البرهان في علوم القرآن - ج ٣

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٣

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٩

غالبا ، فلما كان السفر مظنة إعواز الكاتب والشاهد الموثوق بهما ، أمر على سبيل الإرشاد بحفظ مال المسافرين بأخذ الوثيقة الأخرى ؛ وهي الرهن.

وقوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ) (النساء : ١٠١) ، والقصر جائز مع أمن السفر ، لأن ذلك خرج مخرج الغالب لا الشرط ، وغالب أسفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه لم تخل من خوف العدوّ.

ومنهم من جعل الخوف هنا شرطا إن حمل القصر على ترك الركوع والسجود والنزول عن الدابّة والاستقبال ونحوه ؛ لا في عدد الركعات ، لكن ذلك شدة خوف لا خوف ، وسبب ٣ / ٤٠ النزول لا يساعده.

وكقوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) (النور : ٣٣).

القسم الثامن عشر

القسم

وهو عند النحويين جملة يؤكد بها الخبر ، حتى إنهم جعلوا قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (المنافقون : ١) قسما وإن كان فيه إخبار ، إلا أنه لما جاء توكيدا للخبر سمّي قسما.

[١٦٨ / ب] ولا يكون إلا باسم معظم ، كقوله : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) (الذاريات : ٢٣).

وقوله : (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ) (يونس : ٥٣).

وقوله : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) (التغابن : ٧).

وقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) (مريم : ٦٨).

وقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر : ٩٢).

وقوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) (النساء : ٦٥).

وقوله : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) (المعارج : ٤٠).

فهذه سبعة مواضع أقسم الله فيها بنفسه والباقي كله أقسم بمخلوقاته.

كقوله : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (التين : ١).

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة : ٧٥ ـ ٧٦).

١٢١

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوارِ) (١) الْكُنَّسِ (التكوير : ١٥ ـ ١٦).

وإنما يحسن في مقام الإنكار.

فإن قيل : ما معنى القسم منه سبحانه؟ فإنه إن كان لأجل المؤمن ، فالمؤمن يصدّق مجرّد (٢) الإخبار ؛ وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده.

[فالجواب] (٣) : قال الأستاذ أبو القاسم القشيريّ (٤) : «إنّ الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها ، وذلك أن الحكم يفصل باثنين : إمّا بالشّهادة ، وإمّا بالقسم ، فذكر الله تعالى [في كتابه] (٥) النوعين حتى لا يبقي لهم حجة» (٦) [فقال : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران : ١٨] وقال (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ)] (٦) (يونس : ٥٣).

(٨) [وقوله : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر : ٧٢).

وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ* فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ)] (٧) (الذاريات : ٢٢ ـ ٢٣) صاح وقال : من الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين؟ قالها ثلاثا ، ثم مات.

فإن قيل : كيف أقسم بمخلوقاته وقد ورد النهي علينا ألاّ نقسم بمخلوق؟

قيل : فيه ثلاثة أجوبة :

أحدها : أنّه حذف مضاف ، أي «ورب الفجر» و «رب التين» ، وكذلك الباقي.

والثاني : أن العرب كانت تعظّم هذه الأشياء وتقسم بها ؛ فنزل القرآن على ما يعرفون.

٣ / ٤٢ والثالث : أن الأقسام إنما تجب بأن يقسم الرجل بما يعظّمه ، أو بمن يجلّه ؛ وهو فوقه

__________________

(١) في المطبوعة «الجواري».

(٢) في المخطوطة «بمجرد الإخبار [من غير قسم]» وما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٤) هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك تقدم ذكره في ١ / ٣٦٠.

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٧) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

١٢٢

والله تعالى ليس شيء فوقه ؛ فأقسم تارة بنفسه ، وتارة بمصنوعاته ، لأنها تدلّ على بارئ وصانع ؛ واستحسنه ابن خالويه (١).

وقسمه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (لَعَمْرُكَ) (الحجر : ٧٢) ليعرّف الناس عظمته عند الله ، ومكانته لديه ، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في «كنز اليواقيت» (٢) : «والقسم بالشيء لا يخرج عن وجهين : إما لفضيلة أو لمنفعة ؛ فالفضيلة كقوله تعالى : (وَطُورِ سِينِينَ* وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (التين : ٢ ـ ٣) ، والمنفعة نحو : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ)» (التين : ١).

وأقسم سبحانه بثلاثة أشياء :

أحدها : بذاته ، كقوله تعالى : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (الذاريات : ٢٣) (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر : ٩٢).

والثاني : بفعله ، نحو : (وَالسَّماءِ وَما بَناها* وَالْأَرْضِ وَما طَحاها* وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) (الشمس : ٥ ـ ٦ ـ ٧).

والثالث : مفعوله ، نحو : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (النجم : ١) ، (وَالطُّورِ* وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) (الطور : ١ ـ ٢).

وهو ينقسم باعتبار آخر إلى مظهر ومضمر :

فالمظهر كقوله تعالى : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (الذاريات : ٢٣) ونحوه.

٣ / ٤٣ والمضمر على قسمين : قسم دلّت عليه لام القسم ، كقوله : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (آل عمران : ١٨٦) وقسم دلّ عليه المعنى ، كقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها) (مريم : ٧١) تقديره «والله».

وقد أقسم تعالى بطوائف [من] (٣) الملائكة في أول سورة الصافات ، والمرسلات ، والنازعات.

__________________

(١) هو الحسين بن أحمد بن حمدان بن خالويه تقدم في ٢ / ٣٦٩.

(٢) أبو القاسم القشيري تقدمت ترجمته في ١ / ٣٦٠ وأما كتابه «كنز اليواقيت» فقد ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون» ٢ / ١٥٢٠.

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

١٢٣

فوائد

الأولى : أكثر الأقسام المحذوفة الفعل في القرآن ؛ لا تكون إلا بالواو ، فإذا ذكرت الباء أتي بالفعل ؛ كقوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ [جَهْدَ أَيْمانِهِمْ]) (١) (النحل : ٣٨) و (يَحْلِفُونَ بِاللهِ) (التوبة : ٦٢). ولا تجيء (٢) الباء والفعل محذوفا إلا قليلا ؛ وعليه حمل ٣ / ٤٤ بعضهم قوله : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) (لقمان : ١٣) (٣) [وقال : الباء باء القسم ؛ وليست متعلّقة ب «تشرك» ، وكأنّه يقول : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ) ثم] (٣) ابتدأ فقال : (بِاللهِ) لا تشرك ؛ وحذف «لا تشرك» لدلالة الكلام عليه : وكذلك قوله : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) (الزخرف : ٤٩) ؛ قيل : إن قوله : [١٦٩ / أ] «بِما عَهِدَ» قسم ؛ والأولى أن يقال : إنه سؤال لا قسم.

وقوله : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ) (المائدة : ١١٦) فتقف على (لِي) وتبتدئ (بِحَقٍ) فتجعله قسما.

هذا مع قول النحويين : إن الواو فرع الياء ؛ لكنه قد يكثر الفرع في الاستعمال ويقلّ الأصل.

الثانية : قد علمت أن القسم إنما جيء به لتوكيد المقسم عليه ؛ فتارة يزيدون فيه للمبالغة في التوكيد ، وتارة يحذفون منه للاختصار وللعلم بالمحذوف.

فما زادوه لفظ «إي» بمعنى «نعم» كقوله تعالى : (قُلْ إِي وَرَبِّي) (يونس : ٥٣).

ومما يحذفونه فعل القسم وحرف الجر ، ويكون الجواب مذكورا ، كقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ) (الأحزاب : ٢١) أي «والله».

وقوله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ) (الشعراء : ٤٩) ، (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) (العلق : ١٥) ، (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) (يوسف : ٣٢).

٣ / ٤٥ وقد يحذفون الجواب ويبقون القسم للعلم به ، كقوله تعالى : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة «تجد».

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

١٢٤

الذِّكْرِ) (ص : ١) على أحد الأقوال ؛ أن الجواب حذف لطول الكلام ؛ وتقديره «لأعذّبنهم على كفرهم».

وقيل : الجواب : إن ذلك لحق.

ومما حذف فيه المقسم به قوله تعالى : (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) (المنافقون : ١) ، أي نحلف إنك لرسول الله ؛ لأن الشهادة بمعنى اليمين ، بدليل قوله : (أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) (المنافقون : ٢).

وأما قوله تعالى : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) (ص : ٨٤) (١) [فالأول قسم بمنزلة ، «والحقّ» وجوابه «لأملأنّ» ، وقوله : (وَالْحَقَّ أَقُولُ)] (١) (ص : ٨٤) توكيد للقسم.

وأما قوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) (البروج : ١) ، ثم قال : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) (البروج : ٤) قالوا : وهو جواب القسم ، وأصله «لقد قتل» ثم حذف اللام وقد.

الثالثة : قال الفارسي (٢) في «الحجّة» : «الألفاظ الجارية مجرى القسم ضربان :

أحدهما : ما تكون جارية كغيرها من الأخبار التي ليست بقسم ، فلا تجاب بجوابه ، كقوله تعالى : (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الحديد : ٨) ، (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) (البقرة : ٦٣) ، (فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) (المجادلة : ١٨) ؛ فهذا ونحوه يجوز أن يكون قسما وأن يكون حالا لخلوّه من الجواب.

والثاني : ما يتعلق بجواب القسم ، كقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ) (آل عمران : ١٨٧) ، (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) (النحل : ٣٨). ٣ / ٤٦

الرابعة : القسم والشرط ، يدخل كلّ منهما على الآخر ؛ فإن تقدم القسم ودخل الشرط بينه وبين الجواب كان الجواب للقسم ؛ وأغنى عن جواب الشرط ؛ وإن عكس فبالعكس ؛ وأيهما تصدّر كان الاعتماد عليه والجواب له.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار تقدمت ترجمته في ١ / ٣٧٥.

١٢٥

ومن تقدّم القسم قوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) (مريم : ٤٦) ، تقديره «والله لئن لم تنته» ، فاللام الداخلة على الشرط ليست بلام القسم ، ولكنها زائدة ، وتسمى الموطّئة للقسم ويعنون بذلك أنها مؤذنة بأن جواب القسم منتظر ؛ أي الشرط لا يصلح أن يكون (١) [جوابا ؛ لأن الجواب لا يكون إلا خبرا] (١).

وليس دخولها على الشرط بواجب ، بدليل حذفها في قوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (المائدة : ٧٣).

والذي يدلّ على الجواب للقسم لا للشرط دخول اللام فيه ؛ وأنه ليس بمجزوم ، بدليل قوله تعالى : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (الإسراء : ٨٨) ولو كان جواب الشرط لكان مجزوما.

وأما قوله تعالى : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (آل عمران : ١٥٨) ؛ فاللام في «ولئن» هي الموطّئة للقسم ، واللام في (لَإِلَى اللهِ) هي لام القسم ؛ ولم تدخل نون التوكيد على الفعل للفصل بينه وبين اللام بالجار والمجرور. والأصل «لئن متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله» فلما قدم معمول الفعل عليه حذف منه. ٣ / ٤٧

القسم التاسع عشر

[١٦٩ / ب] إبراز الكلام في صورة المستحيل على طريق المبالغة ليدل على بقية جمله.

كقول العرب : لا أكلمك حتى يبيض القار ، وحتى يشيب الغراب ، وكقوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (الأعراف : ٤٠) ، يعنى والجمل لا يلج في السّم ، فهؤلاء (٢) لا يدخلون ، فهو في المعنى متعلق بالحال ، فالمعنى أنهم لا يدخلون الجنة أصلا ، وليس للغاية هنا مفهوم ، ووجه التأكيد فيه كدعوى الشيء ببينة ، لأنه جعل ولوج الجمل في السّم غاية لنفي دخولهم الجنة ، وتلك غاية لا توجد ، فلا يزال دخولهم الجنة منتفيا.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة «فهم».

١٢٦

وغالى بعض الشعراء في وصف جسمه بالنحول ، فجاء بما يزيد على الآية ، فقال :

ولو أنّ ما بي من جوى وصبابة

على جمل لم يبق في النّار خالد

وهذا على طريقة الشعراء في اعتبار المبالغة ، وإلا فمعارضات القرآن لا تجوز ، كما سبق التنبيه عليه.

ومنه قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ) (النساء :

٢٢). فإن المعنى : إن كان ما سلف في الزمن السالف يمكن رجوعه فحلّه ثابت ، لكن لا يمكن رجوعه أبدا ، ولا يثبت حلّه أبدا ، وهو أبلغ في (١) النهي المجرد.

ومنه قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (الزخرف : ٨١) ، أي ولكن ليس له ولد ، فلا أعبد سواه.

وقوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً) (مريم : ٦٢) ، أي إن كان تسليم ٣ / ٤٨ بعضهم على بعض ، أو تسليم الملائكة عليهم لغوا ، فلا يسمعون لغوا إلا ذلك ؛ فهو من باب قوله :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب (٢).

ومنه قوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى) (الدخان : ٥٦) ، فإن الناس استشكلوا وجه الاستثناء ، مع أنهم لا يذوقون فيها الموت مطلقا. ومقتضى استثنائها من النفي أنهم يذوقونها في الجنة وليس كذلك.

ووجهه الزمخشري «بأنه من التوكيد في الدلالة ، والموتة الأولى لا يذوقونها أصلا ؛ إذ يستحيل عود ما وقع ؛ فلا يذوقون فيها الموت أصلا ، أي إن كانوا يذوقون فلا يكون ذلك إلا الموتة الأولى ، وإن [كان] (٣) إيقاع الموتة الأولى في الجنة مستحيلا ، فعرّض بالاستثناء إلى استحالة الموت فيها» (٤).

__________________

(١) في المخطوطة «من».

(٢) البيت للنابغة الذبياني من قصيدة مطلعها «كليني لهم». (ديوان النابغة الذبياني ص : ١١) طبعة دار صادر ، بيروت.

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٤) الكشاف ٣ / ٤٣٥ بتصرف.

١٢٧

هذا إن جعلنا الاستثناء متصلا ، فإن كان منقطعا ، فالمعنى : «لكن الموتة الأولى قد ذاقوها».

ويحتمل على الاتصال أن يكون المعنى فيها ، أي في مقدّماتها ، لأن الذي يرى مقامه في الجنة عند الجنة عند موته ينزّل منزلة من هو فيها ، بتأويل الذوق على معنى المستحيل.

فهذه ثلاثة أوجه.

القسم الموفي العشرين

الاستثناء والاستدراك

٣ / ٤٩ ووجه التأكيد فيه أنه ثنّى ذكره مرتين ، مرة في الجملة ومرة في التفصيل. فإذا قلت : قام القوم إلا زيدا ، فكأنه كان في جملتهم ، ثم خرج منهم ؛ كقوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلاَّ إِبْلِيسَ) (الحجر : ٣٠ ـ ٣١) ؛ فإنّ فيه معنى زائدا على الاستثناء ، هو تعظيم أمر الكبيرة التي أتى بها إبليس ، من كونه خرق إجماع الملائكة ، وفارق جميع الملأ الأعلى بخروجه مما دخلوا فيه من السجود لآدم ؛ وهو بمثابة قولك : أمر الملك بكذا فأطاع أمره جميع الناس ، من أمير ووزير إلا فلانا ، فإن الإخبار عن معصية الملك بهذه الصيغة ، أبلغ من قولك : [أمر الملك] (١) فعصاه فلان.

وفي ضمن ذلك [١٧٠ / أ] وصف الله سبحانه بالعدل فيما ضربه على إبليس من خزي الدنيا ، وختم عليه من عذاب الآخرة.

ومنه قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً) (العنكبوت : ١٤) فإنّ في الإخبار عن المدة بهذه الصيغة (٢) [تهويلا على السامع ؛ ليشهد عذر نوح عليه‌السلام في الدعاء على قومه. وحكمة الإخبار عن المدة بهذه الصيغة] (٢) تعظيم للمدّة ؛ ليكون أوّل ما يباشر السمع ذكر «الألف» واختصار اللفظ ؛ فإنّ لفظ القرآن أخصر من «تسعمائة وخمسين عاما» ؛ ولأن لفظ القرآن يفيد حصر العدد المذكور ولا يحتمل الزيادة عليه ولا النقص.

ومنه قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ) (هود : ١٠٦ ـ ١٠٧) فإنه سبحانه لما علم أن

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

١٢٨

وصف الشقاء يعمّ المؤمن العاصي والكافر ، استثنى من حكم بخلوده في النار بلفظ مطمع ، حيث أثبت الاستثناء المطلق ، وأكده بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (هود : ١٠٧) ؛ أي أنه لا اعتراض عليه في إخراج أهل الشقاء من النار. ولما علم أنّ أهل السعادة لا خروج لهم من الجنة أكّد خلودهم بعد الاستثناء بما يرفع أصل الاستثناء ، حيث قال : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود : ١٠٨) أي غير منقطع ؛ ليعلم أن عطاءه لهم الجنة غير منقطع. وهذه ٣ / ٥٠ المعاني زائدة على الاستثناء اللغويّ.

وقيل : وجه الاستثناء فيه الخروج من الجنة إلى منزلة أعلى كالرضوان والرؤية ويؤيّده قول بعض الصحابة (١) :

وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

وصوبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وجعل الزمخشري الاستثناء الأول لخروج أهل النار إلى الزمهرير ، أو إلى نوع آخر من العذاب (٢) [بناء على مذهبه من تخليد أهل الكبائر في النار ، وجعل الاستثناء الثاني دالاّ على نجاة أهل الكبائر من العذاب] (٢) ، فكأنه تصوّر أن الاستثناء الثاني لمّا لم يحمل على انقطاع النعيم ، لقوله تعالى : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود : ١٠٨) فكذا الاستثناء الأول لا يحمل على انقطاع عذاب الجحيم لتناسب أطراف الكلام. وقال : معنى قوله : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (هود : ١٠٧) عقب الاستثناء الأول في مقابلة قوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود : ١٠٨) عقب الثاني ، أنّ الله تعالى يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب ، كما يعطي لأهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له (٣).

قيل : وما أصدق في سياق الزمخشري في هذا الموضع قول القائل :

حفظت شيئا وغابت عنك أشياء

__________________

(١) هو الصحابي الجليل عبد الله بن قيس ، النابغة الجعديّ ، رضي‌الله‌عنه ، ويكنى أبا ليلى وهو جاهلي جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنشده :

أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى

ويتلو كتابا كالمجرة نيّرا

بلغنا السّماء مجدنا وجدودنا

وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يفضض الله فاك» فبقي عمره لم تنقضّ له سنّ. (ابن قتيبة ، الشّعر والشّعراء أو طبقات الشّعراء ص : ١٧٧).

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٣) الكشاف ٢ / ٢٣٥ ـ ٢٣٦ ، بتصرف.

١٢٩

٣ / ٥١ وذلك لأن ظاهر الاستثناء ؛ هو الإخراج عن حكم ما قبله ، ولا موجب للعدول عن الظاهر في الاستثناء الأول ، فحمل على النجاة. ولما كان إنجاء المستحق العذاب (١) محلّ تعجب وإنكار ، عقّبه بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (هود : ١٠٧) ؛ أي من العذاب والإنجاء منه ، بفضله ، ولا (٢) يتوجّه عليه اعتراض أحد ؛ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

وأما الاستثناء الثاني فلما لم يكن على ظاهره ، كان إخراج أهل الجنة المستحقين (٣) [للثواب وقطع النعيم] (٣) لا يناسب إنجاء أهل النار المستحقين للعذاب ، فلذا (٤) عقّب بقوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود : ١٠٨) بيانا للمقصود.

ورعاية هذا الباب أولى من رعاية الباب الذي توهم (٥) الزمخشري ؛ فإنّ حاصله يرجع إلى أن الاستثناء الثاني لمّا لم يكن على ما هو الظاهر في باب الاستثناء ، ينبغي ألاّ يكون الاستثناء الأول أيضا على ما هو الظاهر. ولا يخفى على المنصف أنّه تعسّف.

وأما قوله تعالى : (لَيْسَ لَهُمْ) [١٧٠ / ب](طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ) (الغاشية : ٦) فالمعنى لا طعام لهم أصلا ؛ لأن الضريع ليس بطعام البهائم فضلا عن الإنس ؛ وذلك كقولك : ليس لفلان ظل إلا الشمس ؛ تريد بذلك نفي الظلّ عنه على التوكيد ، والضريع نبت ذو شوك يسمى الشّبرق في حال خضرته وطراوته ، فإذا يبس سمّي الضريع ، والإبل ترعاه طريّا لا يابسا.

وقريب منه تأكيد المدح بما يشبه الذمّ ، بأن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح ، بتقدير دخولها فيها ، كقوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً* إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (الواقعة : ٢٥ ـ ٢٦) التأكيد فيه من وجهين : على الاتصال في الاستثناء والانقطاع.

__________________

(١) في المخطوطة «للعذاب».

(٢) في المخطوطة «لا».

(٣) في المخطوطة «للتوبة دفع النعيم عنهم».

(٤) في المخطوطة «فلهذا».

(٥) في المخطوطة «توهّمه».

١٣٠

القسم الحادي والعشرون

المبالغة

٣ / ٥٢ وهي أن يكون للشيء صفة ثابتة ؛ فتزيد في التعريف بمقدار شدته أو ضعفه ؛ فيدّعى له من الزيادة في تلك الصفة ما يستبعد عند السماع (١) ؛ أو يحيل عقله ثبوته.

ومن أحسنها قوله تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) (النور : ٤٠) ، وهي ظلمة البحر وظلمة الموج فوقه وظلمة السحاب فوق الموج.

وقوله تعالى : (بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) (الأحزاب : ١٠) ، أي كادت تبلغ ؛ لأن القلب إذا زال عن موضعه مات صاحبه.

وقيل : هو حقيقة ، وإن الخوف والروع يوجب للخائف أن تنفخ رئته ، ولا يبعد أن ينهض بالقلب نحو الحنجرة. ذكره الفراء (٢) وغيره.

أو أنها لما اتصل وجيبها واضطرابها بلغت الحناجر.

وردّ ابن الأنباري (٣) تقدير «كادت» فإنّ «كاد» لا تضمر.

وقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (إبراهيم : ٤٦).

وقوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) (مريم : ٩٠ ـ ٩١).

ومنه المبالغة في الوصف بطريق التشبيه ؛ كقوله تعالى : (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ* كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) (المرسلات : ٣٢ ـ ٣٣).

وقد يخرج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة وهو مجاز ، كقوله تعالى : ٣ / ٥٣ (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (الفجر : ٢٢) ، فجعل مجيء جلائل آياته ، مجيئا له سبحانه ، على المبالغة.

__________________

(١) في المخطوطة «السامع».

(٢) هو يحيى بن زياد بن عبد الله الدّيلمي ، أبو زكريا الفراء تقدمت ترجمته في ١ / ١٥٩.

(٣) هو محمد بن القاسم بن بشار ، أبو بكر ابن الانباري النحوي اللغوي. تقدمت ترجمته في ١ / ٢٩٩.

١٣١

وكقوله سبحانه : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) (النور : ٣٩) ؛ فجعل نقله بالهلكة من دار العمل إلى دار الجزاء وجدانا للمجازي.

ومنه ما جرى مجرى الحقيقة ، كقوله تعالى : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (النور : ٤٣) ، فإن اقتران هذه ب «يكاد صرفها إلى الحقيقة ، فانقلب من الامتناع إلى الإمكان.

وقد تجيء المبالغة مدمجة ، كقوله تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (الرعد : ١٠) ، فإن المبالغة في هذه الآية مدمجة في المقابلة ، وهي بالنسبة إلى المخاطب ، لا إلى المخاطب ؛ معناه أن علم ذلك متعذّر عندكم ؛ وإلا فهو بالنسبة إليه سبحانه ليس بمبالغة.

وأما قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ...) (الكهف : ١٠٩) الآية ، فقيل : سببها أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا له : كيف عنّفنا بهذا القول : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (الإسراء : ٨٥) ، ونحن قد أوتينا التوراة ، وفيها كلام الله وأحكامه ، ونور وهدى! فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التوراة قليل من كثير» (١) ، ونزلت (٢) هذه الآية.

٣ / ٥٤ وقيل : إنما نزلت : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) (لقمان : ٢٧).

قال المفسرون : والغرض من ذلك الإعلام بكثرة كلماته ؛ وهي في نفسها غير

__________________

(١) أخرجه من رواية عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنه : ابن جرير الطبري في تفسيره ٢٢ / ٥١ عند تفسير قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ...) الآية ، وأخرجه بلفظ مقارب من رواية عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنه : أحمد بن حنبل في المسند ١ / ٢٥٥ ، والترمذي في السنن كتاب (٤٨) باب (١٨) «ومن سورة بني إسرائيل» الحديث (٣١٤٠) ، وأخرجه النسائي في السنن الكبرى كتاب التفسير عزاه له المزّي في تحفة الاشراف ٥ / ١٣٣ الحديث (٦٠٨٣) ، وأخرجه ابن حبان ذكره ابن بلبان في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ١ / ١٥٥ الحديث (٩٩) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ٥٣١ كتاب التفسير ، وذكره الواحدي في أسباب النزول بدون إسناد ص : ٢٢٣ و٢٦٠ ، وذكره السيوطي في الدر المنثور ٤ / ١٩٩ عند تفسير قوله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ...) الآية.

(٢) في المخطوطة «فنزلت».

١٣٢

[١٧١ / أ] متناهية وإنما قرّب الأمر على أفهام البشر (١) [بما يتناهى ؛ لأنه غاية ما يعهده البشر] (١) من الكثرة.

وقال بعض المحققين : إن ما تضمنت الآية أن كلمات الله تعالى لم تكن لتنفذ ، ولم تقتض الآية أنها تنفذ بأكثر من هذه الأقلام والبحور ؛ وكما قال الخضر عليه‌السلام : «ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من ماء البحر حين غمس (٢) منقاره فيها (٣).

وعدّ بعضهم من هذا القبيل ما جاء من المبالغة في القرآن من الإغضاء عن العيوب ، والصفح عن الذنوب ، والتغافل عن الزلات ، والستر على أهل المروءات ، كقوله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (الأعراف : ١٩٩).

وقيل في تفسيره : أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك.

وقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) (فصلت : ٣٤) الآية.

تنبيه

٣ / ٥٥ تحصّل مما سبق أن قصد المبالغة يستلزم في الحال الإيجاز ؛ إما بالحذف ، وإما بجعل الشيء نفسي (٤) الشيء ، أو بتكرر لفظ يتم بتكرره التهويل والتعظيم ، ويقوم مقام أوصاف ، كقوله تعالى : (الْحَاقَّةُ* مَا الْحَاقَّةُ) (الحاقة : ١ ـ ٢).

وقد نص سيبويه على هذا كله في مواضع شتى من كتابه لافتراقها في أحكام.

فائدة

اختلف في المبالغة على (٥) أقوال :

أحدها : إنكار أن تكون من محاسن الكلام لاشتمالها على الاستحالة.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة «غمز».

(٣) في المخطوطة «فيه».

(٤) في المخطوطة «نفس».

(٥) في المخطوطة «في».

١٣٣

والثاني : أنها الغاية في الحسن ؛ وأعذب الكلام ما بولغ فيه ؛ وقد قال النابغة :

لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضّحى

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما (١)

والثالث : وهو الأصح ؛ أنها من محاسن الكلام ؛ ولا ينحصر الحسن فيها فإن فضيلة الصدق لا تنكر ولو كانت معيبة لم ترد في كلام الله تعالى ؛ ولها طريقان :

[أحدهما] (٢) : أن يستعمل اللفظ في غير معناه لغة ، كما في الكناية والتشبيه والاستعارة وغيرها ، من أنواع المجاز.

والثاني : أن يشفع ما يفهم المعنى بالمعنى على وجه يقتضي زيادة ؛ فتترادف (٣) ٣ / ٥٦ الصفات بقصد التهويل ، كما في قوله تعالى : (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) (النور : ٤٠).

القسم الثاني والعشرون

الاعتراض

وأسماه [قدامة] (٤) : «التفاتا» ، وهو أن يؤتى [في أثناء] (٥) كلام أو كلامين متصلين معنى ، بشيء يتم الغرض الأصلي بدونه ، ولا يفوت بفواته ، فيكون فاصلا بين الكلام والكلامين ، لنكتة.

وقيل : هو إرادة وصف شيئين : الأول منهما قصدا ، والثاني بطريق الانجرار ؛ وله تعليق بالأول بضرب (٦) من التأكيد.

__________________

(١) عزو هذا البيت للنابغة خطأ لأنه من شعر حسان بن ثابت رضي‌الله‌عنه وقد أورده الزركشي في كتابه ثانية في ٣ / ٤١٧ مع عزوه إلى حسان ولكن عقب عليه باعتراض للنابغة على حسان وهذا هو الصواب وانظر البيت في ديوانه ١ / ٣٥ ، في قصيدة مطلعها :

ألم تسأل الرّبع الجديد التّكلّما ...

(٢) ساقط من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة «فتزداد».

(٤) هو قدامة بن جعفر بن قدامة أبو الفرج الكاتب توفي سنة (٣٣٧) تقدمت ترجمته في ١ / ١٥٦ وما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٦) في المخطوطة «لضرب».

١٣٤

وعند النحاة جملة صغرى تتخلل جملة كبرى على جهة التأكيد.

وقال الشيخ عز الدين في [أماليه] (١) : «الجملة المعترضة تارة تكون مؤكدة ، وتارة تكون مشددة ، لأنها إمّا ألاّ تدلّ على معنى زائد (٢) [على ما دل عليه الكلام بل دلت عليه فقط ، فهي مؤكدة. وإمّا أن تدل عليه وعلى معنى زائد] (٢) ، فهي مشدّدة». انتهى.

٣ / ٥٧ وذكر النحاة مما تتميز به الجملة الاعتراضية عن الحالية كونها طلبيّة ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ) (آل عمران : ١٣٥) ، فإنه معترض بين : (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) (آل عمران : ١٣٥) ، وبين : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) (آل عمران : ١٣٥).

وله أسباب :

منها تقرير الكلام ، كقولك : فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل. ورأى من الرأي كذا وكان صوابا.

ومنه قوله تعالى : (تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) (يوسف : ٧٣) ، (لَقَدْ عَلِمْتُمْ) اعتراض ؛ والمراد تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة.

وقوله : (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) (محمد : ٢). (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل : ٣٤) ، واعترض بقوله : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل : ٣٤) ، بين كلامها.

وقوله : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) (البقرة : ٢٥).

__________________

(١) ساقط من المخطوطة. والشيخ عز الدين هو عبد العزيز بن عبد السلام السلمي تقدمت ترجمته في ١ / ١٣٢ وأما كتابه أمالي عز الدين بن عبد السلام فهو مخطوط يوجد منه خمس نسخ : نسخة في المتحف البريطاني بعنوان (مسائل وأجوبة في علوم متعددة من القرآن والحديث والفقه) رقم ٧٧١٣ / ٥٧٠ ، ونسخة في المتحف البريطاني بدون عنوان ، رقم ـ ٩٦٩١ ـ add ونسخة في دار الكتب المصرية رقم (٧٧ تفسير م) عنوانها (فوائد العز بن عبد السلام ، وتسمى أيضا إعجاز القرآن) ١٦٦ ورقة. ونسخة في الخزانة الآلوسية في مكتبة المتحف العراقي وعنوانها (فوائد في علوم القرآن) رقم ٨٧٥٤ ـ ٢٣٤ صفحة. ونسخة في مكتبة كوبرللي باستنبول رقم ٤٤ ـ ٩٣ صفحة. (العز بن عبد السلام حياته للوهيبي ص : ١١٩).

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوط.

١٣٥

[١٧١ / ب] ومنها قصد التنزيه ، كقوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) (النحل : ٥٧) ، فاعتراض (١) (سُبْحانَهُ) لغرض التنزيه والتعظيم ، وفيه الشناعة على من جعل البنات لله.

ومنها قصد التبرك ، وكقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) (الفتح : ٢٧).

ومنها قصد التأكيد : كقوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة : ٧٥ ـ ٧٦).

وفيها اعتراضان ؛ فإنه اعترض بقوله ؛ (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) (الواقعة : ٧٦) بين القسم وجوابه ، واعترض بقوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ) (الواقعة : ٧٦) بين الصفة والموصوف ؛ والمراد تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع النجوم ، وتأكيد إجلاله في النفوس ، لا سيما بقوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ) (الواقعة : ٧٦).

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً* أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) (الكهف : ٣٠ ـ ٣١) ف «أولئك» الخبر و «إنّا لا نضيع» اعتراض.

ومنها كون الثاني بيانا للأول ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة : ٢٢٢) ، فإنه اعتراض وقع بين قوله : (فَأْتُوهُنَ) (البقرة : ٢٢٢) ، وبين قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) (البقرة : ٢٢٣) ، وهما متصلان معنى ؛ لأنّ الثاني بيان للأول ؛ كأنه قيل : فأتوهنّ من حيث يحصل منه الحرث. وفيه اعتراض بأكثر من جملة.

ومنها تخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد على أمر علق بهما ، كقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) (لقمان : ١٤) ، فاعترض بقوله : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) (لقمان : ١٤) بين ووصّينا ، وبين الموصّى به ، وفائدة ذلك إذكار الولد بما كابدته أمه من المشقة في حمله وفصاله ، فذكّر الحمل والفصال يفيد زيادة التوصية بالأم ، لتحمّلها من المشاق والمتاعب في حمل الولد ما لا يتكلفه الوالد ، ولهذا جاء في الحديث التوصية بالأم ثلاثا ، وبالأب مرة.

__________________

(١) في المخطوطة «فاعترض».

١٣٦

ومنها زيادة الردّ على الخصم ، كقوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ...) (البقرة : ٧٢) الآية فقوله : (وَاللهُ مُخْرِجٌ) (البقرة : ٧٢) اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه. ٣ / ٥٩

وفائدته أن يقرّر (١) [في أنفس المخاطبين أن تدارؤ بني إسرائيل في قتل تلك] (١) الأنفس (٢) لم يكن نافعا لهم في إخفائه وكتمانه ، لأن الله تعالى مظهر لذلك ومخرجه ، ولو جاء الكلام خاليا من هذا الاعتراض لكان (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) (البقرة : ٧٢) (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) (البقرة : ٧٣).

وقوله : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) (النحل : ١٠١) ، فاعترض بين «إذ» وجوابها بقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) (النحل : ١٠١) ؛ فكأنه أراد أن يجيبهم عن دعواهم فجعل الجواب اعتراضا.

قوله (٣) : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) (الزمر : ٤٥) إلى قوله : (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر : ٤٩).

٣ / ٦٠ وقوله : (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الزمر : ٤٦) إلى قوله : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (الزمر : ٤٨) اعتراض في أثناء الكلام. وهو قوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ) (الزمر : ٤٥) الآية ، وذلك لأن قوله : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) (الزمر : ٤٩) سبب عن قوله : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ) (الزمر : ٤٥) على معنى أنهم يشمئزّون من توحيد الله تعالى ، ويستبشرون بالشرك الذي هو ذكر الآلهة ؛ فإذا مسّ أحدهم ضرّ أو أصابته شدّة تناقض في دعواه ، فدعا من اشمأز من ذكره وانقبض من توحيده ولجأ إليه دون الآلهة ، فهو اعتراض بين السبب والمسبب ، فقيّد القول بما فيه من دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمره بذلك ، وبقوله (أَنْتَ تَحْكُمُ) [١٧٢ / أ](بَيْنَ عِبادِكَ) (الزمر : ٤٦) ثم عقبه من الوعيد العظيم أشدّ التأكيد وأعظمه وأبلغه ؛ ولذلك كان اتصال قوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ) (الزمر : ٨) للسبب الواقع فيها ، وخلوّ الأول ، منه من الأمر اشتراك (٤) جملة مع جملة ، ومناسبة أوجبت العطف بالواو الموضوعة لمطلق الجمع ، كقولهم : قام زيد وعمرو. وتسبيب السبب مع ما في ظاهر الآية من

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة «النفس».

(٣) في المخطوطة «وقوله».

(٤) في المخطوطة «اشتراكه».

١٣٧

اشمئزازهم ليس يقتضي التجاءهم إلى الله تعالى ، وإنما يقتضي إعراضهم عنه من جهة أن سياق الآية يقتضي إثبات التناقض ؛ وذلك أنك تقول : زيد يؤمن بالله تعالى : فإذا مسه الضرّ لجأ إليه (١) [فهذا سبب ظاهر مبنيّ على اطراد الأمر وتقول : زيد كافر بالله ، فإذ مسّه ضر لجأ إليه] (١) ، فتجيء بالفاء هنا كالأول لغرض التزام التناقض ، أو العكس ، حيث أنزل الكافر كفره منزلة الإيمان في فصل سبب الالتجاء ؛ فأنت تلزمه (٢) العكس ؛ بأنك (٣) إنما تقصد بهذا الكلام الإنكار والتعجب من فعله.

وقوله : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الزمر : ٦١) بقوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ* لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الزمر : ٦٢ ـ ٦٣) اعتراض واقع في أثناء كلام متصل ؛ وهو قوله : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الزمر : ٦١) ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (الزمر : ٦٣) ، وهو على مهيع أسلوب القرآن ؛ من ذكر الضدّ عقب الضد [كثير] (٤) كما قيل :

وبضدها تتبين الأشياء

ومنها الإدلاء بالحجة ؛ كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) (النحل : ٤٣ ـ ٤٤) ، فاعترض بقوله : (فَسْئَلُوا) بين قوله (نُوحِي إِلَيْهِمْ) (النحل : ٤٣) وبين قوله : (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) (النحل : ٤٤) إظهارا لقوة الحجة عليهم.

٣ / ٦١ وبهذه الآية ردّ ابن مالك (٥) على أبي علي الفارسيّ (٦) قوله : «إنه لا يعترض بأكثر من جملة واحدة».

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة «فإنه يلزمه».

(٣) في المخطوطة «فإنك».

(٤) ساقط من المطبوعة.

(٥) هو محمد بن عبد الله بن مالك جمال الدين الطائي الشافعي ، تقدمت ترجمته في ١ / ٣٨١.

(٦) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار تقدمت ترجمته في ١ / ٣٧٥. وفي المخطوطة «أبو موسى الفارسي» وهو تصحيف واضح.

١٣٨

وردّ : بأن جملة الأمر دليل [على] (١) للجواب عند الأكثرين ونفسه عند آخرين ، فهو (٢) مع جملة الشرط ، كالجملة الواحدة. نعم جوّزوا في قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) (الرحمن : ٥٤) ، أن يكون حالا من قوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (الرحمن : ٤٦) ، فلزم الاعتراض بسبع جمل مستقلاّت ؛ إن كان : (ذَواتا أَفْنانٍ) (الرحمن : ٤٨) ، خبر مبتدأ محذوف ؛ وإلا فيكون بست جمل.

وقال الزمخشري في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ* أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى ...) (الأعراف : ٩٦ ـ ٩٧) الآية : «إن في هذه الآية الكريمة سبع جمل معترضة : جملة الشرط ، و «اتقوا» و «فتحنا» و «كذّبوا» و «أخذناهم» و «بما كانوا يكسبون». وزعم أن (أَفَأَمِنَ) (الأعراف : ٩٧) معطوف على (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً)» (الأعراف : ٩٥) ، وكذا نقله ابن مالك عن الزمخشري وتبعه أبو حيان (٣) ، ولم يوجد ذلك في كلام الزمخشريّ! قال ابن مالك : «ورد عليه من ظن أن الجملة والكلام مترادفان ، قال : وإنما (٤) اعترض بأربع جمل ؛ وزعم أنّ من عند (وَلَوْ أَنَ) (الأعراف : ٩٦) إلى (وَالْأَرْضِ) (الأعراف : ٩٦) جملة ؛ لأن الفائدة إنما تتم بمجموعه». [انتهى] (٥).

٣ / ٦٢ وفي القولين نظر ؛ أما على قول ابن مالك فينبغي أن يكون بعدها ثمان جمل ؛ أحدها : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (الأعراف : ٩٥) وأربعة في حيّز «لو» وهي (آمَنُوا) و (اتَّقَوْا) و «فتحنا» ، والمركبة مع أنّ وصلتها مع «ثبت» مقدرا على الخلاف في أنها فعلية أو اسمية ، والسادسة (وَلكِنْ كَذَّبُوا) (الأعراف : ٩٦) والسابعة (فَأَخَذْناهُمْ) (الأعراف : ٩٦) والثامنة (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف : ٩٦).

(٦) [وأما قول المعترض فلأنه كان من حقه أن يعدها ثلاث جمل ؛ أحدها : (وَهُمْ لا

__________________

(١) ساقط من المطبوعة ، وفي المخطوطة «على الجواب».

(٢) في المخطوطة «فهي».

(٣) هو محمد بن يوسف بن علي الغرناطي أثير الدين. تقدمت ترجمته في ١ / ١٣٠.

(٤) في المخطوطة «إنّما».

(٥) ساقط من المطبوعة.

(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

١٣٩

يَشْعُرُونَ) (الأعراف : ٩٥) ؛ لأنها حال مرتبطة بعاملها وليست مستقلة برأسها ؛ والثانية «لو» وما في حيّزها ، جملة واحدة فعلية إن قدر : «ولو ثبت أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا» ، أو اسمية وفعلية إن قدر إيمانهم ، واتقوا ثابتان ، والثالثة (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)] (الأعراف : ٩٦) كله جملة.

وينبغي على قواعد البيانيين أن يعدّوا لكل جملة واحدة لارتباط بعضها ببعض ، وعلى رأي النحاة ينبغي أن يكون (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا) (الأعراف : ٩٦) جملة [١٧٢ / ب] واحدة (١) [لأن جملة «واتقوا» معطوفة على خبر «أنّ» و «لفتحنا» جملة ثانية وما بعدها جملة واحدة] (١) لارتباط الشرط بالجزاء لفظا ، (وَلكِنْ كَذَّبُوا) (الأعراف : ٩٦) ثانية أو ثالثة (فَأَخَذْناهُمْ) (الأعراف : ٩٦) ثالثة أو رابعة ، و (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف : ٩٦) متعلق ب «أخذناهم» فلا يعدّ اعتراضا.

وقوله : (وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) (هود : ٤٤) ، فهذه ثلاث جمل معترضة بين (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) (هود : ٤٤) وبين (وَقِيلَ بُعْداً) (هود : ٤٤).

وفيه اعتراض في اعتراض ، فإنّ (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) (هود : ٤٤) معترض بين (وَغِيضَ الْماءُ) (هود : ٤٤) وبين (وَاسْتَوَتْ) (هود : ٤٤).

ولا مانع من وقوع الاعتراض في الاعتراض ، كقوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة : ٧٦).

٣ / ٦٣ ومنه قوله تعالى في سورة العنكبوت ذاكرا عن إبراهيم قوله : (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) (الآية : ١٦) ثم اعترض تسلية لقلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (العنكبوت : ١٨) ، وذكر آيات ، إلى أن قال : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) (العنكبوت : ٢٤) يعني قوم إبراهيم ، فرجع إلى الأول.

وجعل الزمخشريّ (٢) قوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ) (الصافات : ١٤٩) ، وفي آخر الصافات

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٢) ذكر قوله في الكشاف ٣ / ٣١٢ عند تفسير قوله تعالى (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ ...) الآية [١٤٩ : الصافات] ، بتصرف.

١٤٠