مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-3820-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٦٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

منفيها قبلها ، وليس من شرطها أن لا ينفى تفصيلا فقط ، وهذا فى نحو هذا المثال لما فيه تفصيل منفيها.

وأما نحو ما قام القوم إلا زيد لا غيره فلا يصح سواء عطف على المستثنى منه أو على المستثنى لأن عطفه على المستثنى منه إن كان مع بقاء النفى فى مدخولها فهو محض تأكيد بالإجمال وإن لم يبق النفى بأن كان نفى النفى فهو إثبات مناقض لا نفى الكائن قبل الاستثناء ، وليست لإبطال النفى فأصل وضعها أن ينفى بها ما أوجبته وأما عطفه على المستثنى فهو للتأكيد الإجمالى فلا فائدة فيه ، ثم قولهم أصل وضعها أن ينفى بها ما أوجبته للمتبوع ولا يظهر اطراده فى قولنا : زيد قائم لا قاعد ؛ لأن المنفى فيها خلاف المثبت للمتبوع ، وأجيب بأن المتبوع قائم وقد أوجب له الثبوت ثم نفى الثبوت بها عن القعود وهو ظاهر ، وقيدنا الداخل فى غيرها من موجبات النفى بكونها جميع أدوات النفى لا غيرها ، ليخرج ما أوجب نفيا من غير أدوات النفى كالفحوى كما فى قولنا : زيدا ضربت فلا يمتنع أن يقال : لا عمرو وكعلم السامع فلا يمتنع إذا علم السامع أن عمرا لم يقم أن يقال : قام زيد لا عمرو وكأنما فلا يمتنع أن يقال : إنما قام زيد لا عمرو ولو تضمنت النفى لعدم كونها من أدواته (ويجامع) أى النفى بلا العاطفة (الأخيرين) وهما إنما والتقديم (فيقال) فى مجامعته للأول : (إنما أنا تميمى لا قيسى و) يقال فى مجامعته التقديم (هو يأتينى لا عمرو) ويكون الحصر مستفادا منها ، والعطف بلا تأكيد ، ولا ينسب له الحصر لتبعيته ، والتقديم فى قوله هو إلخ ولو كان قد يكون للتقوى ، لكن الغرض منه هنا الحصر بدليل العطف المؤكد له.

نعم قد يقال : لا تقديم فيه لأنه مسند إليه ، فهو فى محله لا سيما على مذهب غير السكاكى ، أما على مذهبه فيمكن أن يتخيل أنه بمنزلة أنا قمت فلذلك كان الأولى أن يمثل بنحو : زيدا ضربت وإنما جاز مجامعة النفى بلا هذين (لأن النفى) المعتبر لإفادة الحصر (فيهما) أى : فى هذين الأخيرين وهما إنما والتقديم (غير مصرح به) وإنما صرح فيهما بالإثبات فلم يقبح تأكيد ما تضمناه ، والنفى بلا بخلاف ما وإلا فقد صرح فيهما بالنفى فصدق أنه نفى بلا معهما ما نفى بأداة أخرى مستقلة قبلها فصدق فى

٤٤١

إنما ، والتقديم أنه نفى بهما ما نفى بأداة قبلهما فتحقق بهذا أن النفى الصريح ليس كالضمنى ، وكونه ضمنيا فى إنما واضح دائما وأما فى التقديم فقد يكون صريحا كما فى قولك : ما أنا قلت هذا فلا يقال لا غيرى (كما يقال) أى : ومما يدل على أن النفى الضمنى ليس كالتصريح أنه يقال (امتنع زيد عن المجيء لا عمرو) فيعطف على فاعل امتنع بلا فيفيد الكلام حصر الامتناع فى زيد دون عمرو بواسطة العطف بلا وصح ذلك لأن صريح امتنع زيد إيجاب الامتناع فلا يفيد نفى ذلك الإيجاب ، وأما نفى المجيء فهو ضمنى فجاز العطف بلا لكون النفى فى امتنع ضمنيا ، ولو صرح به لهذا المعنى وقيل : لم يجئ زيد لم يصح أن يقال لا عمر ، ولأنه نفى للنفى فيكون إثباتا ووضع لا للنفى لا الإثبات وإنما قلنا نفى للنفى لأنه يجب أن يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها ؛ لأنها عاطفة لا مؤكدة ولذلك قلنا : إن العطف بها على المستثنى منه المنفى غير صحيح كما تقدم ، فتقرر بهذا أن مجرد النفى الضمنى ليس كالصريح لتقرر حكم له ، وهو صحة العطف بلا معه دون الصريح وليس المراد بهذا النظير أن امتنع فى قولنا : امتنع زيد عن المجيء لا عمرو تضمن نفى عمرو كما تضمن أنا تميمى نفى القيسية وهو يأتينى نفى عمرو فى المثالين السابقين ضرورة إن امتنع زيد لا حصر فيه حتى يتضمن نفى عمرو وإنما استفيد نفى عمرو المفيد للحصر من النفى بلا بخلاف المثالين السابقين فنفى النفى بلا فيهما متضمن ، ولا للتأكيد كما تقدم بل المراد أن امتنع تضمن مجرد نفى لو صرح به امتنع العطف ، ولم يتضمن نفى المعطوف كما فى المثالين السابقين فالتشابه بين هذا والمثالين فى أن النفى الضمنى فى الجملة يصح معه ما لا يصح فى الصريح فليفهم.

قال (السكاكى : شرط مجامعته) أى : شرط مجامعة النفى بلا العاطفة (للثالث) وهو إنما (أن لا يكون) ذلك الوصف الذى أريد حصره فى الموصوف (مختصا) (ب) ذلك (الموصوف) كما تقدم فى قولك : تميمى أنا فإن التميمية لا يجب اختصاصها بالمتكلم ، وأما إن كان مختصا فلا يجيء النفى (كما فى قوله تعالى (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ

٤٤٢

يَسْمَعُونَ)(١) فيمتنع أن يقال : لا الذين لا يسمعون ، أولا الصم فإن الاستجابة لا تكون إلا من سامع دون من لا يسمع ، فالتأكيد بالنفى بلا غير مفيد فى نحو ذلك.

وينبغى أن يتنبه ههنا لدقيقة وهو أن الحصر فيما يعلم فيه الاختصاص لا يصح باعتبار الظاهر إذ لا يعتقد الوصف لمن لا يصح له حتى يرد ذلك الاعتقاد بالحصر وإنما هو لتنزيل المنفى عنه منزلة من لا تصح له الصفة ، فالكافر هنا نزل منزلة من لا سمع له فى عدم قبول الحق ، ونزل المخاطب فى حرصه على هدايته منزلة من اعتقد أنه يستجيب مع عدم السماع ، ويتضمن ذلك التعريض بالكافر بأنه من جملة الموتى ممن لا سمع له فليس هنا فى الحقيقة إلا نفيها عن الكافر وإثباتها للمؤمن ، لكن لما كان الحصر بحسب الظاهر فى المختص صحت مراعاة هذا الظاهر ، فيمتنع العطف بلا أو يقبح فافهم.

ويمكن وجود هذا فى قصر الموصوف كقولك : إنما المقتفى متبع طرق السنة لا متبع البدعة هذا فى إنما ، وأما التقديم فلم يذكروا فيه هل يجوز أن يقال مثلا مستجيب الذى يسمع لا غير السامع أم لا ؛ فانظره ؛ وقال (عبد القاهر : لا تحسن) مجامعة النفى بلا العاطفة ذلك الثالث (فى) الوصف (المختص كما تحسن) تلك المجامعة (فى غيره) أى غير المختص كقولك : إنما يقوم زيد لا عمرو ، وقال المصنف (وهذا) الذى قال عبد القاهر (أقرب) إلى الصواب مما قاله السكاكى ، وهو المنع لأنه لا دليل على امتناع أن يقال : إنما يفهم العاقل لا غيره عند قصد التأكيد لا سيما والكلام على ما تقدم على تأويل تنزيل المنفى عنه بمنزلة من لا يصدق عليه المحضور فيه فناسبه التأكيد باعتبار ما فى الباطن تأمل.

والوجه الرابع مما وقع به اختلاف الطرق ما تضمنه قوله : (وأصل الثانى) أى : النفى مع الاستثناء (أن يكون ما استعمل له) أى من أوجه الاختلاف أن يكون الحكم الذى استعمل فيه النفى والاستثناء (مما يجهله) أى : من الأحكام التى يجهلها (المخاطب وينكره) أى : من الأحكام التى ينكرها ، وظاهره أنه لا بد من الجمع بين الجهل ،

__________________

(١) الأنعام : ٣٦.

٤٤٣

والإنكار فلو أنكر معاندا كان للتنزيل الآتى ، ثم اشتراط الجهل لا بد منه فى سائر الطرق ولكن المراد بالجهل هنا أن يكون من شأنه أن لا يزول إلا بالتأكيد على ما سننبه عليه فيما بعد (بخلاف) الطريق (الثالث) ، وهو إنما فإن أصله يستعمل فى الحكم الذى أصله أن يعلمه المخاطب ، ولا ينكره ، والمراد بعلمه أن يكون المعلوم لكونه من شأنه أن يظهر أمره بحيث يزول إنكاره بأدنى تنبيه فى زعم المتكلم ، وأما لو كان المراد به أن يكون معلوما غير منكر حقيقة لم يصح باعتباره إذ لا قصر حقيقيا إلا فى الجهل والإنكار ، فالفرق بين الطريقين كون محل الأول مما يحتاج فيه إلى التأكيد ، ومحل الثانى مما لا يفتقر إلى ذلك ، وإلا فلا بد من الجهل والإنكار فيهما ، وبهذا يصح الكلام ، ويطابق ما فى المفتاح.

ولو كان الطريقان قد يجرى كل منهما على أصله ، وقد يخرج عن أصله بتأويل أشار إلى أمثلة الجريان على الأصل ، وعلى عدمه فيهما فقال : (كقولك لصاحبك و) الحال إنك (: قد رأيت شبحا) أى : شخصا (من) مكان (بعيد) ، وقيد بالبعد لأنه مظنة الجهل والإنكار (ما هو إلا زيد) هذا معمول قوله كقولك أى قولك : ما ذلك الشبح إلا زيد تقول ذلك (إذا اعتقده) مخاطبك (غيره) أى غير زيد حال كونه (مصرا) أى مصمما على اعتقاد ذلك الشبح غير زيد ، فهذا المثال على هذا تحقق فيه الجهل والإنكار فيما من شأنه أن يجهل وينكر لبعد مضمونه جهلا لا يزول إلا بالتأكيد فاستعملت فيه ما وإلا على أصلها.

(وقد ينزل) الحكم (المعلوم) حقيقة (منزلة) الحكم (المجهول) الذى يحتاك فى نفى جهله إلى تأكيد وذلك التنزيل (لاعتبار) أى لأمر معتبر (مناسب) للمقام (فيستعمل له الثانى) ، أى فبسبب ذلك التنزيل يستعمل فى ذلك المعلوم الطريق الثانى ، وهو النفى والاستثناء ، ثم ذلك القصر حينئذ إما أن يكون (أفرادا) أى قصر أفراد (نحو) قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)(١) فقوله : إلا رسول استثناء من مقدر عام على أصل التفريغ والمقدر فى نحو هذا محمول والمحمول يراد به الحقيقة إذ لا يصح فى الأصل

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤.

٤٤٤

حمل فرد ، والحقيقة من حيث هى متحدة لا يمكن الاستثناء منها من حيث هى ، وإنما يستثنى منها من حيث أفرادها الصادقة على الموضوع فلا بد من اعتبارها على وجه يتناول أفرادا صادقة على الموضوع ، فإذا قيل مثلا : ما زيد إلا قائم قدر ما زيد حقيقة من الحقائق أى متحدا بها وموصوفا بها إلا حقيقة القائم فكأنه قيل : ما زيد قاعدا ولا مضطجعا ولا كذا من سائر الحقائق إلا حقيقة القائم فهو كائن إياها ، وإن شئت قدرت : ما زيد بشيء مما يعتقد أنه كان إياه إلا قائم فعلى وزانه فى الآية يكون التقدير : ما محمد حقيقة من الحقائق التى تعتقدون أى موصوفا بذلك إلا حقيقة الرسول ، فإنه كائن إياها أو ما محمد بشيء مما تعتقدون أنه كان إياه إلا رسول ، فكأنه قيل : ما محمد متبرئا من الهلاك ولا غير ذلك مما لا يناسب من الحقائق إلا حقيقة الرسول.

ويجب أن يعلم أن معنى قولنا كان هذا تلك الحقيقة أنه طابقها واتصف بحصة من حصصها ، لا أنه كان نفسها من حيث إنها حقيقة ، وإلا كان الجزئى كليا والعكس ، وقد صعب تقديره للدقة التى فيه على كثير فليفهم.

فمعنى ما محمد إلا رسول على هذا أنه مقصور على الرسالة دون ما تعتقدون مشاركة الرسالة ، وفيه التبرى من الهلاك وإلى هذا أشار بقوله (أى) هو (مقصور على الرسالة) العامة (لا يتعداها إلى التبرى من الهلاك) كما عليه المخاطبون ، ومعلوم أن اعتقاد المشاركة المنفى بهذا الطريق لم يوجد من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ للعلم بأنهم لا يعتقدون أن النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يهلك أبدا ، وأنهم لا يثبتون ذلك كما أثبتوا الرسالة لكنهم لما كانوا يعدون هلاكه أمرا عظيما لحرصهم على بقائه بين أظهرهم حتى لا يكاد يخطر ببالهم الهلاك (نزل استعظامهم هلاكه منزلة إنكارهم إياه) أى : ويلزم من ذلك تنزيل علمهم منزلة جهلهم ؛ لأن الإنكار يستلزم الجهل ولما نزل استعظامهم ذلك منزلة الإنكار الذى يحتاج إلى تأكيد النفى استعمل له النفى والاستثناء.

ووجه التنزيل أن مستعظم الشيء الحريص على عكسه لو أمكن له نفى ذلك الشيء لنفاه فهو كالنافى وجه الرضا والمحبة ، وأصل التنزيل تشبيه الشيء

٤٤٥

بالشيء ، فلما شبهوا بالنافى فى ذلك ناسب تنزيلهم منزلة المنكرين ، فخوطبوا برد الإنكار المقدر للاعتبار المناسب وهو الإشعار بأنهم فى غاية الاستعظام ، وغاية الحرص الذى ينزلون فيه منزلة المنكرين ، وأنهم بحيث يخاطبون بهذا الخطاب التنزيلى ردا لهم عما عسى أن ينبنى على ذلك الاستعظام مما ينبنى على نفى المستعظم ، وقد وقع من بعضهم ذلك البناء حتى أنكر الوفاة يومها وشغله ذلك الإنكار عما يقتضيه الحال من الشغل بإقامة الدين من بعده ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان يقول : والله لا أسمع رجلا قال مات رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلا فعلت به كذا وكذا وقال بعضهم : إنما ذهب للمناجاة كموسى حتى أتى المتمكن الصديق ، فنفى ذلك ، وأقام الدين بما أمر الله تعالى به ـ رضوان الله على الجميع ـ على أنهم لهم عذر فى ذلك الاستعظام ؛ لأن وفاة سيد الوجود هو الرزء الأكبر والهول الأخطر الذى يكاد أن تزلزل قواعد التكليف بهوله ، ويسقط بناء ضبط الإدراك من أصله جعلنا الله تعالى من المؤمنين بالله العارفين به المحبين لنبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هذا على أنه قصر أفراد وعليه مر المصنف ، ويحتمل أن يكون من قصر القلب بأن يكون مصب القصر إلى مفاد الجملة التى هى فى محل النعت عند بعضهم ، فيكون التقدير : وما محمد إلا رسول خلت الرسل قبله فيذهب كما ذهبوا لا أنه رسول لا يذهب كما عليه المخاطبون بتنزيل إعظامهم منزلة إنكارهم فكأنهم قالوا هو رسول لا يموت فقيل لهم : بل هو رسول يموت كغيره ، أو بأن يقدر وما محمد إلا رسول لا أنه ليس برسول كما عليه المخاطبون ؛ لأن نفى الموت الذى نزلوا منزلة المتصف به لا يكون مع الإفرار بالرسالة أو لا أنه إله لأن نفى الهلاك الذى جعلوا موصوفين به لا يكون إلا للإله.

وفى هذين الوجهين الأخيرين بعد (أو قلبا) معطوف على قوله أفرادا أى : إما أن يكون القصر الذى استعملت فيه ما وإلا للتنزيل قصر أفراد كما تقدم وإما أن يكون قصر قلب (نحو) قوله تعالى حكاية عن الكافرين فى خطاب الرسل (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا

٤٤٦

بَشَرٌ مِثْلُنا)(١) أى : ما تتصفون إلا بالبشرية مثلنا لا بنفيها كما أنتم عليه ، ومعلوم أن المخاطبين وهم الرسل ـ على نبينا وعليهم أفضل الصلاة والسّلام ـ لا يجهلون بشريتهم ولا ينكرونها والمحكى عنهم هذا الكلام وهم الكفار لا يعتقدون أيضا أنهم ينفون عن أنفسهم البشرية ، ولكن نزلو لهم منزلة المنكرين للبشرية (لاعتقاد) أولئك (القائلين) ـ وهم الكفار ـ (أن الرسول لا يكون بشرا) ، إنما يكون ملكا (مع أصرار المخاطبين) بهذا الخطاب (على دعوى الرسالة) فصار الرسل فى اعتقاد المتكلمين بهذا الكلام بمنزلة من ادعى نفى البشرية صريحا ؛ لأنهم فى اعتقادهم ادعوا ما يستلزم نفيها ، وهو الرسالة ، ولا فرق بين من ادعى نفى الشيء ، ومن ادعى ما يستلزم نفيه وقد تقدم أن التنزيل أصله تشبيه المنزل بذى المنزلة ، والتنزيل هنا منشؤه اعتقاد المتكلمين ما ادعى المخاطبون ثبوته يستلزم نفى المحصور فيه ، فقد روعى فيه حال المتكلم ، والمخاطب ، بخلاف ما تقدم فمنشؤه حال المخاطب فقط وإنما خاطبوهم بهذا الخطاب ، ولم يقولوا : ما أنتم رسل الذى هو مرادهم لأنه من زعمهم أبلغ إذ كأنهم قالوا : أنكرتم ما هو من الضروريات ، وهو ثبوت البشرية ، وأنتم لا تتعدون الاتصاف بها إلى الاتصاف بنقيضها الذى ثبتت معه الرسالة ، ولهذا كان قصر قلب وقيل إنه يمكن أن يكون قصر أفراد جريا على الظاهر من غير تنزيل ، فكأنهم قالوا : ما اجتمعت لكم البشرية والرسالة كما تزعمون ، أو قصر قلب بلا تنزيل أيضا بأن يكون المراد : ما أنتم إلا بشر مثلنا لا بشر أعلى منا بالرسالة.

ولما كان هنا مظنة سؤال ، وهو أن يقال مخاطبة الكافرين للرسل بالحصر المذكور تقتضى أن الرسل فهموا عنهم مرادهم ، وأن المعنى ما أنتم إلا بشر لا رسل بقرينة من القرائن لأن الغالب أن إيراد الكلام فى المحاورات يكون على وجه يفهم المخاطب به المراد منه وإلا خلا الخطاب بها عن الفائدة فقول الرسل ـ على نبينا وعليهم

__________________

(١) إبراهيم : ١٠.

٤٤٧

الصلاة والسّلام ـ (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(١) ظاهره إقرار بما ادعته الكفرة ، وتسليم للحصر على وجهه وذلك إقرار بنفى الرسالة وهو محال فما المراد بهذا القول؟ أشار إلى الجواب عن ذلك فقال : (وقولهم) أى وقول الرسل للكافرين (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) من باب مجاراة الخصم أى مماشاته ومسايرته بإرخاء العنان له بتسليم بعض مقدماته صحيحة كانت أو فاسدة ؛ (ليعثر) أى ليسقط ويزل فهو من العثار وهو الزلة من العثور وهو الاطلاع وإنما يسلم له بعض المقدمات (حيث يراد تبكيته) أى إسكاته ، وقطعه بأن يرتب عليها بعد استماعه ، وطماعيته فى الظفر ما ينقطع به إما بإظهار أنها بعد تسليمها لا تستلزم المطلوب أو أنها تستلزم ما يناقض المطلوب ، فينقطع الخصم فى استدلاله فى الأول بأن يحتاج إلى دليل آخر أو ينقطع فى مطلوبه فى الثانى (لا تسليم انتفاء الرسالة) أى : ما قالته الرسل إلا للمجاراة.

ولم يقولوه لتسليم انتفاء الرسالة عنهم ، وذلك لأن المراد ما نحن إلا بشر لا ملائكة كما تقولون لكن لا ملازمة بين البشرية ، ونفى الرسالة كما تعتقدون فإن الله تعالى يمن على من يشاء من عباده بخصوصية الرسالة ، ولو كانوا بشرا فالمجاراة هنا ليست من باب تسليم المقدمة الفاسدة ليترتب عليها ما يناقض المقصود بل من باب تسليم الصحيح ، وبيان أنه لا يستلزم المطلوب كما لا يخفى لكن إطلاق المجاراة على الأول أكثر.

وإذا كان الإتيان بالحصر لحكاية المسلم لم يرد أن يقال الحصر إنما يكون للإنكار والخصوم هنا غير منكرين كون الرسل بشرا لا ملائكة فلا يناسب الحصر هنا من جملة موافقة حكايته عن الخصم لبيان أنه لا يستلزم المراد ، فالكافرون هنا حصروا الرسل فى البشرية دون الملائكة زاعمين أن ذلك الحصر يستلزم نفى الرسالة للتباين بين البشرية والرسالة فى اعتقادهم ، فسلم لهم الرسل الحصر ، فحكوه عنهم لا لرده بل لتحقيقه ، وبيان أنه لا يستلزم نفى الرسالة عما زعموا ؛ لأن الرسالة منة من القادر على أن يجعلها فيمن يشاء من بشر أو غيره ، كما يقال لمن قال أنا أعرف العربية ما أنت إلا

__________________

(١) إبراهيم : ١١.

٤٤٨

أعجمى الأصل أى : لا عربي فيقول ذلك القائل : ما أنا إلا أعجمى الأصل كما قلتم ولكن يجوز فى حكم الله تعالى أن يعلم العربية لمن يشاء من عباده فافهم.

ثم أشار إلى مثال ما تضمنه قوله بخلاف الثالث يعنى : إنما كما تقدم لأنه يتضمن أن الأصل فى إنما أن تستعمل فيما من شأنه أن لا يجهله المخاطب فقال : (وكقولك) وهو عطف على قوله كقولك لصاحبك أى كما تقول : (إنما هو أخوك لمن يعلم ذلك) أى يعلم كون المخبر عنه أخاه (ويقربه) أى بكونه أخا له ، (وأنت تريد) بما قلت (أن ترققه عليه) أى أن تحدث فى قلبه الشفقة والرقة عليه ؛ لتذكره الأخوة المقتضية لذلك ولكن على هذا يكون الحصر لا للإنكار ، بل لتنزيله منزلة المنكر لعدم عمله بموجب علمه بالأخوة فتذكر الأخوة له ولو كان عالما بها لعلة تحدث فيه الشفقة بسماعها ؛ لأن الشيء قد يوجب بسماعه من الغير ما لا يوجبه بمجرد علمه فعلى هذا يكون المثال لا للإخراج على مقتضى الظاهر ، بل على خلاف مقتضاه اللهم إلا أن يحمل قوله لمن يعلم ذلك أى : لمن يتنبه لعلم ذلك بعد جهله بأدنى تنبيه ، ولذلك قيل : إن الأولى أن يكون هذا مثالا لخلاف مقتضى الظاهر ، ولم يقل : والواجب أن يكون هذا مثالا إلخ لكن هذا الحمل بعيد لفظا ومعنى تأمل.

(وقد ينزل) الحكم (المجهول) أى : الذى من شأنه أن ينكر ويجهل (منزلة) الحكم (المعلوم) أى : الذى من شأنه أن يعلم ولا ينكر ، وإنما ينزل كذلك ؛ (لادعاء ظهوره) أى : لادعاء المتكلم ظهوره وأن إنكاره ليس مما ينبغى ، (ف) بسبب ذلك التنزيل (يستعمل له) الطريق (الثالث) من طرق القصر وهو إنما وذلك (نحو) قوله تعالى حكاية عن اليهود ـ لعنة الله عليهم ـ (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(١) فقد استعملوا إنما فى إثباتهم الصلاح لأنفسهم ، وهى إنما تستعمل فى الحكم الذى من شأنه أن لا ينكر ، ولا يجهل لادعائهم ظهور صلاحهم ، ففى استعمالهم إنما فى إثبات الصلاح لادعائهم ظهوره إشعار بأن نقيضه وهو فسادهم ظاهر الانتفاء حتى لا يحتاج فى نفيه إلى التأكيد بالنفى ، والاستثناء فقد أنكروا الفساد الذى اتصفوا به مبالغين فى إنكاره حيث زعموا

__________________

(١) البقرة : ١١.

٤٤٩

أن نفيه من شأنه أن يلحق بالظواهر والضروريات التى لا تنكر ، (ولذلك) أى : ولأجل تضمن كلامهم المبالغة فى إنكار الفساد الذى اتصفوا به (جاء) قوله تعالى (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ)(١) (ل) أجل (الرد عليهم) بإثبات الفساد لهم حال كون ذلك القول (مؤكدا بما ترى) أى مصاحبا للتأكيد بأمور كثيرة منها : كون الحكم فى صورة الجملة الإسمية المفيدة للدوام ، والثبوت ، ومنها : تعريف الجزأين أعنى : المبتدأ والخبر فى قوله تعالى (هُمُ الْمُفْسِدُونَ) وتعريفهما يفيد الحصر المتضمن ؛ للتأكيد لأن المنفى فيه يتضمن نفيه إثبات مقابله ، كما أن المثبت فيه يتضمن إثباته نفى مقابله ، ومنها توسط ضمير الفصل المفيد لتأكيد الحصر المستفاد من تعريف الجزأين مع أنه رابطة مفيدة لتأكيد النسبة ، ومنها : تصدير الكلام بحرف التنبيه الدال على أن مضمون الكلام مما له خطر يوجب العناية بإثباته ، ومنها : تعقيبه بما يدل على التقريع والتوبيخ وهو قوله تعالى (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)(٢) لإفادته أنهم من جملة الموتى الذين لا شعور لهم وإلا لأدركوا إفسادهم بلا تأمل ، ثم لما كان لإنما مزية ظاهرة على العطف أفادها بقوله ، (ومزية إنما على العطف) بلا وغيرها مما يفيد الحصر ثابتة ب (أنها) أى إنما (يعقل منها الحكمان معا) أى : يعقل منها حكم الإثبات والنفى المفادين بالحصر دفعة بخلاف العطف فإنك إذا قلت : قام زيد لا عمرو يعقل أولا إثبات القيام لزيد ثم يعقل ثانيا نفيه عن عمرو وكذا يتعقل العكس فى قولك : ما قام زيد بل عمرو إذا يعقل أولا نفى القيام عن زيد ثم إثباته لعمرو ، وأما النفى والاستثناء والتقديم ففيهما تعقل الحكمين أيضا معا ، فلم تظهر هذه المزية لإنما عليهما ، ولذلك لم يتعرض لهما مع أن لها على التقديم مزية من حيث احتمال كون المقدم معمولا لشيء آخر وعلى النفى ، والاستثناء من حيث توقف الاستثناء فى الإفادة على المستثنى منه والفرق بين الاستثناء والعطف أن صورة العطف تحتمل الاستقلال والاستثناء مرتبط بالمستثنى منه فيفيد الحكمين بواسطة ذلك الارتباط.

__________________

(١) البقرة : ١٢.

(٢) البقرة : ١٢.

٤٥٠

ثم أشار إلى أن إنما لها مواقع ، وأحسنها ما يقصد به التعريض فقال : (وأحسن مواقعها) أى أحسن مواضع إنما : (التعريض) أى الكلام الذى يقصد به التعريض ، وهو كما يأتى أن يستعمل الكلام فى معنى ليلوح بغيره أى : ليفهم منه معنى آخر لا ظاهره ، وذلك (نحو) قوله تعالى (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)(١) فإنك تجزم بأن ليس المراد ظاهره فقط وهو حصر تذكر أى تعقل الحق فى أولى الألباب أى : أرباب العقول ؛ (فإنه) معلوم بل هو (تعريض بأن الكفار من فرط) ـ أى : تناهى ـ (جهلهم) إلى الغاية القصوى هم (كالبهائم فطمع النظر منهم كطمعه منها) أى ما يصل إليه النظر منهم هو ما يصل إليه من البهائم فكما أن النظر لا يطمع أحد أن يصدر من البهائم فلا يطمع أحد أن يصدر من الكفار.

وكثيرا ما يراد التعريض بالكلام المتضمن للحصر بطريق من الطرق كما يقال فى جنب من يؤذى المسلمين : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده تعريضا بنفى الإسلام عنه فإن قلت : إفادة نحو هذا الكلام للمعنى المعرض به ظاهر ؛ لأن حصر الإسلام فيمن لا يؤذى يستلزم نفيه عن جنس المؤذى ومن جملته السامع ، وأما نحو : إنما يفهم العاقل ، وإنما يستجيب السامع فما وجه دلالته على المعنى المعرض به ؛ فإن دلالة التعريض بطريق الاستلزام؟ قلت : اللزوم هنا لا يشترط فيه كونه عقليا على ما يأتى فى دلالة الالتزام فقولنا فى جنب من أفهم فلم يفهم : إنما يفهم العاقل تعريض بأن لا عقل له لما دل على حصر الفهم على غير هذا السامع ونفيه عنه ؛ لأن قرينة عدم فهمه عند الاستعمال مع وجود من يتوهم أنه ممن يفهم تدل على أن الحصر باعتباره ، وكان الغير المحصور فيه هو العاقل فإن الكلام بتلك القرينة مقابلة السامع للعاقل يفهم نفى العقل عنه وأنه نزل منزلة البهيمة كما تقدم فى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)(٢) ، وإن شئت قلت : لما علق الفهم على العقل المناسب والسامع لم يفهم فهم نفى العقل عنه الذى هو العلة وإلا لوجد الفهم فليتأمل.

__________________

(١) الرعد : ١٩.

(٢) الأنعام : ٣٦.

٤٥١

(ثم القصر كما يقع بين المبتدأ والخبر على ما مر) فى تعريف الجزأين ، وفى غير ذلك من طرق القصر (يقع) أيضا (بين الفعل والفاعل) ، وذلك بأن يحصر الفعل فى الفاعل نحو قولك : ما قام القوم إلا زيد ولا يتوهم إمكان حصر الفاعل فى الفعل ، (و) يقع أيضا بين (غيرهما) أى غير الفعل والفاعل ، وذلك كما بين الفاعل والمفعول نحو : ما ضرب زيد إلا عمرا فى حصر الفاعل ، وما ضرب عمرا إلا زيد فى حصر المفعول ، ومعنى الحصر الفاعل حصر فعله فى المفعول أو حصره فى فعله المتعلق بالمفعول ففى معناه وجهان أن يكون التقدير : ما مضروب زيد إلا عمرو ، فيكون من قصر الصفة ، وفيه تحويل الصفة إلى صفة المفعول ، وأن يكون : ما زيد إلا ضارب عمرو ، أى لا ضارب خالد مثلا فيكون من قصر الموصوف وكذا معنى حصر المفعول حصر الفعل المتعلق به فى الفاعل ، أو حصره فى الفعل المنسوب للفاعل ففى معناه وجهان أيضا : أن يقدر فى : ما ضرب عمرا إلا زيد ما عمرو إلا مضروب زيد أى : لا مضروب خالد مثلا فيكون من قصر الموصوف ، وفيه تحويل الصفة إلى صفة المفعول ، وفيه أصل التركيب ذكر الموصوف المحصور ، وهو عمرو قبل ذكر متعلق الصفة وصح ذلك لتنزيله منزلة تقديمه على جميع الصفة.

وثانيهما : أن يقدر المعنى ما ضارب عمرو إلا زيد فيكون من قصر الصفة ، وقد تبين بما تقرر أنه يجوز أن يعتبر الحصران فى حصر واحد لكن يترجح المتبادر من التركيب منهما ، وتبين أن وجهى قصر الصفة فى حصر الفاعل والمفعول حيث كانت صورة الأول : ما مضروب زيد إلا عمرو ، وصورة الثانى : ما ضارب عمرو إلا زيد لو قدم فى الحصرين الموالى ل «إلا» وقيل فى الأول : ما ضرب إلا عمرا زيد ، وفى الثانى : ما ضرب إلا زيد عمرا لزم حصر الصفة قبل ذكر ما تضاف له ، وفى ذلك إيهام حصول الصفة قبل تمامها كما يأتى تحقيقه إن شاء الله تعالى ، ودخل فى قوله غيرهما قصر أحد المفعولين على الآخر كقولك : ما أعطيت زيدا إلا درهما ، وعكسه ولا يخفاك تأويله على قصر الصفة بأن تقول : ما معطى زيد منى إلا درهم أى : لا دينار على الموصوف بأن تقول : ما أنا إلا معطى زيد درهما أى لا معطيه دينارا ، ودخل فيه قصر الحال على

٤٥٢

صاحبها كقولك : ما جاء إلا زيد ، وعكسه كقولك : ما جاء زيد إلا راكبا ، ومعنى الأول ما صاحب المجئ مع الركوب إلا زيد أو : ما جاءنى راكبا إلا زيد ، ومعنى الثانى : ما زيد إلا صاحب المجئ راكبا أو ما زيد إلا جاءنى راكبا ، فالأول من قصر الصفة ، والثانى من قصر الموصوف ، ولا يخفى أن الأول لو قدم فيه مصاحب إلا كان فيه قصر الصفة قبل تمامها ، وأما الثانى فهو من قصر الموصوف ، وسيأتى مزيد بيان فى نحوه ودخل فيه الحصر فى التمييز ، كقولك : ما طاب زيد إلا نفسا أى ما يطيب من زيد إلا نفسه فهو من قصر الصفة ، ودخل فيه الحصر فى المجرور كقولك : ما مررت إلا بزيد والظرف نحو : ما جلست إلا عندك ، والصفة كقولك : ما جاءنى رجل إلا فاضل ، والحصر فى البدل كقولك : ما جاءنى أحد إلا أخوك ، وما ضربت زيدا إلا رأسه ، وكقولك : ما سرق زيد إلا ثوبه ، وما أعجبنى زيد إلا حسنه ، فالمتعلقات كلها يجرى فيها القصر إلا المفعول معه فلا يقال : ما جاءنى زيد إلا والطريق ، ولا يخفاك تأويل الكل على قصر الصفة أن تقديم الموالى لئلا يستلزم قصر الصفة قبل تمامها ، فيجب تأخيره إن أريد الجرى على الأصل وإليه أشار بقوله : (ف) القصر (فى الاستثناء يؤخر) فيه (المقصور عليه بأداة) أى مع أداة (الاستثناء) التى اتصل بها فإذا أريد القصر على الفاعل قيل : ما ضرب عمرا إلا زيد ، وإذا أريد القصر على المفعول قيل : ما ضرب زيد إلا عمرا ، وقس على هذا سائر المتعلقات ، وقد تقدمت أمثلتها ، وتقدم بيان رجوع قصر الفاعل والمفعول إلى قصر الصفة أو الموصوف ، وكذا قصر غيرهما فلا يخفاك مما تقدم فيما لم يصرح فيه بالرد وجهه ، ويكون ذلك حقيقيا ، وغير حقيقى فإذا قلت فى قصر الفاعل : ما ضرب زيد إلا عمرا فإن أريد : ما مضروب زيد إلا عمرو دون كل ما هو غير عمرو كان حقيقيا ، وإن أريد دون خالد كان إضافيا ثم إن أريد الرد على من زعم أن مضروب زيد عمرو وخالد مثلا كان أفرادا وإن أريد الرد على من زعم أن مضروبه خالد دون عمرو كان قلبا ، وإن أريد الرد على المتردد فى المضروب منهما مثلا كان تعيينا ، وقس سائر المتعلقات على هذا ، (وقل تقديمهما على حالهما) أى : ووقع على وجه القلة تقديم أداة الاستثناء والمستثنى على المقصور حال كون الأداة والمستثنى

٤٥٣

على حالهما وهو اتصال أحدهما بالآخر ثم مثل لتقديمهما على حالهما المحكوم عليه بالقلة فقال : (نحو) قولك فى قصر الفاعل على المفعول : (ما ضرب إلا عمرا زيد) فقد قدمت عمرا وهو المستثنى مع الأداة على المحصور الذى هو الفاعل وهو زيد (و) قولك فى قصر المفعول : (ما ضرب إلا زيد عمرا) فقد قدمت الأداة وزيد على المقصور الذى هو المفعول وهو عمرو ثم هذا التقديم إنما يقع على قلة إن بقيت الأداة والمستثنى بها على حالهما كما قيل ، وأما إن قدم المستثنى وحده وجعلت إلا مع المحصور كأن يقال : فيما ضرب زيد إلا عمرا : ما ضرب عمرا إلا زيد ، وفى ما ضرب عمرا إلا زيد : ما ضرب زيد إلا عمرا لم يجز وقوعه بقلة ولا بغيرها ؛ لأنه يفهم خلاف المقصود ويؤدى إلى عكس المراد ، وإنما يجوز ما ذكر على قلة أيضا إن بنينا على أنه لا يجوز أن يستثنى بإلا إلا شيء واحد لضعفها ؛ لأن أصلها لا النافية ، وهى لا تنفى إلا شيئا واحدا فيعلم مع التقديم حيث يقصد الحصر فى مواليها ما هو المراد من التركيب من قصر ما بعد مدخولها على مدخولها ، وأما إن بنينا على جواز أن يستثنى بها شيئان بلا عطف لم يجز التقديم حيث يقصد الحصر فى ما وإلا هنا فقط بقلة ولا بغيرها ؛ لأن التقديم يوجب توهم أن المراد القصر فى مواليها وفيما بعده ، والمقصود القصر فى مواليها فقط.

فلا يجوز على هذا ولو بقلة أن يقال فى ما ضرب زيد إلا عمرا : ما ضرب إلا عمرا زيد برفع زيد ونصب عمرو ؛ لأنه حيث جوزنا استثناء شيئين يتوهم أن المعنى : ما ضرب أحدا أحد إلا عمرا ضربه زيد ، وأكثر النحويين على المنع وإياه اعتمد المصنف ، ولذلك حكم بالجواز على وجه القلة وبعضهم جوزه إذا صرح بالمستثنى منه كأن يقال : ما ضرب أحد أحدا إلا زيد عمرا ، فإلا زيد مستثنى من الأحد الأول ، وعمرو مستثنى من الأحد الثانى ، ثم بين وجه قلة تقديمهما بحالهما فقال ، وإنما قل تقديمهما بحالهما (لاستلزامه) أى : لإيهام استلزام التقديم (قصر الصفة قبل تمامها) أما فى قصر الصفة فظاهر ؛ لأن الفعل المتعلق بالفاعل فى قصره على المفعول هو المقصور ، فلو ذكر المفعول قبل الفاعل لزم ما ذكر فإذا قلت : ما ضرب زيد إلا عمرا ، وتؤوّل على أن المعنى : ما مضروب زيد إلا عمرو ، لزم لو قدم المقصور عليه وقيل : ما ضرب إلا عمرا زيد أنا

٤٥٤

قدمنا عمرا ، وهو المقصور عليه قبل تمام الصفة المتضمنة للفعل إذ تمامها بذكر الفاعل وكذا الفعل المتعلق بالمفعول فى قصره على الفاعل هو المقصور فإذا قلت : ما ضرب عمرا إلا زيد ، وقدر أن المعنى : ما ضارب عمرو إلا زيد فلو قدم وقيل : ما ضرب إلا زيد عمرا لزم قصر الضرب قبل ذكر متعلقه ، وهو ظاهر كما تقدمت الإشارة إليه وأما فى قصر الموصوف كما قدر فى المثال الأول : ما زيد إلا ضارب عمرو فلا يتضح فيه قصر الصفة قبل تمامها ، وإنما فيه فى التأخير تقديم المقصور على بعض الصفة المنزل منزلة التقديم على الكل ، وفى التقديم تأخيره عن جميعها ، وكذا إذا قدر فى المثال الثانى ، وهو قصر المفعول : ما عمرو إلا مضروب زيد إنما فيه فى التأخير تقديم المقصور على بعض الصفة ، فينزل منزلة تقديمه على جميعها ، وفى التقديم يلزم تأخيره عن جميعها ، وقد تقدمت الإشارة لهذا أيضا وإن أجريت هذا الاختبار فى جميع المتعلقات وجدتها لا تخلو عن مثل ما ذكر ، وبهذا يعلم أن تعليل المصنف قاصر ، وإنما قلنا لإيهام استلزامه قصر الصفة لأن الاستلزام الحقيقى لزم بتحقق لأن ما به تمام الصفة ذكر فهى فى حكم التامة ، ولهذا لم يمتنع التقديم بل يقلّ.

(ووجه الجميع) أى : وجه إفادة النفى والاستثناء الحصر فى جميع ما ذكر مما بين المبتدأ والخبر والفاعل والمفعول والحال وصاحبها والمفعول الأول والثانى وغير ذلك (أن) ذلك (النفى) الكائن (فى الاستثناء المفرغ) وهو الذى حذف فيه المستثنى منه وأعرب ما بعد إلا فيه بحسب العوامل ، وإنما قيده بالمفرغ ولو كان الحصر موجودا فى غيره من جهة المعنى ؛ لأن الحصر فى اصطلاحه هو ما يكون بالمفرغ ، وأما غيره فهو بمنزلة إفادة الحصر بغير الأداة كإفادته بكلام تام أو بوصف أو بشرط ، أو نحو ذلك مما لا يعد من الطرق فإذا قلت : ما قام أحد إلا زيد فكأنك قلت : ما قام أحد ولكن قام زيد ولو قيل باستوائهما ما بعد (يتوجه) أى سبب ذلك أن النفى يتوجه (إلى مقدر هو مستثنى منه) من جهة المعنى على حسب ما يستلزمه الاستثناء ، ويقتضيه أصل صناعة الإخراج بحيث لو شاء المتنبه أن يقدره لقدره لاقتضاء القواعد إياه.

٤٥٥

فالمراد بالتقدير إمكانه لا أنه يتوقف إفادة التركيب للمعنى على تقديره تقديرا يكون كالمذكور بحيث يكون إسقاطه إيجازا فلا ينافى هذا ما سيأتى من أن قوله تعالى (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)(١) من المساواة ، ويحتمل وهو ظاهر كلام صاحب المفتاح أن فى الاستثناء المفرغ مقدرا عاما حقيقة ، وأن العامل لا يتسلط على ما بعد إلا ووجه بأنا إذا قلنا مثلا : ما قام إلا زيد ففى قام ضمير يعود على أحد وهو مقدر ذهنا فيعم بعموم مصدوقه ، ويكون إلا زيد بدلا والتزام رفعه فى هذا القسم لعدم ظهور المستثنى منه لفظا ، وتقدير ضمير يعود على مقدر لم يذكر موجود كقولهم إذا كان غدا فأتنى أى : إذا كان ما نحن فيه من سلامتنا غدا فأتنى ، ولا يخفى ما فيه من التعسف ، وما نظر به لا يتضح به الأمر ؛ لوجود الدليل الحالى فيه بخلاف الاستثناء بعد النفى فإن نفس المستثنى هو الذى يتبادر تسلط العامل عليه ، والأداة لمجرد الحصر (عام مناسب للمستنثى فى جنسه) ، أما مناسبته للمستثنى فى الجنسية بأن يصدق عليه فلأنه لو لم يصدق عليه لم يوجد إخراج وأما عمومه له فليصح الاستثناء الذى هو الإخراج أيضا إذ لو أريد البعض فإن كان ذلك البعض معينا هو هذا المستثنى كان الكلام تناقضا محضا ، وإن كان غيره فلا إخراج ، فتبطل فائدة وضع دلالة الاستثناء ، وإن كان مبهما لم يتحقق دخوله فلا يتحقق الإخراج ، فبطل تحقق دلالة الآلة فيما وضعت له فلم يفهم المعنى ، واللفظ الموضوع يستلزم فهو معناه فوجب أن يكون ذلك المقدر عاما ؛ ليتحقق الإخراج ، ولهذا يقال الاستثناء معيار العموم ، ولا يخفى ما فى قوله : مناسب له فى جنسه من المسامحة ؛ لأن ظاهره مشاركة المستثنى للمستثنى منه فى الجنس والمقصود كون المستثنى منه جنسا للمستثنى بحيث يصدق عليه ، والأولى أن يكون قرينا له إن أمكن ، وإلا قدر ما أمكن كلفظ شيء فيقدر فى نحو : ما ضرب إلا زيد ، ما ضرب أحد إلا زيد ، وفى نحو : ما كسوته إلا جبة ، ما كسوته كسوة إلا جبة ، وفى نحو ما جاء إلا راكبا ، ما جاء كائنا على حال من الأحوال إلا راكبا إذ معنى راكبا كائنا على حال الركوب ، وفى نحو : ما سرت إلا يوم الجمعة ، ما سرت وقتا من الأوقات إلا يوم

__________________

(١) فاطر : ٤٣.

٤٥٦

الجمعة ، وقس على هذا فيقدر فى نحو : ما طاب زيد إلا نفسا ما طاب شيئا مما يتعلق به إلا نفسا ، وفى نحو ما أعطى إلا درهما ما أعطى شيئا إلا درهما وفى نحو : ما مررت إلا بزيد ما مررت بأحد إلا بزيد ، وفى نحو ما زيد إلا قائم ما زيد حقيقة من الحقائق التى يظن كونه إياها إلا قائم أى : إلا حقيقة قائم.

(و) مناسب له (فى صفته) من الفاعلية والمفعولية والحالية والظرفية وغير ذلك كما ذكره فى الأمثلة ؛ فإذا كان شرط الاستثناء الحقيقى فى النفى تقدير عام مناسب ؛ ليصح الإخراج حكما ومعنى ، فالنفى حيث تسلط على ذلك العام يقتضى أن شيئا من مصدوقاته لا يوجد فى ضمن الإثبات (فإذا أوجب) أى : أثبت (منه) أى من ذلك المنفى المقدر العام (شيء) من مصدوقاته التى فى ضمن المنفى (بإلا) متعلق بأوجب أى إذا أثبت بإلا شيء (جاء القصر) ؛ لأن ذلك يقتضى نفى الحكم عن غير الموجب وإثباته لذلك الموجب وهو ظاهر ، وهذا القصر الحقيقى ظاهر ، وأما الإضافى فيحتمل أن يقدر العام فيه مرادا به ذلك المنفى فقط ليرد طريق القصر على طريق واحد ، وإن اختلفت الإرادة ، ويحتمل أن يكون خارجا عن هذا الكلام ، فيكون وجه الإفادة فيه أن الكلام الذى هو متحقق فيه نفى شيء ، وإثبات غيره قطعا ثم ما ذكر من التقدير فى المفردات واضح وأما فى الجمل كما إذا قيل : ما جاء زيد إلا وهو يضحك فيحتمل أن يؤول المستثنى بالمفرد أى : ما جاء كائنا على حال إلا كائنا على حال الضحك ، أو يقدر : ما جاء وهو يفعل شيئا من الأشياء إلا وهو يضحك ، ثم لما بين أن المقصور عليه بإلا يقل تقديمه مع إلا ، ولم يمتنع بالكلية لظهور المقصور عليه معها أشار إلى أن المقصور عليه بإنما يخالف ذلك فيجب تأخيره لعدم الدليل على القصر إن قدم فقال هذا فى القصر الكائن فى الاستثناء.

(و) أما القصر الكائن (فى إنما) ف (يؤخر فيه المقصور عليه) حيث يستفاد القصر منها فقط فى كثير من الصور (نقول) فى قصر الفاعل : (إنما ضرب زيد عمرا) بتأخير عمرو الذى هو المفعول كما تقول فى قصر المفعول إنما ضرب عمرا زيد بتأخير زيد الذى هو الفاعل (ولا يجوز تقديمه على غيره) أى تقديم المقصور عليه على المقصور

٤٥٧

حيث كان الطريق إنما (ل) أجل وجود (الإلباس) فى التقديم وذلك ؛ لأن كلامن المفعول والفاعل مثلا الواقعين بعدها يجوز أن يكون هو المقصور عليه دون الآخر ، وأن يقترن أحدهما بقرينة تدل على كونه هو المقصور عليه ، فقصدوا أن يجعلوا التأخير علامة القصر على ذلك المؤخر فالتزموه فى مواطن مع إنما ، ولم يجعلوا التقديم أمارة ليجرى على ما تقرر فى أصل القصر بإلا كما تقدم فى النفى والاستثناء فيها ضمنى لا صريح فلم يظهر المقصور عليه فأخر ليتضح ، وإنما قيدنا بقولنا : حيث يستفاد القصر منها فقط احترازا من نحو قولك : إنما زيدا ضربت فإن المفيد للقصر هنا التقديم وكذا قوله : إنما لذة ذكرناها أى : إنما ذكرناها للذة.

وقولنا فى كثير من الصور إشارة إلى إخراج نحو : قولك : إنما قمت أى لا إنى قعدت فإن الفاعل هنا محصور فى الفعل ، وقدم الفعل عليه لعدم صحة تقديم الفاعل عليه فيفهم من هذا أنها قد لا تفيد الحصر وحدها ، وأن المحصور معها قد يؤخر لعارض (وغير كإلا فى إفادة القصرين) أى : قصر الصفة ، وقصر الموصوف أفرادا وقلبا وتعيينا كقولك فى الأول : ما قام غير زيد ، وفى الثانى : ما زيد غير قائم ، فإن أريد الرد على من اعتقد المشاركة كانا أفرادا ، وإن أريد الرد على من اعتقد الخلاف كانا قلبا ، وإن كان المخاطب مترددا كانا تعيينا ، ويكون القصر بها أيضا حقيقيا وإضافيا ، فالإضافى كالمثالين والحقيقى كقولنا : لا إله غير الله تعالى وما خاتم الأنبياء غير سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

(و) غير كإلا أيضا فى (امتناع مجامعتها لا العاطفة) ؛ لما تقدم فى النفى والاستثناء من أن شرط لا العاطفة أن لا ينفى المنفى بها بغيرها قبلها ، وههنا وجد نفيه بغيرها قبلها فلا يقال : ما قام غير زيد لا عمرو كما لا يقال : ما قام إلا زيد لا عمرو فى قصر الصفة ، وكذا لا يقال : ما زيد غير شاعر لا كاتب فى قصر الموصوف كما لا يقال ما زيد إلا شاعر لا كاتب.

٤٥٨

الإنشاء

أي : مبحثه ، ثم لفظ الإنشاء في الجملة يطلق على الكلام الذي لا تحتمل نسبته الصدق ، والكذب لعدم قصد حكاية تحققها فى الخارج كما فى الخبر ، ويطلق على إلقاء هذا الكلام وإيجاده وهو فعل المتكلم فإذا تحقق هذا فالضمير فى قوله (إن كان طلبا) يعود إلى الإنشاء لا بمعنى العنوان على هذا المبحث ضرورة لأن المراد منه الجمل المتضمنة لهذا الفصل ، وليس طلبا بل بمعنى مطلق الطلب أو غيره ، ثم الأظهر أن المراد به حينئذ فعل المتكلم لا الكلام نفسه ويظهر ذلك بتقسيمه إلى الطلب وغيره ثم تقسيم الطلب إلى التمنى وغيره ، ثم ذكر أن اللفظ الموضوع للتمنى الذى هو من أقسام ذلك الإنشاء لفظ ليت ، ومعلوم أن ليت لم توضع لنفس الكلام الذى هو قولنا مثلا : ليت الشباب يعود بل لفعل المتكلم ، ولكن يرد على هذا أن ليت لم توضع أيضا لفعل المتكلم الذى هو إلقاء هذا الكلام ، وإنما وضعت لنفس التمنى الذى هو الحالة القلبية ، ولذلك يقال : إن ليت تتضمن معنى أتمنى فإن تؤول على معنى أن لفظ ليت موضوع ؛ لأجل أن يوجد أى يلقى له الكلام الإنشائى فتكون للعلة الغائية صح ذلك فى إرادة نفس الكلام الملقى ، فيكون التقدير : إن اللفظ الموضوع للكلام الإنشائى على وجه التمنى بمعنى : أنه وضع لأجل تحقيقه وتثبيته هو لفظ ليت ، فالأولى أن يراد به المعنى القلبى المتعلق بالنسبة التى إذا ذكر معهما اللفظ المشعر بذلك المعنى صارت النسبة إنشاء فقوله : إن كان طلبا احترز به مما إذا لم يكن طلبا ، فلم يتعرض له لقلة المباحث البيانية المتعلقة به لقلة دورها على ألسنة البلغاء ، وذلك كبعض أفعال المقاربة كعسى واخلولق وحرى ، وكأفعال المدح والذم كنعم وبئس ، وكصيغ العقود كبعت لإنشاء البيع ، ونكحت لإنشاء التزوج ، وكجملة القسم كأقسم بالله لإنشاء القسم ، وكرب بناء على أنها للإنشاء باعتبار أنك إذا قلت : مثلا : رب جاهل فى الدنيا والمراد أنك تستكثر الجاهلين ، ولا يعترضك تكذيب ، ولا تصديق فى ذلك الاستكثار ، ولو كان يعترض باعتبار وجودهم فى الدنيا نظر المدلول قولك فى الدنيا لكن المتبادر أنها للإخبار ، وأن الغرض الإخبار بالكثرة لا مجرد إظهار الاستكثار فيعترضه التصديق والتكذيب

٤٥٩

ونحو ذلك مثل إظهار الفرح والتحزن مع أن أكثر هذه الأشياء نقلت عن الخبرية إلى الإنشائية يستغنى بأبحاثها الخبرية عن الإنشائية ؛ لأنها تنقل مستصحبة لما يرتكب فيها فى الخبرية.

(استدعى مطلوبا سواء حين طلب وقت الطلب) أى : إن كان الإنشاء طلبا اقتضى مطلوبا من وصفه أنه غير حاصل وقت الطلب سواء حين طلب حصوله فيما مضى كما فى تمنى حصول ما لم يحصل كقولك : ليتنى جئتك بالأمس ، أو فى المستقبل وهو ظاهر ، وإنما استدعى مطلوبا غير حاصل ؛ لأن طلب تحصيل الحاصل بالطلب القلبى محال ، وأما طلبه بالكلام اللفظى فلا يستحيل إلا إذا أريد به معناه الأصلى ولذلك إذا وردت صيغة الطلب فى الحاصل حملت على ما يناسب المقام كما فى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ)(١) حمل على معنى دم على التقوى وكذا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا)(٢) أى : داوموا على الإيمان وإنما قلنا يستحيل بالطلب القلبى لأنه إن أريد بالطلب الإرادة ، فلا تتعلق بالواقع ، وإن أريد به المحبة والشهوة فلا تبقى الشهوة فى حصول المشته بعد حصوله ، وإنما تبقى شهوة دوامه وإن أريد به الكلام النفسى ، فهو تابع لأحد هذين ، وينتفى بانتفائهما بخلاف اللفظى.

أنواع الإنشاء

(وأنواعه) أى : أنواع الطلب (كثيرة منها) أى من تلك الأنواع :

التمنى

(التمنى) وهو : طلب حصول الشيء بشرط المحبة ونفى الطماعية فى ذلك الشيء ، فخرج ما لا يشترط فيه المحبة كالأمر والنهى والنداء والرجاء بناء على أنه طلب ، وأما نفى الطماعية فلتحقيق إخراج نوع الرجاء الذى فيه الإرادة وإخراج غيره مما فيه الطماعية ولو شرط المحبة يخرج كل ذلك وقد يفسر التمنى بأنه طلب حصول الشيء على وجه المحبة فيكون تفسيرا بالأعم لشموله بعض أقسام الأمر والنهى وغيرهما

__________________

(١) الأحزاب : ١.

(٢) النساء : ١٣٦.

٤٦٠