البرهان في علوم القرآن - ج ٣

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٣

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٩

وقوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (سبأ : ٥١).

وقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة : ٢).

وقوله : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (غافر : ١٨).

وقوله : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) (الأنفال : ٥٨) ، معناه قابلهم بما يفعلونه معك ، وعاملهم مثل معاملتهم لك سواء مع ما يدلّ عليه «سواء» من الأمر بالعدل.

وقوله : (وَغِيضَ الْماءُ [وَقُضِيَ الْأَمْرُ]) (١) (هود : ٤٤) ، فإنه أشار به إلى انقطاع مدة (٢) الماء النازل من السماء والنابع من الأرض. وقوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) (هود : ٤٤) أي هلك من ٣ / ٢٣١ قضى هلاكه ، ونجا من قدرت نجاته ، وإنما عدل عن لفظه إلى لفظ التمثيل ؛ لأمرين : اختصار اللفظ ، وكون الهلاك والنجاة كانا بأمر مطاع ، إذ الأمر يستدعي آمرا ومطاعا ، وقضاؤه يدلّ على قدرته.

***

ومن أقسام الإيجاز الاقتصار على السبب الظاهر للشيء ؛ اكتفاء بذلك عن جميع الأسباب ، كما يقال : فلان لا يخاف الشجعان ، والمراد لا يخاف أحدا.

ومنه قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) (البقرة : ٢٢٨) ، ولا شك أنّ من فسخت النكاح أيضا تتربص ، لأن السبب الغالب للفراق الطلاق.

وقوله (٣) : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) (النساء : ٤٣) ، ولم يذكر النوم وغيره ؛ لأنّ السبب الضروريّ الناقض خروج الخارج : فإن النوم الناقض ليس بضروريّ ، فذكر السبب الظاهر ، وعلم منه الحكم في الباقي.

ومنه قوله : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (طه : ٧) ، أي وهو ما لم يقع في وهم الضمير من الهواجس ، ولم يخطر على القلوب من مخيّلات الوساوس.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (مادة).

(٣) في المخطوطة (وقال تعالى).

٣٠١

ومنه : (١) [(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) (الأحزاب : ٥٦) ، ونظائره.

وكذلك] (١) زيد (٢) وعمرو قائم (٢) ، على القول بأن «قائم» خبر عن أحدهما ، واستغنى به عن (٣) [خبر الآخر.

ومنها الاقتصار على المبتدأ وإقامة الشيء مقام الخبر نحو : أقائم الزيدان ، فإن «قائم» مبتدأ] (٣) لا خبر له.

٣ / ٢٣٢ ومنها باب «علمت أنك قائم» ، إذا جعلنا (٤) الجملة سادة مسدّ المفعولين ؛ فإن الجملة محلّة لاسم واحد سدّ مسدّ اسمين مفعولين من غير حذف.

ومنه باب النائب عن الفاعل ، في «ضرب زيد» ، ف «زيد» دلّ على الفاعل بإعطائه حكمه ، وعلى المفعول بوضعه.

ومنها جميع أدوات الاستفهام والشرط ؛ فإنّ «كم مالك» (٥)؟ يغني عن عشرين أو ثلاثين ، و «من يقم أكرمه» يغني عن زيد وعمرو (٦) ، قاله ابن الأثير (٧) في «الجامع».

ومنه الألفاظ اللازمة للعموم ، مثل أحد وديّار ، قاله ابن الأثير أيضا.

ومنه لفظ الجمع ؛ فإن «الزيدين» يغني عن زيد وزيد [وزيد] (٨) ، وكذا التثنية أصلها رجل

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٢) عبارة المخطوطة (ومن نحو قام زيد وعمرو قائم).

(٣) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (جعلت).

(٥) في المخطوطة (ملك).

(٦) في المخطوطة (وعمر).

(٧) هو المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم ، أبو السعادات الشيباني الملقب بمجد الدين المعروف بابن الأثير كان عالما فاضلا وسيدا كاملا قد جمع بين علم العربية والقرآن والنحو واللغة والحديث وشيوخه وصحته وسقمه والفقه وكان شافعيا من تصانيفه «الباهر في الفروق في النحو» و «الإنصاف في تفسير القرآن» و «غريب الحديث» ت في ٦٠٦ ه‍ (ياقوت ، معجم الأدباء ١٧ / ٧١). وكتابه «جامع الأصول من أحاديث الرسول» طبع في القاهرة بالمطبعة الجمالية عام ١٣٣١ ه‍ / ١٩١٢ م ، وطبع بتحقيق محمد حامد الفقي بمطبعة السنة المحمدية في القاهرة عام ١٣٧٧ ه‍ / ١٩٥٥ م ، وطبع بتحقيق عبد القادر الأرناءوط بدمشق مكتبة الحلواني عام ١٣٩١ ه‍ / ١٩٧١ م ، وصور في بيروت بدار إحياء التراث عن طبعة حامد الفقي عام ١٤٠٠ ه‍ / ١٩٨٠ م ، وفي دار الفكر عن طبعة عبد القادر الأرناءوط ـ مع فهارس (ذخائر التراث العربي ١ / ٣٩ ، دليل المطبوعات المصرية لعام ١٩٤٠ ـ ١٩٥٦ ، معجم المنجد ١ / ٥).

(٨) ساقطة من المخطوطة.

٣٠٢

ورجل ، فحذفوا العطف والمعطوف ، وأقاموا حرف الجمع والتثنية مقامهما اختصارا وصحّ ذلك لاتفاق الذاتين في التسمية بلفظ واحد ، فإن اختلف لفظ الاسمين رجعوا إلى التكرار بالعطف ؛ نحو مررت بزيد وبكر.

ومنه (١) باب الضمائر على ما سيأتي بيانه ، في قاعدة الضمير.

ومنه لفظ «فعل» فإنه يجيء كثيرا كناية عن أفعال متعددة ، قال تعالى : (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة : ٧٩) (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) (النساء : ٦٦).

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (البقرة : ٢٤) ، أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، ولن تأتوا بسورة من مثله.

القول في التقديم والتأخير

٣ / ٢٣٣ هو أحد أساليب البلاغة ؛ فإنهم أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة ، وملكتهم في الكلام وانقياده لهم. وله في القلوب أحسن موقع ، وأعذب مذاق.

وقد اختلف [٢٠٥ / أ] في عدّه من المجاز ؛ فمنهم من عدّه منه ؛ لأنه (٢) تقديم ما رتبته التأخير ، كالمفعول ، وتأخير ما رتبته التقديم ، كالفاعل [على] (٣) ، نقل كل واحد منهما عن رتبته وحقه.

والصحيح أنّه ليس منه ؛ فإنّ المجاز نقل ما وضع له إلى ما لم يوضع.

ويقع الكلام فيه في فصول :

[الفصل الأول] (٤)

الأول : في أسبابه ، وهي كثيرة :

أحدها : أن يكون أصله التقديم ، ولا (٥) مقتضى للعدول عنه (٥) ، كتقديم الفاعل على المفعول ، والمبتدأ على الخبر ، وصاحب الحال عليها ؛ نحو جاء زيد راكبا.

***

__________________

(١) في المخطوطة (منه).

(٢) في المخطوطة (لأن).

(٣) ساقطة من المطبوعة.

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (ولا مقتضى لتقديم العدول عنه).

٣٠٣

والثاني : أن يكون في التأخير إخلال ببيان المعنى ، كقوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) (غافر : ٢٨) ، فإنّه لو أخر قوله : (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) (غافر : ٢٨) ، (١) [عن قوله (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) لتوهم أنه من صفة يكتم فيكون المعنى : إن الرجل يكتم إيمانه من آل فرعون] (١) فلا يفهم أنه منهم.

٣ / ٢٣٤ / وجعل السكاكي (٢) من (٣) الأسباب كون التأخير مانعا ، مثل الإخلال بالمقصود ، كقوله تعالى : ([وَقالَ الْمَلَأُ] (٤) مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (المؤمنون : ٣٣) بتقديم الحال أعني (مِنْ قَوْمِهِ) (المؤمنون : ٣٣) على الوصف ، أعني (الَّذِينَ كَفَرُوا) (المؤمنون : ٣٣) ولو تأخر لتوهّم أنه من صفة الدنيا ؛ لأنها هاهنا اسم تفضيل ؛ من الدنو ، وليست اسما ، والدنوّ يتعدّى ب «من» ، وحينئذ يشتبه الأمر في القائلين أنهم (٥) أهم : من قومه أم لا؟ فقدّم لاشتمال (٦) التأخير على الإخلال ببيان المعنى المقصود ؛ وهو كون القائلين من قومه. وحين أمن (٧) هذا الإخلال بالتأخير قال (٨) تعالى في موضع آخر من هذه السورة. (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ (٩) [ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ] (٩)) (المؤمنون : ٢٤) ، بتأخير المجرور عن صفة المرفوع.

***

الثالث : أن يكون في التأخير إخلال بالتناسب ، فيقدّم لمشاكلة الكلام ولرعاية الفاصلة ، كقوله : (١٠) [وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ] (١٠) إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (فصلت : ٣٧) ، بتقديم «إياه» على «تعبدون» لمشاكلة رءوس الآي ؛ وكقوله : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) (طه :

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.

(٢) انظر مفتاح العلوم : ٢٣٩ ، النوع الثالث من أنواع باب التقديم والتأخير مع الفعل.

(٣) في المخطوطة (في).

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (هم) بدل (أنهم أهم).

(٦) في المخطوطة (كاشتمال).

(٧) في المخطوطة (وخيرا من). بدل (وحين أمن).

(٨) تصحفت في المخطوطة إلى (وقال).

(٩) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(١٠) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

٣٠٤

٦٧) (١) [فإنه لو أخّر (فِي نَفْسِهِ) (طه : ٦٧) عن (مُوسى) (طه : ٦٧)] (١) فات تناسب الفواصل ؛ لأن قبله : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) (طه : ٦٦) ، وبعده : (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) (طه : ٦٨).

وكقوله : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (إبراهيم : ٥٠) ؛ فإن تأخير الفاعل عن المفعول لمناسبته لما بعده.

وكقوله : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (إبراهيم : ٥١) ، وهو أشكل بما قبله ، لأن قبله : (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (إبراهيم : ٤٩).

وجعل منه السكاكي (٢) : (آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) (طه : ٧٠) ، بتقديم (هارُونَ) (طه : ٧٠) مع أن (مُوسى) (طه : ٧٠) أحقّ بالتقديم. ٣ / ٢٣٥

***

الرابع : لعظمه (٣) والاهتمام به ؛ وذلك أنّ من عادة العرب الفصحاء ، إذا أخبرت عن مخبر ما ـ وأناطت (٤) به حكما ـ وقد يشركه غيره في [ذلك] (٥) الحكم ، أو فيما أخبر به عنه ، وقد عطفت أحدهما على الآخر بالواو المقتضية عدم الترتيب فإنهم مع ذلك إنما (٦) يبدءون بالأهم والأولى. قال سيبويه (٧) : «كأنهم يقدّمون الذي بيانه (٨) أهمّ لهم ، وهم ببيانه أعنى ، وإن كانا جميعا يهمّانهم ويعنيانهم». انتهى.

قال تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (البقرة : ٤٣) ، فبدأ بالصلاة لأنها أهمّ.

وقال [سبحانه] (٩) : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (التغابن : ١٢).

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٢) انظر مفتاح العلوم : ٢٣٩ ، النوع الثالث من أنواع باب التقديم والتأخير مع الفعل.

(٣) في المخطوطة (للعظمة).

(٤) في المخطوطة (أو أناطت).

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) في المخطوطة (كذا).

(٧) انظر الكتاب ١ / ٣٤ باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعول.

(٨) تصحفت في المخطوطة والمطبوعة إلى (شأنه) وما أثبتناه من الكتاب.

(٩) ليست في المخطوطة.

٣٠٥

(١) [وقال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (الأعراف : ١٥٨).

وقال تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُ) (التوبة : ٦٢)] (١).

وقال تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [٢٠٥ / ب] ؛ (الفاتحة : ٥) ؛ فقدّم العبادة للاهتمام بها.

ومنه تقدير المحذوف في بسم الله مؤخّرا.

وأوردوا : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (العلق : ١) ؛ وأجيب بوجهين :

أحدهما : أنّ تقديم الفعل هناك أهمّ ، لأنها أول سورة نزلت.

والثاني [أن] (٢) : (بِاسْمِ رَبِّكَ) (العلق : ١) متعلق ب (اقْرَأْ) الثاني ، ومعنى الأول : أوجد القراءة ، والقصد التعميم.

***

٣ / ٢٣٦ الخامس : أن يكون الخاطر ملتفتا إليه والهمة معقودة به ؛ وذلك كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) (الأنعام : ١٠٠) ، بتقديم المجرور على المفعول الأول ؛ لأن الإنكار متوجّه إلى الجعل لله ، لا إلى مطلق الجعل.

***

السادس : أن يكون التقديم لإرادة التبكيت والتعجيب من حال المذكور ، كتقديم المفعول الثاني على الأول في قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) (الأنعام : ١٠٠) ، والأصل «الجنّ شركاء» ؛ وقدّم ، لأنّ المقصود التوبيخ ، وتقديم الشركاء أبلغ في حصوله.

ومنه قوله تعالى في سورة يس : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) (يس : ٢٠) ، وسنذكره.

***

السابع : الاختصاص ، وذلك بتقديم المفعول ، والخبر ، والظرف ، والجار والمجرور ،

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.

(٢) ساقطة من المخطوطة.

٣٠٦

ونحوها [تقديم المفعول] (١) على الفعل ، كقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (الفاتحة : ٥) ، أي نخصّك بالعبادة فلا نعبد غيرك.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (النحل : ١١٤) ، أي إن كنتم تخصّونه بالعبادة.

والخبر كقوله [تعالى] (٢) : ([قالَ]) (٣) أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي (مريم : ٤٦) ، وقوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) (الحشر : ٢).

وأما تقديم الظرف ؛ ففيه تفصيل ، فإن كان في الإثبات دلّ على الاختصاص ، كقوله [تعالى] (٤) : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (الغاشية : ٢٥ ـ ٢٦) ، وكذلك : (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) (التغابن : ١) ، فإن ذلك يفيد اختصاص ذلك بالله تعالى : وقوله : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (آل عمران : ١٥٨) أي لا إلى غيره ، وقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى ٣ / ٣٢٧ النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة : ١٤٣) ، أخّرت صلة الشهادة في الأوّل وقدمت في الثاني ؛ لأنّ الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.

وقوله : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) (النساء : ٧٩) ، أي لجميع الناس من العجم والعرب (٥) ، على أن التعريف للاستغراق.

وإن كان في النفي فإن تقديمه يفيد تفضيل المنفيّ [عنه] (٦) ، كما في قوله تعالى (٧) [(لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (الصافات : ٤٧) ، أي ليس في خمر الجنة ما في خمرة غيرها من الغول.

وأما تأخيره فإنها تفيد النفي فقط ، كما في قوله] (٧) : (لا رَيْبَ فِيهِ) (البقرة : ٢) فكذلك إذا قلنا لا عيب في الدار ؛ كان معناه : نفي العيب في الدار ، وإذا قلنا لا في الدار عيب ، كان معناه : أنها تفضّل على غيرها بعدم العيب.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) تقديم وتأخير في المخطوطة (العرب والعجم).

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

٣٠٧

تنبيه

ما ذكرناه من أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص ، فهمه الشيخ أبو حيان في كلام الزمخشري وغيره ، والذي عليه محققو البيانيين أن ذلك غالب لا لازم ، بدليل قوله تعالى : (كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) (الأنعام : ٨٤) ، وقوله : (أَفِي اللهِ شَكٌ) (إبراهيم : (١٠) ، إن جعلنا ما بعد الظرف مبتدأ.

وقد ردّ صاحب (١) «الفلك الدائر» القاعدة بالآية الأولى ، وكذلك ابن الحاجب (٢) والشيخ ٣ / ٢٣٨ أبو حيان ، وخالفوا البيانيين في ذلك ، وأنت إذا علمت أنهم ذكروا في ذلك قيد الغلبة سهل الأمر. نعم له شرطان : أحدهما : ألا (٣) يكون المعمول مقدما بالوضع ؛ فإن ذلك لا يسمى تقديما حقيقة ، كأسماء الاستفهام ، وكالمبتدإ عند من يجعله معمولا لخبره.

والثاني : ألاّ يكون التقديم لمصلحة التركيب ، مثل : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) (فصلت : ١٧) على قراءة النصب (٤).

وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة ؛ وهي قوله [تعالى] : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) [٢٠٦ / أ](فَيَكْشِفُ) (الأنعام : ٤٠ ـ ٤١) ، التقديم في الأول قطعا ليس للاختصاص ، بخلاف الثاني.

الفصل الثاني

في أنواعه

وهي إما أن يقدّم والمعنى عليه ، أو يقدّم وهو في المعنى مؤخر ، أو بالعكس.

__________________

(١) هو عبد الحميد بن هبة الله ، ابن أبي الحديد الشيعي المعتزلي تقدم ذكره في ٢ / ٢٥١. وكتابه «الفلك الدائر على المثل السائر» وهو نقد لكتاب المثل السائر لضياء الدين ابن الأثير الجزري ، طبع في بومبايي بالهند عام ١٣٠٩ ه‍ / ١٨٩١ م ، وطبع بتحقيق د. بن بدوي طبانة وأحمد الحوفي في الرياض ـ بدار الرفاعي ـ عام ١٤٠٤ ه‍ / ١٩٨٤ م (معجم سركيس : ٣٠ أخبار التراث ١٦ / ٢٦).

(٢) هو أبو عمرو عثمان بن عمر بن يونس ابن الحاجب تقدم التعريف به في ١ / ٤٦٦.

(٣) في المخطوطة (أن).

(٤) بدون تنوين ، ممنوعا من الصرف وهي قراءة الحسن ، (البحر المحيط : ٧ / ٤٩١).

٣٠٨

النوع الأول ما قدم والمعنى عليه

ومقتضياته كثيرة ، قد يسر الله خمسا وعشرين ، ولله درّ ابن عبدون (١) في قوله :

سقاك الحيا من مغان سفاح (٢)

فكم لي بها من معان فصاح

أحدها

السبق

٣ / ٢٣٩ وهو أقسام : منها السبق بالزمان والإيجاد ، كقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُ) (آل عمران : ٦٨) قال ابن عطية (٣) : المراد بالذين اتبعوه في زمن الفترة.

وقوله : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (الحج : ٧٥) ؛ فإن (٤) مذهب أهل السنة تفضيل البشر ، وإنما قدّم الملك لسبقه في الوجود.

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ) (الأحزاب : ٥٩) ؛ فإنّ الأزواج أسبق بالزمان ؛ لأن البنات أفضل منهنّ ، لكونهنّ بضعة منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (الفرقان : ٧٤).

__________________

(١) هو عبد المجيد بن عبدون أبو محمد الفهري ، روى عن أبي عاصم بن أيوب والأعلم الشنتمري وابن سراج وكان أديبا شاعرا كاتبا عالما بالخبر والأثر ومعاني الحديث ت ٥٢٠ ه‍ (فوات الوفيات ٢ / ٣٨٨ ، الترجمة رقم ٣٠١ ، والبيت ذكره ابن شاكر ضمن ترجمته ، وجاء صدر البيت عنده :

سقاها الحيا من مغان فساح

(٢) في المخطوطة (فساح).

(٣) هو عبد الحق بن غالب الغرناطي صاحب «المحرر الوجيز» تقدمت ترجمته في ١ / ١٠١.

(٤) في المخطوطة (قال).

٣٠٩

واعلم أنه ينضم إليه مع ذلك التشريف ، كقوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ [وَآلَ عِمْرانَ]) (١) (آل عمران : ٣٣).

[وقوله] (١) : (وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى) (الأحزاب : ٧).

[وقوله] (٢) (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (الأعلى : ١٩).

وأما [قوله] (٣) : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى * وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم : ٣٦ ـ ٣٧) فإنما قدم ذكر موسى لوجهين : أحدهما أنه في سياق الاحتجاج عليهم بالمنزّل (٤) وكانت صحف موسى (٥) منتشرة أكثر انتشارا من صحف إبراهيم ، وثانيهما مراعاة رءوس الآي.

٣ / ٢٤٠ وقد ينضم إليه التحقير ، كما في قوله [تعالى] (٦) : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة : ٧) ؛ تقدّم اليهود لأنهم كانوا أسبق من النصارى ، ولأنهم كانوا أقرب إلى المؤمنين بالمجاورة.

وقد لا يلحظ هذا كقوله تعالى : (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) (العنكبوت : ٣٨) وقوله : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى * وَثَمُودَ فَما أَبْقى) (النجم : ٥٠ ـ ٥١).

ومن التقديم بالإيجاد تقديم السّنة على النوم في قوله [تعالى] (٧) : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (البقرة : ٢٥٥) لأن العادة في البشر أن تأخذ (٨) العبد السنة قبل النوم ، فجاءت العبارة على حسب هذه العادة.

ذكره السهيلي (٩) وذكر معه وجها آخر ؛ وهو أنها وردت في معرض (١٠) التمدح [والثناء] (١١) والثناء (١٢) السّنة أبلغ في التنزيه فبدىء (١٣) بالأفضل ؛ لأنه إذا استحالت عليه السّنة فأحرى أن يستحيل عليه النوم.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) في المطبوعة (بالترك).

(٥) زيادة كلمة (منه) بعد (موسى).

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) ليست في المطبوعة.

(٨) في المخطوطة (يأخذ).

(٩) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي تقدم التعريف به في ١ / ٢٤٢.

(١٠) في المخطوطة (عرض).

(١١) ليست في المخطوطة.

(١٢) في المطبوعة (وافتقاد).

(١٣) في المخطوطة (فبدأ).

٣١٠

ومنه تقديم الظّلمة على النور في قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (الأنعام : ١) فإنّ الظلمات سابقة على النور في الإحساس ، وكذلك الظلمة المعنوية سابقة على النور المعنوي ؛ قال تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) (النحل : ٧٨) فانتفاء العلم ظلمة ، وهو متقدم بالزمان على نور الإدراكات.

٣ / ٢٤١ ومنه تقديم الليل على النهار : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) (الإسراء : ١٢) (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) (سبأ : ١٨). (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (سبأ : ٣٣). (حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (الروم : ١٧) ولذلك اختارت العرب التاريخ بالليالي دون الأيام ؛ وإن كانت الليالي مؤنثة والأيام مذكّرة ، وقاعدتهم تغليب المذكّر إلا في التاريخ.

فإن قلت : فما تصنع بقوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) (يس : ٤٠).

قلت : استشكل الشيخ [أبو] (١) محمد بن عبد السلام (٢) في «قواعده» [ذلك] (٣) بالإجماع على سبق الليلة (٤) [٢٠٦ / ب] على اليوم. وأجاب بأن المعنى : تدرك القمر في سلطانه ، وهو الليل ، أي لا تجيء الشمس في أثناء الليل ، فقوله بعده : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس : ٤٠) ، أي لا يأتي [الليل] (٥) في بعض سلطان الشمس وهو النهار. وبين الجملتين مقابلة.

فإن قيل : قوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) (الحديد : ٦) مشكل على هذا ؛ لأن الإيلاج إدخال الشيء في الشيء ، وهذا البحث ينافيه.

قلت : المشهور في معنى (٦) الآية أن الله يزيد في زمن الشتاء مقدارا من النهار ، ومن (٧) النهار في الصيف مقدارا من الليل ؛ وتقدير الكلام : يولج بعض مقدار الليل في النهار ، وبعض مقدار النهار في الليل. وعلى غير المشهور ، يجعل (٨) الليل في المكان الذي كان فيه

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) هو عز الدين ، ابن عبد السلام تقدم التعريف به في ١ / ١٣٢ ، وبكتابه في ٢ / ١٠٦.

(٣) ساقطة من المطبوعة.

(٤) في المخطوطة (الليل).

(٥) ساقطة من المطبوعة.

(٦) في المخطوطة (المعنى).

(٧) في المخطوطة (وفي).

(٨) في المخطوطة (بجعل).

٣١١

النّهار ويجعل النهار في المكان الذي كان فيه الليل ، والتقدير : يولج الليل في مكان النهار ويولج النهار في مكان الليل.

ومنه تقديم المكان على الزمان في قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ ٣ / ٢٤٢ وَالنُّورَ) (الأنعام : ١) ، أي الليل والنهار ، وقوله : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ* وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (الأنبياء : ٣٢ ـ ٣٣).

وهذه مسألة مهمة قلّ من تعرّض لها ، أعني سبق المكان على الزمان ، وقد صرّح بها الإمام أبو جعفر الطبري في أول «تاريخه (١) ، واحتج على ذلك بحديث ابن عباس : إن الله خلق التربة يوم السبت ، وخلق الشمس والقمر ؛ وكان ذلك كلّه ولا ليل ولا نهار ؛ إذ كانا إنما هما أسماء لساعات معلومة من قطع الشمس والقمر وإذا كان (٢) ذلك صحيحا وأنه لا شمس ولا قمر ، كان معلوما (٣) أنه لا ليل ولا نهار. قال : وحديث أبي هريرة ـ يعني في صحيح مسلم ـ صريح فيه ؛ فإن فيه : «وخلق [الله] (٤) النور يوم الأربعاء» (٥) ، قال : ويعني به الشمس إن شاء الله.

والحاصل أنّ تأخر خلق الأيام عن بعض الأشياء المذكورة في الخبر لازم.

فإن قلت : الحديث كالمصرّح بخلافه ؛ فإنه قال : خلق الله التربة يوم السبت ، حين خلق البرية وهي أول المخلوقات المذكورة ، فلا يمكن أن يكون خلق الأيام كلّها متأخرا عن ذلك.

قلت : قد نبّه الطبريّ على جواب ذلك بما حاصله : أن (٦) الله تعالى سمّى أسماء الأيام قبل خلق التربة ، وخلق الأيام كلّها ، ثم قدّر كل يوم مقدارا ، فخلق التربة في مقدار يوم

__________________

(١) انظر كتابه ١ / ٢٤ ، القول في هل كان الله عزوجل خلق قبل خلقه الزمان والليل والنهار ... مع تصرف بالنقل.

(٢) في المخطوطة (وكان) بدل (وإذا كان).

(٣) في المخطوطة (معلوم).

(٤) لفظ الجلالة ليس في المخطوطة.

(٥) تقدم تخريج الحديث في ٢ / ١٩٥. مع تعليقات هامة يستفاد منها.

(٦) في المخطوطة (إن شاء الله).

٣١٢

السبت قبل خلقه يوم السبت ، وكذا الباقي.

وهذا وإن كان خلاف الظاهر لكن أوجبه ما قاله الطبري ؛ من أنه يتعين (١) تأخير [خلق] (٢) الأيام لما ذكرناه من الدليل المستفاد من الخبرين.

والحاصل أن الزمان قسمان : تحقيقيّ وتقديريّ ؛ والمذكور في الحديث التقديريّ.

٣ / ٢٤٣ ومنه قوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (الرحمن : ١٧). (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) (الأعراف : ١٣٧) ؛ ولذلك لما استغنى عن أحدهما ذكر المشرق فقط ، فقال : (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) (الصافات : ٥). (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) (الصافات : ٦).

ومنه قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) (الملك : ٢) ، وقوله [٢٠٧ / أ] : (٣) [(وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) (النجم : ٤٤). (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (البقرة : ٢٨).

ويمكن فيه وجوه أخر :

منها أن فيه قهرا للخلق ، والمقام يقتضيه.

ومنها أنّ حياة الإنسان كلا حياة ، ومآله إلى الموت] (٣) ، ولا حياة إلا بعد الموت.

ومنها (٤) أن الموت تقدم (٥) في الوجود ، إذ (٦) الإنسان قبل (٧) نفخ الروح فيه [كان] (٨) ميتا لعدم الروح وهذا إن أريد بالموت عدم الوجود ؛ بدليل : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (البقرة : ٢٨) ، وإن أريد به بعد الوجود ، فالناس متنازعون في الموت : هل هو أمر وجوديّ (٩) [كالحياة أولا؟ وقيل بالوقف ، فقالت الفلاسفة : الموت عدم الحياة عما من شأنه أن يكون حيّا. والجمهور على أنه أمر وجوديّ] (١٠) يضادّ الحياة ، محتجين بقوله : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ

__________________

(١) تكررت العبارة في المخطوطة كما يلي ( ... يتعين خلق الأيام كلها ثم قدّر كل يوم مقدارا فخلق التربة في مقدار يوم السبت قبل خلقه يوم السبت وكذا الباقي وهذا وان كان خلاف الظاهر ...) الخ.

(٢) ساقطة من المطبوعة.

(٣) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (ومنه).

(٥) في المخطوطة (يقدم).

(٦) في المخطوطة (إن).

(٧) في المخطوطة (كان قبل).

(٨) ساقطة من المخطوطة.

(٩) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

٣١٣

وَالْحَياةَ) (الملك : ٢) ، والحديث في الإتيان بالموت في صورة كبش وذبحه (١).

وأجيب عن الآية بأن الخلق بمعنى التقدير ، ولا يجب في المقدّر أن يكون وجوديّا ، وعن الثاني بأنّ ذلك على طريق التمثيل ؛ لبيان انقطاع الموت وثبوت الخلود.

فإن قلنا : عدميّ ، فالتقابل بينه وبين الحياة تقابل العدم [والملكة] (٢) وعلى الصحيح تقابل التضاد. وعلى القول بأنه وجوديّ يجب أن يقال : تقديم (٣) الموت الذي هو عدم ٣ / ٢٤٤ الوجود ؛ لكونه (٤) سابقا أو معدوم (٥) الحياة ، الذي هو مفارقة الروح البدنيّ يجوز أن يكون لكونه الغاية التي يساق إليها [الإنسان] (٦) في دار الدنيا ؛ فهي العلّة الغائبة بعدم تحقيقها (٧) ، لتحققه ، (٨) [فخص العلة العامة] (٨) كما وقع تأكيده في قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) (المؤمنون : ١٥) ، أو تزهيدا في الدار الفانية ، وترغيبا فيما بعد الموت.

فإن قيل : فما وجه تقدّم (٩) «الحياة» في قوله : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ) (الأعراف : ٢٥) وقوله : (وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (الأنعام : ١٦٢).

قلنا : إن كان الخطاب لآدم وحواء ، فلأنّ حياتهما [في الدنيا] (١٠) سبقت الموت ، وإن كان للخلق بالخطاب لمن هو حيّ يعقبه (١١) الموت ، فما (١٢) التقديم بالترتيب ، وكذا الآية بعده.

__________________

(١) من حديث عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد ...» الحديث. أخرجه البخاري في الصحيح ٨ / ٤٢٨ ، كتاب التفسير ٦٥ ، السورة (١٩) باب (١) ، الحديث (٤٧٣٠). ومسلم في الصحيح ٤ / ١٨٨ كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (٥١) ، باب النار يدخلها الجبارون ... (١٣) ، الحديث ٤٠ / ٢٨٤٩.

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (يقدم).

(٤) في المخطوطة (ولكونه).

(٥) في المخطوطة (تقدم).

(٦) ساقطة من المطبوعة.

(٧) في المخطوطة (بعد ما تحقيقا).

(٨) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٩) في المخطوطة (تقديم).

(١٠) ساقطة من المخطوطة.

(١١) في المخطوطة (يقتضيه).

(١٢) في المخطوطة (فجاء).

٣١٤

فإن قيل : فما وجه تقديم الموت على الحياة في الحكاية عن منكر البعث (١) [في قوله (وَقالُوا]) (١) ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا (الجاثية : ٢٤) (٢) [فإن التقدير نحيا ونموت] (٢).

قلت : لأجل مناسبة رءوس الآي.

فإن قلت : فما وجه تقدم التوفّي على الرفع في قوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) (آل عمران : ٥٥) مع أنّ الرفع سابق؟

قيل : فيه جوابان :

أحدهما : المراد بالتوفّي [في] (٣) النوم ، كقوله تعالى : (يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) (الأنعام : ٦٠).

وثانيهما : أن التاء في «متوفّيك» زائدة ، أي موفيك عملك.

ومنها سبق إنزال ، كقوله [تعالى] (٣) : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ* مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) (آل عمران : ٣ ـ ٤). وقوله : (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (الأعراف : ١٥٧).

وأما قوله : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) (آل عمران : ١٩٩) ، فإنّما (٤) قدم القرآن منبّها (٥) له على فضيلة المنزّل إليهم. ٣ / ٢٤٥

ومنها سبق وجوب ، كقوله تعالى : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (الحج : ٧٧) ، وقوله : (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) (الفتح : ٢٩).

فإن قيل : فقد قال : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي (٦) مَعَ الرَّاكِعِينَ) (آل عمران : ٤٣).

قيل : يحتمل أنه كان في شريعتهم السجود قبل الركوع ، ويحتمل أن يراد بالركوع ركوع الركعة الثانية.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة وقد تصحفت في المخطوطة إلى (وقالوا إن هي ...) الآية والصواب ما أثبتناه.

(٢) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة ، وقد تصحفت في المخطوطة إلى (يحيي ويميت).

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) في المخطوطة (فإنه).

(٥) في المخطوطة (تنبيها).

(٦) تصحفت في المخطوطة إلى (واسجدوا واركعوا).

٣١٥

وقيل : المراد ب «اركعي» اشكري.

وقيل : أراد ب «اسجدي» صلّي وحدك ، وب «اركعي» صلّي في جماعة ، ولذلك قال : (مَعَ الرَّاكِعِينَ). (آل عمران : ٤٣).

ومنها سبق تنزيه ، كقوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ [وَرُسُلِهِ]) (١) (البقرة : ٢٨٥) ، فبدأ بالرسول قبل المؤمنين ، ثم قال : (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ) (البقرة : ٢٨٥) ، فبدأ بالإيمان بالله ؛ لأنه قد يحصل بدليل العقل ، والعقل [٢٠٧ / ب] سابق (٢) في الوجود على الشرع ، ثم قال : (وَمَلائِكَتِهِ) مراعاة لإيمان الرسول ، فإنه يتعلق بالملك الذي هو جبريل [أوّلا] (٣) ثم بالكتاب الذي نزل به جبريل ، ثم بمعرفة نفسه أنه رسول. وإنما عرف نبوة نفسه بعد معرفته بجبريل (٤) عليه‌السلام وإيمانه ، فترتب الذكر المنزل عليه بحسب ذلك ، فظهرت الحكمة والإعجاز ، فقال : (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (البقرة : ٢٨٥) ؛ لأن الملك هو النازل بالكتاب ، وإن كان الكتاب أقدم من الملك ، ولكن رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للملك كانت قبل سماعه الكتاب. وأما إيماننا نحن بالعقل ، آمنا بالله ، أي بوجوده ، ولكن الرسول صلّى الله [تعالى] (٥) عليه وسلّم عرفنا اسمه ووجوب النظر المؤدي إلى معرفته ، فآمنا بالرسول ثم بالكتاب المنزل عليه ، وبالملك النازل به ، فلو ترتب اللفظ على حسب إيماننا لبدأ بالرسول قبل الكتاب ؛ ولكن إنما ترتب على حسب إيمان الرسول صلّى الله [تعالى] (٥) عليه وسلّم ، الذي هو إمام المؤمنين. ذكره السهيليّ (٦) في «أماليه». ٣ / ٢٤٦

وقال غيره : في هذا الترتيب سرّ لطيف ، وذلك لأن النور والكمال والرحمة والخير كلّه مضاف إلى الله تعالى ، والوسائط في ذلك الملائكة ، والمقابل لتلك الرحمة هم الأنبياء والرسل ، فلا بدّ أولا من أصل ، وثانيا من وسائط ، وثالثا من حصول تلك الرحمة ، ورابعا من وصولها إلى المقابل لها ؛ والأصل المقتضي للخيرات والرحمة هو الله ، ومن أعظم رحمة رحم بها عباده إنزال كتبه إليهم ، والموصل لها هم الملائكة ، والمقابل لها المنزلة عليهم هم الأنبياء ؛ فجاء الترتيب على ذلك بحسب الوقائع.

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) في المخطوطة (يقع).

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (لجبريل).

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) تقدم التعريف به في ١ / ٢٤٢ ، وبكتابه في ٣ / ٢٨٠.

٣١٦

الثاني

بالذات

كقوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (النساء : ٣). ونحوه (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ) (المجادلة : ٧) ، وقوله : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) (الكهف : ٢٢) وكذلك جميع الأعداد كلّ مرتبة هي متقدمة على ما فوقها بالذات.

وأما قوله تعالى : (إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ [مِنْ جِنَّةٍ]) (١) (سبأ : ٤٦) فوجه تقديم المثنى أن المعنى حثّهم على القيام بالنصيحة لله ، وترك الهوى ، مجتمعين متساويين أو منفردين متفكرين. ولا شك أنّ الأهمّ حالة الاجتماع فبدأ بها.

الثالث

بالعلّة والسببية

٣ / ٢٤٧ كتقديم «العزيز» على «الحكيم» ، لأنه عزّ فحكم ، وتقديم «العليم» على «الحكيم» ، لأن الإتقان ناشئ [عن العلم] (٢) ، وكذا أكثر ما في القرآن من تقديم وصف العلم على الحكمة : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة : ٣٢).

ويجوز أن يكون قدّم وصف العلم هنا ليتّصل بما يناسبه (٣) ، وهو (لا عِلْمَ لَنا) (البقرة : ٣٢) ، (٤) [ويجوز أن يكون قدم وصف العلم هنا] (٤) وفي غيره من نظائره ، لأنه صفات (٥) ذات فيكون من القسم قبله.

ومنه قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة : ٥) ، قدمت العبادة لأنها سبب حصول الإعانة.

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (يناسب).

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٥) في المخطوطة (صفة).

٣١٧

وقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة : ٢٢٢) ؛ فإنّ التوبة سبب الطهارة.

وكذا : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) (الجاثية : ٧) لأن (١) الإفك سبب الإثم.

وكذا : (٢) [(وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ]) (٢) كُلُ [٢٠٨ / أ](مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) (المطففين : ١٢).

وقوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً* لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) (الفرقان : ٤٨ ـ ٤٩) قدم إحياء الأرض ؛ لأنّه سبب إحياء الأنعام [والأناسيّ] (٢) ، وقدّم إحياء الأنعام ؛ لأنّه مما يحيا به الناس ، بأكل لحومها وشرب ألبانها.

٣ / ٢٤٨ وكذا كل علة مع معلولها ، كقوله (٣) : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (الأنفال : ٢٨) ، قيل : قدّم الأموال من باب تقديم السبب ؛ فإنه إنّما شرع النكاح عند قدرته على مئونته ، فهو سبب التزويج ، والتزويج سبب للتناسل ؛ ولأنّ المال سبب للتنعيم بالولد ، وفقده سبب لشقائه (٤).

وكذا تقديم البنات على البنين في قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) (آل عمران : ١٤) (٥) [وأخّر ذكر الذهب والفضة] (٥) عن النساء والبنين لأنهما أقوى في الشهوة الجبلّيّة (٦) من المال ، فإن الطبع يحث [على] (٧) بذل المال ، فيحصل (٨) النكاح ، والنساء أقعد من الأولاد في الشهوة الجبليّة (٩) ، (١٠) [والبنون أقعد من الأموال ، والذهب أقعد من الفضة ، والفضة أقعد (١٠) من الأنعام ؛ إذ هي وسيلة إلى تحصيل النّعم ، فلما صدّرت الآية بذكر الحب ، وكان المحبوب مختلف المراتب ، اقتضت حكمة الترتيب أن يقدّم ما هو الأهمّ فالأهمّ ، في رتبة المحبوبات.

__________________

(١) في المخطوطة (فإن).

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (وقوله).

(٤) في المخطوطة (للمقام).

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٦) في المخطوطة (الجليلة). تصحيف.

(٧) ساقط من المخطوطة.

(٨) في المخطوطة (لتحصيل).

(٩) في المخطوطة (والجبلّة).

(١٠) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

٣١٨

وقال الزمخشريّ (١) في قوله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) (النساء : ١٤٧) ، قدّم الشكر على الإيمان ؛ لأنّ العاقل ينظر ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع ، فيشكر شكرا مبهما ؛ فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن (٢) به ، ثم شكر شكرا منفصلا (٣) فكان الشكر متقدما على الإيمان ؛ وكأنه أصل التكليف ومداره. انتهى.

وجعله غيره من عطف الخاص على العام ؛ لأن الإيمان من الشكر ، وخصّ بالذكر لشرفه.

الرابع

بالرتبة

٣ / ٢٤٩ كتقديم «سميع» على «عليم» فإنه يقتضي التخويف والتهديد ، فبدأ بالسميع لتعلقه بالأصوات ، وإنّ من سمع حسك فقد يكون أقرب إليك في العادة ممن يعلم ، وإن كان علم الله تعلق بما ظهر وما بطن.

وكقوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة : ١٧٣) ، فإن المغفرة سلامة ، والرحمة غنيمة ، والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة ؛ وإنما تأخرت في آية سبأ في قوله : (الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (سبأ : ٢) ؛ لأنها منتظمة في سلك تعداد أصناف الخلق من المكلّفين وغيرهم ، وهو قوله : (ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (سبأ : ٢) ، فالرحمة شملتهم (٤) جميعا ، والمغفرة تخصّ بعضا ، والعموم قبل الخصوص بالرتبة.

وقوله تعالى : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (القلم : ١١) فإن الهمّاز هو المغتاب ؛ وذلك لا يفتقر إلى شيء بخلاف النميمة.

وقوله [تعالى] (٥) (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) (الحج : ٢٧) (٦) [فإنّ الغالب أنّ الذين يأتون رجالا من مكان قريب ، والذين يأتون على الضامر] (٦) من البعيد. ويحتمل أن

__________________

(١) في الكشاف ١ / ٣٠٨.

(٢) في المخطوطة (أمر).

(٣) تصحفت في المطبوعة إلى (متصلا).

(٤) في المخطوطة (تشملهم).

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

٣١٩

يكون من التقديم بالشرف (١) : لأن الأجر في المشي مضاعف.

وأما قوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) (البقرة : ٢٣٩) مع أنّ الراكب متمكن من الصلاة أكثر من الماشي ، فجبرا (٢) له في باب الرخصة.

٣ / ٢٥٠ ومنه قوله تعالى : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (٣) (الحج : ٢٦) ، فقدّم الطائفين لقربهم من البيت ؛ ثم ثنّى [٢٠٨ / ب] بالقائمين وهم العاكفون ؛ لأنهم يخصّون موضعا بالعكوف والطواف بخلافه فكان أعمّ منه ، والأعمّ قبل الأخصّ [بالمرتبة] (٤) ، ثم ثلث بالرّكوع ، لأنّ الركوع لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده.

ثم في هذه الآية [ثلاثة] (٥) أسئلة :

الأول : كيف جمع الطائفين والقائمين جمع سلامة ، والرّكع جمع تكسير؟ والجواب أنّ جمع السلامة أقرب إلى لفظ الفعل ، فطائفون بمنزلة يطوفون ، ففي لفظه إشعار بصلة (٦) التطهير ، وهو حدوث الطواف وتجدّده ، ولو قال : بالطواف لم يفد (٧) ذلك ، لأن لفظ المصدر يخفي ذلك ؛ وكذا القول في القائمين ، وأمّا الراكعون فلما سبق أنه لا يلزم كونه في البيت ولا عنده ؛ فلهذا لم يجمع جمع سلامة (٨) ؛ إذ لا يحتاج فيه إلى بيان الفعل الباعث على التطهير ، كما احتيج فيما قبله.

الثاني : كيف وصف الركّع بالسجود ، ولم يعطف بالواو؟

والجواب ، لأن الركّع هم السّجود ، والشيء لا يعطف على نفسه ؛ لأن السجود يكون عبارة عن المصدر ، وهو هنا عبارة عن الجمع ، فلو عطف بالواو لأوهم إرادة المصدر دون اسم

__________________

(١) في المخطوطة (من الشرف).

(٢) اضطربت العبارة في المخطوطة إلى (جوابه في باب الرخصة) أو (جيء به في).

(٣) الآية في المطبوعة (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ ...) (البقرة : ١٢٥).

(٤) ساقطة من المطبوعة.

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) في المخطوطة (بقلة).

(٧) في المخطوطة (يقبل).

(٨) في المخطوطة (السلامة).

٣٢٠