بالمرضع؟ فأجيب بأنّه ضمن «حرّم» المعنى اللغوي ، وهو المنع. فاعترض كيف عدّي ب «على» والمنع لا يتعدى به ؛ فأجيب بأنه روعي صورة اللفظ.

***

الثاني : أن التضمين يطلق على غير ما سبق ؛ قال القاضي أبو بكر في كتاب «إعجاز القرآن» (٣) : «هو حصول معنى فيه من غير ذكر له باسم [أو صفة] (٤) هي عبارة عنه ، ثم قسمه إلى قسمين : أحدهما ما يفهم من البنية ، كقولك : معلوم ، فإنه يوجب أنه لا بد من عالم.

والثاني من معنى العبارة كالصفة ، فضارب يدل على مضروب. قال : والتضمين كله إيجاز ، قال : وذكر أن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة : ١) من باب التضمين ؛ لأنّه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله تعالى ، أو التبرّك باسمه».

***

وذكر ابن الأثير في كتاب «المعاني المبتدعة» (٥) : أنّ التضمين واقع في القرآن خلافا لما أجمع عليه أهل البيان ؛ وجعل منه قوله تعالى في الصافات : (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ* لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (الصافات : ١٦٨ ـ ١٦٩).

***

ويطلق التضمين أيضا على إدراج كلام الغير في أثناء الكلام لتأكيد المعنى ، أو لترتيب النظم ؛ ويسمى الإبداع ، كإبداع الله تعالى في حكايات أقوال المخلوقين ، كقوله [تعالى]

__________________

(١) هو علي بن محمد بن علي بن يوسف تقدم التعريف به في ٢ / ٣٦٤.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) انظر قوله في كتابه «إعجاز القرآن» ص ٢٧٢ ـ ٢٧٣ فصل في وصف وجوه من البلاغة ، ومنها : التضمين.

(٤) زيادة من كتاب الباقلاني يقتضيها النص لاستقامة سياقه.

(٥) هو نصر الله بن أبي الكرم محمد بن محمد الموصلي تقدم التعريف به وبكتابه في ٣ / ١٨٩.

٤٠٦

حكاية عن قول الملائكة : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) (البقرة : ٣٠).

ومثل ما حكاه عن المنافقين : (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (البقرة : ١١).

وقوله : (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) (البقرة : ١٣).

[(وَقالَتِ الْيَهُودُ)] (١) (البقرة : ١١٣).

[ومثله] (٢) (وَقالَتِ النَّصارى) (البقرة : ١١٣) ، ومثله في القرآن كثير.

وكذلك ما أودع في القرآن من اللغات الأعجمية.

***

ويقرب من التضمين في إيقاع فعل موقع آخر إيقاع الظن موقع اليقين في الأمور المحققة ؛ كقوله تعالى : (١) [(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) (البقرة : ٤٦).

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ] (١) أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ [مِنْ] فِئَةٍ [قَلِيلَةٍ] (١)) (البقرة : ٢٤٩).

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) (الكهف : ٥٣).

(وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) (ص : ٢٤).

[٢٢٥ / ب](وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (فصلت : ٤٨).

وشرط ابن عطية في ذلك ألا يكون متعلّقه حسيّا ، كما تقول العرب في رجل يرى حاضرا : أظن هذا إنسانا ، وإنما يستعمل ذلك فيما لم يخرج إلى الحسّ بعد ، كالآيات السابقة.

قال الراغب في «الذريعة» (٣) : «الظنّ إصابة المطلوب بضرب من الأمارة متردّد بين يقين وشك ، فيقرب تارة من طرف اليقين ، وتارة من طرف الشك ، فصار أهل اللغة يفسّرونه بهما ؛ فمتى رئي إلى طرف اليقين أقرب استعمل معه «أنّ» المثقلة والمخففة فيهما ، كقوله

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) قول الراغب موجود أيضا في كتابه المفردات في غريب القرآن ص ٣١٧ مادة (ظنّ) بمعناه ، وبلفظه في كتابه «الذريعة إلى مكارم الشريعة» ص ١٨٥ ـ ١٨٦ توابع العقل ، وقد طبع كتاب الذريعة في القاهرة مطبعة الوطن سنة ١٢٩٩ ه‍ / ١٨٨١ م ، وسنة ١٣٠٨ ه‍ / ١٨٩٠ م ، وطبع في القاهرة المطبعة الشرفية سنة ١٣٢٤ ه‍ / ١٩٠٦ م ، وطبع في القاهرة سنة ١٣٣٤ ه‍ / ١٩١٥ م ، وفي القاهرة المطبعة الأزهرية وراجعه طه عبد الرءوف سعد سنة ١٣٩٩ ه‍ / ١٩٧٩ م (معجم سركيس ص ٩٢٢) ، وطبع بالأوفست في بيروت بدار الكتب العلمية سنة ١٤٠١ ه‍ / ١٩٨١ م ، وطبع في القاهرة بتحقيق أبو اليزيد العجمي دار الصحوة سنة ١٤٠٥ ه‍ / ١٩٨٥ ، وحققه عبد المجيد النجار (أخبار التراث العربي ١٩ / ١٦).

٤٠٧

تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) (١) (البقرة : ٤٦) (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) (الأعراف : ١٧١). ومتى رئي إلى الشك أقرب استعمل معه «أن» التي للمعدومين من الفعل ، نحو ظننت أن يخرج.

قال : وإنما استعمل الظن بمعنى العلم في قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) (البقرة : ٤٦) لأمرين :

أحدهما : للتنبيه على أنّ علم أكثر الناس في الدنيا بالنسبة إلى علمهم في الآخرة (٢) ، كالظنّ في جنب العلم.

والثاني : أن العلم الحقيقيّ في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنّبيّين والصديقين المعنيين بقوله [تعالى] : (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) (الحجرات : ١٥) ، والظنّ متى كان عن أمارة قوية فإنه يمدح به ، ومتى كان عن تخمين لم يمدح ، كما قال تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)» (٣) (الحجرات : ١٢).

وجوّز أبو الفتح في قوله : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) (المطففين : ٤ ـ ٥) أن يكون المراد بها اليقين ، وأن تكون على بابها ، وهو أقوى في المعنى ، أي فقد يمنع من هذا التوهم ، فكيف عند تحقيق الأمر ، فهذا أبلغ كقوله : «يكفيك من شرّ سماعه» أي لو توهم البعث والنشور وما هناك من عظم الأمر وشدته لاجتنب المعاصي ، فكيف عند تحقق الأمر! وهذا أبلغ.

وقيل : آيتا البقرة بمعنى الاعتقاد ، والباقي بمعنى اليقين ، والفرق بينهما أن الاعتقاد يقبل التشكيك بخلاف اليقين ، وإن اشتركا جميعا في وجوب الجزم بهما.

وكذلك قوله : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) (الحاقة : ٢٠).

وقد جاء عكسه وهو التجوّز عن الظن بالعلم ، كقوله تعالى : (وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا) (يوسف : ٨١) ، ولم يكن ذلك علما جازما بل اعتقادا ظنيّا.

__________________

(١) الآية في المطبوعة (الذين يظنون أنهم ملاقوا الله) (البقرة : ٢٤٩) ، وما أثبتناه من المخطوطة موافق لما في كتاب الذريعة.

(٢) عبارة المخطوطة (إلى علم الآخرة).

(٣) هنا تنتهي عبارة الراغب المنقولة من كتابه «الذريعة».

٤٠٨

وقوله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء : ٣٦) ، وكان يحكم بالظن وبالظاهر.

وقوله : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) (الممتحنة : ١٠) وإنما يحصل بالامتحان في الحكم ، ووجه التجوز أنّ بين الظن والعلم قدرا مشتركا وهو الرجحان ، فتجوّز بأحدهما عن الآخر.

وضع الخبر موضع الطلب

[أي] (١) في الأمر والنهي

كقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ]) (١) (البقرة : ٢٣٣).

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) (البقرة : ٢٢٨).

[وقوله] (١) (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (الرعد : ٢٤).

(الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ [لَكُمْ]) (٢) (يوسف : ٩٢).

وقوله : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ...) (المائدة : ٨٩) الآية ؛ ولهذا جعلها العلماء من أمثلة الواجب [المخير] (١).

(فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) (البقرة : ١٩٧) على قراءة الرفع (٣) ، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا.

(وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) (البقرة : ٢٧٢) قالوا : هو خبر ، وتأويله نهي ، أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله ، كقوله : (لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة : ٧٩) وكقوله : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) (البقرة : ٢٣٣) ، على قراءة الرفع. وقيل : إنه نهي مجزوم ـ أعني قوله : (لا يَمَسُّهُ) (الواقعة : ٧٩) ـ ولكن ضمّت اتباعا للضمير ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّا لم نردّه عليك إلا أنّا حرم» (٤).

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) ذكر مكي الآية في الكشف عن وجوه القراءات السبع ١ / ٢٨٥ فقال : (قوله (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) قرأهما ابن كثير وأبو عمرو بالتنوين والرفع ، وقرأ الباقون بالفتح من غير تنوين) ، وكلمة (الرفع) تصحفت في المطبوعة إلى (نافع).

(٤) متفق عليه من رواية الصعب بن جثّامة الليثي رضي‌الله‌عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ٤ / ٣١ كتاب جزاء الصيد (٢٨) ، باب إذا أهدي للمحرم حمارا وحشيا ... (٦) ، الحديث (١٨٢٥) ، وأخرجه مسلم في الصحيح ٢ / ٨٥٠ كتاب الحج (١٥) ، باب تحريم الصيد للمحرم (٨) ، الحديث (٥٠ / ١١٩٣) ،

٤٠٩

وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ) (البقرة : ٨٣) ، ضمّن (لا تَعْبُدُونَ) معنى «لا تعبدوا بدليل قوله بعده : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة : ٨٣) ، وبه يزول (١) الإشكال في عطف [٢٢٦ / أ] الإنشاء على الخبر ؛ [لكن] (٢) إن كان (حُسْناً) معمولا لأحسنوا ، فعطف (قُولُوا) عليه أولى لاتفاقهما لفظا ومعنى ، وإن كان التقدير و «يحسنون» فهو كالذي قبله ، والعطف على القريب أولى. وقيل [إن] (٣) : (لا تَعْبُدُونَ) (البقرة : ٨٣) أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهيّ يسارع إلى الانتهاء ، فهو مخبر عنه.

وكذا قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) (البقرة : ٨٤) في موضع «لا تسفكوا».

وقوله في سورة الصف : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (الآية : ١٣) عطفا على قوله : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (الصف : ١١) ، ولهذا جزم الجواب.

وقوله : «(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) (يس : ٥٥) إلى قوله : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ) (يس : ٥٩): ؛ فإن المقام يشتمل على تضمين (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ) (يس : ٥٥) معنى الطلب ، بدليل ما قبله : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) (يس : ٥٤) ، فإنه كلام وقت الحشر لوروده معطوفا بالفاء ، على قوله : (إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) (يس : ٥٣) وعامّ لجميع الخلق لعموم قوله : (لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) (يس : ٥٤) ، وإن الخطاب الوارد بعده على سبيل الالتفات ، وهو قوله : (وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (يس : ٥٤) ، خطاب [عام] (٤) لأهل المحشر ، فيكون قوله : (إِنَ

__________________

ولكن ضبط كلمة (نردّه) في الصحيحين بفتح الدال وفي بيان ذلك نقل ابن حجر في فتح الباري ٤ / ٣٣ ما نصه (قال عياض : ضبطناه في الروايات «لم نردّه» بفتح الدال ، وأبى ذلك المحققون من أهل العربية وقالوا : الصواب أنه بضم الدال لأن المضاعف من المجزوم يراعى فيه الواو التي توجيها لها ضمة الهاء بعدها ، قال وليس الفتح بغلط بل ذكره ثعلب في «الفصيح». نعم تعقبوه عليه بأنه ضعيف ، وأوهم صنيعه أنه فصيح ، وأجازوا أيضا الكسر وهو أضعف الأوجه ، قلت : ووقع في رواية الكشميهني بفك الإدغام «لم نردده» بضم الأولى وسكون الثانية ولا إشكال فيه) ، وشاهد الزركشي في الحديث بضمها.

(١) في المخطوطة (فيزول).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) ليست في المخطوطة.

٤١٠

أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) (يس : ٥٥) إلى قوله : (أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (يس : ٥٩) مقيدا بهذا (١) الخطاب لكونه تفصيلا لما أجمله : (وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (يس : ٥٤) ، وإن التقدير أن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر ، ثم جاء في التفسير أن قوله هذا : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) (يس : ٥٥) يقال لهم حين يساق بهم إلى الجنة ، بتنزيل ما هو للتكوين منزلة الكائن ، أي أن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر ، يؤول حالهم إلى أسعد حال ، والتقدير حينئذ : ليمتازوا عنكم إلى الجنة» ، هكذا قرره السكاكيّ في «المفتاح» (٢).

قيل : وفيه نظر ؛ لأنها إذا كانت طلبية ومعناها أمر المؤمنين بالذهاب إلى الجنة ، فليكن الخطاب معهم لا مع أهل المحشر [لأن الخطاب في التحيير هنا هو المأمور فيها] (٣).

ولهذا قال بعضهم : إن تضمين أصحاب أهل الجنة للطّلب ليس المراد منه أن الجملة نفسها طلبية ، بل معناه أن يقدر جملة إنشائية بعدها ، بخلاف قوله : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة : ٨٣).

ومنه قوله تعالى : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (الصف : ١١ ـ ١٢) ، فإنه يقال : كيف جاء الجزم في جواب الخبر؟ وجوابه أنه لمّا كان في معنى الأمر جاز ذلك ، إذ المعنى : آمنوا وجاهدوا.

وقال ابن جنّي : لا يكون (يَغْفِرْ [لَكُمْ]) (٤) (الصف : ١٢) جوابا ل (هَلْ أَدُلُّكُمْ) (الصف : ١٠) وإن كان أبو العباس قد قاله ، [قال أبو علي] (٤) لأن المغفرة تحصل بالإيمان لا بالدلالة. انتهى. وقد يقال الدلالة : سبب السبب.

إذا علمت هذا ؛ فإنما يجيء الأمر بلفظ الخبر الحاصل تحقيقا لثبوته ؛ وأنه مما ينبغي أن يكون واقعا ولا بد ، وهذا هو المشهور.

__________________

(١) عبارة المخطوطة (تقييدا بعد الخطاب).

(٢) ذكره السكاكي في مفتاح العلوم ص ٢٥٨ ـ ٢٥٩ الفن الرابع الفصل والوصل ... ، ثم ذكر التوسط.

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) ليست في المطبوعة.

٤١١

وفيه طريقة أخرى نقلت عن القاضي أبي بكر وغيره ؛ وهي أنّ هذا خبر حقيقة غير مصروف عن جهة الخبرية ؛ ولكنه خبر عن حكم الله وشرعه ليس خبرا عن الواقع ؛ حتى يلزم ما ذكره من الإشكال ؛ وهو احتمال عدم وقوع مخبره ؛ فإن هذا إنما يلزم الخبر عن الواقع ؛ أما الخبر عن الحكم فلا ؛ لأنه لا يقع خلافه أصلا.

وضع الطلب موضع الخبر

كقوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) (مريم : ٧٥).

وقوله : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) (التوبة : ٥٣).

[٢٢٦ / ب] وقوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة : ١٢٥).

وقوله : «(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَأَلْقِ عَصاكَ) (النمل : ٨ ـ ٩ ـ ١٠) فقوله : (وَأَلْقِ) معطوف على قوله. (أَنْ بُورِكَ) ف (أَلْقِ) وإن كان إنشاء لفظا ، لكنه خبر معنى. والمعنى : فلما جاءها قيل بورك من [في] (١) النار ، وقيل : ألق.

والموجب لهذا قول النحاة (٢) [إن] (١) «أن» هذه مفسّرة لا تأتي إلا بعد فعل في معنى القول ، وإذا قيل : كتبت إليه أن ارجع ، وناداني أن قم ، كلّه (٣) بمنزلة : قلت له [ارجع] (٤) ، وقال لي قم» كذا قاله صاحب «المفتاح» (٥).

وما ذكره من أن (بُورِكَ) خبرية لفظا ومعنى ممنوع (٦) ؛ لجواز أن يكون دعاء وهو إنشاء ؛ وقد ذكر هذا التقدير ، الفارسي وأبو البقاء (٧) ، فتكون الجملتان متفقتين في معنى الإنشاء ؛ فتكون مثل (لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ) (البقرة : ٨٣).

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (النحويين).

(٣) في المخطوطة (مكان بمنزلة).

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) ذكره السكاكي في مفتاح العلوم ص ٢٥٩ عند قوله عن «التوسط».

(٦) تصحفت في المخطوطة إلى (فهو).

(٧) انظر قول أبي البقاء العكبري في كتابه «إملاء ما من به الرحمن» ٢ / ٩٣ (ط ميمنية) عند تفسير الآية من سورة النمل.

٤١٢

وقوله : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ [بِآياتِ رَبِّنا]) (١) (الأنعام : ٢٧) إلى قوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (الأنعام : ٢٨) ؛ فإنه يقال : كيف ورد التمني على التكذيب وهو إنشاء؟.

وأجاب الزمخشري (٢) أنه ضمّن معنى العدة ، وأجاب غيره بأنه محمول على المعنى من الشرط والخبر ؛ كأنه قيل : إن رددنا لم نكذّب وآمنّا. والشرط خبر ، فصحّ ورود التكذيب عليه.

وقوله : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) (العنكبوت : ١٢) ، أي ونحن حاملون ، بدليل قوله : (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (العنكبوت : ١٢) والكذب إنما يرد على الخبر.

وقوله : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) (مريم : ٣٨) ؛ تقديره : ما أسمعهم وأبصرهم! لأنّ الله تعالى لم يتعجّب منهم ، ولكنّه دلّ المكلّفين على أن هؤلاء قد نزّلوا (٣) منزلة من يتعجب منه.

وممّا يدلّ على كونه ليس [أمرا] (٤) حقيقيا ظهور الفاعل الذي هو الجار والمجرور في الأول ، وفعل الأمر لا يبرز فاعله أبدا.

ووجه التجوّز في هذا الأسلوب أنّ الأمر شأنه أن يكون ما فيه داعية للأمر ؛ وليس الخبر كذلك ، فإذا عبّر عن الخبر بلفظ الأمر أشعر ذلك بالدّاعية ، فيكون ثبوته وصدقه [أقرب] (٤).

هذا بالنسبة لكلام العرب لا لكلام الله ؛ إذ يستحيل في حقه سبحانه الداعية للفعل.

بقي الكلام في أيّهما أبلغ؟ هذا القسم أو الذي قبله؟.

قال الكواشي (٥) في قوله تعالى : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) (مريم : ٧٥) ، الأمر بمعنى الخبر ؛ لتضمنه [معنى] (٦) اللزوم ؛ نحو إن زرتنا فلنكرمك ، يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم.

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) انظر قول الزمخشري في الكشاف ٢ / ٩ عند تفسير الآية (٢٧) من سورة الأنعام.

(٣) في المخطوطة (قد ينزلون).

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) هو أحمد بن يوسف بن حسن تقدم التعريف به في ١ / ٢٧٢.

(٦) ليست في المطبوعة.

٤١٣

وقال الزمخشريّ (١) في قوله تعالى : (لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ) (البقرة : ٨٣) ، ورود الخبر ؛ والمراد الأمر أو النهي ، أبلغ من صريح الأمر والنهي ؛ كأنّه سورع فيه إلى الامتثال والخبر عنه.

وقال النّوويّ في «شرح مسلم» (٢) في باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها [في النكاح] (٣) : وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : («لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ، ولا يسوم على سوم أخيه» ، هكذا هو في جميع النسخ ، «ولا يسوم» بالواو «ولا يخطب» بالرفع ، وكلاهما لفظه لفظ الخبر ؛ والمراد به النهي وهو أبلغ في النهي ، لأن خبر الشارع لا يتصور وقوع خلافه ، والنهي قد تقع مخالفته ، فكأن المعنى : عاملوا هذا النهي معاملة خبر الحتم ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا تسأل المرأة طلاق أختها» يجوز في «تسأل» الرفع والكسر ، والأول على الخبر الذي يراد به النهي ، وهو المناسب لقوله قبله : «لا يخطب ولا يسوم» ، والثاني على النهي الحقيقي) انتهى.

وضع النداء موضع التعجب

كقوله [٢٢٧ / أ] تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) (يس : ٣٠) ، قال الفراء : «معناه : فيا لها من حسرة» (٤)! والحسرة في اللغة أشدّ الندم ؛ لأن القلب يبقى حسيرا.

وحكى أبو الحسين بن خالويه في كتاب «المبتدأ» (٥) عن البصريين أن هذه من أصعب مسألة في القرآن ، لأن الحسرة لا تنادى ، وإنما تنادى الأشخاص ؛ لأن فائدته التنبيه ، ولكن المعنى على التعجب ، كقوله : يا عجبا لم فعلت! (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ) (الزمر : ٥٦) [وهو] (٦) أبلغ من قولك : العجب. قيل : فكأنّ التقدير يا عجبا احضر ، يا حسرة احضري!

__________________

(١) انظر الكشاف ١ / ٧٨ ـ ٧٩ عند تفسير الآية (٨٣) من سورة البقرة.

(٢) انظر قول النووي في «شرح صحيح مسلم» ٩ / ١٩٢ كتاب النكاح ، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها.

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) انظر قوله في معانى القرآن ٢ / ٣٧٥ عند تفسير الآية (٣٠) من سورة يس.

(٥) هو الحسين بن خالويه تقدم التعريف به وبكتابه «المبتدأ» في ٢ / ٣٦٩.

(٦) ليست في المخطوطة ، وعبارة المخطوطة (في هذا أبلغ).

٤١٤

وقرأ الحسن : يا حسرة العباد (١).

ومنهم قال : الأصل «يا حسرتاه» ثم أسقطوا الهاء تخفيفا ، ولهذا قرأ عاصم يا أسفاه على يوسف (يوسف : ٨٤).

وقال ابن جني في كتاب «الفسر» (٢) معناه أنه لو كانت الحسرة مما يصحّ نداؤه لكان هذا وقتها.

وأما قوله تعالى : (يا بُشْرى) (يوسف : ١٩) ، فقالوا : معنى النداء فيما لا يعقل تنبيه المخاطب وتوكيد القصة ؛ فإذا قلت : يا عجبا! فكأنك قلت : اعجبوا ، فكأنه قال : يا قوم أبشروا.

قال أبو الفتح في «الخاطريات» (٣) : وقد توضع الجملة من المبتدأ والخبر موضع المفعول به ، كقوله تعالى : ([وَلَكُمْ]) (٤) فِيها مَنافِعُ (غافر : ٨٠) بعد قوله : ([اللهُ] (٥) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها) (غافر : ٧٩) ، المعنى : ولتنتفعوا بها ، عطفا على قوله : (٦) (لِتَرْكَبُوا مِنْها) (غافر : ٧٩) وعلى هذا قال : ([وَ] (٧) لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) (غافر : ٨٠). وكذلك قوله : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (غافر : ٧٩) ، أي ولتأكلوا منها. ولذلك أتى : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (غافر : ٨٠) ، فعطف الجملة من الفعل ومرفوعه على المفعول له.

ونظيره قوله تعالى : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ [فَاتَّقُونِ]) (٨) (المؤمنون : ٥٢) ، [أي ولأنّي ربّكم فاتقون] (٧) ، فوضع الجملة من المبتدأ والخبر موضع المفعول له.

وبهذا يبطل تعلّق [من تعلق] (٧) على ثبوته في قوله تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ

__________________

(١) قراءة الحسن ذكرها ابن البنا في إتحاف فضلاء البشر ص ٣٦٤.

(٢) تقدم التعريف بكتابه في ٢ / ٢٨٤.

(٣) تقدم التعريف بكتابه في ٢ / ٤٣٦.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) عبارة المخطوطة (عطف قوله (لِتَرْكَبُوا مِنْها) ولهذا قال).

(٧) ليست في المخطوطة.

(٨) ليست في المطبوعة.

٤١٥

إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) (التوبة : ٣) ، وقوله : إن هذا ليس من مواضع الابتداء لجواز تقدير : وأذان بأن الله بريء ، وبأنّ رسوله كذلك.

وضع جمع القلة موضع الكثرة

لأن الجموع يقع بعضها موقع بعض ، لاشتراكها في مطلق الجمعية ، كقوله تعالى : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) (سبأ : ٣٧) ، فإن المجموع بالألف والتاء للقلة ، وغرف الجنة لا تحصى.

وقوله : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) (آل عمران : ١٦٣) ، ورتب الناس في علم الله أكثر من العشرة لا محالة.

وقوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) (الزمر : ٤٢).

وقوله : (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (النمل : ١٤) ، وهو كثير.

[و] (١) قيل : [سبب] (١) ذلك في الآية الأولى دخول الألف واللام الجنسية ؛ فيكون ذلك تكثيرا لها ، وكان دخولها على جمع القلة أولى من دخولها على جمع الكثرة ، إشارة إلى قلة من يكون فيها ، ألا ترى أنّه لا يكون فيها إلا المؤمنون! وقد نصّ سبحانه على قلّتهم بالإضافة إلى غيرهم في قوله تعالى : (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (ص : ٢٤) ، فيكون التكثير الداخل في قوله : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ) (سبأ : ٣٧) ، لا من جهة [وضع جمع القلة موضع جمع الكثرة ؛ ولكن من جهة] (١) ما اقتضته الألف واللام للجنس.

واعلم أن جموع التكثير الأربعة وجمعي التصحيح (٢) ـ أعني جمع التأنيث وجمع التذكير ـ كل ذلك للقلّة ؛ أما جموع التكسير فبالوضع ، وأمّا جمعا التصحيح ؛ فلأنهما (٣) [أقرب] (١) إلى التثنية ؛ وهي أقل العدد ، فوجب أن [يكون] (٤) الجمع المشابه لها بمنزلتها في القلّة ، وما عداها من الجموع فيرد تارة للقلة وتارة للكثرة بحسب القرائن ، قال تعالى :

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) تصحفت في المطبوعة إلى (التخصيص).

(٣) في المخطوطة (فلأنه).

(٤) ليست في المخطوطة.

٤١٦

(الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة : ٧). (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة : ٢). (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (البقرة : ٥) ، (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (البقرة : ١١). (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) (البقرة : ١٢). (مُسْتَهْزِؤُنَ) (البقرة : ١٤) [٢٢٧ / ب](وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (البقرة : ١٦). (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) (البقرة : ٢٨). (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (البقرة : ٣١). (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (البقرة : ٣١). (بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) (البقرة : ٢٠). (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة : ٤٤). (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (الطلاق : ١).

(وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (التوبة : ٧٠). (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة : ٨٥). (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) (البقرة : ١٥٤).

(وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى) (البقرة : ١٨٥). (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (البقرة : ١٩٧).

(بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) (المائدة : ٨٩). (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) (البقرة : ٢٣٢).

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) (البقرة : ٢٣٨). فإن قلت : ليس هذا منه ، بل هي للقلة ، لأنها خمس.

قلت : لو كان كذلك لما صحّ : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (البقرة : ٢٣٦). (فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) (البقرة : ٢٣٥) ؛ فالمراد منها واحد ، والجواب عن أحدهما الجواب عن الآخر.

وقوله تعالى : (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) (البقرة : ٢٦٦). (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) (البقرة : ٢٧١) ، (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ) (آل عمران : ١٧) الآية. (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (١) (الأحزاب : ٣٥) الآية. ولا تحصى كثرة.

ومن شواهد مجيء جمع القلة مرادا به الكثرة قول حسان رضي‌الله‌عنه :

لنا الجفنات الغرّ يلمعن (٢) في الضّحى

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

وحكى أن النابغة قال له : قد قلّلت جفناتك (٣) وأسيافك (٤).

__________________

(١) في المخطوطة زيادة «إنّ» في الآية (إن المؤمنين والمؤمنات) وليست في الآية.

(٢) في المخطوطة (يلمحن) والصواب ما في المطبوعة ، كما في الديوان ، وقد تقدم عزو البيت في ٣ / ١٣٤.

(٣) تصحفت في المطبوعة إلى (جفتاك).

(٤) هذه الحكاية عن اعتراض النابغة ذكرها البغدادي في خزانة الأدب ٣ / ٤٣٠ فقال تحت عنوان جمع ـ

٤١٧

وطعن الفارسي (١) في هذه الحكاية لوجود وضع جمع القلة موضع الكثرة فيما له جمع كثرة ، وفيما لا جمع له كثرة في كلامهم. وصحّحها بعضهم قال : يعني أنه كان ينبغي لحسان تجنّب اللفظ الذي أصله أن يكون في القلة ، وإن كان جائزا في اللسان وضعه لقرينة إذا كان الموضع موضع مدح ، أو أنّه وإن كانت القلة [توضع] (٢) لمعنى الكثرة ، لكن ليس في كل مقام.

ومن المشكل قوله تعالى : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) (البقرة : ٢٤٥) فإن (أَضْعافاً) جمع قلّة فكيف جاء بعده كثرة! والجواب أن جمع القلة يستعمل مرادا به الكثرة ، وهذا منه.

تنبيهان

الأول : إنما يسأل عن حكمة ذلك حيث كان له جمع كثرة ، فإن لم يكن [له] (٢) فلا ، كقوله [تعالى] : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) (البقرة : ١٨٤) ؛ فإنّ (أَيَّاماً) أفعال مع أنها ثلاثون ، لكن ليس لليوم جمع غيره ؛ ومن ثم أفرد السّمع وجمع (٣) الأبصار في قوله : ([وَ] (٤) عَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ) (البقرة : ٧) لأن «فعلا» ساكن العين صحيحها لا يجمع على «أفعال» غالبا ؛ وليس له جمع تكسير ؛ فلما كان كذلك اكتفى بدلالة الجنس على الجمع.

وجعل بعضهم من هذا «أنفسكم» على كثرتها في القرآن ؛ وليس كذلك ، فقد جاء (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) (التكوير : ٧) ، وحكمته هنا ظاهرة ، لأنّ المراد استيعاب جميع الخلق في المحشر.

ونظيره : (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) (البقرة : ٢٦٦) لإمكان «الثمار» وليس رأس آية.

__________________

التكسير ، بعد إيراد البيت لحسان (على أنه ثبت اعتراض النابغة على حسان بقوله : قللت جفانك وسيوفك).

(١) انظر طعن الفارسي في هذه الحكاية في خزانة الأدب ٣ / ٤٣٠.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) في المخطوطة تصحفت إلى (وأفرد الأبصار) والصواب ما في المطبوعة.

(٤) ليست في المخطوطة.

٤١٨

ومنه : (آياتٌ مُحْكَماتٌ) (آل عمران : ٧) لإمكان «آي» ، ولا يقال إنه لطلب المشاكلة فقد قال تعالى بعده (١) : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (آل عمران : ٧) ، فدل على عدم المشاكلة لإمكان «أخريات».

وكذلك (٢) قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (البقرة : ٢٥) ، وليس رأس آية ، ولا فيه مشاكلة ، لإمكان «الأنهر».

وقد جاء أنفس للقلة ، كقوله : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) (آل عمران : ٦١) ، وقيل : المراد نفسان من باب : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (التحريم : ٤).

***

الثاني : إنما يتم في المنكّر أما المعرّف فيستغنى بالعموم عن ذلك ، وبهذا يخدش في كثير (٣) مما سبق جعله [من] (٤) هذا النوع. وقد قال الزمخشري في قوله تعالى : (مِنَ الثَّمَراتِ) (البقرة : ٢٢) : إنه جمع قلة ، وضع موضع جمع الكثرة (٥) ، وردّ عليه بأن [«أل»] (٤) في «الثمرات» للعموم فيصير كالثمار ، ولا حاجة إلى ارتكاب وضع جمع قلة موضع جمع [كثرة] (٤) ، وكذلك بيت حسان السابق فإن الجفنات [٢٢٨ / أ] معرّفة ب «أل» «وأسيافنا» مضاف ، فيعمّ.

تذكير المؤنث

يكثر في تأويله بمذكر ، كقوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) (البقرة : ٢٧٥) ، على تأويلها بالوعظ.

وقوله : (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) (ق : ١١) ، على تأويل البلدة بالمكان ، وإلا لقال : «ميتة».

__________________

(١) عبارة المخطوطة (فقال بعده).

(٢) في المخطوطة (وكذا).

(٣) في المخطوطة زيادة في العبارة (من باب كثير).

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) انظر الكشاف ١ / ٤٦ عند تفسير الآية (٢٢) من سورة البقرة.

٤١٩

وقوله : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) (الأنعام : ٧٨) ، أي الشخص أو الطالع.

وقوله : (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (الأعراف : ٨٥) ، أي بيان ودليل وبرهان.

وقوله : (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) (الأنعام : ٦).

وإنما يترك التأنيث كما يترك في صفات المذكر ، لا كما في قولهم : امرأة معطار ؛ لأن السماء بمعنى المطر ، مذكر ، قال :

إذا نزل السّماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا (١)

ويجمع على أسمية وسمّي ، قال العجاج :

تلفّه الأرواح والسميّ (٢)

وقوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) (النساء : ٨) ، إلى قوله : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) (النساء : ٨) ، ذكّر الضمير ؛ لأنه ذهب بالقسمة إلى المقسوم.

وقوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) (النحل : ٦٦) ، ذهب بالأنعام إلى معنى النعم ، أو حمله على معنى الجمع.

وقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف : ٥٦) ، ولم يقل «قريبة» قال الجوهري : ذكّرت (٣) على معنى الإحسان. وذكر الفراء (٤) أن العرب تفرق بين النسب ، والقرب من المكان ، فيقولون : هذه قريبتي من النسب ، وقريبي من المكان ، فعلوا ذلك فرقا بين قرب النسب والمكان.

قال الزجاج : وهذا غلط (٥) ؛ لأنّ كلّ ما قرب من مكان ونسب ، فهو جار على ما يقتضيه

__________________

(١) البيت ذكره ابن منظور في لسان العرب ١٤ / ٣٩٩ مادة (سما) وعزاه لمعاوية بن مالك ، معوّد الحكماء ، قال : (وسمّي معود الحكماء لقوله في هذه القصيدة :

أعوّد مثلها الحكماء بعدي

إذا ما الحق في الحدثان نابا)

(٢) ذكره ابن منظور في المصدر نفسه وعزاه لرؤية ، وتمام البيت : في دفء أرطاة لها جنيّ ، وقد تصحف اسم (العجاج) في المخطوطة إلى (الحجاج).

(٣) انظر الصحاح ١ / ١٩٨.

(٤) تصحف اسمه في المخطوطة إلى الغزي ، والصواب ما في المطبوعة ، وانظر قوله في معاني القرآن ١ / ٣٨٠ عند تفسير الآية (٥٦) من سورة الأعراف.

(٥) في المخطوطة (وهذا أقرب).

٤٢٠