مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-3820-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٦٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

يؤيد ذلك من كلام أئمة التفسير فقال (ولهذا) أى : ولأجل أن التخصيص لازم للتقديم غالبا (يقال) أى : ولأجل ذلك يقول أئمة التفسير (فى) قوله تعالى حكاية ما أمر أن يخاطبه به العباد (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)(١) أى : يقال فى هذا الخطاب (معناه نخصك) أى : نجعلك دون كل موجود مخصوصا (بالعبادة والاستعانة) على جميع المهمات ، أو على أداء العبادة بمعنى أن لا نعبد ولا نستعين غيرك.

(و) لهذا أيضا يقال (فى) قوله تعالى (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ)(٢) معناه : تحشرون إليه لا إلى غيره وإنما كان كلام الأئمة فى تفسير الآيتين دليلا على أن التقديم أفاد الاختصاص ؛ لأنه لم يوجد فى الآيتين من آلات الحصر إلا التقديم كما لا يخفى.

وقد قالوا معنى الآيتين كذا ، وأما لو كان الاختصاص من مجرد ما علم من خارج وأن التقديم لمجرد الاهتمام كما قيل لم يناسب أن يقال معنى الآيتين كذا ، بل يقال استفيد مما تقرر من خارج أن لا عبادة ، ولا استعانة لغيره ، وأن لا حشر إلى غيره فليتأمل.

(ويفيد التقديم فى الجميع) أى : فى جميع ما أفاد فيه التقديم تخصيصا وراء) أى : بعد ذلك (التخصيص) المفاد للتقديم (اهتماما) مفعول يفيد أى : يفيد التقديم اهتماما (ب) ذلك (المقدم) بعد التخصيص ، وبعدية الاهتمام بالنظر إلى أن المقصود بالذات هو التخصيص ، والاهتمام تابع لسر التخصيص ، وقد تقدم أن الاهتمام يكون بمعنيين أحدهما : كون المقدم مما يعتنى بشأنه ، لشرف وعزازة وركنية مثلا ، فيقتضى ذلك تخصيصه مثلا بالتقديم وهذا المعنى يناسب بحسب الظاهر أن يقال ؛ لأنهم يقدمون الذى شأنه أهم وهم ببيانه أى : ذكر ما يدل عليه ، أعنى : ونفس الاهتمام فى هذا الموجب للتقديم ، ولا يدل تقديمه إلا على أن المتكلم له به الاعتناء المطلق.

والآخر : كونه مما فى تقديمه معنى لا يحصل عند التأخير ، فإن المفعول مثلا إذا تعلق الغرض بتقديمه لإفادة الاختصاص فلم يتعلق الاهتمام بذاته ، وإنما تعلق بتقديمه

__________________

(١) الفاتحة : ٥.

(٢) آل عمران : ١٥٨.

٤٠١

للغرض المفاد وليست الأهمية ههنا هى الموجبة للتقديم ؛ بل الحاجة إلى التقديم هى الموجبة للاهتمام بذلك التقديم ، فالأهمية هنا معللة موجبة بفتح الجيم لا موجبة بالكسر ، والعلة هى الحاجة والتقديم والأهمية متلازمان معللان بعلة الحاجة ؛ لأن الحاجة إنما هى إلى التقديم ، واهتم به لكونه محتاجا إليه ، وهذا المعنى يعم كل ما يجب فيه التقديم ، فإن قيل : كيف يصح على هذا المعنى الأخير الذى هو المراد هنا قوله ويفيد التقديم وراء التخصيص الاهتمام ؛ لأنه يصير المعنى أن التقديم يفيد الاهتمام بالتقديم ، وهو كإفادة الشيء نفسه؟ قلت : ليس هو من إفادة الشيء نفسه كما لا يخفى ؛ إذ لا مانع من أن يقال : إذا وقع التقديم لغرض آخر من الأغراض أفاد إذ ذاك أن المتكلم كان اهتم بذلك التقديم لذلك الغرض ، فالكلام على ظاهره صحيح ، لكن على هذا ليس فى هذا المعنى كبير فائدة ؛ لأنه من المعلوم أن التقديم حيث يتعلق به الغرض ، لفائدة من الفوائد فمن شأن مراد مريد تلك الفائدة أن يعتنى بالتقديم لذلك المراد فتأمل.

فإن تحقق كون الاهتمام على هذا من أغراض التقديم من السهل الممتنع إذ لا يصح على ظاهره والله أعلم (ولهذا) أى : ولأجل أن التقديم يفيد الاختصاص ويفيد بعد ذلك الاهتمام (يقدر) المحذوف (فى) قولنا (بسم الله مؤخرا) أى : يقدر ما يتعلق به الجار والمجرور مؤخرا ، حيث يكون ذلك المجرور مما له متعلق ، ويناسب المقام إرادة التخصيص ، كما فى بسم الله فإذا قدر مؤخرا أفاد الاختصاص والاهتمام معا ، ومعنى الاهتمام بين موجود ههنا ؛ لأن الجلالة يهتم بها لشرف ذاتها ، ويهتم بتقديمها مع الجار لإفادة الاختصاص ردا على المشركين فى ابتدائهم بأسماء آلهتم ؛ لأنهم يقولون باسم اللات باسم العزى مثلا.

والقصر هنا قصر إفراد ؛ لأن المشركين المردود عليهم بالتخصيص لا يمتنعون من الابتداء باسم الله تعالى ، إذ هم يعترفون بألوهيته ، وأنه أعظم الآلهة كذا قيل ، ويرد عليه أن تقديمهم المجرور فى قولهم : لعنة الله عليهم باسم اللات ـ مثلا ـ لا يصح أن يكون للاختصاص لاعتقادهم ألوهية الله تعالى وابتدائهم باسمه فى بعض الأوقات من غير إنكار عليهم ، ولا للاهتمام ؛ لأنه أعظم الآلهة على هذا وهم بلغاء فصحاء اللهم إلا

٤٠٢

أن يقال : يكون للاهتمام ؛ لأن المقام مقام الاستشفاع بتلك الآلهة فإن قيل الاختصاص حيث يقصد به الرد إنما يكون للرد على من زعم اختصاص الغير أو مشاركته فى الحكم ، فإذا قيل باسم الله وقصد الاختصاص كان المعنى : إنى أبتدئ باسم الله لا بغيره فقط أولا بغيره معه ، كما تعتقدون أيها المخاطبون.

والمشركون لا يعتقدون أن المؤمنين يبتدئون بأسماء آلهتهم مع الله تعالى ، أو بانفرادها فكيف صح التخصيص هنا للرد على المشركين. قلت : الرد عليهم فى اعتقادهم أن الآلهة ينبغى أن يبتدأ بأسمائها ، فلما حصر المؤمن الابتداء فى اسم الله تعالى فهم منه أنه لا ينبغى لى أن أبتدئ مع الله تعالى باسم آلهتك أيها المشرك ؛ لبطلانها وعدم نفعها فلا يلتفت إلى الابتداء بها ، فالحصر بالنظر إلى نفى إمكان الابتداء بأسماء الآلهة وانبغائه كما عليه المخاطب لا بالنظر إلى نفى الوقوع فافهم. والله أعلم (وأورد) على مقتضى ما ذكر (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(١) لأن قوله تعالى باسم ربك يناسب تقديمه على متعلقه ؛ لإفادة الاختصاص والاهتمام كما فى البسملة للرد على المشركين مع زيادة الاهتمام فإذا ظهر فيه مناسبة التقديم كما فى البسملة فرعاية ذلك فيه أحق ؛ لأن رعاية مقتضى البلاغة فى كلام الله تعالى أولى وأوجب ، فلو كان التقديم مفيدا للاختصاص والاهتمام لوجب تقديم باسم ربك على اقرأ ، فإن لم يتعلق الغرض بالتخصيص بالاهتمام لا بد من مراعاته ؛ لأشرفية اسم ربك (وأجيب) عن إيراد هذا القول (ب) جوابين أحدهما : وهو لصاحب الكشاف (أن الأهم فيه) أى فى ذلك القول (القراءة) وإنما كانت القراءة أهم ؛ لأن هذه الآية أول آية نزلت من سورة ابتداء ، كما أن أول سورة نزلت تامة الفاتحة ، وأول آية نزلت بعد فترة الوحى (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)(٢) هذا حاصل ما تقرر فى الاختلاف فى أول ما نزل ، بحيث كان أول آية نزلت كان الأهم فيها الأمر بالقراءة ؛ لأن بها عادة حفظ المقروء الذى هو المقصود من الإنزال ، ولو كان ذكر اسم الرب أهم لذاته ؛ لأن تأخيره لا يفيت

__________________

(١) العلق : ١.

(٢) المدثر : ١.

٤٠٣

الشرف المقتضى للأهمية فى الجملة ، ولأن الأهمية الذاتية إنما تفيد التقديم ، وتكون ذاتية لذلك إن لم يعارضها مناسبة المقام الذى هو مقتضى البلاغة التى هى أعظم ما وقع به إعجاز القرآن. وأورد على هذا أن قول القائل القراءة أهم من ذكر اسم الرب تعالى فى غاية البشاعة ، وأجيب بأن المراد : أن الأمر بالقراءة أهم من الأمر بخصوص القراءة لا من اسم الرب ، وفيه نظر ؛ لأن مقتضى الإيراد الأول أن تقديم اسم الرب للاهتمام أنسب ، فلا يرد بأن يقال تقديم الأمر بالقراءة أنسب من الأمر بالاختصاص ؛ لأن الكلام فى الاهتمام فلا معنى لدفعه بأن الأمر بالقراءة أهم من الأمر بالخصوص ، كما لا يخفى ، فالإيراد باق اللهم إلا أن يجاب بأن المراد : قراءة اسم الرب فلا بشاعة فى أهمية قراءة اسم الرب على نفس الاسم ؛ لأن الأهمية بوصف الشيء هى أهمية فى الحقيقة بذلك الشيء إلا أنها من جهة الوصف ، أو يقال المعنى : أن مطلق القراءة أهم من القراءة المخصوصة بتقديم الاسم لاقتضاء الخاصة أن مطلقها معلوم ، وإنما المجهول تعلقها بمخصوص والمقام ينافى ذلك ، لكونها أول ما نزل.

وأشار بقوله (و) أجيب أيضا (بأنه) وهذا الجواب للسكاكى أى : باسم ربك (متعلق باقرأ الثانى) على أنه مفعول بزيادة الباء كما يقال : خذ بالخطام وخذ الخطام لقصد تأكيد الملابسة ؛ لإفادة الدوام والتكرار وعلى هذا يكون اسم ربك هو المقروء أى : اذكر اسم ربك وهو المناسب لما ورد وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما أنا بقارئ) (١) إذ هو اعتذار متضمن لطلب ما يقرأ أو على أن الباء للملابسة ، أو التبرك فيكون اسم ربك مقروءا به أى : يستعان به على القراءة ، أو متبركا به وعلى هذا يكون اقرأ الثانى إما لازما باعتبار المقروء أى : أوجد القراءة متبركا باسم ربك ، ومستعينا به ، وتعليم المقروء حينئذ بذكر السور بعد ، وإما متعديا أى : اقرأ القرآن ، وتعديه بجعل الباء زائدة للدوام ، أو لحذف المفعول وهو القرآن هو المناسب لقوله (ومعنى) اقرأ (الأول أوجد القراءة) لأن هذا المعنى هو مفاد اللزوم إذ ليس فيه إلا مجرد الأمر بوجود القراءة المدلولة لأصل الفعل من غير مراعاة مفعول ما ، وذلك كما تقدم فى قولهم : فلان

__________________

(١) أخرجاه في الصحيحين ، وهو حديث بدء الوحي.

٤٠٤

يعطى ، حيث جعل لازما بأن المعنى يوجد الإعطاء ، وإنما قلنا هو المناسب ؛ لأن تفسير الأول بها يقتضى لزومه لإفادة مخالفته للثانى ، وإنما يخالفه بتعدى الثانى ، وإلا فلا فائدة لهذا التفسير ، ويحتمل مع كون باسم ربك متعلقا باقرأ الثانى أن يكون الأول متعديا للقرآن أى : اقرأ القرآن الذى ينزل عليك. كذا قيل ، وفيه أن القرآن لم يعهد حتى يحذف ؛ لأن هذا أول ما نزل ، ومثل هذا يقال فى الثانى على تقدير كون معموله القرآن على ما تقدم ، فإذا كان باسم ربك متعلقا بالثانى جرى الكلام على ما ينبغى ؛ لأنه قدم عليه لإفادة الاهتمام وليس قوله (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) تأكيدا للأول حتى يقال يلزم على هذا الفصل بين التأكيد والمؤكد بمعمول التأكيد ؛ لأن الثانى أخص ولا تأكيد بين أخص وأعم ، ولو سلم فالفصل بين التأكيد والمؤكد بمعمول التأكيد لا يسلم من بشاعة ، كالفصل بين الموصوف والصفة بمعمولها كقولك : مررت برجل عمرا ضارب.

(وتقديم بعض معمولاته) أى : بعض معمولات الفعل (على بعض) يكون ذلك التقديم (إما لأن أصله) أى : أصل ذلك البعض (التقديم) على البعض الآخر (و) الحال أن كان ذلك الأصل (لا مقتضى) أى : لا موجب (للعدول عنه) أى : عن ذلك الأصل ، وذلك البعض الذى كان أصله التقديم (كالفاعل فى نحو) قولك (ضرب زيد عمرا) بتقديم الفاعل الذى هو زيد على عمرو ؛ لأن الفاعل عمدة فى الجملة الفعلية ، فلا يتم الفعل إلا به بخلاف المفعول ، فكان حقه أن يلى مالا يتم إلا به ، وأيضا لشدة طلب الفعل للفاعل يصير كالجزء منه ، وما هو كالجزء أولى بالتقديم مما هو فى حكم الانفصال ، وقد فهم من هذا الكلام أن المراد بالمعمولات ما يرتبط بالفعل فى الجملة الشامل للمسند إليه.

ولو كان الباب معقودا للمتعلقات التى هى المسند إليه ، وإنما قال فى نحو ضرب زيد عمرا ليخرج نحو (ضرب غلامه زيدا) على أن زيدا مفعول فإنه ولو كان الأصل تقديم الفاعل فيه على المفعول يقدم فيه المفعول بوجود المقتضى للعدول عن ذلك الأصل ، وهو اتصال الفاعل بضمير المفعول ، فلو قدم فيه الفاعل لزم عود الضمير على ما بعده لفظا ورتبة ، فيقدم المفعول بأن يقال : (ضرب زيدا غلامه) ليعود الضمير على

٤٠٥

ما قبله لفظا (وكالمفعول الأول فى نحو) قولك (أعطيت زيدا درهما) فإن أصل زيدا ـ الذى هو المفعول الأول ـ التقديم ؛ لأنه فاعل من جهه المعنى إذ هو عاط أى آخذ العطاء الذى هو الدرهم (أو لأن ذكره) أى : وتقديم بعض المعمولات ، إما لأن أصل ذلك البعض التقديم ، أو لأن ذكر ذلك البعض المقدم (أهم) كما لو كان تعلق الفعل به هو المقصود بالذات بغرض من الأغراض ، فيقدم على الآخر (كقولك قتل الخارجى فلان) فإن العلم بتعلق القتل بالخارجى هو المقصود بالذات ؛ ليستريح الناس من أذاه دون العلم بتعلقه بالقائل ، ولو كان فاعلا فيكون ذكره معه أولا أهم ، وقد جعل المصنف الأهمية فيما تقدم شاملة للأصل ، وجعلها هنا مقابلة له ، وكأنه قصد بها ـ ههنا ـ الأهمية العارضة ؛ لغرض من الأغراض كما فى المثال لا مطلقها الشاملة للأصل ، ولكن هذا يعكر عليه عطفه قوله بعد (أو لأن فى التأخير إلخ) فإن فيه الأهمية العارضة فيكون من عطف الخاص على العام بأو ، وهو ممنوع اللهم إلا أن يتكلف عطفه على قوله ، إما لأنه الأصل ، ومع ذلك لا يخلو الكلام من تداخل باعتبار الاهتمام.

والمعنى الأول وهو شمول الأهمية للأصل ، كما بين المصنف فيما تقدم هو الموافق لصاحب المفتاح ، ولكلام الشيخ فى دلائل الإعجاز حيث قال : (إنا لم نجدهم اعتبروا فى التقديم شيئا يجرى مجرى الأصل) أى : القاعدة الكلية الشاملة لجميع صور التقديم غير العناية والاهتمام ، لكن ينبغى أن يفسر وجه العناية بشيء ، ويعرف له معنى ، وقد ظن كثير من الناس أنه يكفى أن يقال قدم للعناية ، ولكونه أهم من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية وبم كان أهم فقوله (شيئا يجرى مجرى الأصل) غير العناية والاهتمام ظاهر فى عموم الأهمية بصورة الأصل ؛ لأنه يقتضى أنه لا تخلو صورة من صور التقديم وسبب من أسبابه عن الاهتمام حتى يكون الشيء أصلا ، إذ لم يختص كلامه بالأهمية العارضة بحسب اعتناء المتكلم والسامع بشأن المقدم واهتمامها بحاله ؛ لغرض من الأغراض مع كون خلافه هو الأصل (أو لأن فى التأخير) أى : يقدم بعض المعمولات على بعض إما لأن أصله التقديم ، أو لأن فى تأخير ذلك المفعول المقدم (إخلالا ببيان المعنى) المراد ؛ لأن فى ذلك التأخير إيهام معنى آخر غير مراد فيقدم احترازا

٤٠٦

من ذلك الإيهام (نحو) قوله تعالى (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ)(١) فقوله تعالى (رَجُلٌ) موصوف بثلاثة أوصاف : كونه مؤمنا ، وكونه من آل فرعون ، وكونه يكتم إيمانه ، فقدم مؤمنا على غيره ؛ لإفراده ، وقدم المجرور على الجملة الفعلية وقد أشار إلى علة تقديمه بقوله (فإنه) أى : لأنه (لو أخر) قوله (من آل فرعون) ـ الذى هو المجرور المذكور ـ عن قوله يكتم إيمانه (لتوهم أنه من صلة يكتم) فيفيد معنى آخر ، وهو كونه يكتم إيمانه من آل فرعون ، ويخفيه عليهم (فلم يفهم أنه) أى : أن ذلك الرجل (منهم) ، والغرض : بيان أنه منهم ، والتقديم ؛ ولو كان لا يمنع من تعلقه بيكتم أبعد فى إفادة هذا المعنى من التأخير ، وفى هذا الكلام بحث من وجهين : أحدهما : أن تأخيره لا يوهم كونه من صلة يكتم إلا لو كان يكتم يتعدى بمن ، ومن المعلوم أنه يتعدى بنفسه إذ يقال (كتمت زيدا الحديث) كما قال الله تعالى (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً)(٢) وأجيب عنه بأنه سمع أيضا تعديه بمن ، فيعرض الإيهام بسبب ذلك.

ثانيهما : أن تقديم المجرور إذا كان نعتا على الجملة النعتية هو الأصل ، فهذا مما جرى فيه التقديم على الأصل لا مما قدم لغرض آخر ، وقد يجاب عنه بجواز تعدد النكت للتقديم ، فيجوز أن يقال قدم ؛ لأنه الأصل لقرب المجرور من المفرد لأن الأصل تقديره بالمفرد وقدم لأن فى تأخيره إخلالا بالمراد فافهم ، (أو) ، لأن فى التأخير إخلالا (بالتناسب) المطلوب فى المقام ، وذلك (ك) ما فى (رعاية الفاصلة) ، وقد تقدم تفسيرها ، فتراعى مناسبتها لفاصلة أخرى ، فيقدم فيها بعض المعمولات ليختم بحرف يناسب به خاتمة لأخرى (نحو) قوله تعالى (فَأَوْجَسَ)(٣) أى : أخفى ، (فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ،) فقدم خيفة على موسى ، ولو كان فاعلا لرعاية ما بعده ، وما قبله من الفواصل المختومة بالألف ، إذ لو أخر خيفة فات ذلك ، وهذا الوجه ـ وهو رعاية

__________________

(١) غافر : ٢٨.

(٢) النساء : ٤٢.

(٣) طه : ٦٧.

٤٠٧

الفواصل ـ من البديع لكن يمكن أن ينخرط فى سلك المعانى من جهة أن المناسبة للفواصل بعد الإتيان بها رعاية كونها جميعا على نمط أولها كآخرها ، وقدمت الإشارة إلى هذا المعنى فليفهم ، والله أعلم.

القصر

هو فى اللغة : الحبس. قال تعالى (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ)(١) أى : محبوسة فيها.

وأما فى الاصطلاح فهو : تخصيص شيء بشيء ، أى : تخصيص موصوف بصفة أو صفة بموصوف بطريق مخصوص من الطرق الأربعة الآتية من النفى والاستثناء وغير ذلك ، وهو فى الاصطلاح مأخوذ من ذلك ، ولا ينافى ذلك تعديه بعلى كما قيل ، واحترازنا بقولنا : بطريق إلخ ، من نحو (خصصت زيدا بالعلم) فلا يسمى تخصيصا اصطلاحا ، وإنما قلنا : إن أحد الشيئين موصوف والآخر صفة ؛ لأن التخصيص يتضمن مطلق النسبة المستلزمة لمنسوب ومنسوب إليه ، فإن كان المخصص منسوبا فهو الصفة ، وإن كان منسوبا إليه فهو الموصوف.

(وهو) أى : القصر (حقيقى وغير حقيقى) أى : ينقسم القصر إلى : ما يسمى حقيقيا ، وإلى ما يسمى غير حقيقى ، وهو الإضافى وذلك ؛ لأن تخصيص شيء بشيء ، إما أن يكون بحسب الحقيقة أى : بحسب تقرر كمال معنى هذه الحقيقة فى نفس الأمر ، وذلك إضافى لا يتجاوز المخصص به إلى كل ما هو غيره أصلا ، وذلك كقولنا (ما نبى خاتم إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فلا يثبت ختم النبوة لغيره ، وإنما قلنا كذلك ؛ لأن التخصيص ضد المشاركة ، وهذا المعنى هو الذى ينافى المشاركة مطلقا ، فهو الأولى أن يتخذ حقيقة للتخصيص فناسب أن يسمى قصرا حقيقيا وإما أن يكون بالنسبة إلى بعض ما هو غير المخصص بذلك الشيء كقولك : (ما زيد إلا شاعر) فزيد مخصوص بالشعر دون الكتابة لا أنه لا يتجاوز الشعر إلى صفة أخرى أصلا ، فهذا ، ولو كان فيه تخصيص مضاد لمشاركة الكتابة للشعر فى زيد هو تخصيص بالإضافة إلى معين ، فلصحة

__________________

(١) الرحمن : ٧٢.

٤٠٨

وجود مشاركة أخرى فيه لا ينبغى أن يتخذ حقيقة للتخصيص لكونه ليس بأكمل ، ولو شمله مطلق التخصيص فناسب أن يسمى قصرا إضافيا ؛ لأن التخصيص فيه إضافى.

فالمسمى بالقصر الحقيقى والإضافى كلاهما حقيقة اصطلاحا ، وكمال الحقيقة فى أحدهما دون الآخر أوجب مناسبة تسمية الأول حقيقيا ، والثانى إضافيا فليس المراد بالحقيقى هنا ما يقابل المجازى ؛ لأن التسمية فى كليهما حقيقة اصطلاحا ، وعلى تقدير تكلف التوجيه لذلك بجعلها فى الإضافى مجازا لغويا لا يتم ، لوجود مطلق حقيقة التخصيص فيه فليفهم.

لا يقال الاختصاص من حيث هو لا يجامع الاشتراك ، فكيف كانت الحقيقة فى الأول أكمل مع أن التحقيق أن الحقيقة لا تفاوت فيها ؛ لأنا نقول الكمال بعروض نفى كل مشارك ، ولا يقال فحينئذ يكون الحاصل أن هنا تخصيصين إضافيين معا إذ لا يتحقق ثبوت تخصيص إلا بالنسبة إلى سلب الغير إلا أن أحدهما أكمل فكيف يسمى أحدهما إضافيا دون الآخر مع أن كلا منهما إضافى ؛ لأنا نقول هب أن كلا منهما إضافى لكن خص أحدهما باسم الإضافة ؛ لأن المضاف إليه فيه متعين فروعى ذلك التفريق بينه وبين الآخر على أنه لا حجر فى الاصطلاح فانقسام القصر الذى هو إضافى مطلقا كما قرر إلى إضافى وغيره صحيح ؛ لأن الإضافة المنقسم إليها خلاف مطلق الإضافة الموجودة فى كليهما ، وهو ظاهر.

(وكل منهما) أى : من الحقيقى وغيره (نوعان) أى : ينقسم إلى نوعين أحد نوعى كل منهما : (قصر الموصوف على الصفة) وتحقيقه باعتبار الحقيقى أن يحكم بأن هذا الموصوف لا يتجاوز هذه الصفة إلى غيرها ، وأما الصفة فتتجاوزه إلى غيره وسيأتى أن هذا المعنى ـ وهو كون الموصوف ليس له إلا صفة واحدة ـ متعذر ، بل محال ، وأما باعتبار غير الحقيقى فهو أن يحكم بأن هذا الموصوف لا يتجاوز هذه الصفة إلى صفة أخرى واحدة أو صفات أخر معينة كما إذا اعتقد المخاطب أن زيدا يتصف بالكتابة فقط ، أو بالكتابة مع الشعر فتقول : (ما زيد إلا شاعر) فتقصره على الشعر

٤٠٩

فقط ؛ بحيث لا يتعداه إلى الكتابة ، وإن كان الشعر وهو الوصف يتعدى هو زيدا إلى عمرو.

(و) ثانى نوعى كل منهما : (قصر الصفة على الموصوف) وتحقيقه بالنسبة إلى الأول ـ وهو الحقيقى ـ أن يحكم بأن هذه الصفة لا تتجاوز هذا الموصوف إلى موصوف آخر مطلقا ، وإن كان الموصوف هو يتجاوزها إلى غيرها كقولنا (لا إله إلا الله) فإن الألوهية حكمنا بأنها لا تتجاوز مصدوق الجلالة إلى غيره ، كما أنها كذلك فى نفس الأمر ، وهذا موجود كثيرا كما تقدم فى قولنا (ما خاتم الأنبياء إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فقد حكمنا بقصر ختم النبوة عليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا يقتضى ذلك أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يتجاوز ختم النبوة إلى غيره من الأوصاف لتجاوزه إلى غيره كالشفاعة.

وأما بالنسبة إلى الثانى ـ وهو الإضافى ـ فهو أن يحكم بأن هذه الصفة لا تتجاوز هذا الموصوف إلى موصوف آخر معين متحد أو متعدد وإن كانت هى تتجاوز إلى غير ذلك المعين ، كأن يعتقد المخاطب أن الشعر وصف لعمرو فقط ، أو له ولزيد فتقول (ما شاعر إلا زيد) فقصر الشعر على زيد ، بحيث لا يتعداه إلى عمرو فقط ، وإن كان يتعدى إلى غير عمرو ، ومعلوم أن هذا أيضا لا يقتضى كون الموصوف مقصورا على صفة الشعر ؛ بل يجوز أن يتعداه إلى الكتابة وغيرها وهذا كله ظاهر بسطناه ؛ لأن هذا أول الباب.

(والمراد) بالصفة فى هذا الباب الصفة (المعنوية) وعنى بالمعنوية : المعنى القائم بالغير ، وهو ما يقابل الذات عند المتكلمين ، ولا يعنى المعنوية التى هى الحال فقط ، فشملت الوجودية والعدمية (لا النعت) أى : ليس المراد بالصفة هنا النعت النحوى ، وفسر بأنه هو التابع الذى يدل على معنى فى متبوعه غير الشمول كالعالم ، كقولك (جاءنى زيد العالم) فقد دل العالم على معنى هو العلم فى متبوعه ، وهو زيد ، واحترز بغير الشمول عن نحو (كلهم) من قولك : جاء القوم كلهم ، وهو التأكيد خرج بالدلالة على المعنى فى المتبوع البدل ، وعطف البيان والتأكيد الذى ليس للشمول ؛ لأنها كلها لا

٤١٠

تدل على المعنى فى المتبوع ؛ لأنها نفسه وورد عليه نحو : علمه ، فى قولك أعجبنى زيد علمه ، فهو تابع دل على معنى هو العلم فى المتبوع ، وأجيب بأن المعنى دل على معنى كائن فى المتبوع من حيث كونه فى المتبوع ؛ لأن الحيثية تراعى فى الحدود فالمراد أنه أشعر بالمتبوع فى دلالته وأن هذا المعنى كائن فى ذلك المتبوع كالعالم ، لإشعاره بالذات التى هى المتبوع مع المعنى بخلاف نفس العلم فى قوله : نفعنى زيد علمه ، فلم يشعر بالذات المتبوع إلا بالضمير المضاف إليه.

وورد ـ أيضا ـ نحو : أخوك ، من قوله : جاءنى زيد أخوك ، لدلالته على الذات وعلى معنى فيها هو الأخوة ، وأجيب بأن الغرض من البدل نفس النسبة لا الإشعار بالأخوة ، وفيه نظر ؛ لأن الغرض من كل اسم إفادة معناه.

وورد أيضا خروج نحو : الشاملون ، فى قولك (جاء الناس الشاملون زيدا) وهو نعت مع خروجه بقول الحد غير الشمول ، وأجيب بأن المراد الشمول المعهود فى التوكيد ، وهو الذى يستفاد بالألفاظ المعلومة وفيه ضعف.

وورد أيضا نحو : العلم والرجل ، فى قولك (أعجبنى هذا العلم فى هذا الرجل) فإن تابع الإشارة نصوا على أنه نعت ، ولم يدل على معنى كائن فى المتبوع ؛ لأنه نفسه ـ وكذا كل نعت كاشف ـ وقد يجاب بأن اسم الإشارة يراعى مدلوله من حيث إنه شيء يشار إليه ، وكونه علما أو رجلا معنى زائد وكذا الاسم الكاشف ؛ لأن ما قبله شيء ، وكونه حقيقة كذا معنى زائد ولكن على تقدير تسليمه يرد عليه أنه حينئذ ليس فيه إشعار بشيئين ـ وهما الذات والمعنى ـ كما قرر فى النعت وإنما قلنا ليس فيه إشعار بذلك ؛ لأنه ليس مشتقا وعلى تقدير الإشعار يرد عليه نحو : النفس ، فى قولك (جاء زيد نفسه) لدلالة النفس على أن مدلول زيد موصوف بكون نفسه هى الفاعلة للمجيء ، وليس موصوفا بكون ملابسه هو الفاعل للمجيء.

فالأولى أن التعريف لغالب أفراد النعت ، وفيه خروج عن مقتضى أصل الحدود وقد أطلت هنا للاحتياج إلى تحقيق ما يرد على هذا الحد ؛ لأن الظاهر ممن حد به الارتضاء على أنا لم نتنزل له كل التنزل.

٤١١

ثم الصفة المعنوية حيث يراد بها المعنى القائم بالذات ـ كما تقدم لا تصادق النعت أصلا ؛ لأن مدلول النعت لفظ واللفظ والمعنى متباينان إلا أن يراد بالتصادق تحقق أحدهما مع الآخر فى الجملة فيصح ؛ لأن مدلول لفظ النعت عند تحققه يتحقق مدلوله ، ومدلوله قد يكون صفة معنوية.

وأما حيث يراد بمدلول الصفة المعنوية اللفظ الدال على ذلك المعنى ، فيكون بينها وبين لفظ النعت باعتبار المصدوق عموم من وجه ؛ لتصادقهما فى لفظ العلم من قولك (أعجبنى هذا العلم) فالعلم نعت لاسم الإشارة على قول ، وصفة معنوية أى : دالة على معنى هو العلم ، وانفراد الصفة المعنوية فى لفظ العلم من قولك (العلم حسن) لدلالته على المعنى ، وليس بنعت كما لا يخفى.

وانفراد النعت فى لفظ الرجل فى قولك (أعجبنى هذا الرجل) لأنه نعت اسم الإشارة ولم يدل على المعنى القائم بالغير فى أصله ، فليس صفة معنى ، فإن قيل : هو فى هذا التركيب دل على المعنى وهو كون المشار إليه موصوفا بالرجولية ، ولذلك صح كونه نعتا ، فيكون صفة معنوية قلنا هو فى أصله لم يوضع إلا للذات بخلاف العلم ، ولو عرض له فى الحين ما ذكر فليس صفة معنوية باعتبار الأصل.

ويرد على هذا الجواب أنه إن كان المعتبر فى كون الشيء صفة معنوية ما كان فى الدلالة الأصلية فلا يكون قولنا (ما زيد إلا أخوك ، وما الباب إلا الساج ، وما هذا إلا زيد) من قصر الموصوف على الصفة المعنوية وقد صرحوا بأنه منه ، حيث قالوا : المعنى حصر زيد فى الاتصاف بكونه مسمى بزيد.

فأما أن يجعل الكل من الصفة المعنوية باعتبار الحال أولا يجعل الكل باعتبار الأصل. فالرجل حيث أعرب نعتا يتقرر فيه هذا المعنى بعينه ، فإن جعل منها كانت الصفة المعنوية أعم مطلقا من النعت ، وهو أقرب هذا إذا فسرنا الصفة المعنوية بما دل على معنى يقوم بالغير أو بمعنى يقوم بالغير.

وإن فسرناها بما دل على ذات معنى قائم بها كالعلم فبينها ـ أيضا ـ وبين النعت ما ذكر لتصادقهما فى لفظ عالم من قولك (جاءنى رجل عالم) فهو نعت وصفة

٤١٢

دالة على الذات باعتبار المعنى وانفراد الصفة فى العلم فى العالم من قولك (العالم يكرم) إذ ليس بنعت ، كما لا يخفى.

وانفراد النعت فى لفظ الرجل من قولك (جاءنى هذا الرجل) ويراد ـ أيضا ـ فيه ما تقدم قبل ، والتفسير الأول أقرب أى ؛ لأنه أكثر استعمالا ، ولأن المنظور إليه فى الحصر هو المعنى فتأمله.

(والأول) أى : قصر الموصوف على الصفة الذى هو (من الحقيقى) هو (نحو) قول القائل (ما زيد إلا كاتب) ولكن إنما يكون هذا المثال من الحقيقى (إذا أريد أنه) أى : زيدا (لا يتصف بغيرها) أى : بغير الكتابة من الصفات أيضا (وهو) أى : قصر الموصوف على الصفة الحقيقى (لا يكاد) معناه (يوجد) حقيقة بأن لا يوجد للشيء إلا صفة واحدة ، نعم يوجد ادعاء بتنزيل غير الصفة المثبتة كالعدم ، ولذلك لا تصدر حقيقته ممن يتحرز عن نقيصة الكذب ، ولفظ لا يكاد يعبر به تارة عن قلة وجود الشيء ، فيقال (لا يكاد يوجد كذا) بمعنى أنه لا يوجد إلا نادرا تنزيلا للنادر بمنزلة الذى لا يقارب الوجود ، وتارة عن نفى الوقوع والبعد عنه أى : لا يقرب ذلك الشيء إلى الوجود أصلا ، وهذا الثانى هو المناسب ؛ لقوله (لتعذر) أى : لعدم إمكان (الإحاطة) عادة (بصفات الشيء) فإذا تعذر فى العادة إحاطة المخلوق بصفات الشيء لم يتأت للمحترز عن نقيصة الكذب أن يأتى به قاصدا لمعناه الحقيقى.

وإن فسر التعذر بالتعسر غالبا ناسب الأول ، وعلى كل فليس هنا استحالة عقلية ، وإنما تعذرت الإحاطة بالأوصاف لما علم أن العاقل لا يحيط بأوصاف نفسه لا سيما الباطنية والاعتبارية فكيف بأوصاف غيره!

وقيل إن وجود معناه محال ؛ لأنا إذا أثبتنا بطريق من طرق الحصر صفة ونفينا ما سواها من الأوصاف ، فتلك الأوصاف المنفية لها نقيض ثبوتها ، ولا بد من تحقق ذلك النفى الذى هو النقيض بأن يتقرر مع الصفة المثبتة إذ لو رفع ذلك النفى مع رفع نقيضه ـ وهو نفس الأوصاف المنفية ـ لزم ارتفاع النقيضين وهو محال ، فإن قلنا مثلا (ما زيد إلا كاتب) فمعناه على أن القصر حقيقى أن زيدا لم يتصف بوصف آخر غير

٤١٣

الكتابة من شعر ، وقيام ، وقعود وغير ذلك ، فهذه الأوصاف المنفية وغيرها لا بد من ثبوت نقيضها مع الكتابة وإلا لزم ارتفاعها وارتفاع نقيضها وهو محال ، ولا يدفع هذا كون المحال لا يقصد نفيه ، ولا قصد الأوصاف الوجودية فقط ؛ لأن الكلام فى القصر الحقيقى ، وهو لا يتصور إلا بنفى كل ما هو غير المثبت ، ثم قصد الأوصاف الوجودية فقط ؛ لو سلمنا كونه عذرا لم يندفع به ما ذكر فإنا لو قصدناها لم يتأت الدفع أيضا ؛ إذ من جملة المنفيات الحركة مثلا فيلزم ثبوت السكون بانتفائها ، ولا يتأتى نفيهما معا لمساواة كل منهما لنقيض الآخر ، ولكن يرد هذا بأن غايته الامتناع فى بعض الأحيان ، وهو ما إذا كان الموصوف الجسم والوصف غير الحركة والسكون ، وهو ظاهر فليفهم.

هذا إذا أثبتنا وجودية وسلبنا ما سواها ، كما فى المثال ، فيتعذر معها سلب نقائض المنفيات ، وإذا أثبتنا سلبية فإن كانت سلب كل صفة كأن يقال (ما زيد إلا ليس موصوفا بشيء من الصفات) فهذا الكلام فاسد ضرورة اتصافه بنفس السلب ، وبالوجود أو العدم ، وبالإمكان والاستحالة ، وإن كانت سلب بعض الصفة كأن يقال (ما زيد إلا ليس بكاتب) فكل ما لا يناقض نقيض نقيض الكاتب كالقيام والقعود وجميع الأوصاف مما ليس بكتابة لا يقتضى هذا الحصر نفيه فلم يتحقق الحصر الحقيقى أيضا ، وقد يقال فى بيان الاستحالة المحصور ، إما أن يكون موجودا أو معدوما ، فإن كان موجودا فنفى وجوده ووجوبه وإمكانه وغيريته لما سواه محال ، وإن كان معدوما فنفى عدمه وإمكانه واستحالته وغيريته لما سواه محال ، وهذا أقرب فى بيان الاستحالة إدراكا من الوجه الأول تدبره.

(والثانى) من الحقيقى ، وهو قصر الصفة على الموصوف (كثير) معناه فلا يتعسر وجوده وذلك (كقولك ما فى الدار إلا زيد) فإن لفظ الدار إذا أريد به دار معينة صح أن تحصر هذه الصفة وهو الكون فيها فى زيد ، بحيث لا يكون فيها غيره أصلا ، وإنما قلنا معينة ؛ لأنه لو أريد مطلق الدار لم يتأت عادة حصر الكون فى مطلق الدار فى زيد ، إذ لا بد من كون غير زيد فى دار ما وورد على هذا المثال أن الكون فى الدار المعينة لا ينحصر فى زيد ؛ لأن الهواء الذى لا يخلو منه فراغ عادة كائن فى الدار ، فإن أريد نفى

٤١٤

الكون عن نوع زيد بأن يكون التقدير : ما فى الدار إنسان أو أحد إلا زيدا ؛ ليقع الاستثناء متصلا قريب الجنس ، لزم صحة هذا فى قصر الموصوف على الصفة الذى جعل متعذرا أو محالا إذ يصح قولك (ما هذا الثوب إلا أبيض) بتقدير أنه لا يتصف بشيء من الألوان غير البياض فالأولى التمثيل بنحو ما تقدم ، وهو قولنا (ما خاتم الأنبياء إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، (وقد يقصد به) أى : بالثانى ، وهو قصر الصفة على الموصوف (المبالغة) فى كمال الصفة فى ذلك الموصوف فتنفى عن غيره على العموم وتثبت له فقط دون ذلك الغير ، ولو كانت فى نفس الأمر للغير ـ أيضا ـ وإنما يفعل ذلك (لعدم الاعتداد) فى تلك الصفة (بغير المذكور) أى : بغير ذلك المذكور لتلك الصفة ، وهذا كما إذا وجد علماء فى البلد وأريد المبالغة فى كمال الصفة العلم فى زيد ، فينزل غير زيد بمنزلة من انتفت عنه صفة العلم ؛ لعدم كمالها فيه ، فيقال (لا عالم فى البلد إلا زيد) حصرا للعلم فيه ونفيا له عن غيره لعدم الاعتداد بالعلم فى ذلك الغير ويسمى هذا قصرا حقيقيا بالادعاء ، وذلك ؛ لأن نفى العلم عن غير زيد الذى تضمنه هذا الحصر ليس كذلك فى نفس الأمر ، وإنما نسب ذلك النفى إلى الغير لكونه بمنزلة المتصف بالنفى لضعف الإثبات فيه ، ونسبة الشيء لغير من هو له مجاز تركيبي ، والفرق بين القصر الحقيقى بالادعاء والإضافى ، أن المثال الصادق مثلا وهو (ما فى الدار إلا زيد) إذا أردت به الحقيقى الادعائى ، فإنك تنزل غير زيد كالعدم بالنسبة إلى الكون فى الدار ، بمعنى أن زيدا لكماله يصير من حضر عنده فى حكم العدم ، فليس الكون فى الدار إلا له وبه يعلم أن سبب التنزيل إما الكمال فى تلك الصفة فينزل غيره كالعدم بالنسبة إليها ، كلا عالم إلا زيد ، أو فى صفة أخرى ، كما فى الدار إلا زيد ، وإذا أريد به الإضافى فلا ينزل غيره كالعدم ، بل تثبت لزيد تلك الصفة وتنفى عن معين آخر غيره ، ولا ينافى ذلك ثبوتها لغير ذلك المعين ، كما إذا اعتقد المخاطب أن فى الدار زيدا وعمرا ، فتقول (ما فى الدار إلا زيد) أى : دون عمرو ولو كان فيها غير عمرو ـ أيضا ـ كخالد فقد افترقا فى أنك نفيت فى الادعائى غير زيد مطلقا بتنزيل كل غير كالعدم ، وفى الإضافى إنما نفيت معينا ـ هو عمرو ـ فلا تنزله كالعدم دون خالد

٤١٥

وبكر مثلا ، وإن اشتركا فى أن كلا منهما ثبتت فيه الصفة لغير المذكور فى نفس الأمر فى الجملة ، ولهذا الاشتراك قيل إن التفريق بينهما دقيق ، وقد تبين بما ذكرنا أن القصر الادعائى بالمبالغة لا يختص بقصر الصفة على الموصوف ، ولا بالحقيقى بل يجرى فى قصر الموصوف على الصفة ، وفى الإضافى مطلقا فإذا كانت صفات فى شخص ، وكان مشهورا بواحدة لكمالها فيه وأريد أن يبين أن غير تلك الصفة فى ذلك الموصوف ضعيف بالنسبة إليها حتى كأنه لم يتصف إلا بتلك الصفة حصر الموصوف فيها ، فيقال مثلا (ما حاتم إلا جواد) أى : لا يتصف بغير الجود من الصفات مبالغة فى كمال الجود فيه ، فكأن غيره فيه عدم ، وتقول مثلا ـ فى قصر الصفة على الموصوف الإضافى مبالغة ـ (ما عالم إلا زيد) أى : لا عمرو ، ولو كان عمرو عالما ـ أيضا ـ ، ولكن تنزل علمه كالعدم بالنسبة لعلم زيد ، وفى قصر الموصوف الإضافى مبالغة ما زيد إلا كاتب أى : لا شاعر ولو كان شاعرا ، وكاتبا معا ؛ تنزيلا لشعره منزلة العدم بالنظر لكتابته ، وذلك ظاهر ، ثم أشار إلى تعريف خصصه بالإضافى ليرتب عليه تسامى وتفصيلا فيه فقال : (والأول) أى : قصر الموصوف على الصفة الكائن (من غير الحقيقى) هو (تخصيص أمر) بثبوت (صفة) ثبوتا كائنا (دون) ثبوت صفة (أخرى) فهم منه أن ثم صفة يمكن أن تشارك هذه فى تخصيص ذلك الأمر بهما ، لكن جعلت له إحداهما فى مكان ليست فيه تلك الأخرى ، فيفهم منه أنه لم يتصف بتلك الأخرى ، وأن تلك الأخرى لم يتقرر لها ذلك المكان بدلا عن هذه ، وعلى هذا يكون استعمال دون فى المكان المجازى وهو كون الموصوف لم تشارك فيه الصفة المثبتة ، وأصل دون أن تستعمل فى أدنى مكان من الشيء حسا يقال : هذا دون ذاك ، إذا كان فى مكان قريب من ذلك ، وربما تستعمل فى المكان المعنوى مع مراعاة أن صاحب ذلك المكان أدنى وأخفض مرتبة من الآخر ، فيقال زيد دون عمرو فى الشرف ، وربما للمكان المعنوى من غير مراعاة الشرف فى غيره ، كما فى المتن على ما قررنا ، ونقلها للمكان المعنوى ، إما على سبيل الاستعارة بتشبيه المعنوى بالحسى بجامع مطلق المنسوبية لمتقرر فى الجملة أو على سبيل

٤١٦

المجاز المرسل مراعاة لمطلق المحلية التى هى أعم من المحلية الحسية التى هى الأصل ، فهو من استعمال اسم الأخص فى الأعم له الجملة ، وقيل نقل إلى مطلق تخطى حكم إلى آخر ، وتجاوز حد إلى حد بعد نقله إلى المكان المعنوى المراعى فيه شرف غير صاحبه على سبيل الاستعارة بتشبيه المكان بالتجاوز بجامع ملابسة المتقررات فى الجملة ، والأولى على هذا ، وهو أن يراد به المصدر الذى هو تجاوز شيء إلى شيء أن يكون مجازا مرسلا من إطلاق اسم المحل على المصدر الملابس له فى الجملة ؛ لأن تخطى أحد الشيئين للآخر متحقق بتقرر المكان الأدنى ، وعلى هذا يكون مصدرا بمعنى اسم الفاعل فيكون التقدير تخصيص المتكلم أمرا بصفة حال كونه متجاوزا صفة أخرى اعتقد فيها المشاركة ، ويسمى هذا قصر إفراد كما يأتى فهذا الشق من التعريف إنما يصدق فى قصر المصنف على القصر الذى فيه نفى الاشتراك ، ثم أشار إلى ما يصدق على غيره عاطفا بأو النوعية التى يجوز إدخالها فى التعريف لإدخال نوعين بقوله (أو مكانها) أى : قصر الموصوف على الصفة إذا كان إضافيا ، أما تخصيص موصوف بصفة دون أخرى ، أو تخصيصه بها مكان أخرى ، ففهم منه أن الأخرى لها مكان وتقرر فى الموصوف وحدها فى اعتقاد المخاطب فخص الموصوف بهذه ، وجعلت في مكان تلك الأخرى ، فتنتفي تلك الصفة الأخرى ، فإن حقق المخاطب تقررها وإثباتها كان القصر قلبا ، وإلا كان تعيينا كما سيأتى على ما فيه ، ولا يخفى أنه لو عبر فى قصر الإفراد بلفظ مكان ، وفى قصر القلب والتعيين بلفظ دون أمكن تصحيح كل منهما ؛ لأن الصفة المثبتة تقررت مستقلة فى مكان مشاركة الأخرى فى الاشتراك ، ومستقلة دون ثبوت الأخرى فى الانفراد ، والتعيين فالتفسير بكل منهما ، ولو مع التكلف السابق لا يخلو تصحيحه من مراعاة ما هو كالإصطلاح ، تأمل.

(والثانى) من غير الحقيقي ، وهو قصر الصفة على الموصوف وهو (تخصيص صفة بأمر) هو الموصوف (دون) أمر (آخر أو) تخصيصها به (مكانه) أى : مكان آخر ، وما تقرر فى تعريف القسم الأول يتقرر فى ألفاظ هذا أيضا ، ثم إن المصنف خصص بقسم الإضافى هذا التعريف ، وذلك يقتضى عدم صدقه على الحقيقى ويقتضى ـ أيضا ـ أن لا يخرج عنه شيء من أفراد الإضافى ، وأحد الأمرين ـ أعنى صدقه على الحقيقى ، أو

٤١٧

خروج بعض أفراد الإضافى ـ لازم له ؛ لأنه إن أراد بأمر آخر ، وبصفة أخرى فى قوله (دون آخر ، ودون أخرى) ، وفى قوله (مكان آخر ومكان أخرى) صفة واحدة ، وأمرا واحدا خرج عنه بعض أفراد القصر الإضافى ، وهو ما يكون لنفى أكثر من صفة واحدة ، أو واحد كقولك فى الأول (ما زيد إلا كاتب) ردا على من زعم أنه كاتب ، وشاعر ، ومنجم ، أو اعتقد أنه شاعر ، أو منجم فقط ، بناء على جواز القلب فى نحو هذا ، وفى الثانى ما كاتب إلا زيد ردا على من زعم أن الكتابة لزيد ، وعمرو ، وخالد ، أو لعمرو وخالد فقط بناء على جواز القلب فى نحو هذا أيضا ، فإنه من الإضافى قطعا على أن إرادة صفة واحدة وأمر واحد تقييد فى التعريف ، والاتكال فى التعريف على زيادة قيد لا سيما بلا دليل مما يفسده ، وإن لم يقيد الأمر ، ولا الصفة بالوحدة ـ وهو مقتضى أصل التعريف ـ صدق ، حيث يكون المنفى صفة واحدة ، أو أمرا واحدا فقط ، وحيث يكون أكثر بما لا ينحصر ، فيدخل فيه القصر الحقيقى ؛ لأنه يصدق فى قصر الصفة فيه على الموصوف أنه تخصيص صفة بأمر دون آخر لصحة كون ذلك الآخر المنفى مع نفى كل ما سوى المذكور ، وفى قصر الموصوف على الصفة فيه أنه تخصيص أمر بصفة دون أخرى ؛ لصحة كون تلك الأخرى المنفية مع نفى كل ما سوى المذكورة فيفسد طرد التعريف إن لم يراع القيد بالوحدة ، ويفسد عكسه إن روعى لا يقال المراد بتخصيص صفة بموصوف دون آخر وبتخصيص موصوف بصفة دون أخرى تخصيص عند اعتقاد المخاطب الشركة ، ولا يصدق فى الحقيقى أبدا مشاركة كل موصوف فى صفة ، ولا مشاركة كل صفة فى موصوف لعدم إمكانه ، وكذا المراد بالتخصيص مكان صفة وموصوف تخصيص عند اعتقاد المخاطب انفراد الصفة بالموصوف ، أو انفراد الموصوف بالصفة ، فكأنه قال تخصيص موصوف أو صفة عند الاعتقاد ، ولا يصدق فى الحقيقى أن المخاطب اعتقد انفراد الموصوف بكل صفة غير المثبتة ، ولا انفراد الصفة بكل موصوف غير الذى أثبتت له فعلى أن مصدوق التعريف ما ذكر يختص بالإضافى لعدم صدقه ، والتقييد بالوحدة ملغى ، فيصدق بجميع أفراد الإضافى فتم الحد على ظاهره ؛ لأنا نقول تخصيص مدلول ما فيه دون بما وقع فيه اعتقاد

٤١٨

المشاركة ، وما فيه مكان بما وقع فيه اعتقاد الانفراد جعلى باعتبار القصد من الناطق بهذا التعريف ، وبهذا الاعتبار فرع ما سيأتى فى القصر الإضافى على هذا التعريف لعدم الوقوع فى الخارج لا لعدم صدق التعريف إلا على ما فيه الاعتقاد وإلا فلا يخفى أن أصل دون ومكان عدم الدلالة على خصوص ما وقع فيه الاعتقاد وقد تقدم أنه لو عبر بدون موضع مكان ، وبالعكس صح التعريف باعتبار ما دل عليه كل منهما في أصل الوضع والنقل الاصطلاحي لم يتقرر بعد فصدق التعريف على كل من القصرين بهذا الاعتبار ، فيفسد ثم لو سلم فلا نسلم أن وقوع الاعتقاد ينافى الحقيقى حتى لا يصدق عليه التعريف ، أما فى قصر الصفة على الموصوف فلا مانع من أن يعتقد المخاطب حقيقة أو ادعاء اتصاف كل شيء بصفة من الصفات أو اتصاف غير من أثبتت له بها ، فيؤتى بالقصر فيها لنفى الاشتراك أو الاختصاص ، وأما فى قصر الموصوف على الصفة فيمكن ادعاء ومبالغة ، وهو ظاهر نعم وجود الاعتقاد فى الإضافى أكثر ، وأظهر ولصدق التعريف بهذا المعنى فى الإضافى خصص التعريف به مقصودا به ما ذكر من نفى الاشتراك والانفراد ؛ لأن ذلك فى الإضافى أظهر ، ولأجل أن الحقيقى فى الغالب لا يقصد به نفى الاعتقاد صح أن يخاطب به الجانب الأعظم إذ لا يصح فى صفة الاعتقاد ولا التردد مما يقال فى (إياك نعبد) أنه قصر ، ولا يقال إن فيه نفى الاعتقاد أو التردد أصلا فتدبر.

وقول من قال خصص ما ذكر بالإضافى ، ولو صدق على القصرين لابتناء التفريع الآتى عليه باعتبار الإضافى دون الحقيقى يرد عليه أن التعريف المذكور إن استلزم وجود معناه صحة نفى الاعتقاد ، أو التردد فإن لم يقبل القصر الحقيقى تلك الصحة فلا يصدق عليه ، فلا حاجة إلى الاعتذار بما ذكر وإن قبلها لم يختص التفريع بالإضافى ، وإن لم يستلزم تلك الصحة صدق على القصرين ولم يشعر بالتفريع فكيف ينبنى عليه اللهم إلا أن يقال يستلزمها فيهما إلا أنها فى الإضافى أظهر وأكثر وقوعا ، ولذلك خصصه به كما قدمنا فتأمل ، والله أعلم.

٤١٩

(فكل منهما) أى : يفهم من استعمال أو النوعية فى هذا التعريف الذى خصصناه كما تقدم بالإضافى أن كل قسم من قسمي الإضافى وهما قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف فيه (ضربان) أى : نوعان فالقسم الذى هو قصر الصفة فيه قصر لها على موصوف دون آخر وقصرها عليه مكان آخر (والمخاطب ب) القصر (الأول) الكائن (من ضربى كل) من القصرين أعنى : قصر الموصوف على الصفة ، وقصر الصفة على الموصوف فالضربان الكائنان لقصر الموصوف هما قصره على صفة دون أخرى ، وقصره عليها مكان أخرى والكائنان لقصر الصفة كما تقدم هما قصرها على موصوف دون آخر ، وقصرها عليه مكان آخر فأول النوعين فيهما ما فيه دون وثانيهما ما فيه مكان (من يعتقد الشركة) أى : المخاطب بالقصر الأول من نوعى كل من قصر الصفة وقصر الموصوف هو معتقد الشركة لما تقدم أن «دون» أرادوا به هنا تجاوز صفة اشتركت مع أخرى إلى تلك الأخرى أو تجاوز موصوف اشترك مع آخر إلى ذلك الآخر ، وسواء اعتقد شركة صفتين ، وموصوفين أو أكثر ، فإذا اعتقد المخاطب أن زيدا منجم ، وشاعر ، وكاتب ـ مثلا ـ قلت (ما زيد إلا شاعر) هذا فى قصر الموصوف ، وكذا إذا اعتقد أن زيدا وعمرا وخالدا اشتركوا فى صفة الشعر ، فإنك تقول فى نفى ذلك الاعتقاد ما شاعر إلا زيد ، فالأول : قصر فيه الموصوف ـ الذى هو زيد ـ على صفة هى الشعر دون غيرها ، والثانى : قصرت فيه الصفة على موصوف واحد هو زيد دون غيره (ويسمى هذا القصر) فى الاصطلاح (قصر إفراد لقطع الشركة) أى : لأنك نفيت به الشركة المعتقدة ، وأفردت موصوفا بصفة أو صفة بموصوف (والمخاطب ب) القصر (الثانى) وقد تقدم أن الثانى فيهما هو ما فيه مكان ففى قصر الموصوف هو تخصيصه بصفة مكان أخرى ، وفى قصر الصفة هو تخصيصها بموصوف مكان آخر (من يعتقد العكس) أى : المخاطب بالثانى من ضربى كل من القصرين هو معتقد عكس الحكم المثبت ، والمراد بالعكس ما ينافى ذلك الحكم ، ففى قصر الصفة إذا اعتقد المخاطب أن القائم عمرو لا زيد تقول (ما قائم إلا زيد) حصرا للقائم فى زيد ونفيا له عن عمرو ، وفى قصر الموصوف إذا اعتقد أن زيدا قاعد لا قائم

٤٢٠