البرهان في علوم القرآن - ج ٣

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٣

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٩

وجعل منه المبرّد (١) ، قوله تعالى : (رَدِفَ) [١٧٦ / ب](لَكُمْ) (النمل : ٧٢) ، والأكثرون على أنه ضمّن (رَدِفَ) معنى : «اقترب» ؛ كقوله : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) (الأنبياء : ١).

واختلف في قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ) (النساء : ٢٦) (٢) [(وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)] (٢) (الأنعام : ٧١) ، فقيل زائدة ، وقيل للتعليل والمفعول محذوف ، أي يريد الله التبيين وليبيّن لكم ويهديكم ، أي فيجمع لكم بين الأمرين.

وقال الزمخشري (٣) في قوله تعالى : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (الآية : ١٢) ، في سورة الزمر : «لك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في «أردت لأن أفعل» ، ولا تزاد إلا مع «أن» خاصة دون الاسم الصريح ؛ كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه ؛ كما أتت (٤) السين في «أسطاع» ـ يعني بقطع الهمزة ـ (٥) عوضا من ترك الأصل الذي هو «أطوع» والدليل على هذا مجيئه بغير لام ؛ في قوله تعالى : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (الزمر : ١٢). انتهى. ٣ / ٨٦

وزيادتها في «أردت لأن أفعل» لم يذكره أكثر النحويين ؛ وإنما تعرّضوا لها (٦) في إعراب : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (النساء : ٢٦).

وتزاد لتقوية العامل الضعيف إما لتأخّره (٧) ، نحو : (هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (الأعراف : ١٥٤) ، ونحو : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) (يوسف : ٤٣). أو لكونه فرعا في العمل ، نحو : (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) (البقرة : ٩١) ، (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (البروج : ١٦) (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) (المعارج : ١٦).

__________________

الأصفهاني ١ / ٨٨ ـ ١٢٠ ، وقد ورد البيت في مغني اللبيب ، لابن هشام ١ / ٢١٥ ، وفرائد العقود ، للعيني ٣ / ٢٧٨ ، المطبوع على هامش خزانة الأدب وهمع الهوامع ، للسيوطي ٢ / ٣٣ ، وشرح شواهد المغني ، للسيوطي ٢ / ٥٨٠.

(١) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر أبو العباس المبرد ، تقدم ذكره في ٢ / ٤٩٧.

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٣) في الكشاف عند تفسير قوله تعالى (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) ٣ / ٣٤٢.

(٤) في الكشاف «كما عوض السين».

(٥) ليس من قول الزمخشري.

(٦) في المخطوطة «له».

(٧) في المخطوطة «لتأخيره».

١٦١

وقيل منه : (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) (طه : ١١٧) ، وقيل : بل يتعلق بمستقرّ محذوف صفة لعدوّ ؛ وهي للاختصاص.

وقد اجتمع التأخر (١) والفرعية ، في نحو : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (الأنبياء : ٧٨).

٣ / ٨٧ وأما قوله تعالى : (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) (المدثر : ٣٦) ، فإن كان «نذيرا» (٢) بمعنى المنذر ، فهو مثل : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (البروج : ١٦) ، وإن كان بمعنى الإنذار ، فاللام مثلها في : «سقيا لزيد».

وقد تجيء اللام للتوكيد بعد النفي ، وتسمّى لام الجحود ، وتقع بعد «كان» مثل : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) (الأنفال : ٣٣) ، اللام لتأكيد النفي ، كالباء الداخلة في خبر «ليس» ، ومعنى قولهم : «إنها للتأكيد» (٣) أنك إذا قلت : «ما كنت أضربك» بغير لام ، جاز أن يكون الضرب مما يجوز كونه : فإذا قلت : «ما كنت لأضربك» ، فاللام جعلته بمنزلة ما لا يكون أصلا.

وقد تأتي مؤكدة في موضع ، وتحذف في آخر لاقتضاء المقام ذلك.

ومن أمثلته قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (المؤمنون : ١٥ ـ ١٦) ، فإنه سبحانه أكّد إثبات الموت الذي لا ريب فيه تأكيدين ، وأكّد إثبات البعث الذي أنكروه تأكيدا واحدا ، وكان المتبادر العكس ، لأن التأكيد إنما يكون حيث الإنكار ؛ لكن في النّظم وجوه :

أحدها : أنّ البعث لما قامت البراهين القطعية عليه صار المنكر له كالمنكر للبديهيات ؛ فلم يحتج إلى تأكيد ؛ وأمّا الموت فإنه وإن أقروا به لكن لمّا لم يعلموا ما (٤) بعده نزّلوا منزلة من لم يقرّ به ؛ فاحتاج إلى تأكيد ذلك ؛ لأنه قد ينزّل المنكر كغير المنكر إذا كان معه ما لو تأمّله ارتدع من (٥) الإنكار. ولمّا ظهر على المخاطبين من التمادي في الغفلة والإعراض عن العمل

__________________

(١) عبارة المخطوطة «يجتمع التأخير».

(٢) في المخطوطة «النذير».

(٣) عبارة المخطوطة «ومعنى قوله للتأكيد».

(٤) في المخطوطة «لما».

(٥) في المخطوطة «عن».

١٦٢

لما بعده والانهماك في الدنيا ، وهي من أمارات إنكار الموت ، فلهذا قال : «ميتون» ولم يقل : تموتون ؛ وإنما أكّد إثبات البعث الذي أنكروه تأكيدا واحدا ، لظهور أدلته المزيلة للإنكار ، إذا تأملوا فيها ، ولهذا قيل : «تبعثون» على الأصل ، وهو الاستقبال بخلاف «تموتون».

الثاني : أنّ دخول اللام على «ميتون» أحق ؛ لأنه تعالى يردّ على الدّهرية (١) القائلين ببقاء النوع الإنساني [١٧٧ / أ] ، خلفا عن سلف ، وقد أخبر تعالى عن البعث في مواضع من القرآن ، [وأكّده] (٢) وكذّب منكره ؛ كقوله : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) (التغابن : ٧) قاله الشيخ تاج الدين بن الفركاح (٣).

الثالث : أنه لما كان العطف يقتضي الاشتراك في الحكم استغني (٤) [به عن إعادة لفظ اللاّم ؛ وكأنه قيل : «لتبعثون» واستغني] (٤) بها في الثاني لذكرها في الأول.

الرابع : قال الزمخشري : بولغ في تأكيد الموت ؛ تنبيها للإنسان (٥) [أن يكون الموت نصب عينيه ، ولا يغفل عن ترقبه ؛ فإن مآله إليه ؛ فكأنه أكّدت جملته ثلاث مرات ؛ لهذا المعنى ، لأن الإنسان] (٥) في الدنيا يسعى فيها غاية السعي ؛ [حتى] (٦) كأنه مخلّد ، ولم يؤكّد جملة البعث إلا ب «إنّ» لأنه أبرز بصورة (٧) المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ، ولا يقبل إنكارا.

__________________

(١) الدّهريّة هم الذين أنكروا الاعتقاد في الله ، وأنكروا خلق العالم والعناية الإلهية. ولم يسلموا بما جاءت به الأديان الحقّة كالشرائع السماوية والبعث والعقاب ، وقالوا بقدم الدهر وأنّ المادة لا تفنى ، وأن كل ما حدث في العالم إنما يرد إلى فعل القوانين الطبيعية. أي إلى حركة الأفلاك ، وقولهم بقدم الدهر هو أبرز أقوالهم. (الخوارزمي ، مفاتيح العلوم ص ٢٥) بتصرف.

(٢) ساقط من المخطوطة.

(٣) هو عبد الرحمن بن إبراهيم بن ضياء بن سباع الفزاري ، تاج الدين المعروف بالفركاح فقيه أهل الشام كان إماما مدققا نظارا تفقه على شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام. وروى البخاري عن ابن الزبيدي وسمع من ابن اللّتي وابن الصلاح ، حدث عنه جماعة من تصانيفه كتاب «الإقليد لذوي التقليد» وشرحا على «التنبيه» لم يسمّه ، وله على «الوجيز» مجلدات توفي سنة (٦٩٠ ه‍) (السبكي ، طبقات الشافعية ٥ / ٦٠).

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٦) ساقط من المطبوعة.

(٧) في المخطوطة «في صورة».

١٦٣

قلت : هذه الأجوبة من جهة المعنى ؛ وأما الصناعة فتوجب (١) ما جاءت الآية الشريفة عليه وهو حذف اللام في «تبعثون» لأن اللام تخلّص المضارع للحال ؛ فلا يجاء [به] (٢) مع يوم القيامة ، لأنه مستقبل ، ولأن «تبعثون» عامل في الظرف المستقبل.

وأما قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) (النحل : ١٢٤) ؛ فيمكن تأويلها بتقدير عامل.

٣ / ٨٩ ونظير هذا آية الواقعة ؛ وهي قوله سبحانه : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) (الآية : ٦٥). وقال سبحانه في الماء : (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) (الواقعة : ٧٠) بغير لام ؛ والفرق بينهما من أربعة أوجه :

أحدها : أن صيرورة الماء ملحا أسهل وأكثر من جعل الحرث حطاما ، إذ الماء العذب يمرّ بالأرض السبخة فيصير ملحا ، فالتوعّد به لا يحتاج إلى تأكيد ، وهذا كما أنّ الإنسان إذا توعد عبده بالضرب بعصا ونحوه لم يحتج إلى توكيد ، وإذا توعّد بالقتل احتاج إلى تأكيد.

والثاني : إنّ جعل الحرث حطاما ، قلب للمادّة والصورة ، وجعل الماء أجاجا قلب للكيفية فقط ، وهو أسهل وأيسر (٣).

الثالث : أن «لو» لمّا كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعليق الجزاء أتى باللام علما على ذلك ، ثم حذف الثاني للعلم بها ، لأن الشيء إذا علم لم يبال بإسقاطه عن اللفظ ويساوي لشهرته حذفه وإثباته ، مع ما في حذفه من خفّة اللفظ ورشاقته (٤) ؛ لأن تقدّم ذكرها والمسافة قصيرة يغني عن ذكرها ثانيا.

الرابع : أن اللام أدخلت في آية المطعوم ؛ للدّلالة على أنه يقدّم على أمر المشروب ، وأن الوعيد بفقده أشدّ وأصعب ، من قبل أنّ المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم ؛ ولهذا قدّمت [في] (٥) آية المطعوم على آية المشروب ، ذكرها (٦) والذي قبله الزمخشري (٧).

__________________

(١) في المخطوطة «فتوجيه».

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة «أكبر».

(٤) ساقط من المطبوعة.

(٥) ساقط من المطبوعة.

(٦) عبارة المخطوطة «ذكر هذا».

(٧) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٦١. مع تصرف في العبارة.

١٦٤

ومن ذلك حذف اللام في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) (الأنفال : ١) وإثباتها بعد قوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ...) (الأنفال : ٣ / ٩٠ ٤١) الآية ، والجواب أنك إذا عطفت على مجرور.

القسم السابع والعشرون

باب الاشتغال

فإنّ الشيء إذا أضمر ثم فسّر كان أفخم مما إذا لم يتقدم إضمار ؛ ألا ترى أنك تجد اهتزازا في نحو قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) (التوبة : ٦).

وفي قوله : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) (الإسراء : ١٠٠).

وفي قوله : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (الإنسان : ٣١).

وفي قوله : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) (الأعراف : ٣٠) لا تجد مثله فإذا قلت : وإن استجارك أحد من المشركين فأجره. وقولك : لو تملكون خزائن رحمة ربي.

وقولك : يدخل من يشاء في رحمته وأعدّ للظّالمين عذابا أليما ، وقولك : هدى فريقا وأضلّ فريقا ؛ إذ الفعل المفسّر في تقدير المذكور مرتين.

وكذا قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (الانشقاق : ١) ، (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (الانفطار : ١) ، ونظائره ، فهذه فائدة اشتغال الفعل عن المفعول بضميره [١٧٧ / ب].

القسم الثامن والعشرون

التعليل

بأن يذكر الشيء معلّلا ؛ فإنّه أبلغ من ذكره بلا علة ، لوجهين :

أحدهما : أن العلّة المنصوصة قاضية بعموم المعلول ؛ ولهذا اعترفت الظاهرية بالقياس في العلّة المنصوصة (١).

الثاني : أن النفوس تنبعث إلى نقل الأحكام المعلّلة ، بخلاف غيرها ؛ وغالب التعليل

__________________

(١) أورد ابن حزم هذا الكلام في كتابه المحلّى ١ / ٥٧.

١٦٥

في القرآن ، فهو على تقدير جواب سؤال اقتضته الجملة الأولى ، وهو سؤال عن العلّة.

منه : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (يوسف : ٥٣). (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (الحج : ١). (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (التوبة : ١٠٣).

وتوضيح التعليل أن الفاء السببية لو وضعت مكان «إنّ» لحسن.

والطرق الدالة على العلة أنواع :

الأول : التصريح بلفظ الحكم ، كقوله تعالى : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) (القمر : ٥).

وقال : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (النساء : ١١٣) ، والحكمة هي العلم النافع والعمل الصالح.

٣ / ٩٢ الثاني : أنه فعل كذا لكذا ، أو أمر بكذا لكذا ، كقوله تعالى : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (المائدة : ٩٧).

وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا) (الطلاق : ١٢).

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) (المائدة : ٩٧).

(لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) (الحديد : ٢٩).

(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ) (البقرة : ١٤٣).

(وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (الأنفال : ١١).

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) (آل عمران : ١٢٦) ، وهو كثير.

فإن قيل : اللام فيه للعاقبة ، كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (القصص : ٨) ، وقوله : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) (الحج : ٥٣) ، وإنما قلنا ذلك لأنّ أفعال الله تعالى لا تعلّل.

فالجواب أن معنى قولنا : إن أفعال الله تعالى لا تعلّل ، أي لا تجب ؛ ولكنها لا تخلو عن الحكمة ، وقد أجاب الملائكة عن قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) (البقرة : ٣٠) بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ٣٠).

١٦٦

ولو كان فعله (١) سبحانه مجردا عن الحكم والغايات لم يسأل (٢) الملائكة عن حكمته ولم يصحّ الجواب بكونه يعلم ما لا يعلمون من الحكمة والمصالح ، وفرق بين العلم والحكمة ؛ ولأنّ لام العاقبة إنما تكون في حق من يجهل العاقبة ، كقوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ ٣ / ٩٣ عَدُوًّا وَحَزَناً) (القصص : ٨) ؛ وأما من هو بكل شيء عليم فمستحيلة في حقه ؛ وإنما اللام الواردة في أحكامه وأفعاله لام الحكمة والغاية المطلوبة من الحكمة. ثم قوله : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (القصص : ٨) هو تعليل لقضاء الله بالتقاطه وتقديره لهم ، فإن التقاطهم له إنما كان بقضائه وقدره ، وذكر فعلهم دون قضائه ؛ لأنه أبلغ في كونه حزنا لهم وحسرة عليهم.

قاعدة تفسيرية (٣) :

حيث دخلت (٤) واو العاطف على لام التعليل فله وجهان :

أحدهما : أن يكون تعليلا معلّله محذوف ، كقوله تعالى : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) (الأنفال : ١٧) ؛ فالمعنى وللإحسان إلى المؤمنين فعل ذلك.

[وقوله] (٥) الثاني : أن يكون معطوفا على علة أخرى مضمرة ، ليظهر صحة العطف ، كقوله تعالى : (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى) (الجاثية : ٢٢) ؛ التقدير : ليستدلّ بها المكلف على قدرته تعالى ولتجزى. وكقوله : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ) (يوسف : ٢١) التقدير : ليتصرف فيها ولنعلمه.

والفرق بين الوجهين أنه في الأول عطف جملة على جملة ، وفي الثاني عطف مفرد على مفرد.

وقد يحتملهما الكلام ، كقوله تعالى : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) (البقرة : ٢٥٩) ، فالتقدير على الأول ، ولنجعله آية فعلنا ذلك ، وعلى الثاني : ولنبين للناس (٦) قدرتنا ولنجعله آية. ويطّرد الوجهان في نظائره ، ويرجّح كل واحد بحسب المقام ، وحذف المعلّل هاهنا

__________________

(١) في المخطوطة «تعليمه».

(٢) في المخطوطة «تسأل».

(٣) تأخرت القاعدة في المخطوطة إلى ما بعد القسم الثالث وهو «الإتيان بكي».

(٤) في المخطوطة «دلّت».

(٥) ساقط من المطبوعة.

(٦) في المخطوطة «له».

١٦٧

أرجح ، إذ لو فرض علة أخرى لم يكن بدّ من معلّل محذوف ، وليس قبلها ما يصلح له.

٣ / ٩٤ فإن قلت : لم قدّر المعلّل مؤخرا؟

قلت : فائدة هذا الأسلوب هو أن يجاء بالعلّة بالواو للاهتمام بشأن العلة المذكورة ؛ لأنه إمّا أن يقدّر علة أخرى ليعطف عليها ، فيكون اختصاص ذكرها لكونها أهمّ ، وإما أن يكون على تقدير معلل ؛ فيجب أن يكون مؤخرا ليشعر تقديمه بالاهتمام.

الثالث : الإتيان بكي ؛ كقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) (الحشر : ٧) ، فعلّل سبحانه قسمة الفيء بين هذه الأصناف كيلا يتداوله الأغنياء دون الفقراء.

وقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (الحديد : ٢٢ ـ ٢٣) ، وأخبر سبحانه أنه قدّر ما يصيبهم من البلاء في أنفسهم قبل أن تبرأ الأنفس أو المصيبة أو الأرض أو المجموع ، ثم أخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه وأنّه هين عليه ، وحكمته البالغة التي منها ألاّ يحزن عباده على ما فاتهم ، ولا يفرحوا بما آتاهم ، فإنهم إذا علموا أنّ المصيبة فيه مقدّرة كائنة ، ولا بدّ قد كتبت قبل خلقهم هان عليهم الفائت ، [١٧٨ / أ] فلم يأسوا عليه ولم يفرحوا.

الرابع : ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلّل به ، كقوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً) (النحل : ٨٩).

ونصب ذلك على المفعول له أحسن من غيره ، كما صرح به في قوله : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل : ٤٤).

وقوله : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (البقرة : ١٥٠).

وقوله : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) (القمر : ١٧) ، أي لأجل الذكر ؛ كما قال تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (الدخان : ٥٨).

وقوله : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً* عُذْراً أَوْ نُذْراً) (المرسلات : ٥ ـ ٦) ، أي للإعذار والإنذار.

وقد يكون معلولا بعلّة أخرى ، كقوله تعالى (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ

١٦٨

الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) (البقرة : ١٩) ، ف «من الصواعق» يحتمل أن تكون فيه «من» لابتداء الغاية فتتعلّق بمحذوف ، أي خوفا من الصواعق ، ويجوز أن تكون معلّلة بمعنى اللام كما في قوله تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍ) (الحج : ٢٢) ، أي لغمّ.

وعلى كلا التقديرين ف «من الصواعق» في محل نصب على أنه مفعول له ، والعامل فيه (يَجْعَلُونَ). و (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول له أيضا فالعامل فيه (مِنَ الصَّواعِقِ) ، ف «من الصواعق» علة ل «يجعلون». معلول لحذر الموت ، لأن المفعول الأول الذي هو «من الصواعق» يصلح جوابا لقولنا : (١) [لم يجعلون أصابعهم في آذانهم؟ والمفعول الثاني الذي هو «حذر الموت» يصلح جوابا لقولنا] (١) : لم يخافون من الصواعق؟ فقد ظهر ذلك.

الخامس : اللام في المفعول له ، وتقوم مقامه الباء ، نحو : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) (النساء : ١٦٠).

[ومن] (٢) ، نحو : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا) (المائدة : ٣٢). ٣ / ٩٦

والكاف ، نحو : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) (البقرة : ١٥١) ، وقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (البقرة : ١٥٢) ، وقال : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ) (البقرة : ٢٣٩) ، أي لإرسالنا وتعليمنا.

السادس : الإتيان بإنّ ، كقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المزمل :٢٠).

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (التوبة : ١٠٣).

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (يوسف : ٥٣).

(فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) (طه : ١٠).

وكقوله : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (يس : ٧٦) ، وليس هذا من قولهم ، لأنه لو كان قولهم لما حزن الرسول ، وإنما جيء بالجملة لبيان العلة والسبب [١٧٨ / ب] في أنه لا يحزنه قولهم.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) ساقطة من المخطوطة.

١٦٩

وكذلك قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (يونس : ٦٥) والوقف على القول في هاتين الآيتين والابتداء بإنّ لازم.

وقد يكون علة [لعلّة] (١) كقوله : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً* إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (الفرقان : ٦٥ ـ ٦٦).

وفيها وجهان لأهل المعاني.

٣ / ٩٧ أحدهما : أن سؤالهم لصرف العذاب معلّل بأنه غرام ، أي ملازم الغريم ، وبأنها ساءت مستقرا ومقاما.

الثاني : أنّ «ساءت». تعليل لكونه غراما.

السابع : أن والفعل المستقبل بعدها ؛ تعليلا لما قبله ، كقوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) (الأنعام : ١٥٦).

وقوله تعالى : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (الزمر : ٥٦).

وقوله : (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) (التوبة : ٩٢) كأنه قيل : لم فاضت أعينهم من الدمع؟ قيل : للحزن ، فقيل : لم حزنوا؟ فقيل : لئلا يجدوا.

وقوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) (البقرة : ٢٨٢).

ونظائره كثيرة. وفي ذلك طريقان :

أحدهما : للكوفيين ، أنّ المعنى لئلاّ يقولوا ، ولئلاّ تقول نفس.

الثاني : للبصريين ، أنّ المفعول له محذوف ؛ أي كراهة (٢) أن يقولوا ، أو حذار أن يقولوا.

فإن قيل : كيف يستقيم الطريقان في قوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى)؟ (البقرة : ٢٨٢) فإنك إذا قدرت : «لئلا تضلّ إحداهما» لم يستقم عطف «فتذكر» عليه ؛ وإن قدّرت «حذار أن تضل إحداهما» لم يستقم العطف أيضا ؛ لأنه لا يصحّ أن تكون الضلالة علّة لشهادتهما.

٣ / ٩٨ قيل : بظهور المعنى يزول الإشكال ، فإن المقصود إذكار إحداهما الأخرى إذا ضلّت

__________________

(١) ساقط من المطبوعة.

(٢) في المخطوطة «كراهية».

١٧٠

ونسيت ؛ فلما كان الضلال سببا للإذكار جعل موضع العلة [كما] (١) ، تقول : «أعددت هذه الخشبة أن تميل الحائط فأدعم بها» ؛ فإنما أعددتها للدّعم لا للميل ؛ و (٢) أعددت هذا الدواء أن أمرض فأداوى به ونحوه ، هذا قول سيبويه والبصريين (٢).

وقال الكوفيون : تقديره في «تذكّر إحداهما الأخرى» إن ضلّت ، فلمّا تقدم الجزاء اتصل بما قبله ، ففتحت أن.

الثامن : «من أجل» في قوله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ) (المائدة : ٣٢) فإنه لتعليل الكتب ، وعلى هذا فيجب الوقف على : (مِنَ النَّادِمِينَ) (المائدة : ٣١). وظن قوم أنه تعليل لقوله : (مِنَ النَّادِمِينَ) ؛ أي من أجل قتله لأخيه ؛ وهو غلط ، لأنه يشوّش صحّة النظم ويخلّ بالفائدة.

فإن قلت : كيف يكون قتل أحد ابني آدم للآخر علة للحكم على أمّة أخرى بذلك الحكم؟

وإذا كان علّة فكيف كان قتل (٣) نفس واحدة بمنزلة قاتل الناس كلّهم؟

قيل : إن الله ـ سبحانه ـ يجعل أقضيته وأقداره عللا لأسبابه الشرعية وأمره ، فجعل حكمه الكوني القدريّ علة لحكمة أمره الديني (٤) ؛ لأن القتل لما كان من أعلى أنواع الظلم والفساد ، فخم أمره ، وعظم شأنه ، وجعل إثمه أعظم من إثم غيره ، ونزّل قاتل النّفس الواحدة منزلة قاتل الأنفس كلّها في أصل العذاب ؛ لا في وصفه. ٣ / ٩٩

التاسع : التعليل بلعلّ ، كقوله تعالى : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة : ٢١) ، قيل : هو تعليل لقوله : (اعْبُدُوا) (البقرة : ٢١) ، وقيل لقوله : (خَلَقَكُمْ).

وقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة : ١٨٣) ؛ حيث لمح فيها معنى الرجاء رجعت (٥) إلى المخاطبين.

__________________

(١) ساقطة من المطبوعة.

(٢) اضطربت عبارة المخطوطة كما يلي : «وإن أعددت من هذا الدواء أن أمرض فيما يداوى ونحوه من هذا القول سيبويه والبصريين».

(٣) في المخطوطة «قاتل».

(٤) عبارة المخطوطة «الديني الأمري».

(٥) في المخطوطة «وحيث».

١٧١

العاشر : ذكر الحكم الكونيّ أو الشرعيّ عقب الوصف المناسب له ، فتارة يذكر بأن ، وتارة بالفاء [١٧٩ / أ] ، وتارة يجرّد.

فالأول : كقوله تعالى : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) (الأنبياء : ٨٩) إلى قوله : (خاشِعِينَ) (الأنبياء : ٩٠). وقوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) (الذاريات : ١٥ ـ ١٦).

والثاني : كقوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (المائدة : ٣٨). (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (النور : ٢).

والثالث : كقوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* ادْخُلُوها بِسَلامٍ) (الحجر : ٤٥ ـ ٣ / ١٠٠ ٤٦). (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة : ٢٧٧).

الحادي عشر : تعليله سبحانه عدم الحكم بوجود المانع منه ؛ كقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ ...) (الزخرف : ٣٣) الآية.

وقوله : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) (الشورى : ٢٧) ، (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) (الإسراء : ٥٩) ، أي آيات الاقتراح ، لا الآيات الدالّة على صدق الرسل التي تأتي منه سبحانه ابتداء.

وقوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) (فصلت : ٤٤).

وقوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) (الأنعام : ٨) ، فأخبر سبحانه عمّا يمنع من إنزال الملك (١) [عيانا بحيث يشاهدونه ، وإنّ عنايته وحكمته بخلقه اقتضت منع ذلك ؛ بأنه لو أنزل عليه الملك] (١) ثم عاينوه ولم يؤمنوا به لعوجلوا بالعقوبة ، وجعل الرسول بشرا ليمكنهم التّلقّي عنه والرجوع إليه ، ولو جعله ملكا ؛ فإمّا أن يدعه على هيئته الملكية ، أو يجعله على هيئة البشر ؛ والأول يمنعهم من التلقّي عنه ، والثاني لا يحصل مقصوده (٢) ؛ إذا كانوا يقولون : هو بشر لا ملك.

***

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة «مقصودهم».

١٧٢

الثاني عشر : إخباره عن الحكم والغايات التي جعلها في خلقه [وأمره] (١) ، كقوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ...) الآية (البقرة : ٢٢). ٣ / ١٠١

وقوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ...) الآيات (النبأ : ٦).

وقوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً ...) الآية (النحل : ٨٠).

وكما يقصدون البسط والاستيفاء يقصدون الإجمال والإيجاز ، كما قيل :

يرمون بالخطب الطّوال وتارة

وحي الملاحظ خيفة الرّقباء (٢)

(٣) [وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً)] (٣) (الروم : ٢١).

الأسلوب الثاني

الحذف

٣ / ١٠٢ وهو لغة الإسقاط ؛ ومنه حذفت الشعر إذا أخذت منه.

واصطلاحا إسقاط جزء الكلام أو كله لدليل. وأما قول النحويين : الحذف لغير (٤) دليل ، ويسمى اقتصارا ؛ فلا تحرير فيه ، لأنه [لا حذف فيه] (٥) بالكلية كما سنبينه فيما (٦) يلتبس به الإضمار والإيجاز.

والفرق بينهما أن شرط الحذف والإيجاز (٧) أن يكون ثمّ مقدّر ؛ نحو : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (يوسف : ٨٢) بخلاف الإيجاز ؛ فإنه عبارة عن اللفظ القليل الجامع للمعاني الجمة بنفسه.

[والفرق] (٨) بينه وبين الإضمار أنّ شرط المضمر بقاء أثر المقدّر [في اللفظ] (٩) ، نحو : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (الإنسان : ٣١) أي ويعذّب

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) البيت لأبي دؤاد بن حريز الدؤلي ، ذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد ٤ / ٥٥.

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (بغير).

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) في المخطوطة (ومما).

(٧) في المخطوطة (والإضمار).

(٨) ساقطة من المخطوطة : والعبارة في المخطوطة (بين الحذف) بدل (بينه).

(٩) ساقطة من المخطوطة :

١٧٣

الظالمين (١). (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) (النساء : ١٧١). [أي ائتوا أمرا خيرا لكم] (٢) ؛ وهذا لا يشترط في الحذف.

ويدلّ على أنه لا بدّ في الإضمار (٣) من ملاحظة المقدّر باب (٤) الاشتقاق ؛ فإنه من أضمرت الشيء ، أخفيته ، قال :

سيبقى (٥) لها في مضمر القلب والحشا (٦)

٣ / ١٠٣ وأما الحذف (٧) ؛ فمن حذفت (٨) الشيء قطعته ؛ وهو يشعر بالطرح ، بخلاف الإضمار ، ولهذا قالوا : «أن» تنصب ظاهرة (٩) ومضمرة.

وردّ ابن ميمون (١٠) قول النحاة : إن (١١) الفاعل يحذف في باب المصدر ، وقال : الصواب أن يقال : يضمر ولا يحذف ؛ لأنه عمدة في الكلام.

وقال ابن جني (١٢) في «خاطرياته» : من اتصال الفاعل بالفعل (١٣) أنّك تضمره في لفظ إذا عرفته نحو [قم] (١٤) ؛ ولا تحذفه كحذف المبتدإ [١٧٩ / ب] ؛ ولهذا لم يجز عندنا ما ذهب إليه الكسائيّ في «ضربني ، وضربت قومك».

__________________

(١) تصحفت في المطبوعة إلى (المنافقين).

(٢) العبارة ساقطة من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (الإفراد).

(٤) العبارة في المخطوطة (في باب الاشتقاق).

(٥) في المخطوطة (سنبقي).

(٦) البيت في لسان العرب ٤ / ٤٩٢ مادة (ضمر) ونسبه إلى الأحوص بن محمد الأنصاري.

(٧) في المخطوطة (الحرف).

(٨) في المخطوطة (حذف).

(٩) في المخطوطة (مظهره).

(١٠) هو محمد بن عبد الله بن ميمون أبو بكر العبدري ، استوطن مراكش وكان عالما بالقراءات ذاكرا للتفسير حافظا للفقه واللغة والأدب شاعرا كاتبا مبرّزا في النحو حسن الخلق متواضعا روى عن أبي بكر بن العربي وشروع وأبي الوليد بن رشد ولازمه عشر سنين من مصنفاته «شرح أبيات الإيضاح» و «شرح المقامات» وله شرحين على «الجمل» وغيرها ت ٥٦٧ ه‍ بمراكش (السيوطي ، بغية الوعاة ١ / ١٤٧).

(١١) في المخطوطة (بأن).

(١٢) تقدم التعريف به في ١ / ٣٦١ ، وبكتابه ٢ / ٤٣٦.

(١٣) تقديم وتأخير في المخطوطة (الفعل بالفاعل).

(١٤) ساقطة من المخطوطة.

١٧٤

فصل (١)

المشهور أن الحذف مجاز ؛ وحكى إمام الحرمين (٢) في «التلخيص» عن بعضهم : أن الحذف ليس بمجاز ، إذ هو استعمال اللفظ في غير موضعه (٣) ، والحذف ليس كذلك.

وقال ابن عطية (٤) في تفسير سورة يوسف : وحذف المضاف هو عين المجاز أو معظمه (٥) ؛ وهذا (٦) مذهب سيبويه وغيره من أهل النظر ، وليس كلّ حذف مجازا. انتهى.

وقال الزنجاني (٧) في «المعيار» : إنما يكون مجازا إذا تغيّر [بسببه] (٨) حكم ؛ فأما إذا ٣ / ١٠٤ لم يتغير به حكم ، كقولك : زيد منطلق وعمرو (٩) ، بحذف الخبر ؛ فلا يكون مجازا إذا لم يتغير حكم ما بقي من الكلام.

والتحقيق أنه إن أريد بالمجاز استعمال اللفظ في غير موضعه فالمحذوف ليس كذلك ، لعدم استعماله ، وإن أريد بالمجاز [استعمال] (١٠) إسناد الفعل إلى غيره ـ وهو المجاز العقلي ـ فالحذف كذلك.

__________________

(١) في المخطوطة (مسألة).

(٢) تقدم التعريف به في ١ / ١١٨. وكتابه قال عنه حاجي خليفة في كشف الظنون ١ / ٤٦٦ ، كتاب التقريب في الفروع لقاسم بن محمد ، ابن القفال الشاشي ، لخصه إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني ا. ه بتصرف. والكتاب قام بتحقيق الجزء الأول منه عبد الله جولم بالمدينة المنورة الجامعة الإسلامية كرسالة دكتوراه ، وقام بتحقيق الجزء الثاني شبير أحمد العمري بالمدينة المنورة الجامعة الإسلامية كرسالة ماجستير (أخبار التراث العربي ٢٥ / ٢٠).

(٣) في المخطوطة (موضوعه).

(٤) هو عبد الحق بن غالب الغرناطي تقدم التعريف به في ١ / ١٠١.

(٥) في المخطوطة (ومعظمه).

(٦) في المخطوطة (هذا).

(٧) هو عبد الوهاب بن إبراهيم بن عبد الوهاب بن أبي المعالي الزنجاني صاحب «شرح الهادي» المشهور أكثر الجاربردي من النقل عنه في «شرح الشافية» ومن مصنفاته أيضا «متن الهادي» و «التصريف» المشهور بتصريف العزّي وله مؤلفات في العروض والقوافي ت ٦٦٠ ه‍ (السيوطي ، بغية الوعاة ١ / ١٢٢).

(٨) ساقطة من المخطوطة.

(٩) في المخطوطة (وعمرو منطلق).

(١٠) ساقطة من المخطوطة.

١٧٥

فصل (١)

والحذف خلاف الأصل ؛ وعليه ينبني فرعان :

أحدهما : إذا دار (٢) الأمر بين الحذف وعدمه كان الحمل على عدمه ، أولى ، لأن الأصل عدم التغيير.

والثاني : إذا دار الأمر بين قلة المحذوف وكثرته ؛ كان الحمل على قلّته أولى.

ويقع الكلام [في الحذف من] (٣) [على] (٤) خمسة أوجه : في فائدته ، وفي أسبابه ، ثم في أدلته ، ثم في شروطه ، ثم في أقسامه.

الوجه الأول في فوائده :

فمنها التفخيم والإعظام ؛ لما فيه من الإبهام ، لذهاب الذهن في كلّ مذهب ، وتشوّقه (٣) إلى ما هو المراد ، فيرجع قاصرا عن إدراكه ، فعند ذلك يعظم شأنه ، ويعلو في النفس مكانه. ألا ترى أن المحذوف إذا ظهر في اللفظ زال ما كان يختلج في الوهم من المراد ، وخلص للمذكور (٥)! ٣ / ١٠٥ ومنها : زيادة لذة بسبب استنباط الذهن للمحذوف (٦) ، وكلّما (٧) كان الشعور بالمحذوف أعسر (٨) ، كان الالتذاذ (٩) به أشدّ وأحسن.

ومنها : زيادة الأجر بسبب الاجتهاد في ذلك ؛ بخلاف غير المحذوف ، كما تقول في العلّة المستنبطة والمنصوصة.

ومنها : طلب الإيجاز والاختصار ، وتحصيل المعنى الكثير في اللفظ القليل.

ومنها : التشجيع على الكلام ؛ ومن ثم سماه ابن جني (١٠) : «شجاعة العربية».

ومنها : موقعه في النفس في موقعه (١١) على الذكر ؛ ولهذا قال شيخ الصناعتين عبد القاهر

__________________

(١) في المخطوطة (مسألة).

(٢) في المخطوطة (أراد).

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) ساقطة من المطبوعة.

(٥) في المخطوطة (المذكور).

(٦) في المخطوطة (بالمحذوف).

(٧) في المخطوطة (كلما).

(٨) في المخطوطة (أحسن).

(٩) في المخطوطة (كالالتذاذ).

(١٠) انظر الخصائص ٢ / ٣٦٠.

(١١) في المخطوطة (موضعه).

١٧٦

الجرجاني (١) : ما من اسم حذف في الحالة التي (٢) ينبغي أن يحذف فيها إلاّ وحذفه أحسن من ذكره. ولله در القائل :

إذا نطقت جاءت بكلّ مليحة

وإن سكتت جاءت بكل مليح

الثاني في أسبابه :

فمنها : مجرد الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر ، نحو : الهلال والله ، أي هذا ، فحذف المبتدأ استغناء (٣) عنه بقرينة شهادة الحال ، إذ لو ذكره مع ذلك لكان عبثا من القول.

ومنها : التنبيه على أن الزمان يتقاصر عن الإتيان بالمحذوف ، وأن الاشتغال بذكره يفضي إلى تفويت المهمّ ، وهذه هي فائدة باب التحذير ؛ نحو : إياك (٤) والشرّ ، والطريق الطريق والله (٥) الله. وباب الإغراء هو لزوم (٦) أمر يحمد به ، وقد اجتمعا في قوله تعالى :

(ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) [الشمس : ١٣) (٧) [على التحذير ؛ أي احذروا ناقة الله فلا تقربوها ، و «سقياها»] (٧) إغراء بتقدير الزموا [ناقة الله] (٨).

٣ / ١٠٦ ومنها التفخيم والإعظام ؛ قال حازم (٩) في «منهاج البلغاء» : إنما يحسن الحذف (١٠) ما لم يشكل (١١) به المعنى ، لقوة الدلالة عليه ، أو يقصد به تعديد أشياء ، فيكون في تعدادها طول وسآمة ، فيحذف (١٢) ويكتفي بدلالة الحال عليه ، وتترك النفس تجول في الأشياء المكتفى بالحال [١٨٠ / أ] عن ذكرها على الحال. قال : وبهذا القصد يؤثّر في المواضع التي يراد بها التعجب والتهويل على النفوس ، ومنه قوله تعالى في وصف أهل الجنة : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) (الزمر : ٧٣) فحذف الجواب ؛ إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى ، فجعل الحذف دليلا على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه ، وتركت النفوس تقدّر ما شأنه ،

__________________

(١) تقدم التعريف به في ٢ / ٤٢٠.

(٢) في المخطوطة (الذي).

(٣) في المخطوطة (للاستغناء).

(٤) في المخطوطة (إياي).

(٥) في المخطوطة (الله الله).

(٦) في المخطوطة (بلزوم) بدل (هو لزوم).

(٧) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٨) ليست في المخطوطة.

(٩) تقدم التعريف به وبكتابه في ١ / ١٥٥.

(١٠) في المخطوطة (الفعل).

(١١) في المخطوطة (يشتمل).

(١٢) في المخطوطة (يحذف).

١٧٧

ولا يبلغ مع ذلك كنه ما هنالك (١) ، لقوله (٢) عليه [الصلاة] (٣) والسلام : «لا عين رأت ؛ ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» (٤).

قلت : ومنه : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (طه : ٧٨) ما لا يعلم كنهه إلا الله ، قال الزمخشري (٥) : وهذا من باب الاختصار ومن جوامع الكلم المتحملة مع قلّتها للمعاني الكثيرة.

ومنها : التخفيف ؛ لكثرة دورانه في كلامهم ، كما [في] (٦) حذف حرف النداء! في نحو :

(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) (يوسف : ٢٩) وغيره. قال سيبويه : العرب تقول لا أدر ؛ فيحذفون الياء ، والوجه «لا أدري» ، لأنه رفع ، وتقول : «لم أبل» ، فيحذفون الألف ، والوجه «لم أبال».

ويقولون : «لم يك» (٧) فيحذفون النون ؛ كلّ ذلك يفعلونه استخفافا لكثرته في كلامهم.

٣ / ١٠٧ ومنها : حذف نون التثنية والجمع وأثرها باق ، نحو «الضاربا زيدا» و «الضاربو زيدا» (٨) وقراءة من قرأ (٩) : (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) (الحج : ٣٥) كأن النون ثابتة ، فعلوا ذلك لاستطالة الموصول في الصلة ، نحو : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (الفجر : ٤) حذفت الياء للتخفيف.

ويحكى عن الأخفش أن المؤرّج السّدوسيّ (١٠) سأله : فقال : لا أجيبك حتى تنام على

__________________

(١) في المخطوطة (هناك).

(٢) في المخطوطة (كقوله).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) قطعة من حديث عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أخرجه البخاري في الصحيح ٦ / ٣١٩ ، كتاب بدء الخلق (٥٩) ، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (٨) ، الحديث (٣٢٤٤). وأخرجه مسلم في الصحيح ٤ / ٢١٧٤ ، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (٥١) ، الحديث ٢ / ٢٨٢٤.

(٥) الكشاف ٢ / ٤٤٢.

(٦) ساقطة من المطبوعة.

(٧) في المخطوطة (أك).

(٨) في المخطوطة (زيد).

(٩) وهي قراءة أبي عمرو ، في رواية والحسن ، وابن أبي إسحاق (البحر المحيط ٦ / ٣٦٩) ، وانظر الكتاب ١ / ١٨١ ـ ٢٠٢.

(١٠) هو مؤرج بن عمرو بن الحارث السدوسي البصري من أعيان أصحاب الخليل ، عالم بالعربية والحديث والأنساب سمع الحديث من شعبة بن الحجاج وأبي عمرو بن العلاء وغيرهما ، وأخذ منه أحمد بن محمد اليزيدي وغيره ، وكان قد رحل مع المأمون إلى خراسان فسكن مدينة مرو من تصانيفه «غريب القرآن» و «الأنواء» و «المعاني» وغيرها (ياقوت ، معجم الأدباء ، ١٩ / ١٩٦).

١٧٨

بأبي ليلة ، ففعل (١) ، فقال له : إن عادة العرب إذا عدلت بالشيء عن معناه نقصت حروفه ، والليل لما كان لا يسري ، وإنما يسرى فيه ، نقص منه حرف ، كما في قوله : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (مريم : ٢٨) ، الأصل «بغيّة» فلما حوّل (٢) ونقل عن فاعل نقص منه حرف. انتهى.

ومنها : رعاية الفاصلة ، نحو : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (الضحى : ٣). (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (الفجر : ٤) ونحوه. وقال (٣) الرّماني (٤) : إنما حذفت الياء في الفواصل لأنها على نية الوقف ، وهي في ذلك كالقوافي التي لا يوقف عليها بغير ياء.

ومنها : أن يحذف صيانة له ؛ كقوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) (الشعراء : ٢٣) إلى قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (الشعراء : ٢٨) ؛ حذف المبتدأ في ثلاثة مواضع : قبل (٥) ذكر الرب ، أي هو رب السموات. والله ربكم. والله رب المشرق ؛ لأن موسى عليه‌السلام استعظم حال فرعون وإقدامه على السؤال تهيّبا وتفخيما ، فاقتصر على ما يستدلّ به من أفعاله الخاصة به ، ليعرّفه أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

ومنها : صيانة اللسان عنه ، كقوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) (البقرة : ١٨) ، أي [هم] (٦).

ومنها : كونه لا يصلح إلا له ، كقوله تعالى ؛ ()(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) (المؤمنون : ٣ / ١٠٨ ٩٢). (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (البروج : ١٦).

ومنها ؛ شهرته حتى يكون ذكره وعدمه سواء ، قال الزمخشريّ : وهو نوع من دلالة الحال التي لسانها أنطق من لسان المقال ، كقول رؤبة : خير ، [جواب] (٧) لمن (٨) قال ؛

__________________

(١) في المخطوطة (ففعله).

(٢) في المخطوطة (حوّله).

(٣) في المخطوطة (قال).

(٤) هو أبو الحسن علي بن عيسى الرماني تقدم التعريف به في ١ / ١١١.

(٥) في المخطوطة (قيل).

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) ساقطة من المخطوطة.

(٨) في المطبوعة (من).

١٧٩

كيف أصبحت؟ فحذف الجارّ ، وعليه حمل قراءة حمزة (١) : (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) (النساء : ١) لأن هذا مكان شهر بتكرير الجار ، فقامت الشهرة مقام الذكر.

وكذا (٢) قال الفارسيّ متخلصا من عدم إعادة حرف الجر في المعطوف على الضمير (٣) المجرور : إنه مجرور بالجار المقدّر ، أي و «بالأرحام» وإنما حذفت استغناء به في المضمر المجرور [قبله] (٤).

فإن قلت : هذا المقدّر يحيل المسألة ؛ لأنه يصير من عطف الجار والمجرور [١٨٠ / ب] على مثله! قلت : إعادة الجارّ شرط لصحة العطف ؛ لا أنه مقصود لذاته (٥).

[الوجه] (٦) الثالث في أدلته :

ولما كان الحذف لا يجوز إلا لدليل احتيج إلى ذكر دليله (٧).

[والدليل] (٨) تارة يدلّ على محذوف مطلق ، وتارة على محذوف معيّن.

فمنها : أن يدلّ عليه العقل حيث تستحيل (٩) صحة الكلام عقلا إلا بتقدير محذوف ، كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (يوسف : ٨٢) ؛ فإنه يستحيل (١٠) [عقلا تكلم الأمكنة إلا] (١٠) معجزة.

٣ / ١٠٩ ومنها : أن تدلّ عليه العادة الشرعية ، كقوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) (١١) (النحل : ١١٥) فإن الذات ، لا تتّصف بالحلّ والحرمة شرعا ، إنما هما (١٢) من صفات الأفعال الواقعة على الذوات ، فعلم أن المحذوف التناول ؛ ولكنه لما حذف وأقيمت الميتة مقامه أسند

__________________

(١) انظر إتحاف فضلاء البشر : ١٨٥.

(٢) في المخطوطة (قد).

(٣) في المخطوطة (المضمر).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (بالعطف).

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (الدليل).

(٨) ساقطة من المخطوطة.

(٩) في المخطوطة (يستحيل).

(١٠) العبارة ليست في المخطوطة ، وكتب مكانها (لنبيه).

(١١) الآية في المخطوطة ()(إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) [الأعراف : ٣٣].

(١٢) في المخطوطة (وأنهما) بدل (إنما هما).

١٨٠