مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-3820-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٦٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

فقوله جلا نعت لموصوف محذوف (أى) أنا ابن (رجل جلا) أى : ظهر وانكشف أمره واتضح بحيث لا يجهل ، أو كشف معالى الأمور وبينها ، فعلى الأول لا يكون متعديا وعلى الثانى لا يكون لازما ، والثنايا جمع ثنية وهى العقبة ، والمراد بكونه طلاع الثنايا ركوبه صعاب الأمور لقوة رجوليته ورفعة همته وشدة شكيمته ، فلا يميل إلى الأمور المنخفضة لأن المعالى لا تكتسب إلا من الصعاب يقال : هذا رجل طلاع الثنايا أى : ركاب صعاب الأمور وقوله : متى أضع العمامة تعرفونى ، يحتمل متى أضع على رأسى عمامة الحرب ـ وهى البيضة أو المغفر ـ تعرفونى وشجاعتى ولا تنكروا تقدمى وغناى عنكم ، ويحتمل متى أضع العمامة عن وجهى الساترة له عرفتمونى ، ولا تجهلوا وجهى لشهرتى وهذا بناء على أن جلا جملة من فعل وفاعل حذف موصوفه بناء على أن حذف الموصوف بالجملة يجوز من غير اشتراك كون الموصوف بعض اسم متقدم مجرور بمن أو بفى ، كقولك : ما منهم تكلم ، أو ما فيهم نجا أى : ما منهم أحد تكلم وما فيهم أحد نجا. كما شرطه بعضهم ، وأما إذا بنينا على اشتراطه فجلا يؤول كما قيل على أنه اسم رجل نقل مع ضميره المستكن وسمى به ، إذ لو نقل بلا ضمير لصرف ، لأن الوزن لا يختص بالفعل ، وفيه على الوجه الأول ـ أيضا ـ ما يدل على أن الموصوف بالجملة لا يشترط كونه مرفوعا كما قيل (أو) جزء جملة (صفة نحو) قوله تعالى : ((وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)) (١) فقوله سفينة موصوف بصفة محذوفة (أى) يأخذ كل سفينة (صحيحة ونحوها) أى : ونحو هذه الصفة ، بمعنى أن المقدر إما صحيحة وإما نحو ذلك مما يؤدى هذا المعنى كصالحة وسالمة ، وغير معيبة وجيدة ونحو ذلك ، وإنما قلنا إن الوصف محذوف (بدليل ما قبله) وهو قوله (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها ؛) لأنه يدل على أن تعييبها مانع من أخذ الملك إياها فيفهم أنه إنما يأخذ السالمة ؛ لأنه لو كان يأخذ كلا من المعيبة والسالمة لم تكن فائدة لعيبها (أو) جزء جملة (شرط) فإن حذف الشرط جائز (كما مر) فى آخر باب الإنشاء فى قوله.

__________________

(١) الكهف : ٧٩.

٦٤١

وهذه الأربعة يجوز تقدير الشرط بعدها فيكون الفعل بعدها مجزوما بذلك الشرط المقدر كقولك فى التمنى منعها : ليت لى مالا أنفقه. أى : إن أرزقه أنفقه ، وفى الاستفهام : أين بيتك أزرك؟ أى : إن تعرفنيه أزرك ، فهذا مما حذف فيه الشرط (أو) جزء جملة (جواب شرط) ثم حذف جواب الشرط (إما) أن يكون (لمجرد الاختصار) فرارا من العبث لظهور المراد وذلك (نحو) قوله تعالى : ((وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ)) (١) مما قد يحصل من عذاب الدنيا كما فعل بغيركم ((وَما خَلْفَكُمْ)) مما يكون وراء موتكم ووراء بعثكم من عذاب الآخرة ((لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) بإنجائكم من العذابين ، فهذا شرط حذف جوابه (أى أعرضوا) وإنما قلنا إن أعرضوا جوابه (بدليل ما بعده) وهو قوله تعالى : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ)(٢) ولا تخفى دلالته على ذلك الجواب.

قيل الفرق بين حذف الجواب هنا حيث جعل من الإيجاز وبين حذفه فى قوله :

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع (٣)

حيث جعل ذكر الجواب فيه من التطويل ، أن الجواب هنالك دل عليه متقدم فأغنى عرفا عن إعادته وهنا دل عليه متأخر فانظره (أو للدلالة) أى حذفه إما لمجرد الاختصار وإما للدلالة (على أنه) أى : جواب الشرط (شيء) عظيم (لا يحيط به الوصف) أى : لا يحصره وصف واصف بحيث يكون فوق كل ما يذكر فيه من الوصف وذلك عند قصد المبالغة لكونه أمرا مرهوبا أو مرغوبا فى مقام الوعيد أو الواعد ، والقرائن تدل على هذا المعنى ويلزم من كونه بهذه الصفة فيما يظهره المتكلم ذهاب نفس السامع إن تصدى لتقديره كل مذهب ، فما من شيء يقدره فيه إلا ويحتمل أن يكون أعظم من ذلك.

__________________

(١) يس : ٤٥.

(٢) يس : ٤٦.

(٣) عجز بيت أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص (١٦٦) ، وهو النابغة بن النعمان وصدره.

فإنك كالليل الذى هو مدركى ..

٦٤٢

وهذان المعنيان أعنى كونه لا يحيط به الوصف وكون نفس السامع تذهب فيه كل مذهب فتتحير مفهومهما مختلف ومصدوقهما متحد قد يقصدهما البليغ معا ، وقد يخطر له أحدهما فقط ولتباينهما مفهوما عطف الثانى أبو فقال (أو لتذهب نفس السامع) فى تقديره (كل مذهب ممكن) فيحصل الغرض من كمال الترغيب أو الترهيب ولا تفاقهما مصدوقا مثل لهما معا بمثال واحد فقال (مثالهما) قوله ((وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)) (١) فهذا شرط حذف جوابه ، إظهارا لكونه لا يحيط به الوصف ، أو لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن ، وتقديره : لرأيت أمرا فظيعا مثلا. وهو يحتمل أن يكون مثالا لهما على البدلية ، أو مثالا لاجتماعهما حيث تقصد إفادتهما معا ، ثم تقدير الجواب بما ذكر فيه شيء وهو أن عظمة الجواب وفظاعته موجودة ولو مع التصريح وقد يجاب بأن الجواب شيء مخصوص حذف لإظهار فظاعته ، وتهويل السامع ، وأما ما ذكر فهو تقدير معنوى ، فإن السيد إذا قال لعبده : والله لئن قمت إليك يا فاجر. وسكت عظم عليه الأمر ، وذهبت نفسه كل مذهب فى التقدير. ومعلوم أن الجواب الذى يقدره السيد عذاب مخصوص ، حذفه لما ذكر ثم ما ذكر المصنف من أن حذف الجواب يكون لأجله لا يختص به بل يحذف لغير ذلك كاختبار تنبه السامع واختبار مقدار تنبهه ونحو ذلك كتخييل العدول إلى أقوى الدليلين ، كما تقدم أول الكتاب بالنسبة إلى أحد الركنين (أو غير ذلك) هو عطف على مضاف أى : المحذوف ، إما أن يكون جزء جملة هو مضاف أو كذا وكذا أو يكون جزء جملة غير ذلك.

وقد تقدم أن المراد بجزء الجملة هنا ما يعم الفضلة وأحد المسندين وغير ما ذكر كالمسند إليه والمسند والمفعول غير المضاف ، كما مر ذلك فى الأبواب السابقة ، وكالمعطوف مع حرف العطف (نحو) قوله تعالى : ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ)) (٢) فهذا الكلام ذكر فيه المعطوف عليه ، وحذف المعطوف (أى ومن أنفق من بعده وقاتل) والمعطوف عليه هو من أنفق من قبل الفتح ، والمعطوف المحذوف

__________________

(١) الأنعام : ٢٧.

(٢) الحديد : ١٠.

٦٤٣

هو من أنفق من بعده ، كما قرر (بدليل ما بعده) أى : ما بعد هذا الكلام وهو قوله تعالى : (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ)(١) فإنه دليل على أن الذى لا يساوى الإنفاق قبل الفتح هو الإنفاق من بعده لبيان أن الإنفاق الأول أعظم (وإما جملة) عطف على قوله : إما جزء جملة أى : المحذوف إما جزء جملة ، وإما جملة تامة.

وأراد بالجملة ما يستقل بالإفادة بحيث لا يكون جزأ من كلام آخر لا ما يتركب من الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر مطلقا ، ولو كان فى تأويل المفرد والدليل على هذه الإرادة كونه عد من أجزاء الجملة الشرط والجزاء ، فإنهما يتركبان من الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر ، ومع ذلك جعلهما جزء جملة فدل ذلك على أن مراده ما يستقل بالإفادة ويحسن السكوت عليه ، ولو عرض له فى الحالة الراهنة ترتيبه بالفاء أو ترتب شيء عليه.

(مسببة) نعت الجملة أى : إذا كان المحذوف جملة فتلك الجملة إما أن يكون مضمونها مسببا (عن) سبب (مذكور) وذلك (نحو) قوله تعالى : ((لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ)) (٢) فإحقاق الحق وإبطال الباطل المذكور سبب حذفت جملة قبله ، مضمونها مسبب عنه (أى فعل ما فعل) من تقوية المؤمنين ونصرتهم ، وتضعيف الكافرين وخذلانهم ، لهذا السبب وهذه الغاية التى هى إحقاق الحق أى : إثبات الحق الذى هو دين الإسلام ، وإبطال الباطل الذى هو دين الكفر.

(أو سبب المذكور) أى : وإما أن يكون مضمون تلك الجملة المحذوفة سبب المذكور فهو عطف على قوله مسببة ، فهو نعت إذ هو فى تأويل مسبب بكسر الباء ، يعنى أن الجملة المحذوفة إما أن تكون مسببة عن مذكور كما تقدم أو تكون مسببة لمذكور (نحو) قوله تعالى : (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ)(٣) (فانفجرت) أى : فضربه بها فانفجرت.

__________________

(١) الحديد : ١٠.

(٢) الأنفال : ٨.

(٣) البقرة : ٦٠.

٦٤٤

فقوله تعالى (فَانْفَجَرَتْ) جملة مذكورة حذفت قبلها جملة مضمونها سبب لمضمون هذه المذكورة وهذا (إن قدر فضربه بها) كما قدرنا فيكون قوله فضربه جملة مضمونها سبب لمضمون فانفجرت ، وهو مذكور وهو جائز فيصح التمثيل (ويجوز أن يقدر) الكلام على وجه آخر فلا يكون مما نحن فيه ، وذلك بأن يجعل فانفجرت جوابا لشرط محذوف فيكون التقدير (فإن ضربت بها فقد انفجرت) وعلى هذا التقدير يكون هذا الكلام مما حذف فيه شرط ، وهو جزء الجملة كما تقدم لا جملة تامة ، ولكن كون الجواب ماضيا ينافى استقبال الشرط الذى هو الأصل فإما أن يؤول على معنى المضارع فى مضمونه بنفسه ، أو يؤول على تقدير الحكم كما قال ابن الحاجب ترتب الجواب على الشرط إما باعتبار معناه ك «إن» قام زيد يقم عمرو وإما باعتبار الحكم ك «إن» تعتد على بإكرامك الآن فقد أكرمتك بالأمس أى : فاحكم الآن بإكرامك أمس أى : فأثبت إكرامى لك معتدا به ، ولهذا قالوا فيما تحقق مضيه كقوله تعالى : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)(١) أنه على تأويل ، فهو يساوى أخا له من قبل أى ، فنحكم بمساواة أخيه فى السرقة الكائنة منه قبل وهذه الفاء أعنى : الفاء فى نحو (فانفجرت) مما يقتضى الترتيب تسمى فصيحة ، لإفصاحها بما يقدر قبلها قيل : يجب إن سميت فصيحة أن تكون عاطفة على محذوف كما فى التأويل الأول ، وقيل : إنما تسمى فصيحة على تقدير الشرط لإفصاحها أى : دلالتها على الشرط ، وقيل : تسمى بذلك على التقديرين أعنى : تقدير الشرط ، وتقدير المعطوف عليه (أو غيرهما) معطوف على قوله مسببة أى : إما أن تكون الجملة المحذوفة مسببة أو سببا ، أو تكون غير المسببة.

والسبب (نحو) قوله تعالى : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ)(٢) فإن هذا الكلام حذفت فيه جملة ليست مسببة ولا سببا والتقدير هم نحن (على ما مر) فى بحث الاستئناف من أنه حذف فيه المبتدأ والخبر على قول من يجعل المخصوص بالمدح خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ خبره محذوف.

__________________

(١) يوسف : ٧٧.

(٢) الذاريات : ٤٨.

٦٤٥

وأما على قول من يجعل المخصوص مبتدأ والجملة قبله خبر فالكلام مما حذف فيه جزء الجملة (وإما أكثر) أى : المحذوف إما جزء الجملة أو الجملة ، وإما أكثر من الجملة الواحدة ومن جزئها ، فهو معطوف على قوله إما جزء الجملة ومعلوم أن كونه أكثر من الجملة يستلزم كونه أكثر من جزئها ، وإنما ذكرناه زيادة للبيان (نحو) أى.

ومثال ما حذف فيه أكثر من جملة واحدة قوله تعالى حكاية عن صاحب السجن لما ذكر الملك رؤياه فتذكر صاحب السجن يوسف وأنه يعبرها ((أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ* يُوسُفُ)) (١) فإن هذا الكلام حذف فيه أكثر من جملة واحدة ، لا يستقيم المعنى إلا به ، ثم أشار إلى تقديره بقوله (أى) فأرسلون (إلى يوسف لأستعبره الرؤيا ففعلوا فأتاه فقال يا يوسف) فقد ظهر أن هنا جملا عديدة بمتعلقاتها ودليل المحذوف ظاهر ؛ لأن نداء يوسف يقتضى أنه وصل إليه وهو متوقف على فعل الإرسال والإتياء إليه ثم النداء محكى بالقول والإرسال معلوم أنه إنما طلب للاستعبار فحذف كل ذلك للاختصار للعلم بالمحذوف ، لئلا يكون ذكره تطويلا لعدم ظهور الفائدة فى ذكره مع العلم به.

وجها الحذف :

ثم أشار إلى أن الحذف إما مع قيام شيء مقام المحذوف وإما بدون ذلك فقال : (والحذف) يعنى لجزء الجملة بدليل المثال ، مع أن قيام الشيء مقام غيره يستدعى أن للمحذوف محلا (على وجهين) أى : يكون ذلك الحذف على وجهين :

أحد الوجهين اللذين يكون الحذف عليهما هو :

الأول

(أن لا يقام شيء مقام) شيء من (المحذوف) بأن لا يوجد شيء يدل عليه ويستلزمه فى مكانه ، بل يكتفى فى فهم المحذوف بالقرينة اللفظية أو الحالية (كما مر) فى الأمثلة السابقة مثل قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ)(٢) إذ

__________________

(١) يوسف : ٤٥.

(٢) الحديد : ١٠.

٦٤٦

لم يعطف عليه شيء يدل على المعطوف المحذوف ، الذى هو ومن أنفق من بعده وكذا (أنا ابن جلا) إذ لم يذكر موصوف ينزل منزلة الموصوف المحذوف.

الثانى

(و) الوجه الثانى مما يكون معه الحذف هو : (أن يقام) شيء مقام المحذوف مما يدل عليه ويستلزمه متعلقه أو مضمونه وذلك (نحو) قوله تعالى : ((وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)) (١) فقوله تعالى : (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) أقيم مقام الجواب واتصل بالفاء مثل الجواب ، وليس جوابا ؛ لأن الجواب يترتب مضمونه على مضمون الشرط ، وتكذيب الرسل سابق على التكذيب الذى هو مضمون الشرط هنا ، وإنما هو نائب عن الجواب لدلالته عليه لكونه سببا فى متعلق مضمون الجواب أى : (فلا تحزن واصبر) فإن نفى الحزن والصبر ، متعلق النهى والأمر اللذين أحدهما هو الجواب.

وفهم من قولنا مما يدل عليه ويستلزمه متعلقه أو مضمونه أن الذى يقام مقام المحذوف لا يكون أجنبيا بحيث لا يدل عليه ولا يقتضيه وهو ظاهر من المثال.

أدلة تعيين المحذوف

(وأدلته) أى : أدلة الحذف (كثيرة منها) أى : من أدلته

أن يدل العقل على الحذف والمقصود الأظهر على تعيين المحذوف

(أن يدل العقل عليه) أى : على الحذف (و) يدل (المقصود الأظهر) أى : كون الشيء مقصودا أظهر (على تعيين المحذوف) وهو لفظ ذلك المقصود الأظهر وذلك (نحو) قوله تعالى : ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)) (٢) فإن مدلوله تحريم ذوات الميتة ، والعقل يحكم بأن الظاهر لا يراد لما علم أن الأحكام الشرعية لا تتعلق بالذوات والأعيان ، وإنما تتعلق بأفعال المكلفين ، فوجب أن يكون فى الكلام حذف. فإما أن يقدر «حرم عليكم أكلها والانتفاع بها أو تناولها أو التلبس بها أو قربانها أو نحو ذلك» والمقصود الأظهر مما يقدر هنا التناول الشامل للأكل والشرب لا لألبانها.

__________________

(١) فاطر : ٤.

(٢) المائدة : ٣.

٦٤٧

وإنما كان هذا هو المقصود الأظهر نظرا إلى العرف والعادة فى استعمال هذا الكلام ، فإن المفهوم عرفا من قول القائل حرم عليكم كذا تحريم تناولها لأنه أشمل وأدل على المقصود بالتحريم ، فالمعنى بالعادة والعرف الذى يتبين به المقصود الأظهر كون الشيء يفهم من الاستعمال كثيرا ويقصد لخصوصية فيه ، بخلاف العادة الآتية فهى تقرر أمرا آخر فى نفسه من غير نظر لدلالة الكلام عليه عرفا ، كتقرر كون الحب الغالب لا يلام عليه فلا يرد على ما سيأتى فكون الشيء هو المقصود الأظهر عرفا دليل على إرادته وفيه أن فهم ذلك الشيء حينئذ إما بالقرائن المحتفة بالكلام عند الاستعمال ، وإما بنقل اللفظ لهذا المعنى عرفا.

فعلى الأول لا يختص قولنا كون الشيء مقصودا أظهر يدل على إرادته بهذا المعنى ؛ لأن هذا المعنى أعنى كونه مقصودا أظهر يصدق فى كل تعيين فيه احتمالان فأكثر فلا معنى لتخصيصه بما دلت عليه القرائن ، وعلى الثانى لا معنى له أيضا ؛ لأن الكلام تعين حينئذ معناه بالوضع العربى ، فلا معنى للاحتياج فى التعيين إلى كونه المقصود الأظهر بل نقول كون الشيء مقصودا أظهر هو معنى تعين ظهوره فى الإرادة والدلالة.

فأى معنى لهذا الكلام ثم الدلالة على تعيين المحذوف تتضمن الدلالة على الحذف ، فالدليل على التعيين دليل على الحذف والمدرك لذلك هو العقل ويدفع هذا بأن المراد أن العقل قد يدل وحده على الحذف حتى لو لم يوجد الدليل الآخر لاستقل ويفتقر فى الدلالة على التعيين إلى شيء آخر ، ككونه مقصودا أظهر وقد يستقل فى الأمرين على ما فى ذلك من البحث ، ثم هذا بناء على الحق وهو أن التحريم إنما يتعلق بالأفعال لأنه تكليف : والتكليف لا معنى لتعلقه بالذوات وإن بنى على أنه يتعلق بالذوات كما يقول الحنفية فلا حذف فى الكلام ، ولا يخفى ما فى عبارة المصنف من التسامح وهو جعل الدلالة من الأدلة ، فإما أن يكون قوله أن يدل مقحما والأصل منها العقل ، وإما أن يقدر ، ودلالة أدلته كثيرة ، ولكن تقدير الدلالة قبل الأدلة فى معنى الحشو أيضا بل هو غاية فى البرودة لأن المقصود تقسيم الأدلة لا دلالتها كما لا يخفى وإما أن

٦٤٨

يجعل المصدر المنسبك من أن يدل بمعنى الفاعل فكأنه يقول منه دليل العقل ، فتكون إضافته إلى العقل من إضافة الصفة إلى الموصوف ، ولا يخفى ما فيه من التعسف ـ أيضا ـ ومن أجل الاحتمال الآخر والأول لم نجزم بأنه على التقدير.

أن يدل العقل على مطلق الحذف وتعيين المحذوف

(ومنها) أى : ومن أدلة الحذف الخاص (أن يدل العقل عليهما) معا أعنى على مطلق الحذف وتعيين المحذوف ، بمعنى أن العقل استقل فى إدراك الأمرين وقد علمت أن إدراكه الثانى يستلزم الأول دون العكس ، ولا يخفاك ما فى هذا الكلام مما تقدم وكذا ما فى ما بعده ثم مثل لما دل فيه العقل على الحذف والتعيين فقال (نحو) قوله تعالى : ((وَجاءَ رَبُّكَ) وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)(١) فالعقل يدرك امتناع المجيء من الرب تعالى ، وتقدس بالدليل القاطع من غير توقف على قرائن فى العبارة أصلا ، ويدل على تعيين المحذوف المراد أيضا (أى أمره أو عذابه) ؛ لأن العقل إذ تأمل أن ذلك فى يوم القيامة لم يجد ما يناسب يوم القيامة الموعود به للحساب والعقاب والرحمة إلا أن يقدر أمره الشامل للعذاب ، أو يقدر عذابه ؛ لأنه هو الموجب للتهويل والتخويف المقصود من الآية ؛ فقد دل العقل على أن أحدهما لا بعينه هو المقدر ، وذلك هو المراد بالتعيين هنا.

وفى هذا الكلام شيء من وجهين :

أحدهما : أن إدراك العقل لكون المقدر أحد هذين لا تستقل فيه دلالته بل يحتاج إلى قرائن مثل كون هذا يوم القيامة الذى لا يناسبه إلا ما ذكر فهذا مما دل فيه غير العقل ، لما تقدم لنا أن المدرك هو العقل فى الكل لكن إن كانت دلالته لا تستقل نسبت الدلالة لذلك الشيء المستعان به ، ولا يخفى عدم استقلال العقل هنا.

والآخر : أنا إن جوزنا تقدير الأخص فى مقابلة الأعم لأن الأمر أعم من العذاب ، لم ينحصر المقدر فيما ذكر لصحة أن يقدر وجاء نهى ربك أو جاء جند ربك القائم بتعذيب العاصى أو عبيده القائمون بذلك كالملائكة وأيضا تقدير الأمر أولى

__________________

(١) الفجر : ٢٢.

٦٤٩

وأظهر لشموله كما فى آية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) فإن تقدير التناول لشموله أظهر كما تقدم.

أن يدل العقل على مطلق الحذف وتدل العادة على تعيين المحذوف

(ومنها) أى : من أدلة الحذف الخاص (أن يدل العقل عليه) أى : على مطلق الحذف (و) تدل (العادة) المقررة لا العادة فى استعمال الكلام كما تقدم (على التعيين) أى : تعيين المحذوف وذلك (نحو) قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز فى خطابها النساء اللاتى لمنها فى يوسف ((فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)) (١) فإن يوسف لما خرج عليهن وذهلن من جماله فقطعن أيديهن ، وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت لهن فيه هذا الكلام ولا بد فيه من تقدير لا يستقيم إلا به ، وذلك مدرك للعقل من جهة إدراكه أن اللوم لا يتعلق بالذات وإنما يلام الإنسان على فعل من أفعاله ، كما أدرك أن التحريم لا يتعلق إلا بالفعل.

فإن قيل إدراك العقل لعدم تعلق التحريم بالذات ظاهر بالاستدلال العقلى بعد العلم بأن التحريم من جنس التكليف بل قد يدعى أنه ضرورى وأما إدراكه لعدم تعلق اللوم بها فإنما ذلك من جهة أن العرف جار على أن الإنسان لا يلام إلا على أفعاله فيعود الإدراك إلى العادة كما يأتى فى ترك اللوم على الحب (قلت) بل هو ضرورى أيضا إذ لا يصدر غيره إلا من الأحمق فالمراد بالإدراك العقلى ما يستقل فيه الدليل العقلى ، كنفى المجيء عن الرب تعالى ، أو يكون من الأمور التى يقر بها كل أحد بلا دليل ولو كان مستنده عمل العرب ، بخلاف ترك اللوم على الحب الغالب فإنما يدركه الخواص باعتبار عادة المحبين ، فإذا تقرر أنه لا بد من تقدير قبل الضمير فى فيه ولا يدرك العقل وحده ما وراء ذلك ، فالمقدر فيه احتمالات (فإنه) أى : الكلام الذى وقع فيه الحذف (يحتمل) ثلاثة احتمالات ؛ لأن اللوم تقرر أنه لا يقع إلا على فعل الإنسان

__________________

(١) يوسف : ٣٢.

٦٥٠

والكلام الذى وقع به اللوم وهو قولهن (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١) مشتمل من أفعال اللوم على فعلين.

أحدهما : مراودتها ، والآخر : حبها فيحتمل أن يقدر (فى حبه لقوله تعالى) حكاية عن اللوائم ((قَدْ شَغَفَها حُبًّا)) أى : أصاب حبه شغاف قبلها وهو غشاؤه كناية عن إحاطة حبها له بقلبها حتى أحاط بشغافه.

وقيل المعنى أصاب باطن قلبها وقيل وسطه (و) يحتمل أن يقدر (فى مراودته لقوله تعالى) حكاية عن اللوائم أيضا ((تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) و) يحتمل (أن يقدر فى شأنه حتى يشملهما) أعنى الفعلين المذكورين فى اللوم ، وهما الحب والمراودة (و) لكن (العادة) المتقررة عند المحبين (دلت على) التقدير (الثانى) وهو فى مراودته وذلك (لأن الحب المفرط لا يلام صاحبه عليه فى العادة) عند المحبين (لقهره إياه) أى : لقهر الحب صاحبه وإنما يلام عليه عند غير المحبين غفلة عن كونه ليس بنقص. فإن لام عليه المحبوب فللوازمه ، وأما من كف عن لوازمه الردية فلا لوم عليه. وإذا امتنع تقدير نفس الحب لم يقدر بخصوصه ولا بما يشمله كالشأن فتعين تقدير فى مراودته ، وهذا ظاهر فى عدم تقدير الحب ، وأما عدم تقدير الشأن فليس بظاهر لصحة تقديره باعتبار الشق الصحيح مما يشتمل عليه وهو المراودة.

أدلة تعيين المحذوف :

الشروع في الفعل.

(ومنها) أى : من أدلة تعيين المحذوف بعد دلالة العقل على أصل الحذف (الشروع فى الفعل) وذلك (نحو) قولنا(بسم الله) فإن الجار يدل بالعقل بعد إدراك أصل وضعه أنه لا بد له من متعلق ، والشروع فى فعل من الأفعال يعين المحذوف (فيقدر) خصوص لفظ (ما جعلت التسمية مبدأ له) فإذا أريد الأكل قدر آكل بعد بسم الله ، وإذا أريدت القراءة قدر أقرأ بعد بسم الله وهكذا وتقدير خصوص لفظ ما جعلت

__________________

(١) يوسف : ٣٠.

٦٥١

التسمية مبدأ له هو الأقرب ؛ لقرينة ابتدائه بخصوصه ونسب إلى البيانيين وقيل يجوز تقدير أبتدئ فى الكل ونسب للنحويين ، وكون إدراك أن الجار والمجرور لا بد له من متعلق بالتصرف العقلى ، لا ينافى كون التقدير أمرا لفظيا فى نحو قولنا : لك الأجر ؛ لأن المراد بكونه لفظيا كما تقدم أن إدراكه لا يحتاج فى تبادره إلى ذلك التقدير لا أنه لا يقتضيه العقل أصلا.

الاقتران

(ومنها) أى : ومن أدلة تعيين المحذوف بعد دلالة العقل على أصل الحذف (الاقتران) أى : مقارنة الكلام الذى وقع فيه الحذف لحال من الأحوال وذلك (كقولهم للمعرس) أى : المتزوج (بالرفاء) أى : الالتئام والاتفاق (والبنين) فإن الجار يحكم العقل بعد علم وضعه بأنه لا بد له من متعلق ، ومقارنة هذا اللفظ للإعراس يدل على أن المتعلق به المجرور هو أعرست ، والباء فى بالرفاء للملابسة أى : أعرست ملابسا للالتئام مع زوجتك ، وملابسا لولادة البنين معها. ولفظ هذا الكلام إخبار ، والمراد به الدعاء أى : جعلك الله مع زوجتك ملتئما والدا للبنين.

ولا يخفى أن المقارنة أعم من جعل البسملة مبدأ الشيء ، فلو اقتصر على المقارنة وجعل جملة البسملة من أمثلتها كان أوضح.

الإطناب

(والإطناب) الذى تقدم أن من جملة أسراره بسط الكلام حيث الإصغاء مطلوب ، وأنه هو أن يزاد فى الكلام على أصل المراد ، وهو المساواة لفائدة يحصل بأوجه

أوجه الإطناب

الوجه الأول

(إما بالإيضاح بعد الإبهام) أى : ببيان شيء ما من الأشياء بعد إبهامه يكون (ليرى) أى : ليرى السامع (المعنى) والمراد بالرؤية هنا الإدراك (فى صورتين مختلفتين) إحدى الصورتين ما أوجب فهمه على وجه الإبهام ، والأخرى ما أوجب فهمه على وجه الوضوح كما يظهر من التمثيل وإدراك الشيء من جهة الإبهام ثم إدراكه من جهة التفصيل إدراكان والإدراكان علمان وعلمان خير من علم واحد ، وأصل هذا الكلام

٦٥٢

أن رجلا نبه ابنه على شأن الطريق لما سلك به طريقا غير ما ينبغى فقال له ابنه : إنى عالم فقال ذلك الرجل : وعلمان خير من علم واحد أى : إضافة علم إلى علمك ثم صار مثلا للمشاورة وإنها تنبغى لما فيها من اجتماع علمين ، وكذا البحث فى كل شيء بحيث لا يستقل فى ذلك الشيء بعلم واحد. فإن قيل حاصل هذا أن الإجمال ثم التفصيل فيه إيهام علمين ، مع أن المعلوم واحد لتضمن التفصيل الإجمال وهذا يعد مما يستظرف كالبديع المعنوى ، فكيف يعد من المعانى قلت : قد يكون المقام مقام إدراك الشيء على حقيقته والإحاطة بجوانبه كمقام الافتخار بالعلم ، أو مقام التعلم والتعليم بحيث لا يقع فيه جهل بوجه ما ، ولا خطأ من المتكلم أو السامع فيناسبه تعلق علمين من جهتين أو إبهام علمين إن قلنا بخلاف ذلك وليس هذا من باب التمكين ولا من باب كمال اللذة الآتيين على ما يتبين (أو ليتمكن) أى : الإيضاح بعد الإبهام يكون ليرى المعنى فى صورتين ، أو ليتمكن المعنى الموضح بعد إبهامه (فى النفس) أى : فى نفس السامع (فضل تمكن) وذلك عند اقتضاء المقام ذلك التمكن ، لكون المعنى ينبغى أن يملأ به القلب لرغبة أو لرهبة ، أو أن يحفظ لتعظيم وعدم استهزاء أو عمل به أو نحو ذلك.

وإنما كان فى الإيضاح بعد الإبهام فضل التمكن ؛ لأن الإشعار به إجمالا يقتضى التشوق له ، والشيء إذا جاء بعد التشوق يقع فى النفس فضل وقوع ويتمكن أىّ تمكن ، وهذا مقتضى الجبلة (أو لتكمل) أى : يكون الإيضاح بعد الإبهام لما تقدم ويكون لتكمل (لذة العلم به) أيضا ؛ لأن الإجمال يشعر به فيقع التشوق له كما تقدم. فإذا نيل بالتشوق والشوق كان ألذ بخلاف ما إذا نيل بلا شوق وطلب.

والفرق بين التمكن واللذة فى العلم بحسب مفهومهما واضح ولو كان التشوق بالإجمال سبب كل منهما ومقام الأول كما تقدم ، ومقام الثانى كإمالة نفس السامع إلى ما يلقيه المتكلم حيث يأتى به بهذا الطريق فيكون حديث المتكلم مما يراد ويرغب ، لا مما يكره وينفر عنه فتأمل هنا فإن المقام سهل ممتنع.

٦٥٣

ثم مثل لما يحتمل المعانى الثلاثة بقوله (نحو) قوله تعالى حكاية عن موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسّلام ((رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي)(١) فإن اشرح لى) أى : ووجه الإجمال فيه ثم التفصيل أن قوله اشرح لى (يفيد طلب شرح شيء ما له) أى : للطالب ، وذلك لأن المجرور نعت لمحذوف أى : اشرح شيئا كائنا لى ، وعلى هذا فطلب شرح شيء على وجه الإجمال واضح ويحتمل وهو الظاهر ؛ لأن الأول يستدعى تقديرا ، والأصل عدمه أن المجرور متعلق باشرح ، فيفيد أيضا أن ثم شيئا يشرح له ؛ لأن الشرح له يستدعى مشروحا أيضا. فإن قيل : فحينئذ يكون ذكر كل فعل متعد من باب الإيضاح بعد الإبهام فإذا قيل اضرب أفاد أن ثم مضروبا ما ، ثم إذا قيل زيدا أفاد إيضاحا لهذا الإبهام ، ولا قائل به قلنا : طلب المتكلم الفعل لنفسه المستفاد من ذكر المجرور ، يقتضى أنه طلب فعلا مخصوصا بمتعلق تعين عند المتكلم ؛ لأن الغالب إدراك الإنسان المصالح الخاصة بنفسه بخصوصها ، فيستفاد من ذكر المجرور أن ثم مفعولا مخصوصا عند المتكلم من أجله ومصلحته طلب الفعل لنفسه ، فيتقرر أن ثم مبهما تبين بقوله صدرى فهو من باب ذكر مبهم ينتظر بيانه. بخلاف ما إذا طلب مطلق الفعل لا لنفسه فيحتمل أن يجعل لازما لعدم تعلق الغرض بمفعول خاص ؛ لأن الفعل غير المخصوص بأحد لا يشترط فيه إدراك المصلحة فيه الخاصة بالمفعول ، ويحتمل أن يجعل متعديا ، فيكون ذكر المفعول بعد من باب ذكر شيء قد ينتظر قبل إبهامه لا من باب بيان شيء بعد إبهامه.

والحاصل أن تخصيص المطلوب بالطالب يفيد تعينه عنده وإنما يتعين بمتعلق هو المفعول ، لعلم الإنسان بأحوال نفسه غالبا وتعلق غرضه بمصالحه الخاصة غالبا فيكون ذكره بعد إيضاحا بعد إبهام ، وعدم تخصصه بالطالب لا يفيد ذلك ، لاحتمال اللزوم أو التعدى المنتظر ، وذلك نحو قول القائل : افعل لى. يتبادر منه أن ثمّ مفعولا مبهما ، وافعل بدون لى لا يتبادر منه ذلك وهذا مذوق ذوقا يؤيد ما قررناه فليتأمل ، فإن فيه دقة ما فإذا تقرر أن اشرح لى يفيد شرح شيء ما للطالب (و) فى ذلك إبهام للمطلوب فقوله (صدرى يفيد تفسيره) أى : تفسير ذلك الشيء المبهم فكان فيه إيضاح بعد إبهام ، إما

__________________

(١) طه : ٢٥.

٦٥٤

ليرى المعنى فى صورتين مختلفتين ، أو ليتمكن المبين فى قلب السامع أو لتكمل لذة العلم به على ما تقدم وفى هذا شيء فإن المخاطب بهذا الكلام هو الرب تعالى وتقدس ولا يناسبه أن يخاطب بعلمين على أنهما بالنسبة إليه كما تقدم خير من علم واحد ، ولا أن الخطاب بما فيه التمكن فى قلب السامع ، ولا بما فيه كمال لذة العلم للمخاطب ، ولا يقال المراد أن الكلام لو خوطب به غير الرب تعالى أمكن فيه ما ذكر ؛ لأن أصل الكلام أن يؤتى به لما أراده المتكلم به وإلا لم يوثق بمفاد الكلام لإمكان تحويله إلى مقصود آخر ، بل الجواب أن المراد هنا لازم ما تقدم لعدم إمكان ظاهره ، فإن من لازم سوق الكلام لعلمين ، الاهتمام به المستلزم للتأكيد فى السؤال ، وكمال الرغبة فى الإجابة وكذا سوقه للتمكين واللذة من لازمه الاهتمام المستلزم لكمال الرغبة فى الإجابة ، وكمال الرغبة والتأكيد فى السؤال مناسبان فى المقام ، لأن بالإجابة يتمكن السائل من الامتثال على أكمل وجه ، كما لا يخفى فليفهم.

باب : نعم

(ومنه) أى : ومن الإيضاح بعد الإبهام (باب نعم) فشمل ما هو للمدح كنعم الرجل زيد ، وما هو للذم كبئس الرجل أبو جهل لأن الباب صادق عليهما ، وإنما يكون باب نعم مما فيه الإيضاح بعد الإبهام (على أحد القولين) وهو قول من يجعل المخصوص جزء جملة على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ خبره محذوف وأما على قول من يجعله مبتدأ ، والجملة قبله خبر ، فليس مما نحن فيه إذ لا إبهام لأن التقدير (زيد نعم الرجل) وهو واضح (إذ لو أريد) أى : وإنما كان باب نعم من باب الإطناب الذى فيه إيضاح بعد إبهام لأنه لو أريد (الاختصار) أى : عدم الإطناب الصادق بالمساواة (كفى) أن يقال (نعم زيد) فلا يكون إطنابا بل مساواة.

وقد علم بهذا أن الاختصار يطلق على المساواة ، وأراد بقوله نعم زيد. أن يبين أصل المساواة ـ لو أريدت ـ لا أن هذا الكلام يجوز أن يقال فى العربية. وهذا الإيضاح بعد الإبهام الكائن من باب نعم ، يصح أن يقصد به إراءة المعنى فى صورتين مختلفتين فى

٦٥٥

مقامه ، وأن يراد به زيادة تمكين الممدوح فى القلب ، وذلك من زيادة مدحه وأن يراد به كمال لذة العلم ، حيث يراد به إمالة السامع لهذا الكلام ، فتتم محبته للممدوح. والأقرب فيه الثانى (ووجه حسنه) أى : حسن باب نعم ، وهو ما يراد به مدح عام للتوصل به لخاص أو ذم كذلك (سوى ما ذكر) أى : ووجه حسنه حسنا زائدا على ما ذكر من الإيضاح بعد الإبهام الكائن لأحد الأسرار السابقة.

(إبراز) أى : إظهار (الكلام) الكائن من باب نعم (فى معرض الاعتدال) أى :

فى زى الاستقامة من غير أن يكون فيه ميلان لمحض الإيضاح ، ولا لمحض الإبهام والاعتدال الكائن فى باب نعم إنما هو من جهة أنه ليس من الإيضاح الصرف ، لما فيه من الإيجاز بحذف المبتدأ والخبر ، ولا من الإبهام الصرف لما فيه من الإطناب بذكر المخصوص الذى وقع به الإيضاح ، وإن شئت قلت الاعتدال من جهة أنه ليس من الإيجاز المحض للإطناب بالإيضاح بعد الإبهام ، ولا من الإطناب المحض للإيجاز بحذف جزء الجملة. والوجه الثانى أقرب ، لأن الأول يمكن إجراؤه فى كل ما فيه إيضاح بعد إبهام ، إذ ليس من الإيضاح الصرف ولا من الإبهام الصرف نعم يزيد هذا الباب بكون عدم الإيضاح الصرف فيه بسبب لزوم الإيجاز فيه الحاصل بالحذف (و) وجه حسنه أيضا سوى ما ذكر (إيهام) أى : ما فيه من إبهام (الجمع بين المتنافيين) وهو الإيجاز والإطناب.

وهذان الوجهان أعنى : بروز الكلام فى معرض الاعتدال وإيهامه أن فيه الجمع بين متنافيين ، مفهومهما مختلف ولو تلازما صدقا. ولا شك أن كلا الوجهين مما يستظرف وتستلذه النفوس ، إذ الجمع بين متنافيين كإيقاع المحال فهو مما يستغرب.

والاعتدال مما يستحسن فإن قيل : فهما حينئذ من البديع أو المعانى قلت : يمكن الأمران بمناسبة المقام ، بأن يقتضى مزيد التأكيد فى إمالة قلب السامع للإصغاء ، أو يقصد مجرد الظرافة والحسن وإنما قال إيهام ، لأن حقيقة الجمع بين متنافيين إنما تكون بأن يصدق أمران يمتنع اجتماعهما على ذات واحدة من جهة واحدة ، وذلك محال لا يقع ، وإنما فى الكلام إيهامه لا إيقاعه إذ البيان متعلق بالخصوص وهو جزء جملة.

٦٥٦

والإبهام متعلق بفاعل نعم فقد انفكت الجهة. وإن شئت قلت لأن الإيجاز بحذف المبتدأ والإطناب. بذكر الخبر بعد ذكر ما يعمه ، فقد انفكت الجهة أيضا ، وهذا المقرر فى باب نعم وهو أنه من الإيضاح بعد الإبهام ظاهر ، إن كان المعنى على أن الممدوح الجنس من أجل المخصوص فقد أبهم.

ثم ذكر وإن كان على أن الممدوح جميع أفراد الجنس الذين منهم المخصوص فالمتبادر خرطه فى سلك ذكر الخاص بعد العام بغير عطف ، والمعنى الأول أقرب بل أوجب ؛ لأن الثانى لا يخلو عن مراعاة معنى الأول وكذا يظهر فيه الإيضاح بعد الإبهام إذا أريد باسم الجنس واحد من ذلك الجنس هو المخصوص كما قيل.

التوشيع

(ومنه) أى : ومن الإيضاح بعد الإبهام (التوشيع) أى : ما يسمى بالتوشيع ، وهو فى اللغة لف القطن المندوف. وشبه تثنية الاسم أو جمعه بندف القطن من جهة عدم كمال الانتفاع ؛ لأن التثنية والجمع فيهما من الإبهام ما يمنع النفع بالفهم أو يقلله ، وشبه البيان بعدهما بلفه لكمال الانتفاع بلفه فى لحاف أو غيره. والبيان لتثنية أو لجمع يكمل به الانتفاع فيهما ، فعلى هذا لا قلب فى التوشيع اصطلاحا وهو كما أشرنا إليه (أن يؤتى فى عجز الكلام) وينبغى أن يزاد أو فى أوله أو فى وسطه (بمثنى) أو مجموع (مفسر) ذلك المثنى (باسمين) أو ذلك الجمع بأسماء (ثانيهما) أى : ثانى الاسمين فى المثنى (معطوف) والزائد على الأول فى الجمع معطوف.

ثم مثل للتوشيع فى المثنى بقوله (نحو يشيب ابن آدم وتشب معه خصلتان الحرص وطول الأمل) (١) فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحرص ، وطول الأمل ، بيان للمثنى الذى هو الخصلتان وقيل : إن فى التوشيع الاصطلاحى قلبا ؛ لأنه ندف ملفوف لا لف مندوف ؛ لأن المثنى هو الملفوف ومثال الجمع أن يقال : إن فى فلان ثلاث خصال رفيعة : الكرم ، والشجاعة ، والحلم. وتخصيص التوشيع بعجز الكلام اصطلاح لم يظهر له وجه ، ولذلك قلنا ينبغى إلى آخره ؛ لأن الإيضاح بعد الإبهام حاصل بما ذكر أولا ووسطا

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦٤٢١) ، ومسلم (١٠٤٧).

٦٥٧

وآخرا وكأنه روعى أنه أكثر ما يقع فى تراكيب البلغاء. ولا يخفى جريان الأسرار السابقة فى هذا التوشيع من تقدير علمين فأكثر ، والتمكين فى النفس ، وكمال لذة العلم فليفهم.

الوجه الثانى : ذكر الخاص بعد العام

(وإما بذكر الخاص بعد العام) عطف على قوله إما بالإيضاح أى : الإطناب إما بالإيضاح بعد الإبهام ، وإما بذكر الخاص بعد العام يعنى على سبيل العطف وإنما يذكر الخاص بعد العام على سبيل العطف (للتنبيه على فضله) أى : فضل الخاص المذكور بعد العام ؛ لأن ذكره منفردا بعد دخوله فيما قبله إنما يكون لمزية فيه (حتى كأنه ليس من جنسه) أى : ليس من جنس العام (تنزيلا) أى : إنما جعل كالمغاير للعام (ل) تنزيل (التغاير فى الأوصاف) الكائنة فى الخاص ، وبها حصلت المزية (منزلة التغاير فى الذات) بمعنى أنه لما امتاز عن سائر أفراد العام ، بما له من الأوصاف الشريفة أو الرذيلة صار كأنه شيء آخر مغاير لأفراد العام بحيث لا يشمله ذلك العام ، ولا يعلم حكمه منه وبذلك صح ذكره على سبيل العطف المقتضى للتغاير ، وقيدنا ذكره بكونه على سبيل العطف ؛ لأنه هو المفتقر لما علل به من اعتبار التغاير ، وأما ذكره على سبيل البدلية أو غيرها مما ليس بعطف ، فلا يفتقر إلى ذلك ؛ لأنه متصل بما قبله على نية طرح الأول أولا ، فكيف يعتبر فيه ما يوجب كونه جنسا آخر.

ثم مثل لذكر الخاص بعد العام على الوجه المذكور فقال : (نحو) قوله تعالى : ((حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)) (١) أى : الفضلى من قولهم هو أوسط القوم أى : أفضلهم وهى صلاة العصر عند الأكثر. وقيل الصبح ، هذا إذا ذكر عام ثم ذكر فرد منه كما فى المثال وأما إذا ذكر ما يتناول المعطوف بالبدلية كأن يقال جاءنى رجل وزيد أو رجال وزيد وعمرو وخالد ، فهل يكون من هذا الباب أو لا فيه نظر وقد مثل ابن مالك لذكر الخاص بعد العام بقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى

__________________

(١) البقرة : ٢٣٨.

٦٥٨

الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(١) فإن الدعاء إلى الخير أعم من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وفيه شيء فإن الجملة فى معنى النكرة ، فغاية ما يتحقق منها مطلق الدعاء إلى الخير وأيضا الدعاء إلى الخير محصور فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فأين العموم إلا أن يكون باعتبار كل منهما على الانفراد ، وهو خلاف ظاهر كلامه فليتأمل.

الوجه الثالث : التكرير لنكتة

(وإما بالتكرير) أى : الإطناب إما بالإيضاح بعد الإبهام وإما بكذا وإما بتكرار المذكور (لنكتة) وإنما قال لنكتة ؛ لأن التكرار متى كان لغير نكتة كان تطويلا ، فلظهور التطويل فى عدم النكتة فى التكرار نبه عليها فيه ؛ فالإيضاح بعد الإبهام وذكر الخاص بعد العام ، لا بد فى كل منهما من نكتة ، ثم مثل للنكتة الموجودة فى التكرار بقوله (كتأكيد الإنذار فى) قوله تعالى : ((كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)) (٢) فكلا للردع والزجر ، وهى هنا للردع والزجر عن الانهماك فى الدنيا وللتنبيه على الخطأ فى الشغل بها عن الآخرة وقوله : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إنذار وتخويف أى : ستعلمون ما أنتم عليه من الخطأ إذا عاينتم ما أمامكم من لقاء الله تعالى ، وأهوال المحشر. وتكراره بالعطف إنما هو لتأكيد هذا الإنذار المناسب لتأكيده ، إذ لعل الانزجار والشغل بالآخرة الدائمة يقع به قبل الفوات.

(وفى) العطف ب (ثم دلالة على أن الإنذار الثانى) الذى اعتبره المتكلم أوكد ، وهو فى رعايته وقصده (أبلغ) كما يقول القائل : أقول لك لا تفعل ثم تتقوى قريحته على النهى بأبلغ من الأول فيقول : ثم أقول لك لا تفعل ، وبيان ذلك أن أصل ثم إفادة التراخى ، والبعد الزمانى وقد استعير للتراخى ، والبعد المعنوى. بمعنى أن المعطوف قد تكون مرتبته أعلى أو أدنى مما قبله ، فتستعمل فيه تنزيلا للتفاوت فى الرتبة منزلة التفاوت فى الزمان ، كما تقول فى الأول مثلا أحب زيدا ثم أحب عمرا تعنى بما هو

__________________

(١) آل عمران : ١٠٤.

(٢) التكاثر : ٣ ، ٤.

٦٥٩

أعلى وفى الثانى يهان زيد ثم يهان عمرو ، تعنى بما هو أدنى فقد استعملت ثم فى مجرد التدرج فى درج الارتقاء والانحطاط ومنه الحديث (من أولى الناس بالبر يا رسول الله؟

فقال : أمك ، فقيل : ثم ما ذا؟ قال : أمك فقيل : ثم ما ذا؟ قال : أبوك) (١) لأن المراد أن مرتبة البر بالأب أدنى من مرتبة البر بالأم ، لا أنه بعده فى الزمان كما لا يخفى وإذا كان كذلك فدخولها على الجملة المذكورة ، يؤذن بأن مضمونها أعلى عند المتكلم ، فلذلك دلت الآية على أبلغية الإنذار المضمون للجملة الثانية ؛ لأن الأبلغية علو فى المرتبة فى قصد المتكلم ووجه الشبه بين البعدين التفاوت بين مشتركين فى أمر خاص فى الجملة ، وهو ظاهر ومن نكت التكرار زيادة تأكيد ما تنتفى به التهمة فى النصح ، كقوله تعالى ـ حكاية عن صاحب قوم فرعون : (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ* يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ)(٢) فتكرار يا قوم لما كانت فيه إضافة لياء النفس أفاد بعد القائل عن التهمة فى النصح ، حيث كانوا قومه وهو منهم ، فلا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه فتضمن تكراره تأكيدا لنفى التهمة.

ومن نكته أن يكون معنى متعلق الفعل المكرر مختلفا ، واللفظ الدال على ذلك المتعلق واحد ؛ لأن فى تكراره إفادة التنبيه على كل معنى بخصوصه والمقام يقتضيه كقوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٣) فإنه كرر ذلك إثر ذكر النعم فى السورة ، والنعم المذكورة مختلفة ، والمقام يقتضى التنبيه على كل نعمة ، ليقام بشكرها بخصوصها وأما ذكره بعد ذكر جهنم ، وإرسال الشوظ من النار فبالنظر إلى أنهما إنما ذكرا للزجر عن المعصية ، فعادا نعمة من حيث الانزجار بهما ، ولذلك عقبا بقوله تعالى فبأى آلاء ربكما تكذبان كسائر النعم.

__________________

(١) أخرجه البخاري ومسلم.

(٢) غافر : ٣٨ ـ ٣٩.

(٣) الرحمن : ١٣.

٦٦٠