البرهان في علوم القرآن - ج ٣

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٣

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٩

ويحتمل أن يكون من باب الاكتفاء ؛ وهذا أسلوب غريب ، وقلّ في القرآن وجوده ، وأكثر ما يكون عند تقدم مقتضيات الألفاظ ، كالمبتدإ ، وحروف الشرطين الواقعين (١) في الماضي والمضارع. ويستغنى عنه عند أمر محذور (٢) التناسي.

وقد يرد منه شيء يكون بناؤه بطريق الإجمال والتفصيل بأن تتقدم (٣) التفاصيل والجزئيات في القرآن ، فإذا خشي عليها التناسي لطول العهد بها بنى على ما سبق بها بالذكر الجمليّ ، كقوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ (٤) [الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً* وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ] (٤)) (النساء : ١٥٥) إلى قوله : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (النساء : ١٦١) فقوله (فَبِظُلْمٍ) بيان لذكر الجمليّ على ما سبق في القول من التفصيل ، وذلك أن الظلم جمليّ على ما سبق من التفاصيل من النقض والكفر وقتل الأنبياء ، (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) (النساء : ١٥٥) والقول على مريم بالبهتان ، ودعوى قتل المسيح عليه‌السلام ، إلى ما تخلل ذلك من أسلوب الاعتراض بها موضعين. وهما قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء : ١٥٥) ، وقوله : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) (النساء : ١٥٧) إلى قوله : (شَهِيداً) (النساء : ١٥٩) و [دون] (٥) أنه لما ذكر بالبناء جمليّ الظلم من قوله (فَبِظُلْمٍ) لأنه يعم على كل ما تقدم وينطوي عليه ذكر حينئذ متعلق الجملي من قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) (النساء : ١٥٥) عقب الباء لأن العامل في الأصل حقه أن يلي معموله ، فقال : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) (النساء : ١٦٠) هو متعلق بقوله : (فَبِظُلْمٍ) (النساء : ١٦٠) ، وقد اشتمل الظلم على كلّ ما تقدم قبله ، كما أنه أيضا اشتمل على كل ما تأخر من المحرّمات الأخر التي عددت بعد ما اشتملت على ذكر الشيء بالعموم والخصوص ؛ فذكرت الجزئيات الأولى بخصوص كلّ واحد ، ثم ذكر العام المنطوي عليها ؛ فهذا تعميم بعد تخصيص. ثم ذكرت جزئيات أخر بخصوصها ، فتركيب الأساليب من وجوه كثيرة في الآية ؛ وهو التعميم بعد التخصيص ، ثم التخصيص بعد التعميم ، ثم البناء بعد الاعتراض. ٣ / ١٦

__________________

(١) في المخطوط «الواقع».

(٢) في المخطوط «محدود».

(٣) في المخطوط «يتقدّم».

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

١٠١

ومنه قوله تعالى : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) (الفتح : ٢٥) إلى قوله : (عَذاباً أَلِيماً) (الفتح : ٢٥) ، فقوله : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) (الفتح : ٢٥) إلى قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الفتح : ٢٥) هو المقتضي الأول المتقدم ، وقوله (لَوْ تَزَيَّلُوا) (الفتح : ٢٥) هو المقتضي الثاني وهو البناء ، لأنه المذكّر بالمقتضي الأول الذي هو «لو لا» خشية تناسيه ، فهو مبني على الأول ، ثم أورد مقتضاها من الجواب بقوله : (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) (الفتح : ٢٥) ورودا واحدا من حيث أخذا معا ، كأنهما مقتضى منفرد ، من حيث هما واحد بالنوع ؛ وهو الشرط الماضي. فقوله : (لَوْ تَزَيَّلُوا) (الفتح : ٢٥) بناء على قوله : (وَلَوْ لا رِجالٌ) (الفتح : ٢٥) نظر في المضارعة. وأما قوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل : ١١٩) فيجوز أن يكون تكريرا ، ويجوز أن يكون الكلام عند قوله : (وَأَصْلَحُوا) ويكون الثاني بيانا لمجمل لا تكريرا.

وقد جعل ابن المنيّر (١) من هذا القسم قوله [١٦٣ / ب] تعالى. (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) (النحل : ١٠٦) ثم قال : (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) (النحل : ١٠٦).

٣ / ١٧ وقوله : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ ...) (الفتح : ٢٥) ثم قال : (لَوْ تَزَيَّلُوا) (الفتح : ٢٥) ونازعه العراقي (٢) لأن المعاد فيهما أخصّ من الأول ؛ وهذا يجيء في كثير مما ذكرنا ، ولا بد أن يكون وراء التكرير شيء أخصّ منه كما بيّنا.

الرابع : في مقام التعظيم والتهويل ؛ كقوله تعالى : (الْحَاقَّةُ* مَا الْحَاقَّةُ) (الحاقة : ١ ـ ٢) (الْقارِعَةُ* مَا الْقارِعَةُ) (القارعة : ١ ـ ٢). (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) (القدر : ١ ـ ٢).

وقوله : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) (الواقعة : ٢٧).

__________________

(١) هو أحمد بن محمد بن منصور الجذامي ، تقدمت ترجمته في ١ / ١٧٦.

(٢) هو عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري ، علم الدين العراقي ، خطيب جامع مصر ، ولد سنة (٦٢٢ ه‍) اعتنى علم الدين بالعلوم الشرعية فمهر في الفقه والأصول والعربية ، ومهر في الكتابة والحساب وله نظم ونثر ، كان حسن الفكاهة متواضعا لا يسأم من المذاكرة ، له من التصانيف «الانتصار للزمخشري من ابن المنير» أخذ عنه أبو حيّان والسبكي وآخرون توفي سنة (٧٠٤ ه‍) (ابن حجر ، الدرر الكامنة ٢ / ٣٩٩).

١٠٢

وقوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) (الواقعة : ٨ ـ ٩).

وقوله : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) (المدثر : ٣١).

الخامس : في مقام الوعيد والتهديد ، كقوله تعالى : (كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (التكاثر : ٤ ـ ٥) وذكر (ثُمَ) في المكرر دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول ، وفيه تنبيه على تكرر ذلك مرة بعد أخرى ، وإن تعاقبت عليه الأزمنة لا يتطرّق إليه تغيير ، بل هو مستمر دائما.

السادس : التعجّب ، كقوله تعالى : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (المدثر : ١٩ ـ ٢٠) ، فأعيد تعجّبا من تقديره وإصابته الغرض ، على حدّ : قاتله الله ما أشجعه!

السابع : لتعدد المتعلق ، كما في قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (الرحمن : ١٣) ، فإنها وإن تعدّدت ؛ فكلّ واحد منها متعلق بما قبله ، وإنّ الله تعالى خاطب بها الثّقلين من الإنس والجن ، وعدّد عليهم نعمه التي خلقها لهم ، فكلّما ذكر فصلا من فصول النّعم طلب إقرارهم واقتضاهم الشكر عليه ، وهي أنواع مختلفة ، وصور شتى. ٣ / ١٨

فإن قيل : فإذا كان المعنىّ في تكريرها عدّ النعم واقتضاء الشكر عليها ، فما معنى قوله : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) (الرحمن : ٣٥)؟ وأيّ نعمة هنا! وإنما هو وعيد.

قيل : إن نعم الله فيما انذر به وحذّر من عقوباته على معاصيه ليحذروها فيرتدعوا عنها ، نظير أنعمه على ما وعده ، وبشر من ثوابه على طاعته ؛ ليرغبوا فيها ، ويحرصوا عليها ؛ وإنما تتحقق معرفة الشيء بأن تعتبره بضدّه ، والوعد والوعيد وإن تقابلا في ذواتهما ، فإنهما متقاربان في موضع النعم بالتوقيت على ملاك الأمر منها ، وعليه قول بعض حكماء الشعراء :

والحادثات وإن أصابك بؤسها

فهو الذي أنباك كيف نعيمها

وإنما ذكرنا هذا ، لتعلم الحكمة في كونها زادت على ثلاثة ، ولو كان عائدا لشيء واحد لما زاد على ثلاثة ؛ لأن التأكيد لا يقع به أكثر من ثلاثة.

فإن قيل : فإذا كان المراد بكلّ ما قبله ، فليس ذلك بإطناب ، بل هي ألفاظ أريد بها غير ما أريد بالآخر.

١٠٣

٣ / ١٩ قلت إن قلنا : العبرة بعموم اللفظ ؛ فكل واحد أريد به غير ما أريد بالآخر.

وقد تكلف لتوجيه العدّة التي جاءت عليها هذه الآية مكررة ، قال الكرمانيّ (١) : جاءت آية واحدة في هذه السورة كرّرت نيّفا وثلاثين مرة ، لأن ست عشرة راجعة إلى الجنان ، لأن لها ثمانية أبواب ، وأربعة عشر منها راجعة إلى النعم والنقم ، فأعظم النقم جهنم ، ولها سبعة أبواب. وجاءت سبعة في مقابلة تلك الأبواب ، وسبعة عقب كل نعمة ذكرها للثّقلين.

وقال غيره : نبّه في سبع منها على ما خلقه الله للعباد من نعم الدنيا المختلفة على عدّة أمهات النعم [١٦٤ / أ] وأفرد سبعا منها للتخويف ، وإنذارا على عدة أبواب المخوف منه ، وفصل بين الأول والسبع الثواني بواحدة سوّى فيها بين الخلق كلهم فيما كتبه عليهم من الفناء ، حيث اتصلت بقوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (الرحمن : ٢٦) ، فكانت خمس عشرة ، أتبعت بثمانية في وصف الجنان وأهلها على عدة أبوابها ، ثم بثمانية أخر في وصف الجنتين اللتين من دون الأوليين لذلك أيضا فاستكملت إحدى وثلاثين.

ومن هذا النوع قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (الآية : ١٥) ، في سورة المرسلات عشر مرات ، لأنه سبحانه ذكر قصصا مختلفة ، وأتبع كلّ قصة بهذا القول ، فصار كأنه قال عقب كل قصة : «ويل للمكذبين بهذه القصة! وكل قصة مخالفة لصاحبتها» ، فأثبت الويل لمن كذّب بها.

ويحتمل أنه لما كان جزاء الحسنة بعشر أمثالها ، وجعل للكفّار في مقابلة كلّ مثل من الثواب ويل.

٣ / ٢٠ ومنها في سورة الشعراء قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الآية : ٨ ـ ٩) في ثمانية مواضع ؛ لأجل الوعظ ، فإنه قد يتأثر بالتكرار من لا يتأثر بالمرة الواحدة.

وأما قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) ، فذلك لظهور آيات الأنبياء عليهم‌السلام ، والعجب من تخلّف من لا يتأملها مع ظهورها.

وأما مناسبة قوله : (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) فإنه تعالى نفى الإيمان عن الأكثر ؛ فدلّ بالمفهوم

__________________

(١) هو محمود بن حمزة بن نصر ، تقدمت ترجمته في ١ / ٢٠٦. وانظر قوله في كتابه البرهان في توجيه متشابه القرآن (بتحقيق : عبد القادر أحمد عطا) ص : ١٧٩ ، بتصرّف.

١٠٤

على إيمان الأقلّ ، فكانت العزة على من لم يؤمن ، والرحمة لمن آمن ، وهما مرتبتان كترتيب الفريقين. ويحتمل أن يكون من هذا النوع قوله تعالى : (كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ...) (التكاثر : ٤ ـ ٥) الآية ، لأنّ علمهم يقع أولا وثانيا على نوعين مختلفين بحسب المقام ؛ وهذا أقرب للحقيقة الوضعية وحال المعبر عنه ؛ فإن المعاملات الإلهيّة للطائع والعاصي متغيّرة الأنواع [الدنيوية] (١) ثم البرزخية ، ثم الحشرية ، كما أن أحوال الاستقرار بعد الجميع في الغاية ؛ بل كل مقام من هذه أنواع مختلفة ، وفي «ثم» دلالة على الترقي ، إن لم يجعل الزمان مرتبا في الإنذار على التكرار ، وفي المنذر به على التنويع.

ومنه تكرار : (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) (القمر : ٣٩) ، قال الزمخشري : كرّر ليجدوا عند سماع كل نبإ منها اتعاظا وتنبيها ، وأن كلا من تلك الأنباء مستحق باعتبار يختص به ، وأن يتنبهوا كيلا يغلبهم السرور والغفلة (٢).

ومنه قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ...) (الكافرون : ١ ـ ٢) إلى آخرها يحكى أن بعض الزنادقة سأل الحسن بن عليّ رضي‌الله‌عنهما عن هذه الآية فقال : «إنّي أجد في القرآن تكرارا وذكر له ذلك ، فأجابه الحسن بما حاصله : إن الكفار قالوا : نعبد إلهك شهرا وتعبد آلهتنا شهرا» ، فجاء النفي متوجها إلى ذلك. والمقصود أن هذه [الآية] (٣) ليست من التكرار في شيء ، بل هي بالحذف والاختصار أليق ؛ وذلك لأن قوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) (الكافرون : ٢) ؛ أي لا أعبد في المستقبل [ما تعبدون في المستقبل] (٤) ، وقوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) (الكافرون : ٤) ، أي ولا أنا عابد في الحال ما عبدتم في المستقبل ، [(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) (الكافرون : ٣) في الحال ما أعبد في المستقبل] (٥). ٣ / ٢١

والحاصل أن القصد نفي عبادته لآلهتهم في الأزمنة الثلاثة : الحال ، والماضي ،

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) الكشاف ٤ / ٤٦ ، بتصرّف.

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

١٠٥

والاستقبال ؛ والمذكور في الآية النفي في الحال والاستقبال ، وحذف الماضي من جهته ومن جهتهم ؛ ولا بد من نفيه ، لكنه حذف لدلالة الأولين عليه.

وفيه تقدير آخر ؛ وهو أن الجملة الأولى فعلية ، والثانية اسمية ، وقولك : [١٦٤ / ب] «لا أفعله ولا أنا فاعله» أحسن من قولك : «لا أفعله ولا أفعله» ؛ فالجملة الفعلية نفي لإمكانه ، والاسمية نفي لاتّصافه ، كما في قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) (الروم : ٥٣) ، (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (فاطر : ٢٢). والمعنى أنه تبرّأ من فعله ومن الاتّصاف به ، وهو أبلغ في النفي ؛ وأما المشركون فلم ينتف عنهم إلا بصيغة واحدة ؛ وهي قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) (الكافرون : ٣) في الموضعين.

٣ / ٢٢ وفرق آخر ، وهو أنه قال في نفيه الجملة الاسمية : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) (الكافرون : ٤) ، وقال في النفي عنهم : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) (الكافرون : ٣) عائد في حقه بين الجملتين ، وقال : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) (الكافرون : ٢) بالمضارع ، وفي الثاني : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) (الكافرون : ٤) بالماضي ، فإن المضارع يدل على الدوام ، بخلاف الماضي ، فأفاد ذلك أنّ ما عبدتموه ولو مرّة ما أنا عابد له البتّة ، ففيه كمال براءته ودوامها ممّا عبدوه ولو مرّة ؛ بخلاف قوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) (الكافرون : ٢) ، فإن النفي من جنس الإثبات ، وكلاهما مضارع يظهران جملة ومنفردا.

ومنه تكرير الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في ثلاث آيات من سورة البقرة ؛ لأن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف من الناس : اليهود ؛ لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم. وأهل النفاق أشدّ إنكارا له ، لأنه كان أول نسخ نزل. وكفار قريش قالوا : ندم محمد على فراق ديننا فيرجع إليه كما رجع إلى قبلتنا ، وكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون : يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملّة إبراهيم وإسماعيل ؛ وقد فارق قبلتهما وآثر عليها قبلة اليهود ؛ وقال الله تعالى حين أمره بالصلاة إلى الكعبة : (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (البقرة : ١٥٠) والاستثناء منقطع ، أي لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون. وقال سبحانه : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (البقرة : ١٤٧) أي الذين أشركوا فلا تمتر في ذلك ، وقال تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة : ١٤٦) ، أي يكتمون ما علموا أن الكعبة هي قبلة الأنبياء.

ومنه قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ* وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (الصافات :

١٠٦

١٧٤ ـ ١٧٥ :) وقال صاحب «الينبوع» (١) : لم يبلغني عن المفسرين فيه شيء.

وقال المفسرون في غريب القرآن : هما في المعنى كالآيتين المتقدمتين ، فكرّر (٢) ٣ / ٢٣ للتأكيد وتشديد الوعيد.

ويحتمل أن يكون «الحين» في الأوليين يوم بدر ، و «الحين» في هاتين يوم فتح مكة.

ومن فوائد قوله تعالى في الأوليين : (وأبصارهم) وفي هاتين : (فأبصر) أن الأولى بنزول العذاب بهم يوم بدر قتلا وأسرا وهزيمة ورعبا ، فما تضمنت التشفّي بهم قيل له : (أبصارهم) ، وأما يوم الفتح فإنه اقترن بالظهور عليهم الإنعام بتأمينهم والهداية إلى إيمانهم فلم يكن وفقا للتشفي بهم ، بل كان في استسلامهم ، وإسلامهم لعينه قرّة ، ولقلبه مسرّة ، فقيل له : (أبصر).

ويحتمل على هذا ـ إن شاء الله ـ أن يكون من فوائد قوله تعالى في هذه : (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي يبصرون منك عليهم بالأمان ، ومننّا عليهم بالإيمان.

ومنه قوله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) (الممتحنة : ١٠).

وللتكرار فائدتان :

إحداهما : أنّ التحريم قد يكون في الطرفين ؛ ولكن يكون المانع من إحداهما ؛ كما لو [١٦٥ / أ] ارتدّت الزوجة قبل الدخول ؛ يحرم النكاح من الطرفين ؛ والمانع من جهتهما (٣) ، فذكر الله سبحانه الثانية ، ليدل على أن التحريم كما هو ثابت في الطرفين كذلك المانع منهما.

والثانية : أنّ الأولى دلّت على ثبوت التحريم في الماضي ؛ ولهذا أتى فيها بالاسم الدّال على الثبوت ؛ والثانية في المستقبل ، ولهذا أتى فيها بالفعل المستقبل.

ومنه تكرار الإضراب.

__________________

(١) هو محمد بن أبي محمد بن محمد بن ظفر ، أبو عبد الله الصقلي ، تقدمت ترجمته والتعريف بكتابه في ٢ / ١٦٧.

(٢) في المخطوطة «فكرّرتا».

(٣) في المخطوطة «جهتها».

١٠٧

واعلم أن «بل» إذا ذكرت بعد كلام موجب فمعناها الإضراب.

وهو إما أن يقع في كلام الخلق ؛ ومعناه إبطال ما سبق على طريق الغلط من المتكلم ؛ أو أنّ الثاني أولى.

وإما أن يقع في كلام الله تعالى ، وهو ضربان :

أحدهما : أن يكون ما فيها من الردّ راجعا إلى العباد ؛ كقوله تعالى : (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) (الأنبياء : ٥).

والثاني : أن يكون إبطالا ؛ ولكنه على أنه قد انقضى وقته ؛ وأن الذي بعده أولى بالذكر ، كقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ]) (١) (النمل : ٦٦) وقوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) (ص : ٨).

وزعم ابن مالك في شرح «الكافية» (٢) أن «بل» حيث وقعت في القرآن فإنها للاستئناف لغرض آخر لا لإبطال الأول ؛ وهو مردود بما سبق ، وبقوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (الأنبياء : ٢٦) ؛ فأضرب بها عن قولهم ، وأبطل كذبهم.

وقوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) (الشعراء : ١٦٦) ، أضرب بها عن حقيقة إتيانهم الذكور وترك الأزواج.

٣ / ٢٥ ومنه قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) (الطلاق : ٢) ، فالأول للمطلّقين والثاني للشهود ؛ نحو : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ ...]) (٣) (البقرة : ٢٣٢) ، [أوّلها للأزواج] (٤) وآخرها للأولياء.

ومنه تكرار الأمثال ، كقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ* وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ* وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) (فاطر : ١٩ ـ ٢٠ ـ ٢١ ـ ٢٢).

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٢) هو محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك ، العلاّمة جمال الدين الطائي الشافعي ، تقدم في ١ / ٣٨١ وانظر التعريف بكتابه في ٣ / ٨٦.

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

١٠٨

وكذلك ضرب مثل المنافقين أول البقرة (١) ثنّاه الله تعالى.

قال الزمخشريّ : «والثاني [أبلغ (٢) من الأول لأنه أدلّ على فرط الحيرة ، وشدّة الأمر وفظاعته» ، قال : «ولذلك أخّر] ، وهم يتدرّجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ».

ومنه تكرار القصص في القرآن ؛ كقصة إبليس في السجود لآدم ، وقصة موسى وغيره من الأنبياء ، قال بعضهم : ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعا من كتابه ، قال ابن العربي (٣) في «القواصم» : ذكر الله قصة نوح في خمسة وعشرين آية ، وقصة موسى في سبعين آية. انتهى.

وإنما كررها لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر وهي أمور :

أحدهما : أنه إذا كرّر القصة زاد فيها شيئا ، ألا ترى أنه ذكر الحية في عصا موسى عليه السّلام ، وذكرها في موضع آخر ثعبانا ، ففائدته أن ليس كل حية ثعبانا ، وهذه عادة البلغاء ، أن يكرر أحدهم في آخر خطبته أو قصيدته كلمة [لصفة] (٤) زائدة. ٣ / ٢٦

الثانية : أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن ثم يعود إلى أهله ، ثم يهاجر بعده آخرون يحكون عنه ما نزل بعد صدور الأولين ؛ وكان أكثر من آمن به مهاجريا ؛ فلولا تكرر القصة لوقعت قصة موسى إلى قوم ، وقصة عيسى إلى آخرين ، وكذلك سائر القصص ، فأراد الله سبحانه وتعالى اشتراك الجميع [١٦٥ / ب] فيها ، فيكون فيه إفادة القوم ، وزيادة تأكيد وتبصرة لآخرين وهم الحاضرون ، وعبّر عن هذا ابن الجوزي (٥) وغيره. [بأن يقال كل من الصادرين عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم] (٦).

__________________

(١) يشير المؤلف إلى قوله تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ...) الآية. (البقرة :١٧ ـ ١٩).

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف ١ / ٤١.

(٣) هو محمد بن عبد الله بن محمد ، الإمام أبو بكر ابن العربي الاندلسي الاشبيلي (ت ٥٤٣ ه‍) تقدمت ترجمته في ١ / ١٠٩. وأما كتابه «القواصم» فقد طبع باسم «العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» طبعة أولى في الجزائر باشراف (عبد الحميد بن باريس) سنة ١٣٤٦ ه‍ / ١٩٢٧ م. وطبع ثانيا بتحقيق (محب الدين الخطيب) ونشرته لجنة الشباب عام ١٣٧١ ه‍ / ١٩٥١ م في (٢٩٥) ص. وطبع بتحقيق (عمار الطالبي) بدار الغرب الإسلامي في بيروت عام ١٤٠٥ ه‍ / ١٩٨٥ م. ولم نجد قوله في الكتاب المطبوع.

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٥) هو عبد الرحمن بن علي بن محمد أبو الفرج بن الجوزي ، تقدمت ترجمته في ١ / ١٨٢.

(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

١٠٩

الثالثة : [تسليته لقلب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم] (١) مما اتفق للأنبياء مثله مع أممهم قال تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) (هود : ١٢٠).

الرابعة : أن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة.

الخامسة : أن الدّواعي لا تتوفر على نقلها [كتوفرها على نقل] (٢) الأحكام ، فلهذا كررت القصص دون الأحكام.

٢ / ٢٧ السادسة : أن الله تعالى أنزل هذا القرآن ، وعجز القوم عن الإتيان بمثل آية ، لصحّة نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم بين وأوضح الأمر في عجزهم ؛ بأن كرر ذكر القصة في مواضع ، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأيّ نظم جاءوا ، بأي عبارة عبّروا ، قال ابن فارس (٣) : وهذا هو الصحيح.

السابعة : أنه لما سخر العرب بالقرآن قال : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (البقرة : ٢٣) ، وقال في موضع [آخر : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ) (هود : ١٣) ، فلو ذكر قصة آدم مثلا في موضع واحد واكتفى بها لقال العربيّ بما قال الله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)] (٤) ، (البقرة : ٢٣) ، «ايتونا أنتم بسورة من مثله» ، فأنزلها سبحانه في تعداد السور ، دفعا لحجّتهم من كل وجه.

الثامنة : أنّ القصة الواحدة من هذه القصص ؛ كقصة موسى مع فرعون وإن ظنّ أنها لا تغاير الأخرى فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان وتقديم وتأخير ، وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ ؛ فإن كلّ واحدة لا بدّ وأن تخالف نظيرتها من نوع معنى زائد فيه ، لا يوقف عليه إلا منها دون غيرها ؛ فكأنّ الله تعالى فرّق ذكر ما دار بينهما وجعله أجزاء ، ثم قسّم تلك الأجزاء على تارات التكرار لتوجد متفرقة فيها ؛ ولو جمعت تلك القصص في موضع واحد لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب المتقدمة ؛ من انفراد كل قصة منها بموضع ؛ كما وقع في القرآن بالنسبة ليوسف عليه‌السلام خاصّة ، فاجتمعت في هذه الخاصية ؛ من نظم القرآن عدة معان عجيبة :

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٣) هو أحمد بن فارس بن زكريا ، أبو الحسين القزويني ، تقدمت ترجمته في ١ / ١٩١.

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

١١٠

منها : أن التكرار فيها مع سائر الألفاظ لم يوقع في اللفظ هجنة ، ولا أحدث مللا ، فباين بذلك كلام المخلوقين.

ومنها : أنه ألبسها زيادة ونقصانا وتقديما وتأخيرا ؛ ليخرج بذلك الكلام أن تكون ألفاظه ٣ / ٢٨ واحدة بأعيانها ، فيكون شيئا معادا ؛ فنزّهه عن ذلك بهذه التغييرات.

ومنها : أن المعاني التي اشتملت عليها القصة الواحدة من هذه القصص صارت متفرقة في تارات التكرير فيجد البليغ لما فيها من التغيير ميلا إلى سماعها ، لما جبلت عليه النفوس من حبّ التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة.

ومنها : ظهور الأمر العجيب في إخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد ؛ وقد كان المشركون في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجبون من اتساع الأمر في تكرير هذه القصص والأنباء مع تغاير أنواع النظم ، وبيان وجوه التأليف ، فعرّفهم الله سبحانه أن الأمر بما يتعجبون منه مردود إلى قدرة من لا يلحقه نهاية ، ولا يقع على كلامه عدد ؛ لقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) [١٦٦ / أ](وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف : ١٠٩) وكقوله : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ ...) (لقمان : ٢٧) الآية.

وقال القفّال في تفسيره (١) : ذكر الله في أقاصيص بني إسرائيل وجوها من المقاصد :

أحدها : الدلالة على صحة نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أخبر عنها من غير تعلّم ؛ وذلك لا يمكن إلا بالوحي.

الثاني : تعديد النعم على بني إسرائيل ، وما منّ الله على أسلافهم من الكرامة والفضل ؛ كالنجاة من آل فرعون ، وفرق البحر لهم ، وما أنزل عليه في التيه من المنّ والسلوى ، وتفجّر الحجر وتظليل الغمام.

الثالث : إخبار الله نبيّه بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاوتهم وتعنتهم على الأنبياء ، فكأنه تعالى ٣ / ٢٩

__________________

(١) هو محمد بن علي بن إسماعيل القفّال ، تقدمت ترجمته في ٢ / ٩٦. وتفسيره ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء ١٦ / ٢٨٥ وقال : «قال أبو الحسن الصّفّار : سمعت أبا سهل الصعلوكي وسئل عن تفسير أبي بكر القفّال ، فقال : قدّسه من وجه ، ودنّسه من وجه ، أي دنّسه من جهة نصره للاعتزال». والتفسير ذكره أيضا البغدادي في هدية العارفين ٢ / ٤٨.

١١١

يقول : إذا كانت هذه معاملتهم مع نبيّهم الذي أعزهم الله به ، وأنقذهم من العذاب بسببه ؛ فغير بدع ما يعامله به أخلافهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الرابع : تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نزول العذاب بهم ؛ كما نزل بأسلافهم.

وهنا سؤالان :

أحدهما : ما الحكمة في عدم تكرر قصة يوسف عليه‌السلام ، وسوقها مساقا واحدا في موضع واحد ، دون غيرها من القصص؟

والجواب من وجوه :

الأول (١) : [ما] (٢) فيها من تشبيب النسوة به ، وتضمن الإخبار عن حال امرأة ونسوة افتتنّ بأبدع الناس جمالا ، وأرفعهم مثالا ، فناسب عدم تكرارها لما فيها من الإغضاء والستر عن ذلك. وقد صحح الحاكم في «مستدركه» (٣) حديثا مرفوعا : النهي عن تعليم النساء سورة يوسف.

الثاني (٤) : أنها اختصت بحصول الفرج بعد الشدة ، بخلاف غيرها من القصص ، فإنّ مآلها إلى الوبال ، كقصة إبليس ، وقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ؛ وغيرهم ، فلما اختصّت هذه القصة في (٥) سائر القصص ، بذلك اتفقت الدّواعي على نقلها لخروجها عن سمت (٦) القصص.

الثالث (٧) : قاله الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني (٨) إنما كرر الله قصص الأنبياء ، وساق

__________________

(١) في المخطوطة «أحدها».

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٣) هو محمد بن عبد الله بن حمدويه بن الحاكم النيسابوري ت (٤٠٥ ه‍). وأما كتابه «المستدرك على الصحيحين» فقد طبع بحيدرآباد عام ١٣٤٣ ه‍ / ١٩٢٤ م في أربع مجلدات كبار.

(٤) في المخطوطة «ثانيها».

(٥) في المخطوطة «من بين».

(٦) في المخطوطة «سمة».

(٧) في المخطوطة «ثالثها».

(٨) هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الأسفراييني تقدم في ٢ / ١٧٩.

١١٢

قصة يوسف مساقا واحدا ، إشارة إلى عجز العرب ، كأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : إن كان من تلقاء نفسي تصديره على الفصاحة ، فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في قصص سائر الأنبياء. ٣ / ٣٠

السؤال الثاني : أنّه سبحانه وتعالى ذكر قصة قوم نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، ولوط ، وموسى ، في سورة الأعراف وهود والشعراء ، ولم يذكر معهم قصة إبراهيم ، وإنّما ذكرها في سورة الأنبياء ، ومريم ، والعنكبوت ، والصافات.

والسرّ في ذلك أن تلك السّور الأول ذكر الله فيها نصر رسله بإهلاك قومهم ، ونجاء الرسل وأتباعهم ، وهذه السور لم يقتصر فيها على ذكر من أهلك من الأمم ؛ بل كان المقصود ذكر الأنبياء وإن لم يذكر قومهم ؛ ولهذا سميت سورة الأنبياء ؛ فذكر فيها إكرامه للأنبياء ؛ وبدأ [فيها] (١) بقصة إبراهيم ، إذ كان المقصود ذكر كرامته الأنبياء قبل محمد ، وإبراهيم أكرمهم على الله ، وهو خير البرية ، وهو أب أكثرهم ، وليس هو أب نوح ولوط ؛ لكن لوط من أتباعه ، وأيوب من ذريته ، بدليل قوله تعالى في سورة الأنعام : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ) (الآية : ٨٤).

وأما سورة العنكبوت ؛ فإنه سبحانه وتعالى ذكر فيها امتحانه للمؤمنين ، ونصره لهم ، وحاجتهم إلى الجهاد ؛ وذكر فيها حسن العاقبة لمن صبر ، وعاقبة من كذب الرسل ؛ فذكر قصة إبراهيم ؛ لأنها من النّمط الأول.

وكذلك في سورة الصافات قال [١٦٦ / ب] فيها : (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ* وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (الآيات : ٧١ ـ ٧٢ ـ ٧٣) ؛ وهذا يقتضي أنها عاقبة رديئة ؛ إما بكونهم غلبوا وذلّوا ؛ وإما بكونهم أهلكوا ، ولهذا ذكر قصة إلياس دون غيرها ولم يذكر إهلاك قومه ، بل قال : (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (الصافات : ١٢٧).

وقد روي أن الله رفع إلياس ؛ وهذا يقتضي عذابهم في الآخرة ؛ فإن إلياس لم يقم بينهم ، وإلياس المعروف بعد موسى من بني إسرائيل ، وبعد موسى لم يهلك المكذبين بعذاب الاستئصال ؛ وبعد نوح لم يهلك جميع النوع ، وقد بعث الله في كلّ أمة نذيرا ، والله سبحانه لم يذكر عن قوم إبراهيم أنهم أهلكوا كما ذكر ذلك عن غيرهم ؛ بل ذكر أنّهم ألقوه في النار فجعلها بردا وسلاما ، وفي هذا ظهور برهانه وآياته ؛ حيث أذلّهم ونصره ؛ (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) (الصافات : ٩٨) وهذا من جنس المجاهد الذي [يعرض عدوّه ، ١٣ / ٣١

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

١١٣

والقصص الأول من جنس المجاهد الذي] (١) قتل عدوه ، وإبراهيم بعد هذا لم يقم بينهم بل هاجر وتركهم ؛ وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين أظهرهم حتى هلكوا ، ولم يوجد في حق إبراهيم سبب الهلاك ؛ وهو إقامته فيهم ، وانتظار العذاب النازل ؛ وهكذا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قومه ، لم يقم فيهم ، بل خرج عنهم حتى أظهره الله عليهم بعد ذلك ؛ ومحمد وإبراهيم أفصل الرسل ؛ فإنهم إذا علموا حصل المقصود ، وقد يتوب منهم من تاب ، كما جرى لقوم يونس ؛ فهذا والله أعلم هو السرّ في أنّه سبحانه لم يذكر قصة إبراهيم مع هؤلاء ؛ لأنها ليست من جنس واقعتهم.

فإن قيل : فما وجه الخصوصية بمحمد وإبراهيم بذلك؟

٣ / ٣٢ فالجواب : أمّا حالة إبراهيم فكانت إلى الرحمة أميل ؛ فلم يسع في هلاك قومه [لا بالدعاء ولا بالمقام ودوام] (٢) إقامة (٣) الحجة عليهم ؛ وقد قال الله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ* وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) (إبراهيم : ١٣ ـ ١٤) ، وكان كلّ قوم يطلبون هلاك نبيّهم فعوقبوا ؛ وقوم إبراهيم وإن أوصلوه إلى العذاب ؛ لكن جعله الله عليه بردا وسلاما ، ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب ؛ إذ الدنيا ليست دار الجزاء العام ؛ وإنما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة ؛ كما في العقوبات الشرعية ، فمن أرادوا عداوة [أحد] (٤) من أتباع الأنبياء ليهلكوه فعصمه الله ، وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه ؛ ولم يهلك أعداءه بل أخزاهم ونصره ؛ فهو أشبه بإبراهيم عليه‌السلام ؛ إذ عصمه الله من كيدهم ، وأظهره حتى صارت الحرب بينهم وبينه سجالا ، ثم كانت له العاقبة فهو أشبه بحال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن محمدا سيد الجميع ، وهو خليل الله ، كما أن إبراهيم عليه‌السلام خليله ، والخليلان هما أفضل الجميع ، وفي طريقهما من الرأفة والرحمة ما ليس في طريق غيرهما ، ولم يذكر الله عن قوم إبراهيم ذنبا غير الشرك ، وكذلك عن قوم نوح ، وأما عاد فذكر عنهم التجبّر ، وعمارة الدنيا ، وقوم صالح ذكر عنهم الاشتغال بالدنيا عن الأنبياء ، وأهل مدين الظلم في الأموال مع الشرك ، وقوم لوط استحلال الفاحشة ، ولم يذكر أنهم أقروا بالتوحيد ، بخلاف سائر الأمم ، وهذا يدل [١٦٧ / أ] على أنهم لم يكونوا مشركين ، وإنما كان دينهم استحلال الفاحشة وتوابع ذلك ، وكانت عقوبتهم أشدّ.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة «لإقامة».

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

١١٤

وهذه الأمور تدل على حكمة الرب وعقوبته لكل قوم بما يناسبهم ؛ ولما لم يكن في قوم نوح خير يرجى غرق الجميع. والله المستعان.

فتأمل هذا الفصل وعظم فوائده وتدبر حكمته ، فإنه سر عظيم من أسرار القرآن العظيم ، كقوله تعالى : (أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) (محمد : ١٥) ، فأعاد ذكر «الأنهار» مع كل صنف ؛ وكان يكفي أن يقال فيها : «أنهار من ماء ، ومن لبن ، ومن خمر ، ومن عسل» ؛ لكن لما ٣ / ٣٣ كانت الأنهار من الماء حقيقة ؛ وفيما عدا الماء مجازا للتشبيه ؛ فلو اقتصر على ذكرها مع الماء وعطف الباقي عليه لجمع بين الحقيقة والمجاز.

فإن قلت : فهلاّ أفرد ذكر الماء وجمع الباقي صيغة واحدة؟ قيل : لو فعل ذلك لجمع بين محامل من المجاز مختلفة في صيغة واحدة ، وهو قريب في المنع من الذي قبله.

فائدة

قد يستثقلون تكرار اللفظ فيعدلون [عنه] (١) لمعناه ؛ كقوله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (الطارق : ١٧) ؛ فإنه لما أعيد اللفظ غيّر «فعّل» إلى «أفعل» فلما ثلّث ترك اللفظ أصلا ، فقال : «رويدا».

وقوله تعالى : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) (الكهف : ٧٤) ، ثم قال : (إِمْراً) (الكهف : ٧١).

قال الكسائي (٢) : معناه شيئا منكرا كثير الدهاء من جهة الإنكار ؛ من قولهم : أمر القوم إذا كثروا.

قال الفارسيّ (٣) : وأنا أستحسن قوله هذا.

وقوله تعالى : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) (الحديد : ١٣) ، قال الفارسي : (وَراءَكُمْ) (الحديد : ١٣) في موضع فعل الأمر أي تأخروا ؛ والمعنى ارجعوا تأخروا ؛ فهو تأكيد وليست ظرفا ؛ لأن الظروف لا يؤكّد بها.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٢) هو عليّ بن حمزة الكسائي انظر ترجمته في ١ / ٤٧٧.

(٣) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار ، الإمام أبو علي الفارسي ، تقدمت ترجمته في ١ / ٣٧٥.

١١٥

٣ / ٣٤ وإذا تكرر اللفظ بمرادفه جازت الإضافة ؛ كقوله تعالى : (عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) (سبأ : ٥) ، والقصد المبالغة ، أي عذاب مضاعف ، وبالعطف كقوله تعالى : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) (يوسف : ٨٦) ، وقوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) (البقرة : ١٠٩).

القسم الخامس عشر

الزيادة في بنية الكلمة

وأعلم أنّ اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أعلى منه ؛ فلا بدّ أن يتضمّن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا ؛ لأن الألفاظ أدلّة على المعاني ؛ فإذا زيدت في الألفاظ وجب زيادة المعاني ضرورة.

ومنه قوله تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) (القمر : ٤٢) ؛ فهو أبلغ من «قادر» لدلالته على أنه قادر متمكّن القدرة ؛ لا يردّ شيء عن اقتضاء قدرته ؛ ويسمى هذا قوة اللفظ لقوة المعنى.

وكقوله تعالى : (وَاصْطَبِرْ) (القمر : ٢٧) فإنّه أبلغ من الأمر بالصبر من «اصبر».

وقوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة : ٢٨٦) لأنه لما كانت السيئة ثقيلة وفيها تكلّف زيد في لفظ فعلها.

وقوله تعالى : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) (فاطر : ٣٧) ؛ فإنّه أبلغ من «يتصارخون».

٣ / ٣٥ وقوله تعالى : (فَكُبْكِبُوا فِيها) (الشعراء : ٩٤) ولم يقل «وكبوا» قال الزمخشري (١) : والكبكبة تكرير الكبّ ، جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى ، كأنه إذا ألقي في جهنم كبه مرة بعد أخرى حتى يستقرّ في قعرها ، اللهم أجرنا منها خير مستجار! وقريب من هذا قول الخليل (٢) في قول العرب : صرّ الجندب ، وصرصر البازي ،

__________________

(١) في الكشاف تفسير آية (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ ...) الآية ٣ / ١١٩. بتصرّف.

(٢) هو العالم الأديب ، الخليل بن أحمد بن عمر ، أبو عبد الرحمن الفراهيدي ، تقدم ذكره في ١ / ٣٠٥ وانظر قوله في : كتابه العين ٧ / ٨١ (بتحقيق د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائي ونشرته دار الهجرة في قم ـ إيران).

١١٦

كأنهم توهموا في صوت [١٦٧ / ب] الجندب استطالة ، فقالوا : صرّ صريرا ، فمدوا وتوهموا في صوت البازي تقطيعا ، فقالوا : «صرصر».

ومنه الزيادة بالتشديد أيضا ؛ فإنّ «ستّارا» و «غفّارا» أبلغ من «ساتر» و «غافر» ؛ ولهذا قال تعالى : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) (نوح : ١٠) ؛ ومن هذا رجّح بعضهم معنى «الرحمن» على معنى «الرحيم» ؛ لما فيه من زيادة البناء ، وهو الألف والنون ، وقد سبق في السادس.

ويقرب منه التضعيف ـ ويقال التكثير ـ وهو أن يؤتى بالصيغة دالة على وقوع الفعل مرة بعد مرة. وشرطه أن يكون في الأفعال المتعدّية قبل التضعيف ؛ وإنما جعله متعديا تضعيفه ؛ ولهذا ردّ على الزمخشري في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) (البقرة : ٢٣) ؛ حيث جعل (نَزَّلْنا) ؛ هنا للتضعيف.

وقد جاء التضعيف دالا على الكثرة في اللازم قليلا ، نحو : موّت المال.

وجاء حيث لا يمكن فيه التكثير ، كقوله تعالى : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) (الرعد : ٧) (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (الإسراء : ٩٥).

فإن قلت : (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) (البقرة : ١٢٦) مشكل على هذه القاعدة ، لأنه إذا كان «فعّل» للتكثير ، فكيف جاء «قليلا» نعتا لمصدر «متّع» وهذا وصف كثير بقليل ، وإنه ممنوع.

قلت : وصف بالقلّة من حيث صيرورته إلى نفاد ونقص وفناء. ٣ / ٣٦

واعلم أن زيادة المعنى في هذا القسم مقيد بنقل صيغة الرباعيّ غير موضوعة لمعنى ؛ فإنه لا يراد به ما أريد من نقل الثلاثي إلى مثل تلك الصيغة ؛ فقوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (النساء : ١٦٤) ؛ لا يدلّ على كثرة صدور الكلام منه ؛ لأنه غير منقول عن ثلاثيّ.

وكذا قوله : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل : ٤) [لا] (١) يدلّ على كثرة القراءة على هيئة التأني والتدبّر.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

١١٧

وكذا قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) (يس : ٦٩) ليس النفي للمبالغة ؛ بل [نفي] (١) أصل الفعل.

القسم السادس عشر

التفسير

وتفعله (٢) العرب في مواضع التعظيم ، كقوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (البقرة : ٢٥٥) ، قال البيهقي (٣) في شرح الأسماء الحسنى : «قرأت في تفسير الجنيدي (٤) أن قوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) (البقرة : ٢٥٥) ، تفسير للقيّوم».

وقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (المعارج : ١٩ ـ ٢٠ ـ ٢١).

وقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (المائدة : ٩) فإن هذا تفسير للوعد.

٣ / ٣٧ وقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) (النور : ٥٥) [فقوله ليستخلفنهم] (٥) تفسير للوعد وتبيين له ، لا مفعول ثان ؛ فلم يتعدّ الفعل منها إلا إلى واحد.

وقوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) (آل عمران : ٥٩). ف «خلقه» تفسير للمثل.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة «وتفضّله».

(٣) هو الإمام أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر البيهقي النيسابوري ، تقدمت ترجمته في ١ / ١٠٠ وأما كتابه «شرح الأسماء الحسنى» ذكره حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون ٢ / ١٠٣٢.

(٤) هو أبو بكر محمد بن عبدوس بن أحمد بن الجنيد المقرئ المفسّر الواعظ الجنيدي ، من أهل نيسابور ، كان إماما فاضلا بالقراءات عالما بمعاني القرآن ، سمع «الحسين بن الفضل» والسريّ بن خزيمة وغيرهما وسمع منه «الحاكم الحافظ» وذكره في التاريخ وقال : «أبو بكر المفسر الواعظ ، كان إمام خراسان بلا مدافعة في القراءات ومعاني القرآن». توفي في شهر ربيع الأول سنة (٣٣٨ ه‍). (السمعاني ، الأنساب ٣ / ٣٢٧).

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

١١٨

وقوله تعالى : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ) (البقرة : ٤٩) ، ف «يذبّحون» وما بعده تفسير للسّوم ، وهو في القرآن كثير.

قال أبو الفتح بن جني (١) : «ومتى كانت الجملة تفسيرا لم يحسن الوقف على ما قبلها دونها لأن تفسير الشيء لاحق به ، ومتمّم له ، وجار مجرى بعض أجزائه ؛ كالصلة من الموصول ، والصفة من الموصوف».

وقد يجيء لبيان العلّة والسبب ، كقوله تعالى : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (يس : ٧٦) ؛ وليس هذا من قولهم ، (٢) [وإلاّ لما حزن الرسول ؛ وإنما يجيء به لبيان السبب في أنه لا يحزنه قولهم.

وكذلك قوله : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ] (٢) إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (يونس : ٦٥).

ولو جاءت الآيتان على حد ما جاء قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [١٦٨ / أ]([وَعَمِلُوا] (٣) الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (المائدة : ٩) ، لكانت «أن» مفتوحة ، لكنها جاءت على حد قوله ...

فائدة

٣ / ٣٨ قيل : الجملة التفسيرية لا موضع لها من الإعراب. وقيل : يكون لها موضع إذا كان للمفسّر موضع ؛ ويقرب منها ذكره تفصيلا ، كما سبق في قوله : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (الأعراف : ١٤٢).

ومثل : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) (البقرة : ١٩٦).

القسم السابع عشر

خروج اللفظ مخرج الغالب

كقوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ) (النساء : ٢٣) ، فإن

__________________

(١) هو أبو الفتح ، عثمان بن جنّي النحوي. تقدمت ترجمته في ١ / ٣٦١.

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

١١٩

الحجر ليس بقيد عند العلماء ؛ لكنّ فائدة التقييد تأكيد الحكم في هذه الصورة مع ثبوته عند عدمها ؛ ولهذا قال بعده : (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) (النساء : ٢٣) ولم يقل : «(فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَ) (النساء : ٢٣) ولم يكنّ في حجوركم» فدلّ على أن الحجر خرج مخرج العادة.

واعترض بأن الحرمة إذا كانت بالمجموع فالحلّ يثبت بانتفاء المجموع ، والمجموع ينتفي بانتفاء جزئه ، كما ينتفي بانتفاء كل فرد من المجموع.

وأجيب بأنه إذا نفي أحد شطري العلّة كان جزء العلة ثابتا ؛ فيعمل عملها.

فإن قيل : لما قال : (مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) (النساء : ٢٣) ، (١) [قال في ٣ / ٣٩ الآية بعدها] (١) : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (النساء : ٢٤) علم من مجموع ذلك أن الربيبة لا تحرم إذا لم يدخل بأمّها ؛ فما فائدة قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) (النساء : ٢٣)؟

قيل : فائدته ألاّ يتوهم أن قيد الدخول خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط ؛ كما في الحجر المفهوم إذا خرج مخرج الغالب ، فلا تقييد فيه عند الجمهور ، خلافا لإمام الحرمين (٢) والشيخ عز الدين بن عبد السلام (٣) والعراقي (٤) ، حيث قالوا : «إنه ينبغي أن يكون حجة بلا خلاف إذا لم تغلب» ؛ لأن الصفة إذا كانت غالبة دلّت العادة عليها ؛ فاستغنى المتكلم بالعادة عن ذكرها ، فلما ذكرها مع استغنائه عنها دلّ ذلك على أنه لم يرد الإخبار بوقوعها للحقيقة ؛ بل ليترتب عليها نفي الحكم من المسكوت (٥) ؛ أما إذا لم تكن غالبة أمكن أن يقال : إنما ذكرها ليعرف السامع أن هذه الصفة تعرض لهذه الحقيقة.

ومنه قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) (الإسراء : ٣١).

وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) (البقرة : ٢٨٣) ، وجوّزوا أنّ الرهن لا يختصّ بالسفر ، لكن ذكر لأن فقد الكاتب يكون [فيه] (٦)

__________________

(١) في المخطوطة «ثم قال في آخر الآية».

(٢) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني ، أبو المعالي تقدمت ترجمته في ١ / ١١٨.

(٣) هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي تقدمت ترجمته في ١ / ١٣٢.

(٤) هو عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري ، علم الدين العراقي ، تقدمت ترجمته في ٣ / ١٠٢.

(٥) في المخطوطة «عن السكوت».

(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

١٢٠