مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-3820-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٦٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

خبرية معنى ، ورحمه‌الله إنشائية معنى ، ولفظهما معا خبر ، فلاختلافهما فى المعنى لم يعطف إحداهما على الأخرى ، والقسم الأول أخروى بالنسبة لهذا ولم يمثل بما يكون لفظهما معا إنشاء وهما مختلفان معنى ، لقلة وجوده ، وذلك كقولك عند ذكر من كذب على النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليتبوأ مقعده من النار لا تطعه أيها الصاحب (أو لأنه) أى : يحصل كمال الانقطاع لأجل اختلافهما خبرا وإنشاء ، أو لأن الشأن فيهما (لا جامع بينهما) فقوله : «أو لأنه» معطوف على قوله : «لاختلافهما» وقوله : «لا جامع بينهما» خبر ضمير الشأن وهو الهاء فى «لأنه» والجامع الذى انتفى تحقق كمال الانقطاع الموجب لمنع العطف هو معلوم (كما سيأتى) فى محله عند تفصيله إلى عقلى وخيالى ووهمى ، وقوله : «أو لأنه جامع بينهما» يعنى مع كونهما لم يختلفا فى معنى الخبرية والإنشائية ؛ بل هما خبريتان معا معنى أو إنشائيتان معا ، وإنما قلنا كذلك ؛ لئلا يدخل القسم الأول فى هذا أيضا كما تقدم فيما قبل ، ثم مالا يصلح فيه العطف لانتفاء الجامع ، إما لانتفائه عن المسند إليهما فقط كقولك «زيد طويل وعمرو قصير» حيث لا جامع بين زيد وعمرو من صداقة وغيرها ، ولو كان بين الطول والقصر جامع التضاد كما يأتى ، وإما عن المسندين فقط كقولك «زيد طويل وعمرو عالم» حيث لا صداقة بين زيد وعمرو وغيرهما.

الفصل لكمال الاتصال

(وأما كمال الاتصال) الذى يكون بين الجملتين فيمنع من العطف ، إذ عطف إحداهما على الأخرى معه كعطف الشيء على نفسه (ف) يتحقق ذلك الكمال بينهما (ل) أجل (كون الثانية مؤكدة للأولى) تأكيدا معنويا ، بأن يختلف مفهومهما ، ولكن يلزم من تقرر معنى إحداهما تقرر معنى الأخرى أو تأكيدا لفظيا بأن يكون مضمون الثانية هو مضمون الأولى ، فيؤتى بالثانية بعد الأخرى (لدفع توهم تجوز أو غلط) أى : لأجل أن يدفع المتكلم توهم السامع التجوز فى الأولى فتنزل الثانية منزلة التأكيد المعنوى فى المفردات ؛ لأنه إنما يؤتى به لدفع توهم التجوز ، أو يدفع توهم السامع الغلط فى الأولى ، فتنزل الثانية منزلة التأكيد اللفظى فى المفردات فإنه إنما يؤتى به لدفع

٥٤١

توهم السهو أو الغلط ، فالأولى وهى التى تنزل منزلة التأكيد المعنوى ؛ لاختلاف مفهومهما (نحو) قوله تعالى : ((لا رَيْبَ فِيهِ)) (١) بعد قوله تعالى (الم* ذلِكَ الْكِتابُ) فإنه إذا بنى على أن ذلك الكتاب جملة مستقلة ، يكون «لا ريب فيه» تأكيدا له على ما سيقرر المصنف «والم» حينئذ طائفة من الحروف ، لا يعلم معناها بناء على أنها من سر الكتاب ، كما روى عن الصديق أنه قال : «لكل كتاب سر وسر القرآن حروف أوائل السور» أو يعلم بناء على أن كل حرف مقتطع من كلمة ، والمجموع فى موضع جملة مستقلة ، فالهمزة من الجلالة ، واللام من جبريل ، والميم من محمد ، فكأنه قيل «الله نزل جبريل بالوحى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» أو أنه اسم للسورة وهو خبر مبتدأ مضمر أى : «هذه السورة الم» .

وأما إن بنى على أن ذلك الكتاب خبر ليس جملة مستقلة إما بإعراب «لا ريب فيه» خبر ذلك الكتاب ، أو بإعراب «ذلك الكتاب» خبرا عن «الم» بناء على أنه اسم للسورة فكأنه قيل : هذه السورة المسماة «بالم» هى ذلك الكتاب الموعود بإنزاله للإعجاز ، فلا يكون لا ريب فيه جملة مؤكدة لجملة قبلها ، وذلك ظاهر ، ولكن هذا الوجه الثانى أعنى : إعراب ذلك الكتاب خبرا عن «الم» بناء على أنه اسم السورة لا يخلو من التكلف فى إطلاق الكتاب على السورة ، ثم أشار إلى كون «لا ريب فيه» كالتأكيد المعنوى لجملة «ذلك الكتاب» فقال : (فإنه) أى : فإن الشأن هو (لما بولغ فى وصفه ببلوغه الدرجة القصوى فى الكمال) أى : لما وقعت المبالغة فى وصف الكتاب بصفة هى بلوغه فى الكمال إلى الدرجة القصوى ، أى : البعدى فى الرفعة فقوله «ببلوغه» متعلق بوصفه ، والدرجة معمول البلوغ ، وفى الكمال متعلق ببلوغه أى : بلوغه فى الكمال إلى الدرجة القصوى فبولغ فى وصفه بذلك البلوغ ثم المبالغة فى الوصف المذكور ، وهو بلوغه النهاية فى الكمال حصلت (بجعل المبتدأ) اسم الإشارة الذى هو (ذلك) لأنه صيغة تدل على بعد المشار إليه ، والبعد يراد به بعد التعظيم ، ورفعة المنزلة ، والعلو على التناول والإدراك ، كما دلت القرائن على ذلك هنا فأفاد عظمة الكتاب ، وعظمته

__________________

(١) البقرة : ٢.

٥٤٢

بتحققه بحقائق البعد عن مظنة الريب بظهور وجاء هديا مع أن اسم الإشارة يدل على كمال العناية بتمييزه كما تقدم فى باب اسم الإشارة ، وكمال العناية بالتمييز إنما يكون لحكم اختص به المشار إليه ، مما يمدح به فيعتنى بتمييزة ، لئلا يقع ليس فى مدحه ووهم فى إنفراده بمجده ، والحكم البديع للكتاب : هو ما يناسبه من الكمال فى حقيقته ، وظهور سر هداه ، فأفاد بهذا الوجه أيضا بلوغ النهاية فى الكمال ، فقوله «بجعله» متعلق بقوله «بولغ» كما أشرنا إليه فى التقرير (و) حصلت تلك المبالغة أيضا ب (تعريف الخبر) الذى هو الكتاب (باللام) وذلك ؛ لأن تعريف الجزأين فى الجملة الخبرية يدل على الانحصار كما يقال : «حاتم هو الجواد» أى : لا جواد إلا حاتم إذ جود غيره بالنسبة إلى جوده كالعدم ، فكأنه قيل : «لا كتاب إلا هذا الكتاب» أى : هو الكامل الذى يستأهل أن يسمى كتابا ، حتى كأن ما عداه ليس بكامل بالنسبة إلى كماله ، أو ليس بكتاب ، ولو كان ذلك الغير كتابا كاملا فى نفسه ، وهذا الكلام الذى قرر به هذا الحصر ليس فى ظاهره سوء أدب ، إذ لم يصرح بوصف الكتب التى وقع الحصر باعتبارها بالنقصان ، ولا فى باطنه ؛ لأن الملك الأعظم له أن يفضل ما شاء من كتبه على غيره بالمبالغة الحصرية وغيرها ، نعم لو سميت فيه الكتب ووقع الحصر من غير الملك الأعلى لزم سوء الأدب ، أو وقع الحصر من غيره تعالى ، ولو لم تسم الكتب فافهم.

(جاز) هو جواب لما أى : لما بولغ فى وصفه بالكمال جاز بسبب تلك المبالغة المتقدمة (أن يتوهم السامع قبل التأمل) فى حال الكتاب (أنه) أى : أن قوله «ذلك الكتاب» المفيد للمبالغة فى المدح (مما) أى : من الكلام الذى (يرمى به جزافا) أى : على وجه المجازفة أى : بمعنى أنه مما يؤتى به من غير ملاحظة مقتضياته ، ومراعاة لوازمه ، ومفاد أجزائه بروية وبصيرة ؛ فإن المجازفة فى الشيء عدم الإحاطة بأحواله ، وإنما كانت المبالغة المذكورة مما يجوز معه توهم المجازفة لما جرت به العادة غالبا أن المبالغ في مدحه لا يكون على ظاهره ؛ بل يخرج على خلاف مقتضى ظاهره ، إذ لا تخلو المبالغة غالبا من تجوز وتساهل (ف) لما جاز بسبب تلك المبالغة توهم السامع المجازفة فى الكلام وأنه على خلاف ظاهر مقتضاه (أتبعه) أى : أتبع «لا ريب فيه» «ذلك الكتاب» فالضمير

٥٤٣

النائب المستتر يعود على «لا ريب فيه» والمنصوب الظاهر يعود على «ذلك الكتاب» ولفظ «أتبع» مبنى للمجهول (نفيا لذلك) التوهم أى : جعل «لا ريب فيه» تابعا لجملة «ذلك الكتاب» لينتفى بنفى الريب توهم كون الكلام الذى هو ذلك الكتاب لا يراد به مقتضى ظاهره الذى هو كونه فى نهاية الكمال فى الهداية ، حتى كأن غيره بالنسبة إليه ليس كتابا ؛ وذلك لأن كمال الكتاب كما تقدم باعتبار ظهوره فى الاهتداء به ، وذلك بظهر حقيته ، وهو مقتضى الجملة الأولى ، ونفى الريب أى : نفى كونه مظنة الريب بمعنى أنه بعيد عن الحالة التى توجب الريب فى حقيته لازم لكماله فى ظهور حقيته ، ولو اختلف مفهومهما ولازم معنى الثانية معنى الأولى كانت الثانية بمنزلة التأكيد المعنوى لا اللفظى ، وهذا ظاهر ، ولكن ههنا شيء وهو أن توهم كون الكلام مما يرمى به جزافا إنما يصح لو صدر هذا الكلام عن غير علام الغيوب ، فكيف يقال : يجوز أن يتوهم أن هذا الكلام مما يرمى به جزافا ويمكن أن يجاب بأن المراد أن هذا الكلام لو كان من غيره لتوهم ما ذكر ، فأجرى معه «لا ريب فيه» دفعا لذلك على قاعدة ما تجب مراعاته فى البلاغة العرفية ، باعتبار المخلوق ؛ لأن القرآن ولو كان كلام الله تعالى جار على القاعدة العرفية الجارية من الخلق تأمل.

(فوزانه) أى : فمرتبته لا ريب فيه مع ذلك الكتاب (وزان) أى : مرتبة (نفسه) مع زيد (فى) قولك : (جاء زيد نفسه) وهو التأكيد المعنوى ، والوزان مصدر وازنه يوازنه ، بمعنى : ساواه ، ولما كان الموازن للشيء فى مرتبة ذلك الشيء أطلق المصدر على مطلق المرتبة مجازا مرسلا أو حقيقة عرفية ، وعلى هذا فليس الوزان الثاني مقحما زائدا فى الكلام ، ويحتمل أن يطلق على الموازن كما قيل فيكون الثانى مقحما ، وهو ظاهر.

وعلم من قوله «فوزانه الخ» أن الجملة ليست تأكيدا معنويا فى الاصطلاح ، وهو ظاهر ؛ لأنه فى الاصطلاح إنما يكون بألفاظ معلومة مع أنه تابع ، وذلك يقتضى المحلية فى الإعراب ، والجملتان هنا لا محل لهما فالمراد أنها مثل التأكيد فى حصول مثل ما يحصل منه ، ومثل هذا يقال فى كون الجملة بدلا وبيانا وسيأتى وجه عدم اعتبار كونها بمنزلة النعت ، ثم أشار إلى الجملة التى هى بمنزلة التأكيد اللفظى ، وهو القسم الثانى

٥٤٤

من قسمي الجملة التأكيدية فقال : (ونحو) قوله تعالى (هدى) بناء على أنه خبر مبتدأ مضمر ، وأن التقدير «هو» أى : الكتاب هدى (للمتقين) وأما إذا بنينا على أنه خبر عن «ذلك الكتاب» بعد خبر «هو لا ريب فيه» أو أنه مبتدأ ، أو المجرور قبله خبر ، أو أنه حال والعامل اسم الإشارة ، فلا يكون مما نحن بصدده ، وتعلق الهداية بالموصوفين بالتقوى إما على معنى الزيادة ، أى : هو نفس زيادة الهدى للمتقين على هداهم ، والهدى هو الدلالة على سبيل النجاة ، فيكون المعنى أنه يدلهم على ما لم يصلوا إليه من معانى التقوى ، أو على معنى أنه هدى للذين من شأنهم التقوى ، وهم الذين يستمعون الحق ويقبلونه ، ولو كانوا فى الحالة الراهنة غير موصوفين بالتقوى ، فيراد بالمتقين من هم ضالون ولكن يصيرون لقربهم من القبول متقين ، لسماع الكتاب ، بخلاف المطبوع على قلوبهم ، وإطلاق الوصف على مقاربه موجود ، فى كلام العرب ، كقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «من قتل قتيلا فله سلبه» (١) فإن تسليط القتل على القتيل إنما صح ، باعتبار أن المعنى الذى يصير قتيلا بعد قتله ، وإلا ففى حال محاولة قتله ليس بقتيل وإنما يصير قتيلا بعد الفراغ من تسلط القتل عليه ، ومنه «الحج يمرض المريض» أى : يوجب المرض لقابله (فإن معناه) أى : وإنما قلنا : إن جملة «هو هدى» كالتأكيد اللفظى ل «ذلك الكتاب» (٢) الكتاب لاتحادهما معنى ؛ لأن معناه أى : معنى «هو هدى» (أنه فى الهداية بالغ) أى : أن الكتاب بلغ فى مدارج الهداية (درجة) من وصفها أنها (لا يدرك كنهها) أى : لا يبلغ حقيقة تلك الدرجة بتمامها ، بمعنى أنه مشتمل على البينات التى لوضوحها ، ونصوع دلالتها بحيث يهتدى بها المنصف بأدنى لمحة ، وتضمحل معها الشبه ، فلا يتوهم لها صحة ، كما قيل لبعضهم : فيم لذتك؟ فقال : فى حجة تتبختر اتضاحا ، وشبهة تتضاءل افتضاحا فلما بلغ إلى هذه الحالة فى الاهتداء به ، ودل على ذلك التنكير المفيد للتفخيم والتعظيم ، أى : له هدى واضح على الحق ودلالة عظمى على هدم الباطل من أصله ، صار شديد الملابسة للهدى ، كثير الاتصاف به (حتى كأنه هداية محضة) ولذلك أخبر

__________________

(١) جزء من حديث أخرجه البخاري (٣١٤٢) ، وفي مواضع أخر من صحيحه ، ومسلم (١٧٥١).

(٢) البقرة : ٢.

٥٤٥

عنه بالمصدر فقيل : «هو هدى» ولم يقل «هو هاد» كما يقال : «رجل عدل» مبالغة فى العدل حتى كأنه نفس العدل (وهذا) المدلول لجملة «هو هدى» وهو بلوغ الكتاب للنهاية فى الهداية ، حتى صار كأنه نفس الهداية (هو معنى) قوله تعالى (ذلك الكتاب) بناء على أنه جملة مستقلة ؛ (لأن معناه) أى : ذلك الكتاب (كما مر) أى : كما تقدم آنفا فى تفسير المراد منه أنه هو (الكتاب الكامل) ، ولما أريد إثبات نهاية كماله عرف الجزآن ليفيد الحصر ، وأن كمال غيره بالنسبة إليه كلا كمال ؛ لأن ذلك وسيلة للهداية وإنما قلنا المراد كماله فى الهداية لا كمال آخر ؛ (لأن) حصر الكمال فيه المستفاد من تعريف الجزأين مبالغة يفيد نفى الكمال عن غيره ، وإنما يعتبر فى مقابلته ما هو من جنسه من الكتب السماوية ، وقد تقدم أن ذلك من الملك الأعظم ، فلا يكون فيه نقص وسوء أدب ، وإذا كان المعتبر فى مقابلته لتحقيق الحصر الكتب السماوية قال : (كتب السماوية بحسبها) أى : بحسب الهداية وقدرها يقال : افعل هذا بحسب عمل فلان أى : على عدده وقدره ، (تتفاوت) يتعلق به بحسبها والتقديم للحصر ، أى : لا تتفاوت الكتب السماوية إلا بحسب

الهداية ؛ لأن الغرض من الإنزال فى الأصل هو الهداية إلى الحق ، فينبنى على ذلك كل غرض آخر دنيوى أو أخروى ، وقوله (فى درجات الكمال) لا يخلو من إطناب قريب من الحشو ؛ لأن المراد كما تقدم الكمال فى الهداية فكأنه قال : إنما تتفاوت بحسب الكمال فى الهداية فى درجات الكمال فى الهداية إلا أن يراد بها مطلق الكمال والشرف فى العقول ، تأمله.

وإذا كان التفاوت فى الهداية وجب حمل الكمال على الكمال فى الهداية ، ولما كان مدلول ذلك الكتاب أنه الكتاب لا غيره ، وظاهره محال ، بل الغرض وصفه بالكمال فى الهداية ، ومدلول هو هدى أنه نفس الهدى ، وهو محال أيضا ، وإنما الغرض كونه كاملا فى إفادة الهداية اتحدا فى عدم إرادة الظاهر وفى إرادة الكمال فى الهداية ؛ فلهذا صار هو هدى كالتأكيد اللفظى (فوزانه) أى : فمرتبته بالنسبة لذلك الكتاب ، (وزان) لفظ (زيد) الثانى (فى) قولك : (جاء زيد زيد) فى اتحاد المعنى لدفع توهم الغلط والسهو ؛ لأن التأكيد اللفظى إنما يؤتى به لدفع توهم السامع أن ذكر زيد الأول على

٥٤٦

وجه الغلط أو السهو ، وإنما المراد عمرو مثلا ، ولذلك خصصنا «لا ريب فيه» بكونه لدفع التجوز كالتأكيد المعنوى وهو «هدى» بكونه لدفع الغلط والسهو كالتأكيد اللفظي ، ويمكن على بعد أن يكون كل منهما لدفع الغلط والتجوز ، ففى الأول يراد دفع التجوز فى ذكر زيد مع أن الجائى رسول زيد مثلا والغلط فى ذكر زيد لا عن رسوله المقصود وفى الثانى دفع التجوز فى ذكر زيد دون رسوله ، أو الغلط بذكره دون عمرو ، والاصطلاح على التقدير الأول ، وإنما اعتبر أن المآل فى «لا ريب فيه» تحقيق كمال الهداية جعله بمنزلة تكرار اللفظ لمعنى واحد فكان التأكيد اللفظى أو البيان والخطب فى مثل هذا سهل.

وأما التأكيد بنفس تكرار اللفظ فلم يتعرض له إذ لا يتوهم فيه صحة العطف ، ثم ما ذكر إنما هو فى وجه امتناع عطف جملة هو هدى على ذلك الكتاب ، وأما وجه ترك العطف على لا ريب فيه فلم يتبين بعد ؛ لأن الامتناع إنما هو فيما بين التأكيد والمؤكد لا فيما بين التأكيد وتأكيد آخر ، وقد وجه بأن لا ريب فيه لما كان تأكيدا تابعا لما قبله صار كهو ، فلما امتنع العطف على ما قبله امتنع عليه لشدة ارتباطه بما قبله ، فالعطف عليه كالعطف على ما قبله وفيه ما لا يخفى إذ لو تم حسن ترك العطف فيما بين كل تأكيد وآخر بل فيما بين سائر التوابع تأمل (أو) لكون الجملة الثانية (بدلا منها) أى : بدلا من الأولى فهو معطوف على قوله «مؤكدة للأولى» فكونها بدلا من موجبات كمال الاتصال ثم الذى يتحقق به الاتصال ثلاثة أقسام : القسم الأول : بدل الكل من الكل ولم يعتبره فى الجمل التى لا محل لها من الإعراب ؛ لأنه لا يفارق الجملة التأكيدية إلا باعتبار قصد نقل النسبة إلى مضمون الثانية فى البدلية دون التأكيدية ، وهذا المعنى لا يتحقق فى الجمل التى لا محل لها من الإعراب ، إذ لا نسبة تنقل ، وبعضهم اعتبره ، ونزل قصد استئناف إثباتها منزلة نقل النسبة فأدخله فى كمال الاتصال ، ومثل له بقول القائل : «قنعنا بالأسودين ، قنعنا بالتمر والماء» فإذا قصد الإخبار بالأولى ثم بالثانية ؛ لأن الأولى كغير الوافية بالمراد ، لما فيها من إيهام ما ، والمقام يقتضى الاعتناء بشأن المخبر به تفصيلا ؛ لما فيه من تشريف المخبر ، أو نحو ذلك كانت بدل كل ،

٥٤٧

والقسم الثانى : بدل البعض من الكل ، والقسم الثالث : بدل اشتمال وقد اشترك هذان الأخيران فى كون المبدل منه غير واف بالمراد ، حتى فى البدل الإفرادى فإنك إذا قلت «أعجبنى زيد» لم يتبين الأمر الذى منه أعجبك ، وإذا قلت وجهه تبين ، وهو بعض زيد فكان بدل البعض ، وإذا قلت «أعجبتنى الدار حسنها» فكذلك ، والحسن ليس بعضا فكان بدل اشتمال على ما تقرر ، وبهذا يعلم أن البدل الاتصالى لا يخلو من بيان ووفاء ، ولم يقتصر على البدل فى جميع الأقسام دون المبدل منه ، مع أن الوفاء بالبدل ؛ لأن مقام البدل يقتضى الاعتناء بشأن النسبة إلى المعنى ، وقصدها مرتين أوكد ولا يقال فحينئذ يكون فى البدل بيان فيلتبس بعطف البيان ؛ لأنا نقول : عطف البيان لا يتبين فيه المراد من المعطوف عليه ، والبدل فهم معه معنى المبدل منه إلا أنه لم يوف بالغرض ، كما يظهر من أمثلة كل منهما ، وأيضا البيان فى البدل لم يقصد بالذات ، بل المقصود تقرير النسبة ، وعطف البيان المعنى به فيه هو التفسير والإيضاح لا تقرير النسبة ، فافهم.

ولما لم يعتبر المصنف بدل الكل لما تقدم كما لم يعتبر النعت فى الجمل التى لا محل لها ؛ لأن المنعوت يستدعى كونه متصورا محققا وحده ، بحيث يصح الحكم عليه بالنعت والجملتان من حيث إنهما جملتان بأن لا ينقلا إلى باب التصور ، لا يصح الإخبار بإحداهما عن الأخرى ؛ لأن المخبر به لا يستقل بالإفادة وكل جملة تستقل بالإفادة ، اقتصر على بدل البعض والاشتمال فأشار إلى وجه الحاجة إلى البدل كما أشرنا إليه فقال : وإنما يحتاج إلى الإتيان بالثانية بدلا عن الأولى ؛ (لأنها) أى : لأن الأولى (غير وافية بتمام المراد) كما فى بدل البعض والاشتمال فإن المراد فى الجمل الإخبار بالبعض أو بالمشتمل عليه ، والإجمال والعموم الأول لا يفى بالمراد ، وقد تقدم وجه عدم الاقتصار على البدل دون المبدل منه ، كما أن المراد فيهما فى المفردات تحقق النسبة إلى البعض ، أو إلى المشتمل عليه والأول غير واف به على الخصوص (أو كغير الوافية) كما فى بدل الكل ، فإن الغرض منه فى المفردات تحقيق النسبة لمدلول اللفظ الثانى لنكتة وتقوية ذلك بالنسبة للأول لغرض من الأغراض ، ولما كان المقصود الثانى بالذات صار الأول كغير الوافى ، وتخصيصنا ما هو كغير الوافى بالمفرد يفيد أن قوله «أو كغير الوافية»

٥٤٨

مستدرك ؛ لأن الكلام فى الجمل ، وبدل الكل لا يجرى فيها كما مشى عليه المصنف ، وقد يجاب بأن قوله أو «كغير الوافية» حيث اختص ببدل الكل كما أشرنا إليه من التكميل لأقسام الشيء استطراد بالنسبة إلى غير مذهبه ، وأما إذا بنينا على أنه يجرى فى الجمل كما تقدم فنقول : والغرض منه فى الجمل الإخبار بالتفصيل ، وتقويته بالإجمال ، ولما كان هنا مظنة أن يقال هب أن الأولى غير وافية كل الوفاء بالمراد فلم لا يقتصر عليها وكولا لفهم المراد إلى السامع فقد يتعلق الغرض بالإبهام فيسقط فيه الأفهام؟ أشار إلى أن البدل إنما يؤتى به فى مقام يقتضى الاعتناء بشأنه فتقصد النسبة مرتين فى الجمل ، والمنسوب إليه من حيث النسبة مرتين فى المفردات ، وبهذا يعلم أن مقام البدل لا بد أن يشتمل على ما يقتضى الاعتناء كما أشرنا إليه فيما تقدم ، فقال (والمقام) أى : وكون الأولى غير وافية والحال أن المقام (يقتضى اعتناء بشأنه) أى : بشأن المراد يوجب الإتيان بالجملة البدلية فلا يستغنى عنها بالأولى والمراد بالمقام هنا حال المراد ولذلك قال : وإنما يقتضى حال المراد الاعتناء بشأنه (لنكتة) فيه ، وتلك النكتة (ككونه مطلوبا فى نفسه) ففى الحقيقة المراد بالمقام الذى يقتضى الاعتناء هو تلك النكتة ، ولكن تساهل فى بسط العبارة ، ومثال المطلوب فى نفسه يأتى فى كلام المصنف فى قوله تعالى «أمدكم» إلى آخره (أو) ككونه (فظيعا) والفظيع إنما يؤتى به لقصد التقريع والتوبيخ ، فاقتضى ذلك الاعتناء به فيقصد مرتين مثاله أن يقال لامرأة تزنى وتتصدق توبيخا : «لا تجمعى بين الأمرين لا تزنى وتتصدقى» ولا تخفى فظاعته ولكن هذا المثال بناء على وروده فى الجمل فى بدل الكل (أو) ككونه (عجيبا) فيعتنى به لإعجاب المخاطب قصدا لبيان غرابته وكونه أهلا لأن ينكر أن ادعى نفيه هو ، أو ليقتضى منه العجب أن ادعى إثباته ، وذلك كقوله تعالى (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ* قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)(١) فإن البعث بعد صيرورة العظام ترابا عجيب عند منكريه ، ومن عجائب القدرة عند مثبتيه ، وهذا أيضا مثال لبدل الكل ، وهكذا مثلوا ولك أن تقول : كيف يصح التمثيل به مع أن الإتيان به فى الآية لرد إنكارهم ، ولنفى مبالغتهم فى التعجب

__________________

(١) المؤمنون : ٨١ ، ٨٢.

٥٤٩

المؤدى إلى الإنكار ؛ إذ لا عجب مع شهود النشأة الأولى؟ ففى المثال شيء نعم لو مثل بأن يقال مثلا : قال زيد قولا قال «يهزم الجند وحده» لكان واضحا فتأمله (أو) ككونه (لطيفا) أى : ظريفا مستحسنا فيقتضى ذلك الاعتناء به ؛ لإدخال ما يستطرف فى أذهان السامعين حيث يقتضى المقام بسطهم ، كقولك لغائص يريد الغناء «غوص وغناء» كيف سرنى ونقر مزمار؟ ولا تخفى لطافته وتأويل البدل والمبدل منه حتى يكونا جملتين ثانيتهما بدل من الأولى ـ أن يقدر الكلام جمعت بين متنافيين : جمعت بين كيف سرنى ، ونقر من مزمار» فافهم.

ثم مثل لأحد القسمين اللذين اقتصر عليهما وهو بدل البعض فقال (نحو) قوله تعالى حكاية عن قول نبى الله هود على نبينا وعليه الصلاة والسّلام لقومه : (وَاتَّقُوا الَّذِي (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ)(١) فإن المراد) من هذا الخطاب (التنبيه على نعم الله تعالى) والمقام يقتضى اعتناء واهتماما بشأن ذلك التنبيه لكونه مطلوبا فى نفسه ؛ لأنه تذكير للنعم لتشكر ، وهو ذريعة لغيره كالإيمان والعمل بالطاعة (والثانى) يعنى قوله : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) (أوفى بتأديته) أى : بتأدية المراد الذى هو التنبيه على النعم ، وإنما كان الثانى أوفى (لدلالته عليها) أى : على تلك النعم (بالتفصيل) حيث سميت بنوعها (من غير إحالة) أى : من غير أن يحال تفصيلها (على علم المخاطبين المعاندين) لكفرهم إذ ربما نسبوا تلك النعم إلى قدرهم جهلا منهم ، وإنما ينسبون نعما أخرى مثلا إليه تعالى كالإحياء والتصوير (فوزانه) أى : فمرتبة قوله : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) إلخ بالنسبة لقوله : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) (وزان) أى : مرتبة قولك (وجهه) بالنسبة لزيد (فى) قولك (أعجبنى زيد وجهه) وإنما كان وزانه مع ما قبله كوزان وجهه مع زيد ؛ لأن الوجه من زيد بعضه فكان أمدكم بأنعام وبنين مع أمدكم بما تعلمون كالوجه من زيد (لدخول الثانى) يعنى مضمون (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) إلخ (فى الأول) يعنى (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ ؛) لأن قوله : (بِما تَعْلَمُونَ) يشمل الأنعام والبنين ، وجنات وعيون ، وغير ذلك من العز والراحة وسلامة الأعضاء والبدن ومنافعها ، وههنا شيء

__________________

(١) الشعراء : ١٣٢ ، ١٣٣.

٥٥٠

لا بد من التنبيه عليه ، وهو أن قوله (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ* وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)(١) إن كان هو المراد فقط من الجملة الأولى ، كانت الثانية بدل بعض ، ولكن يفوت التنبيه على جميع النعم المعلومة لهم وإن أريد ما هو أعم لم تكن الثانية بدل بعض ، بل من ذكر العام بعد الخاص ، فلا تكون أوفى لأن الأولى أوفى من جهة إفادة العموم والثانية أوفى من جهة التفصيل تأمل ثم مثل للقسم الثانى من هذين وهو ما تكون فيه الجملة الثانية بدل اشتمال فقال (نحو قوله :

أقول له ارحل لا تقيمن عندنا

وإلا فكن فى السر والجهر مسلما) (٢)

أى : أقول له حيث لم يكن ظاهرك وباطنك سالما من ملابسة ما لا ينبغى فى شأننا ، فارحل عنا ولا تقم فى حضرتنا ، فلم يعطف «لا تقيمن» على جملة «ارحل» ؛ لأن لا تقيمن بالنسبة إلى ارحل بدل اشتمال وإلى بيان ذلك أشار بقوله (فإن المراد به) أى : بقوله : ارحل (كمال إظهار) كمال (الكراهة لإقامته) أى : لإقامة المتحدث عنه لديهم ، ومعلوم أنه ليس المراد أن ارحل موضوع لكمال إظهار كمال الكراهة ، وإنما وضع لطلب الرحيل ، لكن لما كان طلب الشيء عرفا يقتضى غالبا محبته ، ومحبة الشيء تستلزم كراهة ضده وهو الإقامة هنا فهم منه كراهة الإقامة ، والدليل على أن الأمر أجرى على مقتضى هذا الغالب ، ولم يرد به مجرد الطلب الصادق بعدم كراهة الضد قوله «وإلا فكن فى السر الخ» فإنه يدل على كراهة إقامته لسوئه ، لا لأنه مأمور بالرحيل مع عدم المبالاة بإقامته وعدم كراهتها ، بل لمصلحة له فيه مثلا ، ولما كانت هذه الكراهة قد يفيدها غير اللفظ من الإيماء والإشارة والحال كان إفادتها باللفظ وافيا (و) لكن قوله (لا تقيمن أوفى) منه (بتأديته) أى : تأدية كمال إظهار كمال الكراهة ، وإنما كان لا تقيمن أوفى (لدلالته عليه) أى : على كمال إظهار كمال الكراهة (بالمطابقة) القصدية العرفية (مع) ما فيه من (التأكيد) بالنون ، وإنما زدنا القصدية العرفية لما أشرنا إليه فى

__________________

(١) الشعراء : ١٣٣ ، ١٣٤.

(٢) البيت بلا نسبة في الإشارات للجرجاني ص (١٣٢) ، وكذا خزانة الأدب (٥ / ٢٠٧ ، ٨ / ٤٦٣) ، ومجالس ثعلب ص (٩٦) ، ومعاهد التنصيص (١ / ٢٧٨) ، وعقود الجمان ص (١٨٧).

٥٥١

قوله «ارحل» من أنه لم يوضع لذلك ، وكذا لا تقيمن ، وإنما وضع للنهى عن الإقامة لكن يكون مع قصد الكراهة دائما باعتبار الاستعمال العرفى ، ويدل على الكمال فى الكراهة التأكيد بالنون فإنك إنما تقول : لا تقيمن عندى إذا أردت ارتحاله ، وبعده على وجه الكراهية الشديدة ، لا على وجه مطلق النهى الصادق بعدم المبالاة بالإقامة.

والحاصل أن الغرض من قوله «ارحل ولا تقيمن» إظهار الكراهية على وجه الكمال لا مطلق كفه عن الإقامة الصادق بعدم الكراهية ، بل الكراهية هى المقصودة بالذات سواء وجد معها ارتحال ، أو لم يوجد لعارض ، كما إذا منع منها مانع ، والدليل على ذلك فى ارحل الاستعمال الغالب مع قوله «وإلا فكن إلخ» وفى «لا تقيمن» الاستعمال العرفى دائما مع زيادة نون التوكيد وقوله وإلا فكن إلخ ، ولما كانت دلالة لا تقيمن على هذا المقصود أوفى لما ذكر وهو مع ذلك ليس بعض مدلول ارحل ولا نفسه ، بل هو ملابسه للملازمة بينهما صار بدل اشتمال منه (فوزانه) أى : فمرتبة لا تقيمن مع قوله ارحل (وزان) أى : مرتبة (حسنها) مع الدار (فى) قولك : أعجبتنى الدار حسنها وإنما قلنا : وزانه وزان حسنها (لأن عدم الإقامة) الذى هو مطلوب بلا تقيمن (مغاير) كما ذكرنا (للارتحال) الذى هو مطلوب بقوله : ارحل فلا يكون تأكيدا لفظيا ولكن هذا لا يخرج التأكيد المعنوى وإنما الذى يخرج به عنه كون الثانى أوفى كما أشرنا إليه ؛ لأن التأكيد المعنوى لدفع توهم التجوز ، لا لمجرد الإفادة على وجه يكون فيه المفيد أوفى (و) هو أيضا (غير داخل فيه) فلا يكون بدل بعض وهو ظاهر ، بناء على أن الأمر بالشيء لا يتضمن النهى عن الضد ، وهو الأقرب وإلا ففيه بحث.

(مع ما بينهما) أى : بين مدلول الثانية والأولى ، من عدم الإقامة والارتحال (من الملابسة) اللزومية ، كما أشرنا إليه فيما تقدم أيضا ، فكان بدل اشتمال ، وقد علم مما أشرنا إليه من أن قوله : «ارحل ولا تقيمنّ» لا يدل كل منهما على كمال إظهار كمال الكراهية ؛ بالوضع أن محل الوفاء وعدمه ، هنا هو ما يقصد من الجملة عرفا لا مدلولها ، ولو كان تسميتها بالبدل الاشتمالى ، باعتبار أن مدلولها ليس بعضا ولا كلا ، كما قرر المصنف ، وقد تقدم وجه عدم اعتباره البدل الكلى فى الجمل التى لا محل لها من

٥٥٢

الإعراب ، وأن ذلك لكونه لا يحصل التمايز بينه وبين التأكيد ، ـ أعنى الجملة التى مفهومها مخالف لمفهوم الأولى ـ وقد اتحد مصدوقها إلا بقصد نقل الحكم إلى مضمون الثانية. ولا يتحقق ذلك فى الجملة التى لا محل لها من الإعراب وتقدم أن بعضهم نزل استئناف حكمها منزلة النقل ، فجوّز وروده وإنما قلنا أعنى الجملة إلخ لأنّ متحدى المفهوم لا تتصور بينهما البدلية أصلا ، إذ من شرطه اختلاف المفهوم ، لا يقال قوله : ارحل لا تقيمن محكيان بالقول ، فليسا مما لا محل لهما ، لأنا نقول : إن الكلام باعتبار الحالة المحكية عنهما ، وهما فى تلك الحالة لا محل لهما ـ كما تقدم فى أرسو نزاولها ـ ، وفهم من قوله (أوفى) أنّ الأولى فى القسمين ـ أعنى بدل البعض وبدل الاشتمال ـ وافية أيضا لكن الثانية أوفى. أما القسم الأولى فظاهر ؛ لأن الأولى دلت على المذكور بالعموم أيضا ؛ وإنما فاتتها الثانية بالخصوص وأما فى القسم الثانى فلما أشرنا إليه من أن إفهام الكراهية يكون بغير اللفظ ، فإفادة ذلك باللفظ واف لكن الثانية ، وهى لا تقيمنّ أوفى وهذا يقتضى أن المصنف لم يمثل لغير الوافية ، والأولى حمل الكلام على ما قررنا أولا ، من أن غير الوافية هى التى أعقبت ببدل البعض والاشتمال ؛ لأنه لا يفهم المراد إلا بالبدل ، إذ لا إشعار للأعم بالأخص ، ولا للمجمل بالمبين ، وأن التى هى كغير الوافية هى التى أتبعت ببدل الكل بناء على اعتباره فى الجمل ؛ لأن مدلول الأولى هو مدلول الثانية مصدوقا ولو اختلف المفهوم ؛ وذلك لأن المصدوق أكثر رعاية من المفهوم ، وعليه يكون قوله : أوفى تفصيلا باعتبار مطلق المشاركة لا باعتبار الوفاء المقصود فى الحالة الراهنة. وإنما قلنا : حمل الكلام على هذا أولى ؛ لأن غير الوافية هى التى صدر بها فيصرف التمثيل لها وتكون التى هى كغير الوافية كالمستطردة باعتبار ما لم يذكره هو وذكره الغير. وأيضا لو كان التفصيل عاما لبدل البعض والاشتمال على أن التمثيل ليس لغير الوافية ؛ بل للوافية لاقتضى أن بدل الاشتمال والبعض فيهما ما الأولى فيه لا وفاء فيها أصلا ولا يكاد يوجد فى بدل الاشتمال والبعض ما هو غير الوافية أصلا ؛ لأن الوفاء بالعموم والإجمال لازم لهما تأمل.

٥٥٣

ثم قد علم مما تقدم أن وجه منع العطف فى التأكيد ؛ كون التأكيد مع المؤكّد كالشيء الواحد وبمثله علل المنع فى بدل البعض والاشتمال ، والأولى كما قيل : إن المنع فيهما لكون المبدل منه فى نية الطرح عن القصد الذاتى ، فصار لو عطفت عليه على ما لم يذكر.

وأما التعليل بالاتحاد فلا يتم مع كون المبدل منه كالمعدوم إذ لا يتحد ما هو بمنزلة المعدوم بالموجود ، مع أن البعض من حيث هو والمشتمل عليه من حيث هو لا اتحاد بينه وبين ما قبله ، ولكن على هذا لا يكون هناك ما يحقق بينهما كمال الاتصال كما هو فرض المسألة تأمل.

(أو) لكون الثانية (بيانا لها) ـ أى : للأولى ـ فهو معطوف على قوله مؤكدة أى : ومن جملة ما يوجد فيه كمال الاتصال أن تكون الثانية بيانا للأولى (لخفائها) ـ أى : لخفاء تلك الأولى ـ من غير أن يقصد استئناف الإخبار بنسبتها كما فى المبدل وإنما المقصود بيان الأولى لما فيها من الخفاء وذلك (نحو) قوله تعالى ((فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ)) ضمن وسوس معنى ألقى ، فعدى بإلى فكأنه قيل : فألقى إليه ((الشَّيْطانُ)) وسوسة فهذه جملة فيها خفاء ؛ إذ لم تتبين تلك الوسوسة فبينت بقوله : ((قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى)) ومعلوم أنه لو اقتصر على قال ليكون بيانا فى المفردات لم يتم ؛ وإنما تم البيان بذكر الفاعل ومتعلقات الفعل ، كما لا يخفى (فإن) أى : إنما كان قوله : (قالَ يا آدَمُ) بيانا لقوله : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) لأن (وزانه) أى : مرتبته مع ما قبله (وزان عمر) مع أبو حفص (فى قوله :

أقسم بالله أبو حفص عمر) (١)

ما مسها من نقب ولا دبر

والنقب ضعف أسفل الخف فى الإبل والحافر فى غيرها من خشونة الأرض والدبر معلوم ، ولما كان لفظ أبو حفص كناية يقع فيها الاشتراك كثيرا ، احتيج إلى بيان مدلوله باللفظ المشهور وهو عمر وكذلك وسوسة الشيطان بينت بالجملة بعدها مع متعلقاتها لخفائها.

__________________

(١) البيت لأعرابي كما في عقود الجمان ص (١٧٩).

٥٥٤

هذا تمام ما ذكر من التوابع فى كمال الاتصال ، وقد تقدم وجه إلغاء النعت والبدل الكلى ، وبعضهم اعتبر الكلى فى كمال الاتصال ، ويرد على ما قرر فى البيان أن الوجه الذى ألغى به النعت أن تم منع به عطف البيان ، لصحة الحكم به على المبين ، وأن الوجه الذى به صح البدل يصح لمثله عطف البيان لأنه كما قيل : إن الفرق بينه وبين التأكيد حاصل ، بقصد الاستئناف فصح البدل يقال : إن الفرق بين التأكيد وبين عطف البيان ، يحصل بقصد بيان الأولى فصح عطف البيان فيتحقق بذلك التعارض بين علة الجواز والمنع ، فى عطف البيان فتأمل.

ثم إن ظاهر أول كلام المصنف فى كل مما ذكر من التوابع أن الجملة الثانية هى من جنس ذلك التابع ، حقيقة ، وظاهر قوله فى كل منها فوزانه وزان كذا أنها ليست تابعا حقيقة ، بل ما يفيد منها ما يفيد ذلك التابع من جهة القصد ، يلحق بذلك التابع فى عدم صحة العطف وهو الأقرب ؛ وذلك لأن التابع اصطلاحا يستدعى إعرابا تقع فيه التبعية ، مع أن بعض تلك التوابع مخصوص بألفاظ معلومة وقد أشرنا إلى هذا فيما تقدم فى التأكيد.

الفصل لشبه كمال الانقطاع

(وأما كونها) أى : كون الجملة الثانية (كالمنقطعة عنها) أى : عن الجملة الأولى فيجب فصلها عنها ، كما يجب الفصل بين كاملتى الانقطاع ، (ف) يحصل ذلك (لكون عطفها) أى : عطف الثانية (عليها) أى : على الجملة الأولى (موهما لعطفها) أى : موقعا فى وهم السامع أنها معطوفة (على غيرها) مما لا يصح لعدم قصد العطف عليه ، لإيجابه الخلل فى المعنى ، ـ كما سيتضح فى المثال ـ ولما كان إيهام العطف على غير المقصود مانعا من العطف ، ونفى الجامع ، وكذا كون إحداهما إنشاء والأخرى خبرا مانعا من العطف أيضا وقد تقدم أن الجملتين اللتين لا جامع بينهما ، أو بينهما الاختلاف فى الخبرية والإنشائية بينهما كمال الانقطاع صارت الجملتان اللتان بينهما مانع الإيهام شبيهتين باللتين بينهما كمال الانقطاع ، فى وجود المانع فى كل من الفريقين ولم تجعل اللتان بينهما مانع الإيهام مما بينهما كمال الانقطاع مع مشاركتهما لهما فى وجود

٥٥٥

المانع ؛ لأن مانع الإيهام عارض يمكن دفعه بالقرينة بخلاف ما بينهما كمال الانقطاع. فالمانع فيهما ذاتى لا يمكن دفعه ، (ويسمى الفصل) أى : ترك العطف (ل) أجل (ذلك قطعا) إما من تخصيص الخاص باسم العام اصطلاحا ؛ لأن كل فصل قطع ، وإما لأن فيه قطع توهم خلاف المراد (مثاله) أى : مثال الفصل لدفع الإيهام المسمى بالقطع (قوله :

وتظن سلمى أننى أبغى بها

بدلا أراها فى الضلال تهيم) (١)

فإن جملة «أراها» حاصل معناها «أظنها» فهى مع جملة «تظن سلمى» متحدتا المسندين. والمسند إليه فى الأولى محبوب ، وفى الثانية محب ، وذلك شبه التضايف ، فبين الجملتين مناسبة باعتبار المسندين والمسند إليهما معا لكن منع من العطف إيهام عطف خلاف المراد ، إذ لو عطفت لتوهم أنها معطوفة على قوله أبغى ، فيكون المعنى أن سلمى تظننى موصوفا بوصفين : أحدهما : أنى أبغى بها بدلا ، والآخر : أنى أظنها تهيم فى أودية الضلال ، فيفوت الإخبار بأنها أخطأت فى ظنها أنى أبغى بها بدلا ، وذلك أن الشاعر قصر حبه عليها فأراد أن يخبر جزما بأنها تهيم فى أودية الضلال فى هذا الظن ، لا أن يخبر بظنها أنه موصوف بالوصفين.

ففى العطف إيهام الخلل فى المعنى لكن المناسب على هذا أن يحمل أرى على معنى أتيقن ، فلا يكون نفس الظن الكائن فى الجملة الأولى ، فلا يتحد المسندان والجواب أن اليقين أخص من الظن فالاتحاد لازم لاشتمال الأول على مطلق الرجحان الكائن فى الثانى مع زيادة ، ولم يعتبر ما فى القطع من إيهام الخبرية فى جملة : «أراها» أو التأكيد وشبه ذلك مما يحتمل أن يحتمل لها فى المقام ؛ لأن أصل الجملة الاستئناف ، فتحمل عليه إلا لدليل قوى ، ولم يوجد بخلاف العطف ، فلا بد من معطوف عليه ، والمتبادر أنه هو الأقرب الذى هو جملة أبغى فتقوى الإيهام فيه دون الفصل ، ثم المناسبة المثبتة ههنا خلاف المناسبة المثبتة فى باب الوصل ، فلا يرد أن يقال الفصل لا تكون فيه مناسبة ؛ لأنا نقول : المناسبة التى لا تكون فيه هو المصححة للعطف بخلاف التى معها الإيهام المنافى

__________________

(١) البيت لأبي تمام أورده محمد بن علي الجرجانى فى الإشارات ص (١٢٩) ، غير منسوب ، والمفتاح ص (٢٦١) ، ومعاهد التنصيص (١ / ٢٧٩) ، والمصباح ص (٥٨) ، وعقود الجمان ص (١٨١).

٥٥٦

للعطف ، فيصح وجودها مع منع العطف ، كما في المثال وكما في قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) لم يعطف على مجموع جملة الشرط والجواب التي هي قوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) لئلا يتوهم أنه معطوف على جملة قالوا أو جملة «إنا معكم» فيفيد الأول الاختصاص بحال الخلوة ، والثانى كونه مقول الكفرة وكل ذلك غير صحيح وليس المانع من العطف فيه كون الأولى جملة الشرط ولا يصح عطفها ، ولا العطف عليها ولا المانع انتفاء الجامع وذلك لصحة العطف على جملة الشرط والجزاء معا كقوله تعالى (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(١) فقوله (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) معطوف على مجموع الشرط ، والجزاء لا على الجواب ، إذ لا معنى لقولنا : «إذا جاء أجلهم لا يستقدمون» وصحة العطف فى قوله تعالى (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ)(٢) ولوجود الجامع فإن الاستهزاء فى الثانية موافق فى المعنى لقولهم فى خلوانهم إذ قولهم ذلك استهزاء واستخفاف بحق المؤمنين بالله تعالى ، والاستهزاء بالمؤمن بالله تعالى استهزاء بجانبه تعالى فى نفس الأمر فالاستخفاف فى الجملة مشترك بين الجملتين ، والمسند إليهما بينهما مناسبة العداوة التى هى كالتضايف ، وهذا يقتضى أن الجامع إنما يعتبر بين جملتى الجواب والمعطوف ، وهذا هو الموافق لجعل جملة الشرط فضلة كسائر الفضلات فلا يعتبر لها جامع ، لكن هنا شيء لا بد من التنبيه عليه وهو أن الجامع إذا لم يعتبر إلا بين الجواب والجملة المعطوفة فقد آل الأمر إلى أن العطف إنما هو على الجواب ، فيعود المحذور وقد يجاب بأن العطف على الجواب إنما هو مع إدراج الشرط ، وجعله كالجزء من الجواب لا أنا عطفنا على الجواب من حيث إنه جواب الشرط ، إذ يقتضى ذلك تقدير الشرط للمعطوف فيتحقق المحذور ، ويرد حينئذ أن يقال : إذا جعل الشرط مدرجا فى جملة المعطوف عليه وهو الجواب حتى كأنه فضلة من الفضلات المعدودة فى حيزه عاد تقديمه مفيدا لتقييد المعطوف به كما تقدم ، فيعود المحذور والجواب أنه كذلك لكن قد ينتفى

__________________

(١) الأعراف : ٣٤.

(٢) الأنعام : ٨.

٥٥٧

التقييد لمانع واضح كما فى قوله تعالى (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) فحيث لم يتضح المانع منع للإيهام كما فى قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) فافهم ثم أشار إلى وجه آخر مانع من العطف فى قوله : أراها فى الضلال تهيم بقوله (ويحتمل الاستئناف) يعنى أن قوله : «أراها» يحتمل أن يكون غير استئناف بأن يقصد الإخبار بها كما قبله من غير تقدير سؤال يكون جوابا عنه ، فيكون المانع من العطف هو الإيهام السابق ، ويحتمل أن يكون استئنافا بأن يقدر سؤال يكون هو جوابا عنه ، فكأنه قيل : وكيف تراها فى ذلك الظن ، فقال : أراها مخطئة تتحير فى أودية الضلال والغلط ، فيكون المانع كون الجملة كالمتصلة بما قبلها لاقتضائه السؤال أو تنزيله منزلة السؤال.

والجواب ينفصل عن السؤال لما بينهما من الاتصال ، كما أشار إلى تحقيق ما هى كالمتصلة لأجل ذلك بقوله :

الفصل لشبه كمال الاتصال

(وأما كونها) أى : كون الجملة الثانية (كالمتصلة بها) أى : بالجملة الأولى (ف) يتحقق (لكونها) أى : الجملة الثانية (جوابا لسؤال اقتضته) الجملة (الأولى) لكونها مجملة فى نفسها ، باعتبار الصحة ، كما فى المثال السابق لأنّ الظنّ يحتمل الصحة وعدمها أو مجملة السبب أو غير ذلك مما يقتضى السؤال كما يأتى ، وإذا كانت الأولى تقتضى السؤال (ف) هى (تنزل منزلته) أى : منزلة السؤال لأنّ السبب يتنزل منزلة المسبب لكونه ملزوما له ومقتضيا له (فتفصل) الثانية حينئذ (عنها) أى : عن تلك الأولى ، المقتضية للسؤال المقتضى للجواب الذى هو الثانية ، وفصلها عنها حينئذ (كما يفصل) أى : كفصل (الجواب عن السؤال) لما بينهما من الاتصال والربط الذاتى المنافى للعطف المقتضى للحاجة إلى العاطف وبعضهم يجعل منع العطف بين الجواب والسؤال لما بينهما من كمال الانقطاع ، إذ السؤال إنشاء والجواب إخبار وقد ورد على منع العطف على الجملة التى هى كالسؤال قوله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ)(١) بعد قوله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) إلخ إذ هو فى تقدير : ولم استغفر

__________________

(١) التوبة : ١١٣ : ١١٤.

٥٥٨

إبراهيم لأبيه وقد عطف الجواب بعد تقديره؟ وأجيب بأن الواو للاستئناف لا للعطف وبغير ذلك تأمله وحاصل ما ذكر المصنف أن الموجب للفصل بين الجملتين تنزيل الأولى بمنزلة السؤال ، فتعطى بالنسبة إلى الثانية حكم السؤال بالنسبة إلى الجواب الذى هو تلك الثانية فى منع العطف وعلى هذا لا مدخل للسؤال فى المنع فى الحالة الراهنة ، ولو كان هو الأصل فى المنع وقال (السكاكى) ف (ينزل ذلك) السؤال المقتضى للأولى ويفهم بالفحوى أى : قوة الكلام باعتبار قرائن الحال (منزلة) السؤال (الواقع) بالصراحة ، ويجعل الكلام الثانى جوابا عن ذلك السؤال ، فحينئذ يقطع عن الكلام الأول إذ لا يعطف جواب سؤال على كلام آخر وهذا يقتضى أن موجب المنع كونه جوابا لسؤال مقدر وقد تقدم ما يقتضى أن الموجب هو تنزيل الأولى منزلة السؤال ، ويمكن أن يجعل الكلام على معنى أن السؤال يقدر كالواقع للنكت المذكورة بعد ، وأما الفصل فلتنزيل الأولى منزلة السؤال ، وإن كان كلاهما يصلح سببا للقطع ، وتنزيل السؤال المقدر منزلة الواقع ليقع هذا الكلام جوابا له يكون (لنكتة) هى (كإغناء السامع عن أن يسأل) ، تعظيما له ، أو شفقة عليه (أو) هى كإرادة (أن لا يسمع منه) أى من ذلك السامع (شيء) من الكلام تحقيرا له وكراهية لكلامه ، أو كأن لا يقطع كلامك بكلامه فيفوت انتساق الكلام المراد أن لا ينسى منه شيء ، أو لئلا يكون مكافئا لك فى المحاورة بل حسبه السماع ، وهذا من معنى التحقير ، بل هو أعم لصحته بدون التحقير كما بين الوالد والولد لقصد تأدبه لا لتحقيره ، أو كان يقصد تكثير المعنى مع قلة اللفظ بسبب ترك العاطف وتقدير السؤال ، وغير ذلك مثل التنبيه على فطانة السامع ، وأن المقدر عنده كالمذكور أو بلادته وأن الجواب لا يفهمه إلا بالصراحة مثلا ثم إن ما ذكر المصنف من تنزيل الأولى منزلة السؤال ليس فى كلام السكاكى ، وكأن المصنف رأى أن قطع الثانية عن الأولى لما كان كقطع الجواب عن السؤال لزم كون الأولى منزلة بمنزلة السؤال ؛ لأن إلحاق القطع بالقطع يقتضى إلحاق المقطوع عنه ، الذى هو الأولى بالمقطوع عنه ، الذى هو السؤال وإلا كان القطع لا من جهة الاتصال المنسوب للجواب والسؤال بل من جهة أخرى وفيه بحث ؛ لأن

٥٥٩

تشبيه القطع بالقطع لا يقتضى تشبيه المقطوع عنه بالمقطوع عنه ، لصحة كون القطع من وجود ربط يشبه ذلك الربط ، مع كون المقطوع عنه فى أحد الربطين سببا ، والآخر سبب السبب مثلا ، ولا ينزل أحدهما منزلة الآخر إلا في مجرد الربط وهو مستشعر من تشبيه القطع بالقطع من غير حاجة لتشبيه أحد المقطوع عنهما بالآخر ، ولهذا يصح هنا أن يجعل كون الجملة الأولى منشأ السؤال الذى هو سبب الجواب كافيا فى القطع ؛ لأنها سبب السبب من غير حاجة لزيادة تنزيلها منزلة السؤال وتشبيهها به ، كما أشار إليه صاحب الكشاف حيث جعل الاستئناف كالجارى على المستأنف عنه ، وكالمتصل به ولهذا لا يصح عطفه عليه لما بينه وبينه من الاتصال ولو كان على تقدير السؤال إذ لو نزل المستأنف عنه بمنزلة السؤال لم يصلح كون الجواب كالجارى عليه إذ لا يجرى الجواب على السؤال على أنه وصف له ، فقد اكتفى بمجرد الربط الحاصل بالنشأة ، ولم يعتبر تشبيهه بالسؤال ولا تشبيه الاستئناف بالجواب لا يقال الاكتفاء بمجرد كونه منشأ السؤال ، فصار سبب السبب ينافيه جعل السؤال كالمذكور على ما قال السكاكى ؛ لأنا نقول : تقدم أن جعل السؤال كالمذكور ليس للقطع بل لنكت أخرى تقدمت ولك أن تقول تنزيل الأولى منزلة السؤال للقطع ، أو كونها منشأ للسؤال للقطع ، أو تقدير السؤال كالمذكور للقطع مآلها واحد. والاختلاف فى الاعتبار والتعبير والتلازم حاصل فى الكل فأى فائدة لهذا الاختلاف تأمل فى هذا المقام.

(ويسمى الفصل) أى : ترك العطف (لذلك) ، أى : لأجل كون الجملة التى لم تعطف جوابا لسؤال اقتضته الأولى (استئنافا) تسمية للازم باسم الملزوم ؛ لأن الاستئناف الذى هو الإتيان بكلام مستقل فى جميع أجزاء تركيبه عما قبله يستلزم قطعه أى : ترك عطفه على ما قبله (وكذا) تسمى تلك الجملة (الثانية) نفسها استئنافا تسمية للشيء باسم ما يتعلق به ؛ لأن الجملة لابسها الاستئناف وتعلق بها ، ولذلك يقال فيها : مستأنفة أيضا.

٥٦٠