البرهان في علوم القرآن - ج ٣

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٣

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٩

لفظيّ ، وشرطه أن يكون الضمير في المتنقّل إليه عائدا في نفس الأمر إلى الملتفت عنه ، ليخرج نحو أكرم زيدا ، وأحسن إليه ، فضمير «أنت» الذي هو في (١) «أكرم» غير الضمير في «إليه».

***

واعلم أنّ للتكلم والخطاب والغيبة مقامات ، والمشهور أنّ الالتفات هو الانتقال من أحدها إلى الآخر بعد التعبير بالأول.

وقال السكاكيّ (٢) : إما ذلك ، وإما التعبير بأحدهما فيما حقه التعبير بغيره.

[البحث] الثاني : في أقسامه

وهي كثيرة :

الأول

الالتفات من التكلم إلى الخطاب

ووجهه حثّ السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه ، وأنّه أعطاه فضل عناية وتخصيص بالمواجهة ، كقوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣) (يس : ٢٢) ، الأصل (٤) : «وإليه أرجع» ، فالتفت من التكلم إلى الخطاب ، وفائدته أنّه أخرج الكلام في معرض مناصحته لنفسه ، وهو يريد نصح قومه ، تلطّفا وإعلاما أنه [يريد لهم ما] (٥) يريده لنفسه ، ثم التفت إليهم لكونه في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله.

وأيضا فإنّ قومه لما أنكروا عليه عبادته لله ، أخرج الكلام معهم بحسب حالهم ، فاحتجّ عليهم بأنّه يقبح منه أنّه لا يعبد فاطره ومبدعه ؛ ثم حذّرهم بقوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس : ٢٢).

لذا جعلوه (٦) من الالتفات ، وفيه نظر ، لأنه إنّما يكون منه إذا كان القصد الإخبار عن نفسه في كلتا الجملتين ، وهاهنا ليس كذلك ، لجواز أن يكون أراد بقوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)

__________________

(١) في المخطوطة (الذي هو فاعل أكرم).

(٢) هو يوسف بن أبي بكر تقدم التعريف به في ١ / ١٦٣.

(٣) انظر مفتاح العلوم للسكاكي ص ٢٤٥.

(٤) عبارة المخطوطة (الأصل فيه «أرجع»).

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) عبارة المخطوطة (لذا جعلوا هذا من ...).

٣٨١

(يس : ٢٢) المخاطبين ؛ ولم يرد نفسه ، ويؤيده ضمير الجمع ، ولو أراد نفسه لقال : «ترجع».

وأيضا فشرط الالتفات أن يكون في جملتين [٢٢٠ / أ] و «فطرني» و «[وإليه] (١) ترجعون» كلام واحد.

وأجيب بأنه لو كان المراد بقوله : (تُرْجَعُونَ) (يس : ٢٢) ظاهره لما صحّ الاستفهام الإنكاريّ ؛ لأنّ رجوع العبد إلى مولاه ليس بمعنى (٢) أن يعيده غير ذلك الراجع. فالمعنى : كيف [لا] (٣) أعبد من إليه رجوعي ؛ وإنما ترك «وإليه أرجع» إلى (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس : ٢٢) لأنه داخل فيهم. ومع ذلك أفاد فائدة حسنة ؛ وهي أنه نبّههم أنّهم مثله في وجوب [عبادة] (٤) من إليه الرجوع ؛ فعلى هذا ، الواو [واو الحال] (٣) للحال ، وعلى الأول واو العطف.

ومنه قوله : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) (الكهف : ٨٢) عدل [عن قوله : «رحمة] (٦) منّا» إلى قوله : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) (الكهف : ٨٢) ؛ لما فيه من الإشعار بأنّ ربوبيته تقتضي رحمته ؛ وأنّه رحيم بعبده ، كقوله : (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) (سبأ : ١٥).

وقوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ) (الأعراف : ٥٥) [(وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ)] (٥) (الحج : ٧٧). وهو كثير.

وقوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) (الفتح : ١ ـ ٢) ولم يقل : «لنغفر لك» تعليقا لهذه المغفرة التامة باسمه المتضمّن لسائر أسمائه الحسنى ، ولهذا علّق به النصر ، فقال : (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (الفتح : ٣).

الثاني

من التكلم إلى الغيبة

ووجهه أن يفهم السامع أنّ هذا نمط المتكلم وقصده من السامع ، حضر أو غاب ، وأنّه

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) عبارة المخطوطة (ليس بملوم أن يعيده).

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) ليست في المخطوطة ، وفي عبارة المخطوطة تحريف كلمة (وجوب) ورسمها (حبت).

(٥) ليست في المخطوطة.

٣٨٢

في كلامه ليس ممّن يتلوّن ويتوجّه ، فيكون في المضمر ونحوه ذا لونين ، وأراد بالانتقال إلى الغيبة الإبقاء على المخاطب ؛ من قرعه في الوجه بسهام الهجر ، فالغيبة أروح له ، وأبقى على ماء وجهه أن يفوت ، كقوله : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ [وَانْحَرْ]) (١) (الكوثر : ١ ـ ٢) ، حيث لم يقل «لنا» تحريضا على فعل الصلاة لحقّ الربوبية.

وقوله : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الدخان : ٤ ـ ٥ ـ ٦).

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ...) (الأعراف : ١٥٨) إلى قوله : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (الأعراف : ١٥٨) ، ولم يقل : [«بي»] (٢).

وله فائدتان : إحداهما دفع التهمة عن نفسه بالعصبيّة لها ، والثاني تنبيههم على استحقاقه الاتباع بما اتّصف به من الصفات المذكورة ، من النبوّة والأميّة ، التي هي [أكبر دليل على] (٢) صدقه ، وأنّه لا يستحق الاتباع لذاته ، بل لهذه الخصائص.

الثالث

من الخطاب إلى التكلم

كقوله : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا* إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا) (طه : ٧٢ ـ ٧٣) ؛ وهذا إنما يتمشّى على قول من لم يشترط أن يكون المراد بالالتفات واحدا ؛ فأما من اشترطه فلا (٣) يحسن أن يمثّل به ، ويمكن أن يمثل بقوله تعالى : (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) (يونس : ٢١) على أنه سبحانه نزّل نفسه منزلة المخاطب.

الرابع

من الخطاب إلى الغيبة

كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) (يونس : ٢٢) ، فقد التفت عن (كُنْتُمْ) (يونس : ٢٢) إلى (جَرَيْنَ بِهِمْ) (يونس : ٢٢) ، وفائدة العدول عن

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (فلم يحسن).

٣٨٣

خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم ، لتعجّبه من فعلهم وكفرهم ، إذ لو استمرّ على خطابهم لفاتت تلك الفائدة.

وقيل : لأنّ الخطاب أوّلا كان مع الناس : مؤمنهم وكافرهم ؛ بدليل قوله : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (يونس : ٢٢) ، فلو قال : «وجرين بكم» للزم الذمّ للجميع ، فالتفت عن الأول للإشارة إلى الاختصاص بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية ، فعدل عن الخطاب العامّ إلى الذمّ الخاصّ ببعضهم ، وهم الموصوفون بما أخبر به عنهم.

وقيل : لأنهم وقت الركوب [حصروا] (١) لأنّهم خافوا الهلاك وتقلّب الرياح ، فناداهم نداء الحاضرين. ثم إن الرياح لما جرت بما تشتهي النفوس ، وأمنت الهلاك لم يبق حضورهم كما كان ، على ما [هي عادة الإنسان ؛ أنّه إذا] (١) [٢٢٠ / ب] أمن غاب ، فلما غابوا عند جريه بريح طيبة فكّرهم (٢) الله بصيغة الغيبة ؛ فقال : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) (يونس : ٢٢).

وقوله : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) (الزخرف : ٧٠) ثم قال : (يُطافُ عَلَيْهِمْ) (الزخرف : ٧١) ، فانتقل من الخطاب إلى الغيبة ، ولو ربط بما قبله لقال : «يطاف عليكم» ، لأنه مخاطب لا مخبر ، ثم التفت فقال : (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) (الزخرف : ٧١) فكرّر الالتفات.

وقوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (الروم : ٣٩).

وقوله : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (الحجرات : ٧).

وقوله : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ* وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) (الأنبياء : ٩٢ ـ ٩٣) ، والأصل «فقطعتم» عطفا على ما قبله ، لكن عدل من الخطاب إلى الغيبة ، فقيل ؛ إنّه سبحانه نعى (٣) عليهم ما أفسدوه من أمر دينهم إلى قوم آخرين ، ووبخهم (٤) عليه قائلا : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله [لم] (٥)!

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (ذكرهم).

(٣) في المخطوطة (ينعي).

(٤) في المخطوطة (ويوبخهم عليهم).

(٥) ليست في المخطوطة.

٣٨٤

وجعل منه ابن الشجريّ (١) : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (الضحى : ٣) ، وقد سبق أنه على حذف المفعول ، فلا التفات (٢).

الخامس

من الغيبة إلى التكلم

كقوله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) (الإسراء : ١).

(وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) (فصلت : ١٢).

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) (مريم : ٨٨ ـ ٨٩).

وقوله : ([وَ] (٣) اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ) (فاطر : ٩) وفائدته أنّه لما كان سوق السحاب إلى البلد [الميت] (٤) إحياء للأرض بعد موتها بالمطر ، دالا على القدرة الباهرة ، والآية العظيمة التي لا يقدر عليها غيره ، عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم ؛ لأنه أدخل في الاختصاص ، وأدلّ عليه وأفخم.

وفيه معنى آخر ، وهو أنّ الأفعال (٥) المذكورة في هذه [الآية] (٦) ، منها ما أخبر به سبحانه بسببه (٧) ؛ وهو سوق السحاب ، فإنه بسوق الرياح ، فتسوقه الملائكة بأمره ، وإحياء الأرض به بواسطة إنزاله ، وسائر الأسباب التي يقتضيها حكمه وعلمه ، وعادته سبحانه في كلّ هذه الأفعال أن يخبر بها بنون التعظيم ، الدالة على أن له جندا وخلقا (٨) قد سخرهم في ذلك ، كقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (القيامة : ١٨) ، أي إذا قرأه رسولنا جبريل. وقوله : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) (طه : ١٠٢).

__________________

(١) انظر الأمالي الشجرية ١ / ٣٢٢ فصل في الحذوف الواقعة بالأسماء والأفعال ، وفي ١ / ٣٢٧ المجلس الموفي الأربعين.

(٢) في المخطوطة زيادة في هذا الموضع هي (وقوله يا أيها الناس).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) في المطبوعة (الأقوال).

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (سبحانه ، أنه بسبب ، وهو ...).

(٨) في المخطوطة (الدالة على أنه خلقا وجندا).

٣٨٥

وأما إرسال السحاب فهو سحاب يأذن في إرسالها ، ولم يذكر له سببا ، بخلاف سوق السحاب ، وإنزال المطر فإنه قد ذكر أسبابه : (١) ([وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام : ٩٩) ، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) (الحج : ٦٣) ، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ] (١) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) (فاطر : ٢٧). (أَمَّنْ خَلَقَ (٢) السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) (النمل : ٦٠).

وجعل الزمخشريّ منه قوله : في سورة طه : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً [مِنْ نَباتٍ شَتَّى]) (٣) (طه : ٥٣) : وزعم الجرجاني أن في هذه الآية التفاتا ، وجعل قوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) (طه : ٥٣) آخر كلام موسى ، ثم ابتدأ الله تعالى فأخبر عن نفسه بأوصافه لمعالجتها.

وأشار الزمخشري (٣) إلى أن فائدة الالتفات إلى التكلم في هذه المواضع التنبيه على التخصيص بالقدرة ؛ وأنه لا يدخل تحت قدرة واحد ، وهو معنى قول غيره : إن الإشارة إلى حكاية الحال واستحضار تلك الصورة البديعة الدالّة على القدرة. وكذا يفعلون لكلّ فعل [٢٢١ / أ] فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب ، [أو تهمّ المخاطب] (٤) ؛ وإنما قال : (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) (الحج : ٦٣) ، لإفادة بقاء المطر زمانا بعد زمان.

ومثله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) (فصلت : ١٢) ، عدل عن الغيبة في «قضاهنّ» و «سواهنّ» إلى التكلم في قوله : (وَزَيَّنَّا) (فصلت : ١٢) ، فقيل للاهتمام بذلك ، والإخبار عن نفسه ، بأنّه جعل الكوكب زينة السماء الدنيا ، وحفظا ؛ تكذيبا لمن أنكر ذلك.

وقيل : لما كانت الأفعال المذكورة في هذه الآية نوعين :

أحدهما : وجه الإخبار عنه بوقوعه في الأيام المذكورة ، وهو خلق الأرض في يومين ، وجعل (٥) الرواسي من فوقها وإلقاء البركة فيها ، وتقدير الأقوات في تمام أربعة أيام ؛ ثم الإخبار

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) عبارة الآية في المخطوطة (أم خلقوا السموات ...) والصواب ما في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة ، وانظر الآية عند الزمخشري في الكشاف ٢ / ٤٣٦ تفسير سورة طه.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) عبارة المخطوطة (وجعل فيها رواسي من فوقها ، وألقى البركة).

٣٨٦

بأنّه استوى إلى السماء ، وأنّه أتمّها وأكملها سبعا في يومين ؛ فأتى في هذا (١) [النوع بضمير الغائب ، عطفا] (١) على أول الكلام في قوله : (١) ([قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ] (١) فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ [مِنْ فَوْقِها]) (٢) (فصلت : ٩ ـ ١٠) إلى قوله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ...) (فصلت : ١٢) الآية.

والثاني : قصد به الإخبار مطلقا ، من غير قصد مدة خلقه ، وهو تزيين سماء الدنيا بمصابيح ، (٣) [وجعلها حفظا ؛ فإنه لم يقصد بيان مدّة ذلك ؛ بخلاف ما قبله ؛ فإن نوع الأول يتضمن إيجادا لهذه المخلوقات العظيمة في هذه المدة اليسيرة ، وذلك من أعظم آثار قدرته.

وأما تزيين السماء الدنيا بالمصابيح] (٣) فليس المقصود به الإخبار عن مدة خلق النجوم ، فالتفت من الغيبة إلى التكلم ، فقال : (زَيَّنَّا).

فائدة

وقد تكرر الالتفات في قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء : ١) في أربعة مواضع ؛ فانتقل عن الغيبة في قوله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى [بِعَبْدِهِ]) (٤) (الإسراء : ١) ، إلى التكلم في قوله : (بارَكْنا حَوْلَهُ) (الإسراء : ١) ، ثم عن التكلم إلى الغيبة في قوله : (٤) [(لِيُرِيَهُ) (الإسراء : ١) ، بالياء على قراءة الحسن (٥) ، ثم عن الغيبة إلى التكلم في قوله : (آياتِنا) (الإسراء : ١) ؛ ثم عن التكلم إلى الغيبة في قوله] (٤) : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء : ١).

وكذلك في الفاتحة ، فإنّ من أولها إلى قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة : ٤) أسلوب [غيبة] (٦) ، ثم التفت بقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة : ٥) إلى أسلوب خطاب في قوله (٧) : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة : ٧) ، ثم التفت إلى الغيبة بقوله : (غَيْرِ

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) ذكرها أبو حيان في البحر المحيط ٦ / ٦.

(٦) في المخطوطة مكان هذه الكلمة بياض.

(٧) في المخطوطة زيادة (ثم إلى قوله) بعد عبارة (في قوله).

٣٨٧

الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة : ٧) ، ولم يقل «الذين غضبت» كما قال : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة : ٧).

السادس من الغيبة إلى الخطاب

كقوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) (مريم : ٨٨ ـ ٨٩) ، ولم يقل : «لقد جاءوا» للدلالة على أنّ من قال مثل قولهم ينبغي أن يكون موبّخا عليه ، منكرا عليه قوله ، كأنه يخاطب به [قوما] (١) حاضرين.

وقوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) (مريم : ٣٩) ، ثم قال : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها) (مريم : ٧١).

وقوله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً* إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) (الإنسان : ٢١ ـ ٢٢).

وقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ) (آل عمران : ١٠٦).

وقوله : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ) (التوبة : ٣٥).

وقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) (الفرقان : ٤٥) ، ثم قال : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) (الفرقان : ٤٥).

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [سَواءٌ عَلَيْهِمْ] (٢) أَأَنْذَرْتَهُمْ ...) (البقرة : ٦) الآية.

وقوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [كُلُوا]) (٢) (البقرة : ٥٧).

وقوله : (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (الأحزاب : ٥٠).

وقوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) (الأنعام : ٦).

وقوله حكاية عن الخليل : (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* إِنَّما

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ليست في المخطوطة.

٣٨٨

تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (العنكبوت : ١٦ ـ ١٧) ، إلى قوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) (العنكبوت : ٢٤).

وقوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) (١) وَيَأْتِ بِخَلْقٍ [٢٢١ / ب](جَدِيدٍ* وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ* وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) (إبراهيم : ١٩ ـ ٢٠ ـ ٢١).

وقوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) (الأعراف : ١٧٥) إلى قوله :

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) (الأعراف : ١٧٦).

وقوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ [فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ] (٢) ... الآية) (المائدة : ٣٨ ـ ٣٩).

وجعل بعضهم منه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ [إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا]) (٣) (المائدة : ٦) ، وهو عجيب لأن «الذين» موصول لفظه [للغيبة] (٣) ولا بدّ له من عائد وهو الضمير في «آمنوا» ، فكيف يعود ضمير مخاطب على غائب! فهذا مما لا يعقل.

وقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ* إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (الفاتحة : ٤ ـ ٥) ؛ فقد التفت عن الغيبة وهو (مالِكِ) (الفاتحة : ٤) إلى الخطاب وهو : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (الفاتحة : ٥).

ولك أن تقول : إن كان التقدير : قولوا الحمد لله ، ففيه التفاتان ـ أعني في الكلام المأمور به :

أحدهما : في لفظ الجلالة ، فإن الله تعالى حاضر ، فأصله الحمد لك.

والثاني : (إِيَّاكَ) (الفاتحة : ٥) لمجيئه على خلاف الأسلوب السابق وإن لم يقدّر : «قولوا» كان في «الحمد لله» التفات عن التكلم إلى الغيبة ؛ فإنّ الله سبحانه حمد نفسه ، ولا يكون في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (الفاتحة : ٥) التفات ؛ لأن «قولوا» مقدرة معها قطعا ؛ فإمّا أن يكون في الآية التفاتين (٤) ، أو لا التفات بالكلية.

__________________

(١) في المخطوطة زيادة في الآية (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت ...).

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) في المطبوعة (فإما أن يكون في الآية التفات).

٣٨٩

السابع

بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أو تكلمه

فيكون التفاتا عنه ، كقوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة : ٧) بعد (أَنْعَمْتَ) (الفاتحة : ٧) ؛ فإن (١) المعنى «غير الذين غضبت عليهم» ذكره التنوخي (٢) في «الأقصى القريب» والخفاجي (٣) ، وابن الأثير (٤) وغيرهم.

واعلم أنّه على رأي السكاكي (٥) تجيء الأقسام الستة في القسم الأخير ، وهو الانتقال التقديريّ.

وزعم صاحب «ضوء المصباح» (٦) أنه لم يستعمل منها إلا وضع الخطاب والغيبة موضع التكلم ، ووضع التكلم موضع الخطاب ، ومثّل الثالث بقوله : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) (يس : ٢٢) ، مكان «وما لكم لا تعبدون الذي فطركم».

وجعل بعضهم من الالتفات قوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) (البقرة : ١٧٧) ثم قال : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) (البقرة : ١٧٧) ، وقوله : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (النساء : ١٦٢).

البحث الثالث في أسبابه

اعلم أن للالتفات فوائد عامة وخاصة ؛ فمن العامة التفنّن والانتقال من أسلوب إلى آخر

__________________

(١) في المخطوطة (فالمعنى).

(٢) هو محمد بن محمد التنوخي زين الدين تقدم التعريف به وبكتابه في ٢ / ٤٤٨.

(٣) هو عبد الله بن محمد بن سعيد تقدم التعريف به في ١ / ١٥٣.

(٤) هو نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم ضياء الدين تقدم التعريف به في ٣ / ١٨٩.

(٥) هو يوسف بن أبي بكر أبو يعقوب السكاكي تقدم التعريف به في ١ / ١٦٣.

(٦) هو محمد بن يعقوب بن إلياس المعروف بابن النحوية تقدم التعريف به في ٣ / ٢٠٩ ، وكذلك ذكر ضمن الحاشية التعريف بكتابه «ضوء المصباح» ولكن مما يقتضي التنويه وجود كتاب ثان بهذا العنوان هو «ضوء المصباح» للأسفراييني تاج الدين محمد بن محمد (ت ٦٨٤ ه‍) ولكنه شرح «المصباح» للمطرزي ملخصا ، وللأسفراييني أيضا شرح أوفى «للمصباح» هو «المفتاح» ثم اختصره فسماه «ضوء المصباح» المتقدم ذكره (حاجي خليفة كشف الظنون ٢ / ١٧٠٨) ، وهناك كتاب عنوانه : «ضوء المصباح» لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الضرير المراكشي ، وهو شرح «المصباح في اختصار المفتاح» أي «مفتاح العلوم» للسكاكي.

٣٩٠

لما في ذلك من تنشيط السامع ، واستجلاب صفائه ، واتساع مجاري الكلام ، وتسهيل الوزن والقافية [شعرا ونثرا] (١).

وقال البيانيون : إن الكلام إذا جاء على أسلوب واحد وطال حسن تغيير الطريقة.

ونازعهم القاضي شمس الدين الخوييّ (٢) وقال : الظاهر أنّ مجرّد هذا لا يكفي في المناسبة ، فإنّا رأينا كلاما أطول في هذا ، والأسلوب محفوظ ، قال تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ...) (الأحزاب : ٣٥) إلى [أن] (٣) ذكر عشرة أصناف ، وختم ب (الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) (الأحزاب : ٣٥) ، ولم يغيّر الأسلوب ؛ وإنما المناسبة أن الإنسان كثير التقلب ، وقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن ، ويقلّبه كيف يشاء ، فإنه يكون غائبا فيحضر بكلمة واحدة ، وآخر يكون حاضرا فيغيب ، فالله تعالى لما قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (الفاتحة : ٢) تنبه السامع وحضر قلبه (٤) ، فقال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة : ٥) وأمّا الخاصة فتختلف باختلاف محالّه ومواقع الكلام فيه على ما يقصده المتكلم.

***

فمنها قصد تعظيم شأن المخاطب ، كما في : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (الفاتحة : ٢) ، فإنّ العبد إذا افتتح حمد مولاه بقوله : «الحمد لله» الدالّ على اختصاصه بالحمد وجد من نفسه التحرّك [٢٢٢ / أ] للإقبال عليه سبحانه ؛ فإذا انتقل إلى قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) (الفاتحة : ٢) الدالّ على ربوبيته لجميعهم قوي تحرّكه ، فإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة : ٣) الدالّ على أنه منعّم بأنواع النعم ؛ جليلها وحقيرها تزايد التحرّك عنده ، فإذا وصل ل (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة : ٤) وهو خاتمة الصفات الدالّة على أنه مالك الأمر يوم الجزاء ، [فيتأهّب قربه] (٥) وتيقّن الإقبال عليه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات.

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) هو أحمد بن خليل بن سعادة قاضي القضاة شمس الدين تقدم التعريف به في ١ / ١٠٨ ، وقد تحرف الاسم في المطبوعة إلى (شمس الدين بن الجوزي) والتصويب من المخطوطة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (بقلبه).

(٥) ليست في المخطوطة.

٣٩١

[وقيل] (١) إنما اختير للحمد لفظ الغيبة ، وللعبادة الخطاب ، للإشارة إلى أن الحمد دون العبادة في الرتبة ؛ فإنّك تحمد نظيرك ولا تعبده ، إذ الإنسان يحمد من لا يعبده ، ولا يعبد من لا يحمده (٢) ، فلما كان كذلك استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ولم يقل «[الحمد] (٣) لك» ، ولفظ العبادة مع الخطاب فقال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (الفاتحة : ٥) لينسب إلى العظيم حال المخاطبة والمواجهة ، على ما هو أعلى رتبة ؛ وذلك على طريق التأدب. وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة فقال : (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة : ٧) مصرّحا (٤) بذكر المنعم ، وإسناد الإنعام إليه لفظا ولم يقل «صراط المنعم عليهم» ؛ فلما صار إلى ذكر الغضب روى عنه لفظ (٥) الغضب في النسبة إليه لفظا ، وجاء باللفظ متحرفا عن ذكر الغاضب ؛ فلم يقل «غير الذين غضبت عليهم» ، تفاديا عن نسبة الغضب في اللفظ حال المواجهة.

ومن هذا قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) (الإسراء : ١١١) ؛ فإنّ التأدب في الغيبة دون الخطاب.

وقيل : لأنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، وأجرى عليه الصفات العظيمة من كونه ربّا للعالمين ورحمانا ورحيما ، ومالكا ليوم الدين ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بأن يكون معبودا دون غيره ، مستعانا به ، فخوطب بذلك لتميّزه بالصفات المذكورة ، تعظيما لشأنه [كلّه] (٦) ؛ حتى كأنه قيل : إياك ، يا من هذه صفاته نخصّ بالعبادة والاستعانة لا غيرك.

قيل : ومن لطائفه (٧) التنبيه على أنّ مبتدأ الخلق الغيبة منهم (٨) عنه سبحانه ، وقصورهم عن محاضرته ومخاطبته ، وقيام حجاب العظمة عليهم ، فإذا عرفوه بما هو له ، وتوسلوا للقرب بالثناء عليه ، وأقروا بالمحامد له وتعبّدوا له بما يليق بهم ، تأهّلوا لمخاطباته ومناجاته فقالوا : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة : ٥).

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) تصحفت العبارة في المخطوطة إلى (ولا يعبد إلا من يحمده) والصواب ما في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (معرجا).

(٥) في المخطوطة (ذكر الغضب).

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) في المطبوعة (ومن لطائف).

(٨) في المخطوطة (مبتدأ الخلق إليه منه عنه سبحانه ، وقصورهم عن مخاطرته ...).

٣٩٢

وفيه أنّهم يبدون بين يدى كلّ دعاء له سبحانه ومناجاة له صفات عظمته لمخاطبته على الأدب والتعظيم ، لا عن الغفلة والإغفال ، ولا عن اللعب والاستخفاف ، كمن يدعو بلا نيّة أو على تلعب وغفلة ، وهم كثير.

ومنه أن مناجاته لا تصعد (١) إلا إذا تطهر [له] (٢) من أدناس الجهالة به ، كما لا تسجد الأعضاء إلا بعد التطهير من حدث الأجسام ؛ ولذلك قدمت الاستعاذة على القرآن.

قال الزمخشريّ : وكما في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) (النساء : ٦٤) ، ولم يقل «واستغفرت لهم» لأنّ في [هذا] (٢) الالتفات بيان تعظيم استغفاره ، وأنّ شفاعة من اسمه الرسول بمكان (٣).

***

ومنها : التنبيه على ما حق الكلام أن يكون واردا عليه ، كقوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس : ٢٢) ، أصل الكلام «وما لكم لا تعبدون الذي فطركم» ولكنه أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه ، وهو يريد مناصحتهم ؛ ليتلطّف بهم ، ويريهم [٢٢٢ / ب] أنه لا يريد لهم ، إلا ما يريد لنفسه ، ثم لما انقضى غرضه [من ذلك] (٤) قال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس : ٢٢) ليدلّ على ما كان من أصل الكلام ، ومقتضيا [له] (٤) ، ثم ساقه هذا المساق إلى أن قال : (آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (يس : ٢٥).

***

ومنها : أن يكون الغرض به التتميم لمعنى مقصود للمتكلم ؛ فيأتي به محافظة على تتميم ما قصد إليه من المعنى المطلوب له ، كقوله : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الدخان : ٤ ، ٥ ، ٦) ، أصل الكلام «إنا [كنا] (٥) مرسلين رحمة منّا» ، ولكنه وضع الظاهر موضع المضمر (٦) ، للإنذار بأنّ الربوبية تقتضي الرحمة للمربوبين ، للقدرة عليهم ، أو لتخصيص النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذكر ، أو الإشارة

__________________

(١) في المخطوطة (لا تشرع).

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) انظر الكشاف ١ / ٢٧٧ عند تفسير الآية (٦٤) من سورة النساء.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) في المخطوطة (موضع الضمير).

٣٩٣

إلى أنّ الكتاب (١) إنما هو إليه دون غيره ، ثم التفت بإعادة الضمير إلى الربّ الموضوع موضع المضمر ، للمعنى المقصود من تتميم المعنى.

ومنها : قصد المبالغة ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) (يونس : ٢٢) كأنّه يذكر لغيرهم حالهم ، ليتعجّب منها ويستدعي منه (٢) الإنكار والتقبيح لها ؛ إشارة منه على سبيل المبالغة إلى [أنّ] (٣) ما يعتمدونه بعد الإنجاء من البغي في الأرض بغير الحقّ ، ممّا ينكر ويقبح.

***

[و] (٣) منها : قصد الدلالة على الاختصاص ، كقوله : ([وَ] (٣) اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا [بِهِ]) (٣) (فاطر : ٩) فإنه لما كان سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر دالاّ على القدرة الباهرة التي لا يقدر عليها (٤) غيره ، عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم ؛ لأنه أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه : [قال] (٥) «سقنا» و «أحيينا».

***

ومنها : قصد الاهتمام ، كقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ* فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (فصلت :١١ ـ ١٢) ، فعدل عن الغيبة في (٦) «قضاهن» (وَأَوْحى) إلى التكلم في (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) للاهتمام بالإخبار عن نفسه ، فإنه تعالى جعل الكواكب في سماء الدنيا للزينة والحفظ ؛ وذلك لأن طائفة اعتقدت في النجوم أنها ليست في [سماء] (٧) الدنيا ، وأنها ليست

__________________

(١) في المخطوطة (إلى إنزال الكتاب).

(٢) في المخطوطة (ويستدعي من الإنكار).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (على غيره).

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) في المخطوطة (فقضاهن).

(٧) ليست في المخطوطة.

٣٩٤

حفظا ولا رجوما ، فعدل إلى التكلّم والإخبار عن ذلك ، لكونه مهمّا من مهمات الاعتقاد ، ولتكذيب الفرقة المعتقدة بطلانه.

***

ومنها : قصد التوبيخ ، كقوله [تعالى] (١) : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) (مريم : ٨٨ ـ ٨٩) ، عدل عن الغيبة إلى الخطاب ، للدلالة على أنّ قائل مثل قولهم (٢) ، ينبغي أن يكون موبّخا ومنكرا عليه ؛ ولما أراد توبيخهم على هذا أخبر (٣) عنه بالحضور ، فقال : (لَقَدْ جِئْتُمْ) (مريم : ٨٩) ، لأن توبيخ الحاضر أبلغ في الإهانة له.

ومنه قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ* وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) (الأنبياء : ٩٢ ـ ٩٣) ؛ [قال : (تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ)] (٤) (الأنبياء : ٩٣) دون «تقطّعتم أمركم بينكم» ، كأنّه ينعي عليهم ما أفسدوه من أمر دينهم إلى قوم آخرين ويقبّح عندهم ما فعلوه ، ويوبخهم عليه قائلا : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله ، فجعلوا أمر دينهم به قطعا ، تمثيلا لاختلافهم (٥) في الدين.

فائدة

اختلف في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (آل عمران : ٩) بعد (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) (آل عمران : ٩).

فقيل : إن الكلام تمّ عند [٢٢٣ / أ] قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) (آل عمران : ٩) ، وهذا الذي بعده من مقول الله تصديقا لهم.

وقيل : بل هو من بقية كلامهم الأول على طريقة (٦) الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، كقوله [تعالى] : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) (يونس : ٢٢).

فإن قلت : قد قال [تعالى] (٧) [في] (٨) آخر السورة : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (مثل قوله).

(٣) في المخطوطة (عبّر عنه).

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) في المطبوعة (تمثيلا لأخلاقهم).

(٦) في المخطوطة (على طريق الالتفات).

(٧) ساقطة من المطبوعة.

(٨) ليست في المخطوطة.

٣٩٥

تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (آل عمران : ١٩٤) ، فلم عدل (١) عن الخطاب هنا؟ قلت : إنما جاء الالتفات في صدر السورة ، لأن المقام يقتضيه ، فإن الإلهية تقتضي الخير والشر لتنصف المظلومين من الظالمين ، فكان العدول إلى ذكر الاسم الأعظم أولى. وأما قوله تعالى في آخر السورة : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (آل عمران : ١٩٤) ؛ فذلك المقام مقام الطلب للعبد من ربه أن ينعم عليه بفضله ، وأن يتجاوز عن سيئاته ، فلم يكن فيه ما يقتضي العدول عن الأصل المستمرّ.

البحث الرابع [في شرطه] (٢)

تقدم أنّ شرط الالتفات أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائدا في نفس الأمر إلى المنتقل عنه ؛ وشرطه أيضا أن يكون في جملتين ، أي كلامين مستقلين ، حتى يمتنع بين الشرط وجوابه.

وفي هذا الشرط نظر! فقد وقع في القرآن مواضع ، الالتفات فيها وقع في كلام واحد ؛ وإن لم يكن بين جزأي الجملة ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) (العنكبوت : ٢٣).

وقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) (القصص : ٥٩).

وقوله : ([وَامْرَأَةً] (٣) مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) (الأحزاب : ٥٠) ، بعد قوله : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ) (الأحزاب : ٥٠) ، التقدير : إن وهبت امرأة نفسها للنّبيّ (٤) (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ) (الأحزاب : ٥٠) ، وجملتا الشرط والجزاء كلام واحد.

وقوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ) (الفرقان : ١٧).

وقوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (الفتح : ٨ ـ ٩) ؛ وفيه التفاتان : أحدهما بين «أرسلنا» والجلالة ، والثاني بين الكاف في «أرسلناك» «ورسوله» وكلّ منهما في كلام واحد.

__________________

(١) في المخطوطة (فلم يعدل).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) في المخطوطة عبارة زائدة في هذا الموضع بعد قوله «للنبي» هي (بعد قوله).

٣٩٦

وقوله : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) (آل عمران : ١٥١).

وقوله : (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) (الإسراء : ٦٣) ، [و] (١) جوز الزمخشري فيه أن يكون ضمير «جزاؤكم» يعود على «التّابعين» على طريق الالتفات (٢).

وقوله : واتّقوا يوما يرجعون فيه إلى الله (٣) (البقرة : ٢٨١) ، على قراءة [الياء] (١).

وقوله : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (المائدة : ١٢) ، قال التنوخي في «الأقصى القريب» (٤) : الواو للحال.

وقوله : ([وَ] (٥) ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس : ٢٢).

البحث الخامس

أنه يقرب من الالتفات نقل الكلام إلى غيره

وإنما يفعل ذلك إذا ابتلي العاقل بخصم جاهل متعصّب ، فيجب أن يقطع الكلام [معه] (٥) في تلك المسألة ؛ لأنه كلّما كان خوضه معه أكثر ، كان بعده عن القبول [أشدّ] (٥) ، فالوجه حينئذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة ، وأن يؤخذ في كلام آخر أجنبي ويطنب [فيه] (٥) ، بحيث ينسى الأول ، فإذا اشتغل خاطره به أدرج له أثناء الكلام الأجنبيّ مقدمة تناسب ذلك المطلب الأول ، ليتمكن من انقياده.

وهذا ذكره الإمام أبو الفضل في كتاب «درة التأويل» (٦) ، وجعل منه قوله [تعالى] :

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) الكشاف ٢ / ٣٦٦ عند تفسير الآية (٦٣) من سورة الإسراء.

(٣) انظر القراءة في الكشاف ١ / ١٦٧ عند تفسير الآية (٢٨١) من سورة البقرة.

(٤) هو محمد بن محمد زين الدين تقدم التعريف به وبكتابه في ٢ / ٤٤٨.

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) في المطبوعة (التنزيل) ، والكتاب تقدم التعريف به في ١ / ٢٠٦ وهو للفخر الرازي ، ولكن؟ لم نقف على هذه الكنية للفخر الرازي (أبو الفضل) فيما لدينا من مصادر ترجمته ، وإنما أفدنا من محقق «التكملة لوفيات النقلة» في ٢ / ١٨٧ ضمن حاشيته على الترجمة (١١٢١) وهي ترجمة الفخر الرازي قوله : (ومما يستفاد أن شخصا توفي في هذه السنة ـ ٦٠٦ ه‍ يتفق مع المترجم في الاسم واسم الأب والنسبة والمعاصرة ، هو فخر الدين أبو الفضائل! محمد بن عمر الرازي الحنفي ، لم يذكره المنذري).

٣٩٧

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) (ص : ١٧) ، قال : إن قوله : (وَاذْكُرْ) ليس متصلا بما قبله ، بل نقلا لهم عما هم عليه ، والمقدمة المدرجة قوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) (ص : ٢٧) إلى قوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (ص : ٢٩).

وهذا الذي قاله يخرج الآية عن الاتصال [٢٢٣ / ب] مع أنّ في الاتصال وجوها مذكورة في موضعها.

وألحق به الأستاذ أبو جعفر بن الزبير (١) قوله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ* بَلْ عَجِبُوا ...) (ق : ١ ـ ٢) الآية ؛ فهذا إنكار منهم للبعث واستبعاد ، نحو الوارد في سورة «ص» ؛ فأعقب ذلك بما يشبه الالتفات بقوله : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها ...) (ق : ٦) إلى قوله [في ماء السماء] (٢) : (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (ق : ١١) ، فبعد العدول عن مجاوبتهم ، في قولهم : (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (ق : ٣) ، وذكر اختلافهم المسبّب عن تكذيبهم ، في قوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (ق : ٥) ، صرف تعالى الكلام إلى نبيّه والمؤمنين ، فقال : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها ...) (ق : ٦) إلى قوله : (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) (ق : ١١) ، وذلك حكمة تدرك مشاهدة ، لا يمكنهم التوقف في شيء منه ولا حفظ عنهم إنكاره ، فعند تكرر هذا ، قال تعالى : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (ق : ١١).

ومما يقرب من الالتفات أيضا الانتقال من خطاب الواحد والاثنين والجمع إلى خطاب آخر ؛ وهو ستة أقسام ، كما سبق تقسيم الالتفات : [المشهور] (٣) أحدها : الانتقال من خطاب الواحد لخطاب الاثنين ، كقوله تعالى : (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) (يونس : ٧٨).

الثاني : من خطاب الواحد إلى خطاب الجمع : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (الطلاق : ١).

__________________

(١) هو أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي تقدم التعريف به في ١ / ١٣٠ وانظر قوله في ملاك التأويل ٢ / ٨٠٧ ـ ٨٠٩ في الكلام على سورة ص.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المطبوعة.

٣٩٨

الثالث : من الاثنين إلى الواحد ، كقوله : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) (طه : ٤٩) ، (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (طه : ١١٧).

الرابع : من الاثنين إلى الجمع ، كقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ [قِبْلَةً] (١) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس : ٨٧) ، وفيه انتقال آخر من الجمع [إلى] (٢) الواحد ، فإنه ثنّى ثم جمع ، ثم وحّد ، توسعا في الكلام.

وحكمة التثنية أنّ موسى وهارون هما اللذان يقرران قواعد النبوة ، ويحكمان في الشريعة ، فخصمهما بذلك ، ثم خاطب الجميع باتخاذ البيوت قبلة للعبادة ؛ لأن الجميع مأمورون بها ، ثم قال لموسى [وحده] (٢) : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس : ٨٧) ، لأنه الرسول الحقيقي الذي إليه البشارة والإنذار.

الخامس : من الجمع إلى الواحد ، كقوله [تعالى] (٢) : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس : ٨٧) وقد سبق حكمته. ومن نظائره قول بعضهم في قوله تعالى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) (البقرة : ٣٨) ، ثم قال : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) (البقرة : ٣٨) ، ولم يقل «منّا» مع أنه للجمع أو للواحد المعظم نفسه ، وحكمته المناسبة للواقع ، فالهدى لا يكون إلا من الله ، فناسب الخاص للخاص.

السادس : من الجمع إلى التثنية ، كقوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا ...) (الرحمن : ٣٣) إلى قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (الرحمن : ٣٤).

السابع (٣) : ذكر بعضهم من الالتفات تعقيب الكلام بجملة مستقلة ملاقية له في المعنى على طريق المثل أو الدعاء ، فالأول كقوله : (وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (الإسراء : ٨١) ؛ والثاني كقوله [تعالى] : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (التوبة : ١٢٧).

الثامن : من الماضي إلى الأمر ، كقوله [تعالى] : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ) (الأعراف : ٢٩) وقوله : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما

__________________

(١) ليست في المخطوطة ، وكلمة «بيوتكم» محرفة في المخطوطة إلى (بيوتا).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) هذه الأقسام الآتية زيادة على التقسيم المذكور أولا حيث جعلها «ستة أقسام».

٣٩٩

يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ* [حُنَفاءَ لِلَّهِ]) (١) (الحج : ٣٠ ـ ٣١).

التاسع : من المستقبل إلى الأمر ، تعظيما لحال من أجري عليه المستقبل (٢). وبالضد من ذلك في حق من أجري عليه الأمر ، كقوله تعالى : (يا هُودُ ما جِئْتَنا) [٢٢٤ / أ](بِبَيِّنَةٍ ...) (هود : ٥٣) إلى قوله : (بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (هود : ٥٤) ، فإنه إنما قال (أُشْهِدُ اللهَ) (هود : ٥٤) ، و (اشْهَدُوا) (هود : ٥٤) ولم يقل : «وأشهدكم» ليكون موازنا له ؛ ولا شك أنّ معنى إشهاد الله على البراءة صحيح في معنى يثبت التوحيد ؛ بخلاف إشهادهم ؛ فما هو [إلا تهاون بدينهم] (٣) ، ودلالة على قلة المبالاة به ، فلذلك عدل عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما ، وجيء به على لفظ الأمر ، كما تقول للرجل منكرا : اشهد عليّ أني أحبّك.

العاشر : من الماضي إلى المستقبل ، نحو : ([وَ] (٣) اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ) (فاطر : ٩) ، (فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) (الحج : ٣١) ، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (الحج : ٢٥).

والحكمة في هذه أن الكفر لما كان من شأنه إذا حصل أن يستمر حكمه عبّر عنه بالماضي ، ليفيد ذلك مع كونه باقيا أنه قد مضى عليه زمان ؛ ولا كذلك الصدّ عن سبيل الله ، فإن حكمه إنما ثبت حال حصوله مع أن في الفعل المستقبل إشعارا بالتكثير ، فيشعر قوله : «ويصدون» ، أنه في [كلّ] (٤) وقت بصدد ذلك ، ولو قال : «وصدّوا» لأشعر بانقطاع صدّهم (٥).

الحادي عشر : عكسه ، كقوله : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ) (النمل : ٨٧) ، (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ) (الكهف : ٤٧).

قالوا : والفائدة في الفعل الماضي إذا أخبر به عن المستقبل الذي لم يوجد أنه أبلغ

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) في المخطوطة عبارة مكررة بعد كلمة «المستقبل» وهي (إلى الأمر تعظيما لحال من أجري عليه المستقبل).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) تحرفت في المخطوطة إلى (فيدهم).

٤٠٠