البرهان في علوم القرآن - ج ٣

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٣

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٩

[تعالى] (١) : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) على «الشهيدين المطلقين» ، وكان عوده عليهما أبلغ ليكون نفي الصفة عنهما كما كان إثباتها لهما ، فيكون الشرط موجبا ونفيا على الشاهدين (٢) المطلقين لأن قوله : (مِنْ رِجالِكُمْ) كالشرط ؛ كأنه قال : «إن كانا رجلين» ، وفي النظم على هذا الأسلوب من الارتباط وجري الكلام على نسق واحد ما لا خفاء به.

وأما في آية المواريث ؛ فالظاهر أنّ الضمير وضع موضع الظاهر اختصارا لبيان المعنى ؛ بدليل أنه لم يتقدمه ما يدل عليه لفظا ، فكأنه قال : «فإن كان الوارث اثنين» ، ثم وضع ضمير الاثنين موضع الوارث الذي هو جنس (٣) ، لمّا كان المراد به منه «الاثنان» (٤). وأيضا فإنّ الإخبار عن الوارث ـ وإن كان جمعا ـ باثنين ففيه تفاوت ما (٥) لكونه مفرد اللفظ ، فكان الأليق بحسن النظم وضع المضمر موضع الظاهر ، ثمّ يجري الخبر على من حدث عنه ـ وهو الوارث ـ فيجري الكلام في طريقه ، مع الإيجاز في وضع (٦) المضمر موضع الظاهر ، والسلامة من تفاوت اللفظ ، في الإخبار عن لفظ مفرد بمثنى.

ونظير هذا ـ ممّا وقع فيه [اسم موضع] (٧) غيره إيجازا ثم جرى الكلام مجراه في الحديث عمّن هو له ، وإن لم يذكر ـ قوله [تعالى] (٨) : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (الأعراف : ٤) فعاد هذا الضمير والخبر على أهل القرية الّذين أقيمت القرية في الذكر [مقامهم] (٨) ، فجرى الكلام مجراه مع حصول الإيجاز في وضع القرية موضع أهلها ، وفهم المعنى بغير (٩) كلفة ؛ وهذه الغاية في البيان يقصّر عن مداها [بيان] (١٠) الإنسان. ٢ / ٤٤١

ومنها قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) (الحاقة : ١٣) قال ابن

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (وقعتا الشهيدين) بدل (ونفيا على الشاهدين).

(٣) في المخطوطة (خبر).

(٤) في المخطوطة (الاثنين).

(٥) في المخطوطة (إما).

(٦) في المخطوطة (موضع).

(٧) ساقطة من المخطوطة.

(٨) ليست في المخطوطة.

(٩) في المخطوطة (من غير).

(١٠) ساقطة من المطبوعة.

٢١

عمرون (١) : [لما] (٢) فهم منها التأكيد ظنّ بعضهم أنها ليست بصفة. وليس بجيّد ؛ لأنها دلالة (٣) على بعض أحوال الذات ، وليس في (واحِدَةٌ) دلالة على نفخ ، فدلّ على أنها ليست تأكيدا (٤) [١٤٨ / أ] [انتهى] (٥).

وفي فائدة (واحِدَةٌ) خمسة أقوال :

ـ أحدها : التوكيد ، مثل قولهم : «أمس الدابر».

ـ الثاني : وصفها ليصح أن تقوم مقام الفاعل (٦) [لأنها مصدر والمصدر لا يقوم مقام الفاعل] (٦) إلا إذا وصف. وردّ بأن تحديدها بتاء التأنيث مصحّح لقيامها مقام الفاعل.

ـ الثالث : أن الوحدة لم تعلم من «نفخة» إلا ضمنا وتبعا ، لأن قولك : «نفخة» يفهم منه أمران : النفخ والوحدة ، فليست «نفخة» موضوعة للوحدة ، فلذلك صحّ وصفها.

ـ الرابع : وصفه النفخة بواحدة لأجل توهم (٧) الكثرة ، كقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) (إبراهيم : ٣٤) فالنعمة في اللفظ واحدة وقد علّق عدم الإحصاء بعدّها.

ـ الخامس : أتى بالوحدة ليدلّ على أن النفخة لا اختلاف في حقيقتها ، فهي واحدة بالنوع ، كقوله : (وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ) (القمر : ٥٠) أي لا اختلاف في حقيقته. ومنها قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) (البقرة : ١٦٣) ، (٨) [قيل : ما فائدة (إِلهٌ)؟ وهلاّ جاء «وإلهكم واحد»] (٨) وهو أوجز؟

قيل : لو قال : «وإلهكم واحد» لكان ظاهره إخبارا عن كونه واحدا في إلهيته ، يعني لا إله

__________________

(١) هو محمد بن محمد بن أبي علي جمال الدين بن عمرون ، أبو عبد الله الحلبي النحوي. ولد سنة ٥٩٦ ه‍. وسمع من ابن طبرزد ، وأخذ النحو عن ابن يعيش وغيره ، وبرع فيه وتصدر لإقرائه ، وتخرّج به جماعة ، وجالس ابن مالك ، وأخذ عنه البهاء بن النحاس ، وروى عنه الشرف الدمياطي. من تصانيفه : «شرح المفصّل». ت ٦٤٩ ه‍ (بغية الوعاة ١ / ٢٣١).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (دالا).

(٤) في المخطوطة توكيدا.

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٧) كذا عبارة الأصول ، ولعل العبارة تقتضي وجود كلمة (نفي) قبل (توهم) كي يستقيم المعنى ، فتأمّل.

(٨) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

٢٢

غيره و [إن] (١) لم يكن إخبارا عن توحده في ذاته ، بخلاف ما إذا كرّر ذكر الإله (٢) ، والآية إنما سيقت لإثبات أحديّته في ذاته ، ونفي ما يقوله النصارى : إنه إله واحد والأقانيم ثلاثة ، أي الأصول ، كما أن زيدا واحدا وأعضاؤه متعدّدة ، فلما قال : (إِلهٌ واحِدٌ) دلّ على أحدية الذات والصفة. ولقائل أن يقول : قوله : (واحِدٌ) يحتمل الأحدية في الذات والأحدية في الصفات ، سواء ذكر «الإله» أو لا ، فلا يتم الجواب.

ومنهما قوله [تعالى] (٣) : (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (النجم : ٢٠) ومعلوم بقوله : (الثَّالِثَةَ) أنها (الْأُخْرى) ، وفائدته التأكيد. ومثله على رأي الفارسي : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (النجم : ٥٠).

وأما قوله : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) (النحل : ٢٦) (قيل) : بمعنى «عن» أي خرّ (٤) عن كفرهم بالله ؛ كما تقول : اشتكى فلان عن دواء شربه ؛ أي من أجل كفرهم. أو بمعنى اللام ، أي فخرّ لهم ، (وقيل) : لأن العرب لا تستعمل لفظة «على» في مثل هذا الموضع إلا في الشرّ والأمر المكروه ، تقول : خربت على فلان ضيعته ، كقوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) (البقرة : ١٠٢) (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (آل عمران : ٧٨) (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف : ٢٨) وقيل : لأنه يقال : سقط عليه موضع كذا ، إذا كان يملكه ، وإن لم يكن من فوقه بل تحته ، فدلّ قوله تعالى : (مِنْ فَوْقِهِمْ) (النحل : ٢٦) على الفوقية الحقيقية ؛ وما أحسن هذه المقابلة بالفوقية بما (٥) تقدم من قوله : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) (النحل : ٢٦) كما تقول : أخذ برجله فسقط على رأسه.

(السادسة) (٦) : إذا اجتمع مختلفان في الصراحة والتأويل قدّم (٧) الاسم المفرد ، ثم الظرف أو عديله ، ثم الجملة ، كقوله تعالى : (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران : ٤٥ ، ٤٦) فقوله (وَجِيهاً) حال ، وكذلك (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ، وقوله (يُكَلِّمُ) وقوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) ، فهذه

__________________

(١) ساقطة من المطبوعة.

(٢) في المخطوطة (إله).

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) في المخطوطة (خوفه).

(٥) في المخطوطة (لما).

(٦) من الفوائد التي تتعلق بالصفة.

(٧) في المخطوطة (وقدّم).

٢٣

أربعة أحوال انتصبت عن قوله : (كلمة) (١) والحال (٢) الأولى جيء بها على الأصل اسما صريحا ، والثانية في تأويله (٣) ، جار ومجرور ، وجيء بها هكذا لوقوعها فاصلة في الكلام ؛ ولو جيء بها اسما صريحا لناسبت الفواصل ، والثالثة (٤) جملة فعلية ، [والرابعة جار ومجرور] (٥).

ومنه قوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) (غافر : ٢٨) ، [١٤٨ / ب](قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) (المائدة : ٢٣) ولمّا كان الظرف فيه شبه من المفرد وشبه من الجملة جعل بينهما. وقد أوجب ابن عصفور (٦) ذلك ، وليس كما قال ، [فقد قال] (٧) تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (المائدة : ٥٤) ولا يقال : إن (أَذِلَّةٍ) بدل لأنه مشتق ، والبدل إنما يكون في الجوامد ، كما نص عليه هو وغيره. وأما (٨) قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) (الأنعام : ١٥٥) فقيل : إنه من تقديم الجملة على المفرد ، ويحتمل أن يكون (مُبارَكٌ) خبرا لمحذوف ، فلا يكون من هذا الباب.

(السابعة) : في اجتماع التابع والمتبوع أنهم يقدمون المتبوع ، فيقولون : «أبيض ناصع» و «أصفر فاقع» و «أحمر قان» (٩) و «أسود غربيب» ، قال الله تعالى : (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) (البقرة : ٦٩) والمعنى أن التبع فيه [معنى] (١٠) زيادة الوصف ، فلو قدّم لكان ذكر الموصوف (١١) بعده عيبا (١٢) ؛ إلا أن يكون لمعنى أوجب [تقديمه] (١٣).

__________________

(١) في المخطوطة (يكلم).

(٢) في المخطوطة (فالحال).

(٣) في المخطوطة زيادة كلمة وهي (والثالثة).

(٤) في المخطوطة (والرابعة).

(٥) العبارة بين الحاصرتين ساقطة من المخطوطة.

(٦) هو علي بن مؤمن بن محمد ، أبو الحسن بن عصفور ، تقدم التعريف به في ١ / ٤٦٦.

(٧) ساقط من المخطوطة.

(٨) في المخطوطة (أما).

(٩) في المخطوطة (قاني).

(١٠) ساقطة من المخطوطة.

(١١) في المخطوطة (المتبوع).

(١٢) في المخطوطة (عيالا) بدل (عيبا إلا).

(١٣) ساقطة من المخطوطة.

٢٤

وقد أشكل على هذه القاعدة قوله تعالى : (وَغَرابِيبُ سُودٌ) (فاطر : ٢٧) وهي من الآيات التي صدئت (١) فيها الأذهان الصقيلة ، وعادت بها أسنّة الألسنة مفلولة ؛ ومن جملة العجائب أن شيخا أراد أن يحتج على مدرس لما ذكر له هذا السؤال ، فقال : إنما ذكر السّواد لأنه قد يكون في الغربان (٢) ما فيه بياض ، وقد رأيته ببلاد المشرق (٣)! فلم يفهم من الآية إلا أن الغرابيب هو الغراب ، ولا قوة إلا بالله!

والذي يظهر في ذلك أن الموجب لتقديم (الغرابيب) هو تناسب الكلم وجريانها على نمط (٤) متساوي التركيب ، وذلك أنه لمّا تقدم البيض والحمر دون إتباع كان (٥) كان الأليق بحسن النّسق وترتيب النظام أن يكون «السود» كذلك ؛ و [لكنه] (٦) لما كان في [هذا] (٧) «السّود» هنا زيادة الوصف ، كان الأليق في المعنى أن يتبع بما يقتضي ذلك ، وهو الغرابيب ، فيقابل حظ (٨) اللفظ وحظ المعنى ، فوفّى (٩) الخطاب وكمل الغرضان جميعا ؛ ولم يطرح أحدهما الآخر ، فيقع (١٠) النقص من جهة الطرح ، وذلك بتقديم «الغرابيب» على «السود» فوقع (١١) في لفظ «الغرابيب» حظ المعنى في زيادة الوصف. وفي ذكر «السود» مفردا من الإتباع حظّ اللفظ ؛ إذ جاء مجردا عن صورة البيض والحمر ؛ فاتسقت الألفاظ كما ينبغي ، وتمّ المعنى كما يجب ، ولم يخلّ بواحدة من الوجهين ، ولم يقتصر على «الغرابيب» وإن كانت متضمنة لمعنى «السود» لئلا (١٢) [تتنافر] (١٣) الألفاظ ، [فإن ضمّ] (١٤) الغرابيب إلى البيض والحمر ولزّها (١٥) في قرن واحد : ٢ / ٤٤٥

كابن اللبون إذا ما لزّ في قرن (١٦)

__________________

(١) في المخطوطة (صدت).

(٢) تصحفت في المخطوطة إلى (الغربان سود ما).

(٣) في المخطوطة (الشرق).

(٤) في المخطوطة (لفظ).

(٥) في المخطوطة (وكان).

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) ساقطة من المطبوعة.

(٨) تصحفت في المخطوطة إلى (غيظ).

(٩) في المخطوطة (فقوى).

(١٠) في المخطوطة (فوقع).

(١١) في المخطوطة (فوفى).

(١٢) في المخطوطة (دليلا).

(١٣) ساقطة من المخطوطة وفي موضعها بياض.

(١٤) ساقطة من المخطوطة.

(١٥) في المخطوطة (ذكرها).

(١٦) صدر بيت عجزه لم يستطع صولة البزل القناعيس وهو لجرير من قصيدة مطلعها : حيّ الهذملة من ذات المواعيس (الديوان : ٢٥٠).

٢٥

[وذلك] (١) غير مناسب لتلاؤم الألفاظ وتشاكلها ، وبذكر (٢) السود وقع الالتئام واتّسق نسق النظام ، وجاء اللفظ والمعنى في درجة التمام ، وهذا لعمر الله من العجائب التي تكلّ (٣) دونها العقول ؛ وتعيا بها الألسن لا تدري ما تقول! والحمد [لله] (٤).

ثم رأيت أبا القاسم السهيلي (٥) ، أشار إلى معنى غريب ، فنقل عن أبي حنيفة الدينوريّ (٦) أن «الغربيب» اسم لنوع من العنب وليس بنعت ، قال : ومن هذا يفهم معنى الآية ، و (سُودٌ) عندي بدل لا نعت ، وإن كان «الغربيب» إذا أطلق لفظه ولم [يقيد] (٧) بذكر (٨) شيء موصوف قلّما يفهم منه العنب الذي هو اسمه خاصة ، فمن ثمّ حسن التقييد.

(الثامنة) : إذا تكررت النعوت لواحد ، فتارة يترك العطف ، كقوله : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (القلم : ١٠ ـ ١١) وتارة تشترك بالعطف كقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (الأعلى : ١ ـ ٣) [١٤٩ / أ] ويشترط في ذلك اختلاف معانيها (٩) ، قال الزمخشري وأبو البقاء (١٠) : دخول العاطف يؤذن بأنّ كلّ صفة مستقلة [انتهى] (١١). والعطف أحسن [إن] (١١) تباعد معنى الصفات نحو : ([هُوَ] (١٢) الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) (الحديد : ٣) وإلا فلا.

(التاسعة) : فصل الجمل في مقام المدح والذمّ أبلغ من جعلها نمطا واحدا قال أبو

__________________

(١) ساقطة من المطبوعة.

(٢) في المخطوطة (وذكر).

(٣) في المخطوطة (تكمل).

(٤) لفظ الجلالة ليس في المخطوطة.

(٥) هو عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي تقدّم في ١ / ٢٤٢.

(٦) هو أحمد بن داود بن وتند ، أبو حنيفة الدّينوريّ : أديب نحوي أخذ عن البصريين والكوفيين ، وأكثر أخذه عن ابن السكيت وكان نحويا مهندسا منجما حاسبا راوية ، ثقة فيما يرويه ويحكيه. من تصانيفه كتاب «النبات» و «الشعر والشعراء» و «الفصاحة» ت ٢٨٢ ه‍ (معجم الأدباء ٣ / ٢٦).

(٧) ساقطة من المخطوطة.

(٨) في المخطوطة (يذكر).

(٩) في المخطوطة (معانيهما).

(١٠) هو عبد الله بن الحسين بن عبد الله ، أبو البقاء العكبري ، تقدم في ١ / ١٥٩.

(١١) ساقطة من المخطوطة.

(١٢) ليست في المخطوطة.

٢٦

علي الفارسيّ : إذا ذكرت صفات في معرض المدح والذم ، فالأحسن أن يخالف في إعرابها ؛ لأن المقام يقتضي الإطناب ، فإذا خولف في الإعراب كان المقصود أكمل لأنّ المعاني عند الاختلاف تتنوع (١) وتتفتن ، وعند الإيجاز تكون نوعا واحدا.

ومثله (٢) في المدح قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (النساء : ١٦٢) فانتصب (الْمُقِيمِينَ) على القطع ، وهو من صفة المرفوع الذي هو (الْمُؤْمِنُونَ). وقيل : بل انتصب بالعطف على قوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (النساء : ١٦٢) وهو مجرور ، وكأنه قال : «يؤمنون بالذي أنزل إليك وبالمقيمين» أي بإجابة المقيمين ، والأوّل أولى ، لأن الموضع للتفخم فالأليق به إضمار الفعل ، حتى يكون الكلام جملة لا مفردا. ٢ / ٤٤٧

ومثله قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) إلى قوله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ) (البقرة : ١٧٧) نصّ عليه سيبويه (٣). وجوّز السّيرافي (٤) أن يحمل على قوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى) (البقرة : ١٧٧) إلى أن قال : (وَالصَّابِرِينَ) وردّه الصفّار (٥) بأنه لا يعطف على الموصول قبل تمام الصلة (٦) ، وإن كان (وَالصَّابِرِينَ) معطوفا على (وَالسَّائِلِينَ) فهو من صلة «من» فكذلك المعطوف عليه (٧).

والصواب أن يكون المعطوف من صلة «من» (٨) ، وتكون الصلة كملت (٩) عند قوله تعالى : (وَآتَى الزَّكاةَ) (البقرة : ١٧٧) ثم أخذ في القطع. ومثاله في الذم : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (المسد : ٤) بنصب (حَمَّالَةَ). ٢ / ٤٤٨

__________________

(١) تصحفت في المخطوطة إلى (تينون).

(٢) في المخطوطة (ومثاله).

(٣) انظر الكتاب ٢ / ٦٣ (بتحقيق عبد السلام محمد هارون) ، باب ما ينتصب على التعظيم والمدح.

(٤) هو الحسن بن عبد الله بن المرزبان ، أبو سعيد السيرافي تقدم التعريف به في ١ / ٤١٤.

(٥) هو القاسم بن علي البطليوسي الصفّار ، تقدم التعريف به في ٢ / ٤٥١.

(٦) في المخطوطة (صلته).

(٧) هذه المسألة وردت في إعراب القرآن للنحاس ١ / ٢٨١ ، يردّ فيها النحاس على الكسائي.

(٨) تصحفت في المخطوطة إلى (شيء).

(٩) في المخطوطة (كما كانت).

٢٧

تنبيهان

* (الأول) : إنما يحسن القطع بشرطين :

(أحدهما) : أن يكون [الموصوف] (١) معلوما ، أو منزّلا منزلة المخاطب لا يتصور عنده البناء على مجهول. وقولنا «أو منزّلا منزلة المعلوم» لا بد منه. وقال الزمخشري (٢) في قوله تعالى : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الفرقان : ٢) : رفع على الإبدال من (الَّذِي نَزَّلَ) (الفرقان : ١) أو رفع على المدح ، أو نصب عليه. قال الطيبي (٣) : «والإبدال أولى ، لأنّ من حقّ صلة الموصول أن تكون معلومة عند المخاطب ، وكونه تعالى : (نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) (الفرقان : ١) لم يكن معلوما للعالمين ، فأبدل بقوله : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بيانا وتفسيرا وتبيّن (٤) لك المدح».

(وجوابه) : ما ذكرنا أن (٥) المنزّل منزلة المعلوم بمنزلة المعلوم (٥) ، وهاهنا لقوة دليله أجري مجرى المعلوم ، وجعلت صلة (٦) ، نص عليه سيبويه والجمهور.

(وثانيهما) : أن يكون الصفة للثناء والتعظيم.

(وشرط بعضهم ثالثا) : وهو تقدم الإتباع ، [حكاه] (٧) ابن بابشاذ (٨).

وزيّفه الأستاذ أبو جعفر بن الزّبير (٩) ، وقال : إنما يتمّ ذلك إذا كان الموصوف يفتقر إلى

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) الكشاف ٣ / ٨٨.

(٣) هو الحسن بن محمد بن عبد الله الطّيبي ـ بكسر الطاء ـ الإمام المشهور ، العلامة في المعقول والعربية والمعاني والبيان ، قال ابن حجر : «كان آية في استخراج الدقائق من القرآن والسنن» صنف «شرح الكشاف» و «التبيان في المعاني والقرآن» و «شرح المشكاة». ت ٧٤٣ ه‍ (بغية الوعاة ١ / ٥٢٢).

(٤) في المخطوطة (وبين ذلك) بدل (وتبين لك).

(٥) عبارة المطبوعة (أن المنزل بمنزلة المعلوم منزلة المعلوم).

(٦) في المخطوطة (صلته).

(٧) ساقطة من المخطوطة.

(٨) هو طاهر بن أحمد بن بابشاذ أبو الحسن المصري النحوي اللغوي. ولّي متأمّلا ـ مصحّحا ـ في ديوان الإنشاء يتأمل ما تصدر منه من السجلات والرسائل فيصلح ما فيها من خطأ ، تزهّد في آخر عمره. من تصانيفه «شرح جمل الزجاجي» و «شرح النخبة» و «التعليق في النحو» ت ٤٦٩ ه‍ (معجم الأدباء ١٢ / ١٧).

(٩) هو أحمد بن إبراهيم أبو جعفر بن الزبير ، تقدم التعريف به في ١ / ١٣٠ ، وانظر قوله في ملاك التأويل ١ / ٢٠ في الحاشية.

٢٨

زيادة بيان ، فحينئذ يتقدم الإتباع ليستحكم العلم بالموصوف ؛ أما إذا كان معلوما فلا يفتقر إلى زيادة بيان. قال : والأصل ـ فيما الصفة فيه مدح أو ذم والموصوف معلوم ـ قطع الضمير ، وهو (١) الأفصح ، ولا يشترط غير ذلك.

وقد أورد على دعوى أفصحيّة (٢) القطع عند ذلك إجماع [١٤٩ / ب] القراء السبعة على الإتباع في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، فضعّفوا قراءة النصب (٣) على القطع مع حصول شرطي القطع. وأجاب ابن الزبير (٤) بأنّ اختيار القطع مطّرد ما لم تكن الصفة خاصّة بمن جرت عليه! لا يليق ولا يتّصف بها سواه. ولا شكّ أن هذا الضرب قليل جدّا ، فكذلك لم يفصح سيبويه باشتراطه ، فإذا كانت الصفة ممن (٥) لا يشارك فيها الموصوف غيره ، وكانت مختصة بمن جرت عليه ، فالوجه فيها الإتباع.

ونظير ذلك في صفات الله سبحانه وتعالى مما يتصف به غيره ؛ فلذلك (٦) لم يقطع ، وعليه ورد السماع لهذه الآيات الشريفة. وكذلك قوله [تعالى] (٧) : (حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) (غافر : ١ ـ ٣) لمّا (٨) كان وصفه تعالى ب (غافِرِ الذَّنْبِ) وما بعده لا يليق بغيره ، لم يكن فيه إلا الإتباع ، والإتباع لا يكون إلا بعد القطع (٩) ، ويلزم الإتباع في الكل. وهذا مع تكرر الصفات ، وذلك من مسوّغات القطع على صفة ما ، وعند بعضهم من غير تقييد بصفة.

وأما الإتباع فيما لم يقع فيه الاختصاص من صفته تعالى فكثير ؛ فهذا هو السماع ، وله وجه في القياس ، وهو شبيه بالوارد في سورة والنجم ، في قوله [تعالى] : (وَأَنَّهُ هُوَ ٢ / ٤٥٠

__________________

(١) في المخطوطة (إنه).

(٢) في المخطوطة (فصحه).

(٣) وهي قراءة المطوعي ، قرأ : (مالك) نصبا على القطع أو منادى مضافا توطئة لإياك نعبد والجمهور بالكسر (اتحاف فضلاء البشر : ١٢٢).

(٤) انظر ملاك التأويل ١ / ٢١ في الحاشية.

(٥) تصحفت في المخطوطة إلى (تمكن).

(٦) في المخطوطة (فكذلك).

(٧) ليست في المخطوطة.

(٨) في المخطوطة (فمن).

(٩) في المخطوطة (قطع).

٢٩

أَضْحَكَ وَأَبْكى * وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) (النجم : ٤٣ ، ٤٤) ثم قال بعد : (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) (النجم : ٤٨ ، ٤٩) فورد في هذه الجمل الأربع الفصل بالضمير المرفوع بين اسم إنّ وخبرها ، ليتحدّد (١) بمفهومه نفي الاتصاف عن غيره تعالى (٢) بهذه الأخبار ، وكان الكلام في قوة (٣) أن لو قيل «وأنه هو لا غيره». ولم يرد هذا الضمير في قوله (٤) تعالى : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (النجم : ٤٥) لأن ذلك مما لا يتعاطاه أحد ، لا حقيقة ولا مجازا ولا ادعاء ، بخلاف الإحياء والإماتة ، فيما حكاه الله تعالى عن نمروذ.

(قلت) : وما ذكره في الجواب يرد عليه قوله تعالى : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ...) الآية (التوبة : ١١٢) وقوله تعالى : (أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ ...) (التحريم : ٥) الآيات ومما يرد عليه بالنسبة لأوصاف الذم قوله : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ [مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ]) (٥) الآية (القلم : ١٠ ـ ١١) قد (٦) جرت كلّها على ما قبلها بالاتباع ، ولم يجيء فيها القطع. وقرأ الحسن (٧) : (عُتُلٍ) (القلم : ١٣) بالرفع على الذم ، قال الزمخشريّ (٨) : وهذه القراءة تقوية لما يدلّ عليه بعد ذلك.

* (الثاني) : قد يلتبس المنصوب على المدح بالاختصاص ، وقد فرّق سيبويه بينهما فيما بيّن ؛ والفرق أنّ المنصوب على المدح أن يكون المنتصب لفظا (٩) يتضمن نفسه مدحا ؛ نحو «هذا زيد عاقل قومه» و [في] (١٠) الاختصاص لا يقتضي (١١) اللفظ ذلك ، كقوله تعالى : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) (هود : ٧٣) فيمن نصب (أَهْلَ) (١٢).

__________________

(١) في المخطوطة (ليحترز).

(٢) تصحفت في المخطوطة إلى (قال تعالى).

(٣) في المخطوطة (فتراه).

(٤) في المخطوطة (وقوله) بدل (في قوله تعالى).

(٥) تمام الآية ليس في المطبوعة.

(٦) في المخطوطة (فقد).

(٧) في المخطوطة (وقيل حكى الحسن) ، والمقصود به الحسن بن يسار البصري ، وانظر (إتحاف فضلاء البشر : ٤٢١).

(٨) الكشاف ٤ / ١٢٧.

(٩) في المخطوطة (نظما).

(١٠) ساقطة من المخطوطة.

(١١) في المخطوطة (إذا لم يقتض) بدل (لا يقتضي).

(١٢) راجع البحر المحيط ٥ / ٢٤٥.

٣٠

(العاشرة) : يوصف الجمع بالمفرد (١) ، قال تعالى : (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) (طه : ٤) فوصف الجمع بالمفرد. وقال تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (الأعراف : ١٨٠) فوصف «الأسماء» وهي جمع اسم ، بالحسنى وهو مفرد ، تأنيث الأحسن. وكذلك قوله تعالى : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) (طه : ٥١) فإن (الْأُولى) تأنيث «الأول» وهو صفة لمفرد.

وإنما حسن وصف الجمع بالمفرد ؛ لأن اللفظ المؤنث يجوز إطلاقه على [١٥٠ / أ] جماعة المؤنث ؛ بخلاف [لفظ] (٢) المذكر (٣) [يرد إلى لفظ جماعة المؤنث] (٣) وأما قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) (الفرقان : ١٨) والبور : الفاسد ، فقال الرمّاني (٤) : «هو بمعنى الجمع إلا أنه ترك جمعه في اللفظ ؛ لأنه مصدر وصف».

وقد يوصف الجمع بالجمع ، ولا يوصف مفرد كل منهما بالمفرد ومنه : (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) (القصص : ١٥) فثنى الضمير ، ولا يقال في الواحد «يقتتل». ومنه : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (آل عمران : ٧) ولا يقال «وأخرى متشابهة».

(الحادية عشرة) : قد تدخل الواو على الجملة الواقعة صفة تأكيدا ، ذكره الزمخشريّ (٥) ، وجعل منه قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (الحجر : ٤) قال : «الجملة صفة لقرية ، والقياس عدم دخول الواو فيها ؛ كما في قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ) (الشعراء : ٢٠٨) وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف». وقد أنكره عليه ابن مالك والشيخ أبو حيان (٦) وغيرهما ، والقياس مع الزمخشريّ ، لأن الصفة كالحال في المعنى.

وزعم بعضهم أنه لا يؤتى بالواو في الصفات إلا إذا تكررت (٧) النعوت ، وليس كذلك ،

__________________

(١) في المخطوطة (بالجمع).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٤) هو علي بن عيسى أبو الحسن الرماني تقدم ذكره في ١ / ١١١.

(٥) الكشاف ٢ / ٣١٠.

(٦) انظر النهر الماء المطبوع بهامش البحر المحيط ٥ / ٤٤٣ ـ ٤٤٤.

(٧) في المخطوطة (كررت).

٣١

ومنه قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) (الكهف : ٢٢) وقوله [تعالى] (١) : (آتَيْنا مُوسى [وَهارُونَ] (١) الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) (الأنبياء : ٤٨) وتقول : جاءني (٢) زيد والعالم.

(الثانية عشرة) : الصفة لا تقوم مقام الموصوف إلا على استكراه ؛ لأنها إنما يؤتى بها للبيان والتخصيص ، أو المدح والذم ، وهذا في موضع الإطالة لا الاختصار ، فصار من باب نقص الغرض. وقال ابن عمرون (٣) : «عندي أن البيان حصل بالصفة والموصوف معا ، فحذف الموصوف ينقص الغرض ، ولأنه ربما أوقع لبسا (٣) ، ألا ترى أن قولك : «مررت بطويل» يحتمل أنه رجل أو قوس (٥) أو غير ذلك ، إلا (٦) إذا ظهر أمره ظهورا يستغنى به عن ذكره ، كقوله تعالى : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) (الصافات : ٤٨) قال السخاوي (٧) : «ولا فرق في صفة النكرة بين أن يذكر معها أو لا». قال ابن عمرون (٣) : «وليس قوله بشيء».

القسم الثالث

البدل

والقصد به الإيضاح بعد الإبهام ، وهو يفيد البيان والتأكيد ، أما البيان فإنك إذا قلت : «رأيت زيدا أخاك» بيّنت أنك تريد بزيد الأخ لا غير ، وأما التأكيد فلأنه على نية تكرار العامل ، ألا ترى إذا قلت : «ضربت زيدا» جاز أن تكون ضربت رأسه أو يده أو جميع بدنه ؛ ٢ / ٤٥٤

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (جاء).

(٣) هو محمد بن محمد بن أبي علي ، وقد تقدم التعريف به في ٣ / ٢٢.

(٤) اضطربت في المخطوطة إلى (للسا).

(٥) في المخطوطة (فرس).

(٦) في المخطوطة (بما).

(٧) هو علي بن محمد بن عبد الصمد علم الدين السخاوي تقدمت ترجمته في ١ / ٢٠٦.

٣٢

فإذا قلت : «يده» فقد رفعت ذلك الإبهام ، فالبدل جار مجرى التأكيد ، لدلالة الأول عليه ، أو المطابقة (١) كما في بدل الكلّ ، أو التضمن كما في بدل البعض ، أو الالتزام (٢) كما في بدل الاشتمال ؛ فإذا قلت : «ضربت زيدا رأسه» فكأنك قد ذكرت الرأس مرتين ، مرة بالتضمن وأخرى بالمطابقة ، وإذا قلت : «شربت ماء البحر بعضه» فإنه مفهوم من قولك : «شربت ماء البحر» أنك لم تشربه كله فجئت بالبعض تأكيدا.

وهذا معنى قول سيبويه ، ولكنه ثنّى (٣) الاسم تأكيدا ، وجرى (٤) مجرى الصفة في الإيضاح ، لأنك إذا قلت : «رأيت أبا عمرو زيدا» ، «ورأيت غلامك زيدا» ، «ومررت برجل صالح زيد» ، فمن الناس من يعرفه بأنه غلامك ، أو بأنه رجل صالح ، ولا يعرف أنه زيد ، وعلى العكس ، فلمّا ذكرتهما أثبتّ باجتماعهما المقصود. وهذا معنى قول الزمخشري (٥) : وإنما يذكر الأول لتجوز التوطئة ، وليفاد (٦) بمجموعهما فضل تأكيد وتبيين [١٥٠ / ب] لا يكون في الإفراد.

وقال ابن السيّد (٧) : ليس كلّ بدل يقصد به رفع الإشكال الذي يعرض في المبدل (٨) منه ، بل من البدل ما يراد به التأكيد ، وإن كان ما قبله غنيا عنه ، كقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللهِ) (الشورى : ٥٢ ، ٥٣) ، ألا ترى أنه لو لم يذكر «الصراط» الثاني لم يشكّ أحد أن الصراط المستقيم هو صراط الله. وقد نصّ سيبويه على أن من البدل ما الغرض منه التأكيد ، ولهذا جوزوا بدل المضمر من المضمر ، كلقيته إياه (٩). انتهى.

__________________

(١) في المخطوطة (بالمطابقة).

(٢) في المخطوطة (بالالتزام).

(٣) تصحفت في المخطوطة والمطبوعة إلى (بنى). والصواب من كتاب سيبويه ١ / ١٥٠ ، باب من الفعل يستعمل في الاسم ثم يبدل مكان ذلك الاسم ...

(٤) تصحفت في المخطوطة إلى (أو جاء).

(٥) انظر المفصّل ص ١٢١. باب البدل.

(٦) تصحفت في المخطوطة إلى (وليتفادى).

(٧) هو عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي تقدم التعريف به في ١ / ٣٤٣.

(٨) في المخطوطة (البدل).

(٩) تصحفت في المطبوعة إلى (أباه) ، وانظر كتاب سيبويه ٢ / ٣٨٦ ، باب ما تكون فيه أنت وأنا ونحن.

٣٣

والفرق بينه وبين الصفة أن البدل في تقدير تكرار العامل ، وكأنه في التقدير (١) من جملتين ؛ بدليل تكرر حرف الجرّ في قوله : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) (الأعراف : ٧٥) ، وبدليل بدل النكرة [من المعرفة] (٢) والمظهر (٣) من المضمر ، وهذا مما يمتنع في الصفة ، فكما أعيدت اللام الجارة في الاسم ، فكذلك تكرار العامل الرافع أو الناصب في تقدير التكرار (٤) ، وهو إن كان كذلك فلا يخرج عن أن يكون فيه تبيين للأول كالصفة.

وقيل لأبي عليّ (٥) : كيف يكون البدل إيضاحا للمبدل (٦) منه ، وهو من غير جملته؟ فقال (٧) : لما لم يظهر العامل في البدل ، وإنما دل عليه العامل في المبدل منه ، واتصل البدل بالمبدل منه في اللفظ ، جاز أن يوضّحه.

ومن فوائد البدل التبيين على وجه المدح فقولك : هل أدلّك على أكرم الناس وأفضلهم؟ فلان ، أبلغ من قولك : فلان الأكرم والأفضل ، بذكره مجملا ثم مفصّلا. وقال الأخفش والواحديّ (٨) في بدل البعض من الكلّ ، نحو : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران : ٩٧) يسمى هذا بدل البيان ؛ لأن الأوّل يدلّ على العموم ثم يؤتى بالبدل إن أريد (٩) البعض.

وأعلم أن في كلا البدلين ـ أعني بدل البعض وبدل الاشتمال ـ بيانا وتخصيصا للمبدل منه ، وفائدة البدل أنّ ذلك الشيء يصير مذكورا مرتين : إحداهما بالعموم ، والثانية بالخصوص.

__________________

(١) في المخطوطة (من تقدير).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (والمضمر).

(٤) في المخطوطة (التكرير).

(٥) الفارسي تقدم التعريف به في ١ / ٣٧٥.

(٦) في المخطوطة (البدل).

(٧) في المخطوطة (وقال).

(٨) هو علي بن أحمد أبو الحسين الواحدي تقدم التعريف به في ١ / ١٠٥.

(٩) في المخطوطة (إذ المراد).

٣٤

ومن أمثلته قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ) (الفاتحة : ٦ ـ ٧).

(آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (الشعراء : ٤٧ ـ ٤٨). ٢ / ٤٥٦

وقوله : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ* ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) (العلق : ١٥ ـ ١٦) وفائدة الجمع بينهما أن الأولى ذكرت للتنصيص على «ناصية» ، والثانية على علة السفع (١) ، ليشمل بذلك ظاهر كلّ ناصية (٢) هذه (٣) صفتها.

ويجوز بدل المعرفة من المعرفة ؛ نحو : (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ) (الفاتحة : ٦ ـ ٧).

وبدل النكرة من المعرفة ، نحو : (بِالنَّاصِيَةِ* ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) (العلق : ١٥ ـ ١٦).

قال ابن يعيش (٤) : ولا يحسن بدل النكرة من المعرفة حتى توصف كالآية ؛ لأن البيان مرتبط بهما جميعا.

والنكرة من النكرة كقوله [تعالى : (إِنَ] ) لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً* حَدائِقَ وَأَعْناباً* وَكَواعِبَ أَتْراباً* وَكَأْساً دِهاقاً) (النبأ : ٣١ ـ ٣٤) ، فحدائق وما بعدها (٦) بدل من «مفازا».

ومنه قوله تعالى : (وَغَرابِيبُ سُودٌ) (فاطر : ٢٧) ، فإن «سود» بدل من «غرابيب» لأن الأصل «سود غرابيب» فغرابيب في الأصل صفة لسود (٧) ، ونزع الضمير منها ، وأقيمت مقام الموصوف ، ثم أبدل منها الذي كان موصوفا بها ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) (آل عمران : ٨٥). وقوله : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) (يوسف : ٢٠) فهذا بدل نكرة (٨) موصوفة من أخرى موصوفة فيها بيان الأولى.

__________________

(١) في المخطوطة (الشفع).

(٢) في المخطوطة (كل ذلك ناصية).

(٣) في المخطوطة (وهذه).

(٤) تصحفت في المخطوطة إلى (ابن مسعود). وابن يعيش تقدم التعريف به في ٢ / ٤٩٧.

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) في المخطوطة (بعده).

(٧) في المخطوطة (سود).

(٨) في المخطوطة (النكرة).

٣٥

[١٥١ / أ] ومثل (١) إبدال النكرة المجردة من مثلها مجردة وبدل المعرفة من النكرة : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِراطِ اللهِ) (الشورى : ٥٢ ـ ٥٣) لأن «صراط الله» مبين إلى الصراط المستقيم ؛ فإن مجيء الخاص والأخص بعد العام والأعم كثير ؛ ولهذا المعنى قال الحذّاق في قوله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) (ق : ١٨) : إنه لو عكس فقيل : «ما يقول من لفظ» لم يجز ، لأن القول أخصّ من اللفظ ، لاختصاصه بالمستعمل ، واللفظ يشمل (٢) المهمل الذي لا معنى له.

وقد يجيء للاشتمال ، والفرق بينه وبين بدل البعض ، أن البدل في البعض جرّ في الاشتمال وصفا ، كقوله : (وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) (الكهف : ٦٣) فإن (أَذْكُرَهُ) بمعنى «ذكره» ؛ وهو بدل من الهاء في (٣) (أَنْسانِيهُ) العائدة إلى الحوت ، وتقديره : «وما أنساني ذكره إلا الشيطان».

وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) (البقرة : ٢١٧) ف (قِتالٍ) بدل من «الشهر» بدل الاشتمال ، لأن الشهر يشتمل على القتال وعلى غيره ؛ كما كان زيد يشتمل على العقل وغيره ؛ وهو مؤكد لأنهم لم يسألوا عن الشهر الحرام فإنهم يعلمونه ، وإنما سألوا عن القتال فيه ، فجاء به تأكيدا.

وقوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ* النَّارِ) (البروج : ٤ ـ ٥) ، فالنار بدل من «الأخدود» بدل اشتمال ؛ لأنه يشتمل على النار وغيرها ، والعائد محذوف تقديره : «الموقدة فيه».

ومن بدل البعض قوله [تعالى] (٤) : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران : ٩٧) فالمستطيعون بعض الناس ، لا كلّهم.

وقال ابن برهان (٥) : بل هذه بدل كلّ من كلّ ، واحتج بأن الله لم يكلّف الحج من لا يستطيعه فيكون المراد بالناس بعضهم ؛ على حدّ قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ

__________________

(١) في المخطوطة (ونقل).

(٢) عبارة المخطوطة (وعموم اللفظ ومعنى) بدل (واللفظ يشمل).

(٣) في المخطوطة (من).

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) هو أبو الفتح أحمد بن علي بن برهان تقدم التعريف به في ٢ / ٢٠٨.

٣٦

جَمَعُوا لَكُمْ) (آل عمران : ١٧٣) ؛ في أنه لفظ عام أريد به خاص ، لأن (النَّاسُ) ٢ / ٤٥٨ [في] (١) اللفظ الأول لو كان المراد به الاستغراق لما انتظم قوله بعده : (إِنَّ النَّاسَ) ؛ فعلى هذا هو عنده مطابق لعدة المستطيعين في كميّتهم ، وهم بعض الناس لا جميعهم.

والصحيح ما صار إليه الجمهور ؛ لأن باب البدل أن يكون في الثاني بيان ليس في الأول ؛ بأن يذكر الخاصّ بعد العام مبيّنا وموضحا.

ولا بدّ في إبدال البعض من ضمير ، كقوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) (البقرة : ٢٥١). (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) (الأنفال : ٣٧).

وقد يحذف لدليل ، كقوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ) (آل عمران : ٩٧) ، «منهم» ، وهو مراد بدليل ظهوره في الآية الأخرى ؛ وهي (٢) قوله : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) (البقرة : ١٢٦) ، ف (مَنْ آمَنَ) بدل من (أَهْلَهُ) ، وهم بعضهم.

وقد يأتي البدل لنقل الحكم عن مبدله (٣) ، نحو : «جاء القوم أكثرهم (٤) ، وأعجبني زيد ثوبه». وقال ابن عصفور (٥) : ولا (٦) يصح «غلمانه».

وعدل عن البدل في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (الحجرات : ٤) ، لأنه أريد الاخبار عنهم كلهم في الحال الثاني وهو (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) (الحجرات : ٥) ، فلو أبدل لأوهم ، بخلاف : «إنك أن تقوم خير لك». البدل أرجح.

والبدل في تقدير تكرير العامل وليس كالصفة ، ولكنه في تقدير جملتين بدليل تكرير حرف الجرّ.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (وفي).

(٣) في المخطوطة (لبدله).

(٤) في المخطوطة (كلهم).

(٥) تقدم التعريف به في ١ / ٤٦٦.

(٦) في المخطوطة (لا).

٣٧

قد (١) يكرر عامله إذا كان حرف جر ، كقوله : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) (الأنعام : ٩٩) ، ف (طَلْعِها) بدل اشتمال من (النَّخْلِ) وكرر العامل فيه ؛ وهو (مِنَ) (٢) [أول ما يخرج النخل] (٢) وقوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) (٣) [لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ (الأعراف : ٧٥) ، (لِمَنْ آمَنَ) ، بدل بعض من كل ، من (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)] (٣) لأن المؤمنين بعض [١٥١ / ب] المستضعفين ، وقد كرر اللام.

وقوله : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) (الزخرف : ٣٣) ، فقوله : (لِبُيُوتِهِمْ) بدل اشتمال من قوله : (لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ). وجعل ابن عطية (٤) اللام الأولى للملك والثانية للاختصاص ، فعلى هذا يمتنع البدل لاختلاف معنى الحرفين.

وقوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) (المائدة : ١١٤) ، [ف (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا)] (٥) بدل من الضمير في (لَنا) ؛ وقد أعيد معه العامل مقصودا به التفصيل.

ومنه قراءة يعقوب (٦) : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) (الجاثية : ٢٨) ، قال أبو الفتح : «جاز إبدال الثانية من الأولى ، لأن في الثانية ذكر سبب الجثو».

قيل : ولم يظهر عامل البدل إذا كان حرف جرّ ، إيذانا بافتقار الثاني إلى الأول ، فإن حروف الجر مفتقرة ، ولم يظهروا الفعل ، إذ لو أظهروه لانقطع الثاني عن الأول بالكلية ؛ لأن الكلام مع الفعل قائم بنفسه.

واعلم أنه لا خلاف في جواز إظهار العامل في البدل إذا كان حرف جرّ كالآيات السابقة ؛ فإن كان رافعا أو ناصبا ففيه خلاف ، والمجوّزون احتجوا بقوله [تعالى] (٧) : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ* وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُمْ) (الشعراء : ١٣١ ـ ١٣٣) فيجوز أن

__________________

(١) في المخطوطة (وقد).

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٣) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٤) هو عبد الحق بن غالب بن عطية تقدم التعريف به في ١ / ١٠١.

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) القراءة وقول أبي الفتح ابن جني تجدها في المحتسب ٢ / ٢٦٢.

(٧) ليست في المخطوطة.

٣٨

يكون (أَمَدَّكُمْ) الثاني بدلا من (أَمَدَّكُمْ) الأول. وقد يكون من إبدال الجملة من الجملة ، وتكون الثانية [صلة] (١) «الذي» كالأولى. ويجوز أن تكون الثانية شارحة للأولى ، كقولك : «ضربت رأس زيد قذفته (٢) بالحجر». ثم (٣) قوله تعالى : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ) (يس : ٢٠ ـ ٢١) (٤) [أبدل قوله : (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ)] (٤) (يس : ٢١) من قوله : (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (يس : ٢٠) لأنه أكثر تلطفا في اقتضاء اتباعهم. وقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً* يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) (الفرقان : ٦٨ ـ ٦٩) ف (يَلْقَ) مجزوم بحذف الألف لأنه جواب الشرط ، ثم أبدل منه : (يُضاعَفْ [لَهُ الْعَذابُ (٤)]) (الفرقان : ٦٩) فبيّن بها «الأثام» ما هو.

وينقسم البدل باعتبار آخر إلى بدل مفرد من مفرد ، وجملة ، من جملة وقد سبقا ، وجملة من مفرد ، كقوله تعالى : (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) (آل عمران : ٥٩) وقوله : (ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) (فصلت : ٤٣) (٥) [فإن (إِنَ) وما عملت فيه بدل من (ما) وصلتها على تقدير «ما يقال لك ألا إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب»] (٦) وجاز إسناد (يُقالُ) إلى ما عملت فيه ، كما جاز إسناد (قِيلَ) في (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) (الجاثية : ٣٢).

ومن إبدال الجملة من المفرد قوله (٧) تعالى : ((٨) [وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا] (٨) هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (الأنبياء : ٣) قال الزمخشري (٩) : «هذا الكلام كلّه في محل نصب (١٠) ، بدلا من (النَّجْوَى)». ٢ / ٤٦١

ويبدل الفعل من الفعل الموافق له في المعنى مع زيادة بيان ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً* يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ ...) (الفرقان : ٦٨ ـ ٦٩) الآية.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (فقذفته).

(٣) في المخطوطة (نعم).

(٤) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٦) في المخطوطة (كقوله).

(٧) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٨) الكشاف ٣ / ٣.

(٩) في المخطوطة (النصب).

٣٩

والرابع : بدل المفرد من الجملة ، كقوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) (يس : ٣١) ، ف (أَنَّهُمْ) بدل ؛ لأن الإهلاك وعدم الرجوع بمعنى واحد.

فإن قلت : لو كان بدلا لكان معه الاستفهام.

قيل : هو بدل معنويّ.

تنبيه

وقد يكرر البدل كقوله : (إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) (التوبة : ٤٠) ، فقوله : (إِذْ هُما) [١٥٢ / أ] بدل من قوله : (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (التوبة : ٤٠) ، وقوله : (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) (التوبة ٤٠) بدل من [قوله] (١) (إِذْ هُما فِي الْغارِ) (التوبة : ٤٠).

تنبيه

أعربوا (آزَرَ) من قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) (الأنعام : ٧٤) بدلا.

قال ابن عبد السلام : والبدل لا يكون إلا للبيان ، والأب لا يلتبس بغيره ، فكيف حسن البدل؟.

والجواب أن الأب يطلق على الجدّ ، بدليل قوله : (آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) (يوسف : ٣٨) ، فقال : «آزر» (٢) لدفع توهم المجاز.

هذا كله إذا قلنا : إن «آزر» اسم أبيه لكن في «المعرّب» للجواليقي (٣) عن الزّجاج :

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) في المخطوطة (إنه).

(٣) هو موهوب بن أحمد بن محمد أبو منصور الجواليقي إمام في اللغة والنحو والأدب وهو من مفاخر بغداد ، قرأ الأدب على أبي زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي ولازمه وتلمذ له حتى برع في فنه سمع من شيوخ زمانه وأخذ الناس عنه علما جما وله من التصانيف «شرح أدب الكاتب» و «المعرب» و «تتمة درة الخواص» وغيرها ت ٥٣٩ ه‍ (القفطي ، إنباه الرواة ٣ / ٣٣٥). وكتابه «المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم» طبع بتحقيق إدوارد سخاو في ليبسك عام ١٢٩٣ ه‍ / ١٨٧٦ م ، وطبع بتحقيق أحمد شاكر في القاهرة بدار الكتب المصرية عام ١٣٦١ ه‍ / ١٩٤٢ م وأعيد طبعه عام ١٣٩٠ ه‍ / ١٩٦٩ م. وأعيد نشر الطبعة الأولى بالأوفست في طهران عام ١٣٨٧ ه‍ / ١٩٦٦ م. (ذخائر التراث العربي ١ / ٤٥٦ وانظر قوله في كتابه ص ٢٨ ـ ٢٩.

٤٠