مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-3820-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٦٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

تصغير إروادا مصدر أرود بمعنى ، أمهل تصغير ترخيم استعمل اسم فعل بمعنى أمهل. (موضوعة) خبر قوله والأظهر أى : الأظهر أن الصيغة المذكورة بأنواعها موضوعة

استعمال الأمر للاستعلاء

(لطلب الفعل استعلاء) وقد تقدم أن المراد بالاستعلاء هنا طلب العلو ، بمعنى عد الآمر نفسه عاليا ، بإظهار الغلظة سواء كان عاليا فى نفسه أم لا ، واعلم أنك إن دققت النظر فى قولهم ـ مثلا ـ صيغة الأمر موضوعة لتدل على طلب الفعل ، وجدته لا يخلو عن بحث ؛ لأنه إن أريد بالطلب الكلام النفسى كان لهذه الصيغة الإنشائية حينئذ معنى خارجى ، فتكون خبرا ، وإن أريد به الطلب اللفظى فهو نفس الصيغة ـ تأمل.

وإنما كان الأظهر أن الصيغة موضوعة للطلب المذكور (لتبادر الفهم عند سماعها) أى : سماع تلك الصيغة (إلى) فهم (ذلك) الطلب وهو الطلب على وجه الاستعلاء ، وقد تقرر أن تبادر المعنى من اللفظ إلى الفهم من أقوى أمارات كون ذلك اللفظ حقيقة فيه ، وهذا الذى استظهره المصنف مخالف لمذهب الجمهور ـ كما تقدم ـ من أنها حقيقة فى الوجوب ، ثم التبادر المذكور يرد عليه أن المجاز الراجح يتبادر معناه من اللفظ ، ولا يدل ذلك التبادر على كونه حقيقة ؛ لأن التبادر أصله كثرة الاستعمال ، ويجاب بأن التبادر فى المجازات افتقر فيه إلى قرينة مصاحبة ، فلا إيراد ؛ لأن التبادر فى الحقيقة لا يفتقر إلى القرينة ، وإن لم يفتقر فيه إلى ذلك فهو حقيقة عرفية ، وههنا بحث ، وهو أن التبادر من غير معرفة الوضع محال ، فإذا عرف الوضع عرفت الحقيقة من المجاز ؛ لأن الأول بلا قرينة ، والثانى بمصاحبتها ، فلا يستدل بالتبادر على الحقيقة ؛ لأن معرفتها سابقة على التبادر ، وقد يجاب بأن السابق على التبادر مطلق معرفة الوضع لا الوضع الذى يتضمن الفرق بين الحقيقة والمجاز ، ولا نسلم أن مطلق معرفة الوضع يدل على الحقيقة ، لصحة أن يدرك أن هذا اللفظ موضوع لكذا ، ولو لم يعلم كون الوضع بالقرينة أو لا فالتبادر بكثرة الاستعمال يدل أن هذا الوضع مثلا حقيقة دون ذلك ـ تأمله.

٥٠١

استعمال الأمر للإباحة

(وقد تستعمل) صيغة الأمر (لغيره) أى : لغير طلب الفعل استعلاء الذى تقدم أن الأظهر كونها حقيقة فيه ، فيلزم عليه أن تكون مجازا فى ذلك الغير (كالإباحة) وذلك (نحو) قولك (جالس الحسن أو ابن سيرين) بمعنى أنه يباح لك أن تجالس أحدهما ، أو كليهما ، وأن لا تجالس أحدهما ، وتفارق الإباحة التخيير الذى له نحو هذا التركيب بأن لا يجوز الجمع بين الآمرين فى التخيير دون الإباحة ، وظاهره أن مفيد الإباحة هو الصيغة لا أو وأو كأنه على هذا قرينة ، وعند النحويين أن مفيد الإباحة أو ، والتحقيق أن المستفاد من الصيغة مطلق الإذن ، والمستفاد من أو الإذن فى أحد الشيئين مثلا ، وما وراء ذلك من جواز الجمع بينهما ، وتركهما ، فبالقرائن ـ تأمله.

والعلاقة بين الطلب والإباحة الموجبة لاستعمال لفظه فيها مطلق الإذن العام ، فهو من استعمال الأخص فى الأعم مجازا مرسلا ، وهذه العلاقة ولو كانت عامة يتقوى اعتبارها فى المباح بالقرائن

استعمال الأمر للتهديد

(و) ك (التهديد) أى : التخويف بمصاحبة وعيد مبين أو مجمل (نحو) قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)(١) أى : فسترون جزاءه أمامكم فهو يتضمن وعيدا مجملا وإنما كان تهديدا للعلم بأنه ليس المراد أمرهم أن يفعلوا ما شاءوا ، وقرائن الأحوال تدل على أن المراد الوعيد لا الإهمال ، والتهديد مع الوعيد المبين كأن يقول السيد لعبده : دم على عصيانك فالعصا أمامك ، ثم التهديد أعم من الإنذار ؛ لأن الإنذار لا يخلو من اعتبار زيادة على التخويف ؛ لأنه إما تخويف مع إبلاغ كما قيل فى نحو قوله تعالى (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ)(٢) فصيغة تمتعوا مع ما بعدها تخويف بأمر مع إبلاغه ، وإما تخويف مع دعوة لما ينجى من المخوف ، وهو قريب من الأول ، ويشترط فى الدعوة أن تكون نصا ؛ لأن كل تخويف مبلغ قبل وقوع المخوف يتضمن الدعوة للتهيؤ لما ينجى

__________________

(١) فصلت : ٤٠.

(٢) إبراهيم : ٣٠.

٥٠٢

منه ، ثم إن شرط فى المنذر أن يكون مرسلا ، فالفرق بينه وبين التهديد واضح ، وهو ظاهر قولهم الإنذار تخويف مع إبلاغ ، وإن لم يشترط ، وهو المتبادر ؛ لأنه يقال لمن أعلم قوما بأن جيشا يصحبهم أنه أنذرهم ، ولو لم يرسل بذلك ، فالظاهر أن يقال فى الفرق تخويف المتكلم بما يكون من قبله تهديد وبما يكون مطلقا إنذار ، ولكن على هذا يكون الإنذار أعم ـ تأمل ـ فى هذا المقام ، والعلاقة بين الطلب والتهديد ما بينهما من نسبة التضاد ، ولهذا يقال التهديد لا يصدق إلا مع المحرم والمكروه.

استعمال الأمر للتعجيز

(و) ك (التعجيز) أى : إظهار العجز نحو قولك لمن يتوهم أن فى وسعه أن يفعل فعلا ما : افعله أى : فإنك لا تستطيع (نحو) قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(١) إذ ليس المراد به أمرهم حقيقة على وجه التكليف بالإتيان بسورة من مثله ، وإنما المراد إظهار عجزهم عن الإتيان ؛ لأنهم إذا حاولوا بعد سماع الصيغة ذلك الإتيان ، ولم يمكنهم ، ظهر عجزهم ، ولا يقال لم لا يكون من التكليف ، وغايته أن يكون من التكليف بالمحال ؛ لاستحالة وجود الإتيان من المثل ، والتكليف بالمحال جائز أو واقع ؛ لأنا نقول القرائن هنا تعين إرادة التعجيز لإقامة الحجة عليهم فى ترك الإيمان ، والعلاقة بين الطلب والتعجيز ما بينهما من شبه التضاد فى متعلقهما ، فإن التعجيز فى المستحيلات ، والطلب فى الممكنات ثم المجرور أعنى من مثله يحتمل أن يتعلق بالفعل الذى هو فأتوا ، ويتعين حينئذ أن يعود الضمير فيه لعبدنا ، فيكون المعنى فأتوا ممن هو مثل عبدنا فى كونه أميا لا يكتب بسورة مما يأتى به عبدنا ، وهذا يقتضى وجود مثل عبدنا فى كونه أميا لا يكتب ، وهو صحيح ، ولا يصح أن يعود الضمير على هذا لما نزلنا ؛ لأنه يلزم أن يكون المعنى فأتوا مما هو مثل ما نزلنا من الكلام البليغ بسورة ، وهذا يقتضى أن يوجد مثل المنزل فى البلاغة ، وهو غير صحيح ؛ لأنه ليس فى طوق البشر ، وإنما قلنا يقتضى وجود مثل المنزل ؛ لأن هذا هو المفهوم من مثل هذا الكلام عرفا فإنك إذا قلت : ائتنى من الحماسة ـ وهى شعر الشجاعة ـ ببيت ، أفاد وجود الحماسة ، وحمله على

__________________

(١) البقرة : ٢٣.

٥٠٣

مثل معنى ائتنى برجل أو جناح من العنقاء على معنى أن العنقاء لم توجد ، فلا يوجد رجلها ، ولا جناحها ، احتمال عقلى لا يرتكب فى تراكيب البلغاء بشهادة الذوق والاستعمال ، فلهذا يتعين أن يكون الضمير على هذا التقدير عائدا لعبدنا لا لما نزلنا ، ولا يخفى أن هذا إنما يتم بناء على أن إعجاز القرآن لكونه خارجا من طوق البشر ، وأما إن بنينا على أنه فى طوقهم ، وصرفوا عنه ، لم يفتقر لهذا ، واعلم أن ما ذكر من اقتضاء ذلك التقدير وجود المثل إنما هو إن حمل على أن المقصود الإتيان بجزء من أجزاء الشيء ، فإن المتبادر حينئذ وجود ذلك الشيء ، وأما إن حمل على معنى طلب الإتيان بفرد من أفراد مدخول من ، فلا يسلم عدم صحته فى تراكيب البلغاء عرفا ، كما يقال : ائتنى من هذا النوع بفرد ، فإنك لا تجده على معنى أنه لا فرد له فإنه صحيح ، فافهم ـ والله أعلم ـ ويحتمل أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة لسورة ، فحينئذ يصح أن يعود الضمير لعبدنا ، أو لما نزلنا ، فيكون المعنى على الأول فأتوا بسورة كائنة من مثل عبدنا فى الأمية وعدم الكتابة ، فيكون من ابتدائية ، وعلى الثانى فأتوا بسورة من وصفها أنها من مثل ما نزلنا ، أى : من جنسه ، وحقيقته ، فتكون من تبعيضية للبيان وهو صحيح ؛ لأن المعجوز عنه حينئذ هو السورة الموصوفة بصفة هى كونها من مثل المنزل ، أو من مثل عبدنا ، ومعلوم أن الذى يفهم من مثل هذا الكلام عند امتناع الإتيان بالمأمور أن الامتناع لعدم المقدرة على الموصوف مع وجوده بوصفه ، كما يقال : ائتنى بثوب ملبوس للأمير ، فملبوس الأمير موجود ، وامتنعت القدرة عليه ، أو لعدم القدرة على الموصوف ؛ لانتفاء وصفه ، فيلزم امتناع الإتيان به بذلك القيد ، كما يقال : ائتنى بثوب فيه أربعون ذراعا ، والفرض أن لا ثوب موصوف بهذا الوصف ، وكلا المعنيين يصحان عرفا ؛ لأن الوصف فى حيز المأمور به فيفهم أن الامتناع لامتناع الوصف أو لامتناع تناول الموصوف ، لعدم القدرة عليه بخلاف ما تقدم ، فيتعين أن يكون لعدم القدرة عليه مع وجوده ، وكلاهما على هذا التقدير فى المثال صحيح بناء على أنه ليس فى الطوق ، فيكون الامتناع لعدم إمكان وجود السورة من مثل عبدنا ، ولكن يراد على هذا بمثل عبدنا مثله فى مطلق البشرية ، أى : من غير شرط الأمية لعجز الكل ، أو بناء على أنه

٥٠٤

للصرفة ، فيكون الامتناع لعدم القدرة على تناول الموصوف ، ولكن على هذا الأخير لا يكون هذا بخلاف ما تقدم فى صحة العموم فى الضمير ، لصحته فيما تقدم بهذا الاعتبار ـ أيضا ـ كما أشرنا إليه آنفا ، والمحكم فى الفرق بين هذا ، وما تقدم ، والذوق والاستعمال.

استعمال الأمر للتسخير

(و) ك (التسخير) أى : التبديل من حالة إلى أخرى فيها مهانة ومذلة وذلك (نحو) قوله تعالى (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(١) أى : صاغرين مطرودين عن ساحة القرب والعز ، ووصف القردة به لتأكيد ما تضمنه معناه ، والفرق بينه وبين التكوين أى : التسخير ، تبديل من حالة إلى أخرى أخس منها ، والتكوين إنشاء من عدم لوجود ، ويوجد استعمال الأمر فيه كقوله تعالى (كُنْ فَيَكُونُ)(٢) والتعبير عن الإيجاد بكن إيماء إلى أنه يكون فى أسرع لحظة ، وأنه طائع لما يراد ، فكأنه إذا أمر ائتمر ، ويحتمل أن يكون التكوين أعم بأن يراد به مطلق التبديل إلى حالة لم تكن ، ويراد بالتسخير ما تقدم.

استعماله للإهانة

(و) ك (الإهانة) وهى إظهار ما فيه تصغير المهان ، وقلة المبالاة به (نحو) قوله تعالى : (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً)(٣) وكذا قوله تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)(٤) وإنما قلنا : إن الأول للتسخير ، والثانى : للإهانة ، لظهور أن ليس المراد أمرهم بكونهم قردة أو حجارة ، إذ ليس ذلك مما يكلف به ، وكذا ليس المراد فى ذق الأمر بالذوق للعذاب ؛ لأن الكافر حال الخطاب بالصيغة فى غصص الذوق ومحنه ، والفرق بين التسخير ، والإهانة اللذين دلت على إرادتهما القرائن فى الأمرين ، أن التسخير يحصل فيه الفعل حال إيجاد الصيغة ، فإن كونهم قردة أى : مسخهم وتبديلهم بحال القردة ، واقع

__________________

(١) البقرة : ٦٥.

(٢) البقرة : ١١٧.

(٣) الإسراء : ٥٠.

(٤) الدخان : ٤٩.

٥٠٥

حال استعمال الصيغة ، والإهانة لا يحصل فيها الفعل أصلا ، لوجوده وقبل ، بل الغرض منه إظهار أن لا محل لهم فى المراعاة ، وتحقيرهم بإظهار قلة المبالاة ، والتحقير قريب من الإهانة ، وقد استعمل فيه الأمر فى قوله تعالى ـ حكاية عن موسى ـ صلّى الله على نبينا وعليه وسلم ـ (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ)(١) أى : أن ما جئتم به من السحر حقير بالنسبة للمعجزة ، وإنما قلنا قريب ؛ لأن كل محتقر فى الاعتقاد أو فى الظاهر فهو مهان فى ذلك الاعتقاد ، أو الظاهر أى : مذلل ، ولو كانت الإهانة بالقول ، أو بالفعل غالبا ، والاحتقار كثيرا ما يقع فى الاعتقاد ، والحاصل أنه إن شرط فى الإهانة وهى التصغير إظهار ذلك قولا أو فعلا ـ كما أشرنا إليه فيما تقدم ـ فهى أخص من مطلق التحقير ، وإن لم يشترط فهما شيء واحد ، والعلاقة بين الأمر والتسخير والإهانة مطلق الإلزام ، فإن الوجوب إلزام المأمور ، والتسخير والإهانة إلزام الذل والهوان ، والصيغة فيهما تحتمل أن تكون إنشاء أى : إظهارا لمعناهما أو إخبارا بالحقارة ، والمذلة ، فكأنه على هذا قيل فيهم هم بحيث يقال فيهم أنهم أذلاء محتقرون ممسوخون ، وكونها للإخبار فى الإهانة أظهر منه فى المسخ ـ فتأمله.

استعمال الأمر للتسوية

(و) ك (التسوية) بين شيئين هما بحيث يتوهم المخاطب أن أحدهما أرجح كقوله تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ)(٢) فإنه ربما يتوهم أن الإنفاق طوعا مقبول دون الإكراه ، فسوى بينهما فى عدم القبول وكذا (نحو) قوله تعالى (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا)(٣) فإنه ربما يتوهم أن الصبر نافع فدفع ذلك بالتسوية بين الصبر وعدمه ، ويمثل بهذا للتسوية فى النهى ، فالصيغة فى المحلين ليس المراد بها الأمر بالإنفاق ، ولا الأمر بالصبر ، بل المراد كما دلت عليه القرائن التسوية بين الأمرين ، والفرق بين التسوية والإباحة أن الإباحة يخاطب بها من هو بصدد أن يتوهم المنع من

__________________

(١) يونس : ٨٠.

(٢) التوبة : ٥٣.

(٣) الطور : ١٦.

٥٠٦

الفعل ، فيخاطب بالإذن ونفى الحرج ، كما فى قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) والتسوية يخاطب بها من هو بصدد أن يتوهم أن أحد الطرفين المذكورين فى محلهما من الفعل ومقابله أرجح من الآخر وأنفع ، فيرفع ذلك ، ويسوى بينهما ، والأقرب أن الصيغة فى التسوية إخبار دون الإباحة ، وتحتمل إنشاء التسوية ، وإخبار بالإباحة على بعد ، والعلاقة بينهما وبين الأمر نسبة المضادة ؛ لأن التسوية بين الفعل والترك وإباحة كل منهما يضاد إيجاب أحدهما ، وتزيد الإباحة بعلاقة مطلق الإذن.

استعمال الأمر للتمنى

(و) ك (التمنى) أى : طلب محبوب لا طماعية فيه ، والأمر طلب على وجه الاستعلاء ، ولاختلافهما كانت الصيغة مجازا فى التمنى على ما مر عليه فيما استظهره ـ كما تقدم ، والعلاقة بينهما واضحة بناء على جواز التجوز بطلب فى آخر وذلك (نحو) قول امرئ القيس :

(ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى)

بصبح وما الإصباح منك بأمثل (١)

المراد بالانجلاء : الانكشاف وبالإصباح : ظهور ضوء الصباح ، فكأنه يقول : انكشف أيها الليل الطويل طولا لا يرجى معه الانكشاف ، ولذلك صار الأمر بالانجلاء تمنيا ، وإرادة الطول الذى لا ينته فى الليل عند المحبين مشهور معلوم ، ولهذا قال الشاعر.

وليل المحب بلا آخر

ولما ظهر أن ليس المراد أمر الليل بالانكشاف إذ ليس مما يؤمر ويخاطب بذلك ، حمل على التمنى ، ليناسب حال التشكى من الأحزان والهموم وشدتها إذ لا يناسبها إلا عدم الطماعية فى انجلائه ؛ لأنها لكثرتها ولزومها الليل بعد الليل معها مما لا يزول ، وإنما قلنا كذلك لما جرت به العادة ، أن من وقع فى ورطة وشدة يتسارع إلى نفسه اليأس ،

__________________

(١) البيت من الطويل لامرئ القيس في ديوانه ص ١٨ ، والأزهية ص ٢٧١ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٢٦ ، ٣٢٧ ، وأورده محمد بن على الجرجاني في الإشارات ص ١١٧.

٥٠٧

ولذلك يتشكى مظهرا لبعد النجاة ، وأما لو كانت مرجوة الانكشاف لم تستحق التشكى من ليلها الملازمة له ، وقوله :

وما الإصباح منك بأمثل.

أى : أفضل ، كلام تقديرى على هذا ، فكأنه يقول : هذا الليل لا طماعية فى زواله ؛ لكثرة أحزانه ولزومها وشدتها بظلمته فلا تنكشف بانشكافه ، وعلى تقدير الانكشاف فالإصباح لا يكون أمثل منه ، للزوم الأحزان على كل حال.

استعمال الأمر للدعاء

(و) ك (الدعاء) وهو الطلب على وجه التضرع والخضوع ، وذلك (نحو) قولك : (رَبِّ اغْفِرْ لِي)(١) ويكون من الأدنى إلى الأعلى ، فلو قال العبد لسيده ـ على وجه الغلظة : ـ أعتقنى ، كان أمرا ، ولذلك يعد الأمر من العبد سوء أدب ؛ لأن الأمر لا يكون إلا مع استعلاء كما تقدم ـ ولكن أورد على اشتراط الاستعلاء فى مسمى الأمر قوله تعالى ـ حكاية عن فرعون ـ (فَما ذا تَأْمُرُونَ)(٢) فقد استعمل الأمر فى طلب ليس فيه استعلاء ؛ لأن فرعون لا يرى استعلاء فى الطلب المتعلق به من غيره لادعائه الألوهية.

استعمال الأمر للالتماس

(و) ك (الالتماس) وذلك (كقولك لمن يساويك رتبة) أى : فى الرتبة (افعل) كذا مثلا حال كون ذلك القول كائنا (بدون الاستعلاء) المعتبر فى الأمر ، وبدون التضرع المعتبر فى الدعاء ، ولا يرد أن يقال : المساواة تنافى الاستعلاء ، لأنا نقول : المنافى للمساواة هو العلو لا الاستعلاء ، فإن الاستعلاء ـ كما تقدم : ـ هو عد الآمر نفسه عاليا بكون الطلب الصادر منه على وجه الغلظة ، كما هو شأن العلى ، وهذا المعنى ـ أعنى جعل الآمر نفسه عاليا فى أمره ـ يصح من المساوى ، بل يصح من الأدنى ، فإن دعاوى النفس أكثر من أن تحصى ، وظاهر ما تقرر أن مناط الأمرية فى الطلب هو الاستعلاء ،

__________________

(١) الأعراف : ١٥١.

(٢) الشعراء : ٣٥.

٥٠٨

ولو من الأدنى ، ومناط الدعاء فيه التضرع والخضوع ولو من الأعلى كالسيد مع عبده ، ولا يكاد يتصور على حقيقته ، ومناط الالتماس فيه التساوى مع نفى التضرع والاستعلاء ، لكن ذكر فى الطول أن الالتماس يكون معه تضرع وتخضع لا يبلغ إلى حده فى الدعاء ، وعلى ما تقرر إذا صدر الطلب من الأعلى إلى الأدنى كالسيد مع عبده من غير استعلاء ولا تخضع لم يسم بواحد منها وهو بعيد. (ثم الأمر) أى : صيغته إذا استعملت فى شيء فاختلف فى المطلوب بها بعد الاختلاف فى كونها للوجوب فيه ، أو لغيره ـ كما تقدم ـ وبعد كون الراجح فيها أنها تسمى أمرا حقيقة ، سواء كانت فيما استعملت فيه للوجوب ، أو لغيره ، فقيل : حقه مطلقا كونه مطلوبا ، فيمتثل بالفور أو بالتراخى ، ولا يتعين أحدهما فى مدلولها إلا بقرينة (وقال السكاكى حقه الفور) بمعنى أنه إذا قيل : افعل فمعناه : افعل فورا ، ولا يدل على التراخى إلا بقرينة ، ومتى انتفت انصرف للفور ؛ (لأنه) أى : إنما قلنا حقه الفور ؛ لأن كون المطلوب بها مطلوبا على الفور هو (الظاهر من الطلب) أى : لأن الذى يبدو للعقل بالنظر لاستعمال الصيغة هو الفور ، فإن مقتضى الطبع فى كون الشيء مطلوبا أنه لا يطلب حتى يحتاج لوقوعه فى الحين ، كما إذا قلت : اسقنى ، فالمراد طلب السقى حينئذ ، وهذا شأن الطلب فى الجملة عند الإنصاف ، وكل ما يعرض من غير هذا فليس من مقتضى الطلب ، ألا ترى إلى الاستفهام والنداء ، فإن المستفهم عنه والمنادى إنما يراد الجواب بالأول فورا ، وإقبال الثانى كذلك ، ولا يخفى أن بيان كون الفور هو الظاهر بما ذكر مشتمل على قياس الأمر على الاستفهام والنداء ، وهو قياس فى اللغة ، فإن لم يقس عليهما فلا معنى لدلالتهما على أن الأمر يعتبر فيه ما يعتبر فيهما ، وأن كون الطلب للحاجة لا يخلو من إثبات اللغة بالعقل مع أن اختصاص البيان بما ذكر يقال فيه : إنما ذلك لقرينة العطش ، وأنه لو كان مدلوله الفور لغة لاحتيج إلى زيادة الفور فى حد الأمر ـ تأمل.

(ولتبادر الفهم) أى : وقلنا ـ أيضا ـ حقه الفور لتبادر الفهم (عند الأمر بشيء) أى : بفعل من الأفعال (بعد الأمر بخلافه) أى : بضده كما يظهر من التمثيل (إلى تغيير) متعلق بتبادر ، أى : يتبادر الفهم فيما ذكر إلى تغيير (الأمر) أى : تغيير المتكلم بالصيغة ،

٥٠٩

الأمر (الأول) بالثانى (دون الجمع) أى : من غير أن يتبادر أن المتكلم أراد الجمع بين الفعلين المأمور بهما (وإرادة التراخى) أى : ومن غير أن يتبادر أن المتكلم أراد جواز التراخى فى أحد الأمرين ، حتى يمكن الجمع بينهما ، وبهذا يعلم أن الجمع والتراخى متقاربان ؛ لأنه متى جاز التراخى أمكن الجمع ، فأحد الأمرين أو كلاهما على التراخى ، ويلزم من تغيير الأول كونه على الفور حيث غيره بما يعقبه ، فيثبت به المطلوب من كونه على الفور ، وإنما قلنا يتبادر منه التغيير ؛ لأن المولى إذا قال لعبده : قم ، ثم قال له : اضطجع إلى المساء ، يتبادر إلى الفهم أن الأمر بالقيام ساقط عنه بالأمر بالاضطجاع إلى المساء ، ولا يفهم منه أنه أراد الجمع بينهما بتراخى أحدهما عن زمان الآخر ، فإنك إذا قلت لرجل : قم للصلاة ، ثم قلت له : ارقد إلى الوقت ، فهم أن المراد من الأول قم الآن لتوهم الوقت ، إذ لا معنى للأمر قبله ، ومن الثانى ارقد من الآن إلى الوقت (وفيه نظر) أى : وفيما ذكر مما بين به التبادر إلى التغيير نظر ؛ لأنه لا يسلم التبادر عند اختلاف القرائن ، فإنه لو قال له : قم ، ثم قال : اضطجع ، من غير أن يزيد إلى المساء ، أو قال له فى الثانى : قم ، من غير ذكر الصلاة ، ثم قال له : ارقد ، من غير ذكر وقت الصلاة لم يتبادر التغيير ، وإنما فهم التغيير فى الأول بما جرت به العادة من أن مطلق القيام لا يراد به التأخير إلى الليل ، ولما أمره بالاضطجاع المبدوء بوقت ورود الصيغة إلى المساء فهم تغيير الأول ، ولو عن التراخى ، الذى يمكن أن يراد به ، وهو ما يقرب من زمن التكلم ، وفهم فى الثانى ـ لو جرت به العادة ـ أن الإنسان لا يؤمر بالصلاة إلا عند وقتها ، والأمر الثانى بين أنه لم يدخل وقتها ، وعلى هذا يكون ما بين به الفور مما دل بالقرينة ، فلا يظهر به كون حق الأمر أن يكون للفور وإنما قدرنا جواز التراخى ؛ لأن القول المقابل للفور هو جواز التراخى بإرادة مطلق الطلب ، لا وقوع التراخى ، بمعنى أنه لا يقول بأن حقه الدلالة على التراخى ، بل حقه جواز التراخى ، وإنما دلالته على مطلق الطلب الصادق بالتراخى والفور.

٥١٠

النهى

(ومنها) أى : ومن أنواع الطلب (النهى) وهو : طلب الكف عن الفعل استعلاء من حيث هو كذلك ، فلا ينتقض بكف ؛ لأنه ليس طلبا للكف عن الفعل من حيث إنه كف عن فعل ، بل هو طلب للكف من حيث إنه فعل ؛ لأنه لما اقتصر عليه صار المقصود منه نفس الكف من حيث إنه فعل لا من حيث إنه كف عن فعل آخر ولو كان لازما له ولا يخرج عنه لا نترك الفعل لأنه طلب كف عن فعل آخر هو الترك ، وقد تقدم مثل هذا فى الأمر مع ما فيه. (وله) أى : وللنهى (حرف واحد وهو) أى : وذلك الحرف الواحد هو (لا الجازمة فى قولك) ابتداء (لا تفعل) نهيا له عن الفعل ، خلافا لمن قال : إن من حروفه حرفا واردا فى موضع تصلح فيه كى كقولك : قيد العبد لا يفر ، بجزم يفر بناء على أنه من جنس حرف الجزم ، ولو كان معناه النفى. (وهو) أى : النهى (كالأمر فى) شأن (الاستعلاء) أى : عد الآتى بصيغة نفسه عاليا ، فإن كان كذلك فهو نهى حقيقة ، وإن وردت صيغته مع تخضع من الأدنى فهى دعاء ، وإن وردت من مساو فهى التماس ، وإنما قلنا إن شرط كون صيغته نهيا حقيقة الاستعلاء ؛ لأن ذلك هو المتبادر ، والتبادر أمارة الحقيقة ؛ لأنه ناشئ عن كثرة الاستعمال ، فإذا كان بلا قرينة دل على الحقيقة ، يعنى ـ وكما قلنا فى الأمر هنالك ـ أن الأمر للطلب استعلاء ، فشمل الندب والوجوب على ما اختار المصنف ـ خلافا للجمهور ـ فى كونها للوجوب فقط ، تقول ههنا ـ أيضا ـ هى لطلب الكف استعلاء ، فيشمل التحريم والكراهة ، وقيد التشبيه بالأمر بالاستعلاء ، ليفيد أنه ليس فيه ما قيل فى الأمر بالنسبة إلى الفور والتكرار ، فإن النهى للفور والتكرار جزما لأنه لدفع المفسدة فلشدة حالها لا بد فيها من الفور وتكرار الكف ، ليتحقق نفى المفسدة ، قال السكاكى : والأشبه أن النهى والأمر إن وردا لقطع الواقع كأن يقال للمتحرك : اسكن أو لا تتحرك فمدلولهما المرة ، وإن ورد الاتصال ، فمدلولهما الاستمرار كأن يقال للمتحرك : تحرك أو لا تسكن ولا يخفى ما فى قوله لاتصاله ؛ لأنه فى معنى الاستمرار ، فكأنه قال : وإن أريد بهما الاستمرار فهما للاستمرار ـ تأمله.

٥١١

(وقد يستعمل) النهى بمعنى صيغته (فى غير طلب الكف) استعلاء الذى هو معناه الأصلى على قول من قال : إن مدلوله طلب فعل هو الكف عن الفعل بناء على أنه لا يكلف إلا بالفعل ، لعدم القدرة على عدمه ، والكف المذكور هو فعل يحصل بشغل النفس بضد المنهى عنه ، ويستدعى تقدم الشعور بالمكفوف عنه (أو) فى غير طلب (الترك) على وجه الاستعلاء الذى هو معناه الأصلى على قول من يقول : إن مدلوله طلب عدم الفعل ، وهو المعبر عنه بالترك ، بناء على أنه يكلف بعدم الفعل ، أى : بتركه بناء على أن القدرة عليه بسبب القدرة على التلبس بضد المنهى ؛ لأن العدم متحقق حينئذ ، ولا يستدعى تقدم الشعور به ، ولكن الجارى على اللسان أن الترك بمعنى الكف ، فيستدعى تقدم الشعور ، إذ لا يقال فيمن لم يخطر بباله فعل أصلا ولم يفعله أنه تركه ، وعلى الأول وهو أن المكلف به الكف فلا يفعل مقتضى النهى إلا من استشعر المنهى فتركه ، فلا يمثل النهى من لم يفعل المنهى ذاهلا عنه ، فيلزم إثمه ولا قائل به إلا أن يقال : الامتثال شرط الثواب ، وشرط انتفاء الإثم يكفى فيه عدم الفعل ، وعلى الثانى وهو أن المكلف به عدم الفعل يكون من لم يفعل المنهى آتيا بمقتضى النهى ، ولكن لا بد من الثواب من النية المستلزمة للشعور ، ثم قولهم : إن كف دواعى النفس يحصل بشغلها بالضد يبطل بمن لا داعية له كالأنبياء ، وأيضا حاصل كف الدواعى عدم العمل بمقتضاها بسبب التلبس بالضد ، وذلك هو حاصل القول الأخير فقد عاد الأمر إلى أنه لا قدرة فى النهى بسبب التلبس بالضد مطلقا ، والإثم ساقط بعدم التلبس بالفعل المنهى ولو بلا شعور ، والثواب لا بد فيه من النية على كلا القولين ، ولذلك قيل : إن القول الأول قريب من الثانى ، وإن الخلف بينهما ما لا تظهر له ثمرة بينة ـ تأمله ـ ثم مثل للغير الذى تستعمل له صيغة النهى بقوله (كالتهديد) أى : التخويف والتوعد ، وذلك (كقولك لعبد) لك (لا يمتثل أمرك لا تمتثل أمري) أى : اترك أمرى ، وإنما كان تهديدا للعلم الضروري بأنك لا تأمره بترك امتثاله أمرك ؛ لأن المطلوب من العبد الامتثال لا عدمه ، ودل على التوعد استحقاقه العقوبة بعدم الامتثال ، والتهديد خبر فى المعنى ، إذ كأنه قال سترى ما يلزمك على ترك الأمر ، والعلاقة بين النهى والتهديد استلزام النهى

٥١٢

للوعيد ، ومن جملة ما تستعمل فيه الصيغة لغير ما تقدم الدعاء ، بأن تكون من الأدنى إلى الأعلى كقولنا : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا)(١) والالتماس بأن تكون من المساوى كقولك «لا تعص ربك أيها الأخ ، والعلاقة مجرد الطلب ، فهى من استعمال ما للأخص الذى هو طلب الكف استعلاء فى الأعم الذى هو مطلق الطلب. (وهذه الأربعة) يعنى التمنى والاستفهام والأمر والنهى (يجوز تقدير الشرط بعدها) فيؤتى بالجواب بعدها مجزوما بإن المقدرة مع الشرط ، وذلك لأن الأربعة تشترك فى الطلب حقيقة ، وطلب الشيء يشعر بأنه إنما طلب لأمر يترتب عليه غالبا ، وأما كونه مطلوبا لذاته فنادر ، فيكون مضمون متعلق الطلب بناء على الغالب سببا فى ذلك المترتب ، فصح تقدير ذلك المضمون شرطا ليكون ما ذكر بعده جوابه ؛ لأن الشرط اللغوى سبب فى المعنى ، فيخرج ذلك الجواب بذلك المقدر ، وهو الذى مر عليه المصنف ، وقيل : الجواب مجزوم بنفس متعلق الطلب ؛ لأنه فى معنى الشرط من غير حاجة لتقدير شرط أصلا ، وقيل مجزوم به لنيابته عن ذلك والشرط ، وهما متقاربان ، وإنما قال : يجوز ؛ لأنه يجوز أن يرفع ما بعدها على الاستئناف ، ولو صح كونه جوابا ، ثم الشرط المقدر إما نفس مضمون المذكور ، وإما لازمه ، وقد مثل لما قدر فيه اللازم فى التمنى بقوله (كقولك) فى التمنى (ليت لى مالا أنفقه) بجزم أنفق ، فالتمنى وهو أن يكون له المال هو الذى يقدر فيه الشرط ، لكن لما كان وجود المال بالأرزاق عبر عنه به فقال فى تفسير الشرط (أى إن أرزقه أنفقه) وهو ظاهر (و) كقولك فى الاستفهام : (أين بيتك أزرك) ولما كان المراد من الاستفهام تعريف المسئول عنه ، وهو مكان البيت ، حتى كأنه يقول عرفنى مكان بيتك قدر الشرط من معنى التعريف فقال (أى إن تعرفنيه) أى : إن تعرفنى مكان بيتك أزرك فيه ؛ لما تقدم أن المسئول عنه يكون سببا لما يترتب عليه ، فهذا مما قدر فيه اللازم نظرا للمسئول عنه ، وقد يقال : إنه قدر فيه نفس المسئول ؛ لأن الاستفهام سؤال التعريف ، أى : طلب التعريف (و) كقولك فى الأمر (أكرمنى أكرمك) وظاهر أن المقدر ههنا شرط من الإكرام ، ولذلك قال فى تفسيره (أى إن تكرمنى أكرمك و) كقولك فى النهى (لا

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

٥١٣

تشتمنى يكن خيرا لك) ولما كان المطلوب فى النهى الكف كان الترتب إنما هو على نفى النهى فلذلك قدر الشرط منفيا فقال : (أى إن لا تشتمنى) يكن خيرا ، وذلك لما تقدم أن الطلب يقتضى أن المطلوب إن لم يكن طلبه لذاته فالأمر يترتب عليه ، فإذا أتى بعد الطلب بما يصلح أن يترتب على المطلوب جزم جوابا لشرط مقدر دل عليه ذلك المطلوب ، أو جزم بذلك المطلوب ، لاقتضائه ذلك المترتب كما يقتضيه الشرط ، فناب عن الشرط ، أو تضمنه على ما تقدم من الخلاف فى موجب جزم الجواب ، فذكر الشيء الذى يصلح للترتب على المطلوب بعد ذكر ذلك المطلوب ، الذى هو مضمون جملة الطلب ؛ يفهم ترتب ذلك الشيء على المطلوب من إثبات أو نفى ، كما يترتب الجواب على الشرط ، ولهذا قيل : إن الشرط يقدر من جنس ما قبله من إثبات أو نفى ، ففى لا تشتم يقدر إن لا تشتم كما قال المصنف لا إن تشتم ، وفى أكرمنى يقدر إن تكرمنى ، لا إن لم تكرمنى ؛ لأن الطلب كما قررنا لا يشعر بذلك ، وقيل : يجوز تقديره مخالفا بدلالة القرينة ، وعليه يجوز إذا قلت : لا تعص تعاقب بجزم تعاقب على تقدير : إن تعص تعاقب ، وكذا إذا قلت : اترك الذنب تعاقب ، فيقدر : إن لم تترك الذنب تعاقب ولكن تقدير الإثبات بعد النفى على هذا أشهر من العكس ؛ لأن فى النفى تعرضا لذلك المثبت وهو المنفى.

فإذا ناسب الترتب عليه كان قريبا بخلاف الإثبات ، فلم يتضمن الشعور بالمنفى من حيث إنه منفى ، ولما خيف أن يتوهم أن العرض أغفل ، ذكر جزم الجواب بعده مع أنه وارد بين أنه داخل فى الاستفهام فقال : (وأما العرض) وهو طلب الشيء طلبا بلا حث ولا تأكيد (كقولك ألا تنزل تصب خيرا) يعنى : وكذا التحضيض وهو طلبه مع تأكيد وحث ، كقولك : ألا تنزل تصب خيرا (ف) هو غير خارج عما ذكر ؛ لأنه (مولد من الاستفهام) لأنه لا يستفاد إلا من آلته ، فهو داخل فى الاستفهام ، وينبغى له أن يذكر أن الترجى إذا جزم الجواب بعده فلإلحاقه بالتمنى كما تقدم ، فهو داخل حكما فى التمنى ـ أيضا ـ وإنما قلنا : إن العرض داخل فى الاستفهام ؛ لأنك إذا قلت ألا تنزل تصب خيرا ـ مثلا ـ فالهمزة فيه للاستفهام فى الأصل ، ومنع فى الحال من إرادة الاستفهام كون عدم النزول فى الحال وفى الاستفهام معلوما بقرينة من القرائن ، أو

٥١٤

نزل منزلة المعلوم ، أو كون السؤال عنه لا يتعلق به الغرض ، والاستفهام إنما يكون عن المجهول حالا أو استقبالا مع تعلق الغرض ، ولما تعذر الاستفهام الحقيقى للعلم ، أو لعدم تعلق الغرض ، حمل على الإنكار بقرينة إظهار محبة ضد مدخولها ، ومعلوم أن إنكار النفى يتولد منه طلب ضده ومحبته ، فتضمن الكلام طلب النزول ، وعرضه على المخاطب ، ولكن يرد على هذا أن الطلب الذى هو العرض لم يتولد من الاستفهام الحقيقى الذى نحن بصدده ، وإنما تولد من مجازيه الذى لم يذكر أن الجواب يجزم بعده ـ تأمله.

ثم ذكر أن تقدير الشرط لا يختص ببعدية الأمور الأربعة السابقة فقال (ويجوز) تقدير الشرط مع الإتيان بالجواب (فى غيرها) أى بعد غير هذه الأربعة (لقرينة) دلت على ذلك وذلك (نحو) قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ)(١) فقوله تعالى فالله هو الولى جواب شرط مقدر (أى : إن أرادوا أولياء بحق) فالله هو الذى يجب أن يتولى وحده ، ويعتقد أنه هو المولى والسيد لا يشاركه أحد فى ذلك ، والقرينة وجود الفاء الجوابية فى الجملة مع دلالة أداة الاستفهام فى الجملة قبلها على إنكار اتخاذ سواه تعالى أولياء ، فيفهم منه صريحا أن من أراد اتخاذ سواه تعالى فهو فى ضلال وهلاك ، ويفهم منه ضمنا أن من أراد ما لا نواء معه ، وأراد الاستمساك بالعروة التى لا تنفصم ؛ فليتخذ الله تعالى وليا دون غيره ، فحذف الشرط ، وأتى بلازم الجواب فى موضعه ، فأصل الكلام على هذا إن أرادوا أولياء بلا بطلان ، أى : بلا فساد وخلل وصفا ، وذاتا ، وحالا ، ومآلا ، فليتخذوا الله تعالى وليا ؛ لأنه تعالى هو الولى المنفرد بالقدرة العامة ، والمشيئة التامة ، والعزة الباهرة ، وصح الجواب بمضمون الجملة ، لكونه علة للجواب كما قدرنا ، وعلى هذا لا يرد أن يقال لا يصح الجواب بالجملة الاسمية عن الشرط لمضيه ودلالتها على الدوام ، مع أن إرادة الولى لا يكون سببا فى كون الله تعالى هو الولى ، وإنما قلنا : إن هذا ليس مما تقدم ؛ لأن الاستفهام الحقيقى لا يصح هنا ، وإنما المراد به الإنكار ، بمعنى لا ينبغي أن يتخذوا غير الله تعالى وليا ؛ ولأجل أن هذا معنى

__________________

(١) الشورى : ٩.

٥١٥

الكلام قيل : لم لا يصح أن يترتب؟ فالله هو الولى على هذا المعنى ، فتكون الفاء للتعليل ، والتسبيب ، فكأنه قيل لا ينبغى أن يتخذ من دون الله وليا ، بسبب أن الله هو الولى والسيد ، فلا يتخذ غيره ، فحينئذ لا يحتاج إلى تقدير الشرط المذكور ، كما لا يقدر فى قولك ـ مثلا ـ لا ينبغى لك أن تعبد سوى الله تعالى ، فالله هو المعبود ، أى : إنما كان لا ينبغى لك ما ذكر بسبب أن الله تعالى هو المعبود بحق ، وعطف الجملة السببية على مسببها موجود ، ويأتى ما يعرف منه ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ فى الفصل والوصل ، ورد بأن الكلام إذا كان بمعنى كلام آخر لا يلزم فيه أن يكون كهو فى كل شيء ، لجواز أن يخالفه فى بعض اللوازم ، فإنك إذا قلت ـ مثلا ـ أتضرب زيدا. على أن الاستفهام للإنكار لم يصح أن تعطف عليه قولك : فهو أخوك بالفاء ، وإنما يصح فيه ، وهو أخوك على الحالية ، مع أنه بمعنى لا تضرب زيدا ، وهذا الكلام أعنى قولك : لا تضرب زيدا ، لما كان إخبارا فى المعنى ؛ لأنه بمعنى لا ينبغى أن تضرب ، يصح أن تعطف عليه الجملة المذكورة ، فتقول : لا تضرب زيدا فهو أخوك ، بلا تقدير شرط ، والشاهد فى صحة هذا الكلام ، وهو لا تضرب زيدا فهو أخوك دون أتضرب زيدا فهو أخوك ، الذوق الناشئ عن تتبع الاستعمال ، ونوقش هذا التنظير بأن أتضرب زيدا إنكار لنفس الضرب ، وقولك : لا ينبغى ، أى : لا يليق أن تضرب زيدا الذى هو معنى المفسر به ، وهو لا تضرب ، إذ الإنكار معناه النفى ، ولو فسر هنا بالنهى تجوزا كما أشرنا إليه إنكارا للانبغاء وللياقة الضرب ، وهما مختلفان فلم يتحقق كونهما بمعنى ، حتى يتحقق بذلك أن الكلامين قد يكونان بمعنى ويختلفان فى اللوازم والاستدلال ، حيث بطل فيه هذا التنظير يعود دعوى ، ثم منع قولنا : أتضرب زيدا فهو أخوك ، على أن تكون الجملة للعطف قد لا يسلم كما فى قوله :

أحاولت إرشادى فعقلى مرشدى.

إذ لا يحسن التقدير هنا ، ولكن هذا لا يرد على المصنف ؛ لأنه إنما ادعى جواز التقدير ، وإنما يرد على من حمل كلامه على وجوب التقدير ـ تأمله والله أعلم.

٥١٦

النداء

(ومنها) أى : ومن أنواع الطلب (النداء) وهو طلب الإقبال حسا أو معنى بحرف نائب مناب ادعو ، سواء كان ذلك الحرف ملفوظا كيا زيد ، أو مقدرا (ك (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا)) (١) ولا يجزم الفعل بعده جوابا ؛ لأن مفاد الحرف ومدلوله أدعو ، وأما الإقبال فهو مطلوب باللزوم ؛ لأن الإنسان إنما يدعى للإقبال فليس فيه ما هو كالتصريح بالشرط كما فى الطلب السابق ، بخلاف ما لو صرح بالفعل ، فقيل : أقبل ، جاز جزم الفعل بعده جوابا بأن يقال ـ مثلا ـ أعلمك ، وهذا مما يعلم به أن الشيء الضمنى ليس كالصريح ، وأيا وهيا من حروفه للبعيد ، وقد ينزل القريب كالبعيد لغفلة أو نوم ، أو لتنزيل المنادى منزلة ذى غفلة لعظم الأمر المدعو له حتى كأن المنادى غافل فيه مقصر ، فيستعملان له فتقول ـ مثلا ـ هيا فلان تهيأ للحرب عند حضوره ، وأى والهمزة منها للقريب ، وقد ينزل البعيد كالقريب ، لحضوره فى القلب ، فصار كالمشهود الحاضر كقوله :

أحبيب القلب عنى لا تزول

وأما يا منها فقيل : تكون لهما معا وقيل مختصة بالبعيد ، فلا تستعمل فى القريب إلا لتنزيله منزلة البعيد ، إما لاستبعاد الداعى نفسه عن حال المنادى كقولنا : يا الله ، مع أنه أقرب إلينا من حبل الوريد ، إما لاستعظام الأمر المدعو له ، حتى كان المنادى مقصر فى أمره غافل عنه ـ كما تقدم ـ كقولك : يا هذا قم على لسان الجد فى أمر ربك ، ولو كان المنادى كذلك ، وإما للحرص على إقباله فصار إقبال المنادى كالبعيد ؛ لأن النفس إذا اشتد حرصها على الشيء صارت كل ساعة قبل وقوعه فى غاية البعد ، فتقول : يا غلام بادر بالماء فأنا عطشان ، وإما لبلادته فكأنه بعيد لا يسمع ، فتقول : تنبه أيها الغافل ، وإما لانحطاط شأنه فكأنه بعيد عن مجلس الحضور ، فتقول : من أنت يا

__________________

(١) يوسف : ٢٩.

٥١٧

هذا. (وقد تستعمل صيغته) أى صيغة النداء (فى غير معناه) الأصلى وهو : طلب الإقبال وذلك.

استعمال النداء في غير معناه كالإغراء

(كالإغراء) وهو الحث على لزوم الشيء كما (فى قولك لمن أقبل) إليك ، أو إلى من حضر معك حال كون ذلك المقبل (يتظلم) أى : يظهر ظلم الغير له ، وبث الشكوى به (يا مظلوم) فإنك لا تريد بقولك : يا مظلوم إقباله حسا أو معنى ، لحصوله ، وإنما أردت إغراءه وحثه على زيادة التظلم الذى هو بث الشكوى ، وكثيرا ما يؤكد المراد بالتكرار فيقال : يا مظلوم يا مظلوم فى حال تظلمه إظهارا لرحمته وتحريكا لدعايته على الشكوى بذكر ظلمه على وجه النداء ، أو بجملة تتضمن معناه ، كأن يقال : يا مظلوم اشتك فهذا موضع الشكوى ، والعلاقة بين النداء وبين الإغراء المستعمل هو فيه أن الإغراء ملزوم للإقبال إذ لا معنى لإغراء غير المقبل معنى بأن يكون بحيث لا يسمع.

استعمال النداء في غير معناه للاختصاص

(و) ك (الاختصاص) وهو فى الأصل معلوم ، وفى الاصطلاح : أن يؤتى بما يدل على تخصيص حكم معلق بضمير التكلم بشرط أن يكون الدال على ذلك التخصيص صورة منادى أو معرفا بأل أو بالإضافة أو بالعلمية ، أما صورة المنادى فكما (فى قولهم أنا أفعل كذا أيها الرجل) فإن أيها الرجل أصله أن يستعمل دالا على تخصيص المعين لطلب الإقبال منه ، ولو كان هو المتكلم عند قصد تجريد منادى من نفسه مبالغة كما هو الأصل فى هذا المثال ، ثم نقل لمطلق التخصيص لا بقيد كونه لطلب الإقبال ، فهو كالمجاز المرسل ، فيفيد تخصيص مدلوله المعبر عنه بالضمير بحكم ذلك الضمير ، ولما نقل من النداء التزم فيها حكم المنقول عنه من بناء ، أى : على الضم ، كالنكرة المقصودة ، واتباع المحلى بأل إياها بالرفع على أنه صفة من جهة المعنى ، فهذا مما يتبع فيه الرفع البناء ، ولو كان محله فى الحالة الراهنة النصب على المفعولية بتقدير فعل هو أخص على أن الجملة حالية ، ولما كان اسم الاختصاص فى محل النصب على المفعولية وعامله جملة حالية صح أن يفسر معنى تلك الجملة مع معمولها بقوله (أى)

٥١٨

أفعل ذلك (مخصصا) أى : مختصا (من بين الرجال) وأما المعرف بأل فكقولك : نحن العرب أسخى من بذل ، والجملة فى نحو هذا المثال استئنافية إذ لا يصح نصب الحال عن المبتدأ ، وأما الإضافة فنحو قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» (١) وأما بالعلمية على وجه الندور فكقولهم :

بنا تميما يكشف الضباب

والغرض من الاختصاص إما الافتخار ، كما إذا تضمن التخصيص بذلك الحكم الترفع ، كما فى قولهم : نحن العرب أقرى الناس للضيف ، أو المسكنة كقولك : أنا أيها المسكين أطلب المعروف أو مجرد تأكيد مدلول الضمير كقولك : أيا أيها الرجل أتكلم بمصالحى ، وتستعمل صيغة النداء مجازا فى أشياء منها الاستغاثة نحو قولنا : يا لله أى : يا الله أغثنى فى شدائد الدنيا والآخرة فى كفايتها ، والعلاقة بينهما مطلق التوجه اللازم للنداء ، الذى هو : طلب الإقبال ؛ لأن المستغاث قد وقع التوجه إليه أو هو من استعمال ما للأعم فى الأخص ، حيث استعمل ما لمطلق طلب الإقبال ، الذى هو : النداء فى طلب الإقبال بخصوص الإغاثة ، ومنها التعجب كقولك عند شهود كثرة الماء : يا للماء ، والعلاقة مشابهة المتعجب منه المنادى فى أنه ينبغى الإقبال على كل منهما ، ومنها التحسر والتحزن كما فى نداء الأطلال والمنازل والمطايا ونحو ذلك ، كنداء المتوجع منه والمتفجع عليه ، والعلاقة فى هذه الأشياء كون كل ينبغى الإقبال عليه بالخطاب كالمنادى للاهتمام بها ، وامتلاء القلب بشأنها (ثم) لفظ (الخبر) الذى تقدم أنه هو ما دل على نسبة خارجية تطابق أو لا تطابق ، (قد يقع) مجازا (موقع الإنشاء) الذى هو : الكلام الذى لا نسبة له خارجا ، وإنما توجد نسبته بنفسه ، ووقوع الخبر موقع الإنشاء (إما) أن

__________________

(١) الحديث متفق على صحته بلفظ «لا نورث ما تركناه صدقة» أما بهذا اللفظ ، فقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح ١٢ / ٨٠ ، : «فقد أنكره جماعة من الأئمة ، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ «نحن» لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن أبى الزناد بلفظ «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ...» الحديث أخرجه عن محمد بن منصور عن ابن عيينة عنه ، وهو كذلك في مسند الحميدى عن ابن عيينة ، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه ، وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبى بكر الصديق باللفظ المذكور ، وأخرجه الطبرانى في الأوسط بنحو اللفظ المذكور ، وأخرجه الدار قطنى في «العلل» من رواية أم هانئ عن فاطمة عن أبى بكر الصديق بلفظ «إن الأنبياء لا يورثون» .

٥١٩

يكون (ل) إفادة (التفاؤل) كأن يقصد طلب الشيء ، وصيغة الأمر هى الدالة عليه ، فيعدل عنها إلى صيغة الماضى الدالة على تحقق الوقوع ، تفاؤلا لتحققه ، كما يقال : وفقك الله إلى التقوى ، ولما كان من أسباب التحقق الطلب استعملت صيغة ذلك المسبب فى ذلك السبب ، لعلاقة اللزوم فى الجملة (أو) أى : وإما أن يكون (لإظهار الحرص فى وقوعه) وإظهار الحرص مما يستدعى الامتثال لما تضمنه من الحث على الوقوع (كما مر) فى مبحث الشرط ، وهو أن الطالب إذا عظمت رغبته فى شيء يكثر تصوره إياه ؛ لأن محبوب الوقوع لا يزول عن الخاطر غالبا ، فربما يخيل إليه حاصلا فيعبر عنه بصيغة الحصول بناء على ذلك التخيل ، فالتعبير بصيغة الحصول يفهم منها تخيل الحصول الملزوم ، لكثرة التصور الملزوم لكثرة الرغبة المقتضية للمبالغة فى الحث على الامتثال ، وإذا اقتضى المقام الحث على التمكن من المطلوب على وجه المبالغة توصل إليه بهذا التعبير ، وذلك كقولك : رزقنى الله لقاءك ، ثم إن إظهار الحرص مع التفاؤل لا تنافى بينهما ، فالبليغ إحضارهما فى التعبير بصيغة المضى عن الطلب ، وإليه أشار بقوله : (والدعاء بصيغة الماضى من البليغ) كأن يقال رحمك الله (يحتملهما) أى : يحتمل التفاؤل وإظهار الحرص ، بمعنى أنه يحتمل أن يريد التفاؤل بوقوع الرحمة للمخاطب قصدا لإدخال السرور عليه ، أو يريد إظهار الحرص فى الوقوع ، حيث عبر بالمضى لكثرة التصور الناشئ عن كثرة الرغبة قضاء لحق المخاطب ، حيث كان ما ينفعه فى هذه المنزلة بالنسبة للمتكلم أو يريدهما معا ، وإنما قال من البليغ ؛ لأن غير البليغ إنما يقول ما يسمع من غير أن يراعى هذه الاعتبارات فى موارد المقامات ، والمراد بالبليغ من يراعى ما ذكر ؛ لأن له قوة عليه ، ولو لم تكن له قوة فى سائر الأبواب بناء على تجزئ البلاغة كالاجتهاد. (أو) أى : وإما أن يكون (لحمل المخاطب على) تحصيل (المطلوب) لا بسبب إظهار الرغبة بل (بأن يكون) أى : بسبب كون المخاطب (ممن لا يحب أن يكذب) أى : أن ينسب (الطالب) إلى الكذب ، فيكذب مبنى للمجهول بتشديد الذال ، كقولك لصاحبك : يا فلان أنت تأتينا غدا ، مكان ائتنى غدا ، ولا بد ؛ لأنه لما كان ممن لا يحب أن ينسب إلى الكذب وقد عبرت فى الإتيان بصيغة الخبر ، فإذا لم يأت غدا كان

٥٢٠