مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي

مواهب الفتّاح في شرح تلخيص المفتاح - ج ١

المؤلف:

أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن محمّدابن يعقوب المغربي


المحقق: الدكتور خليل إبراهيم خليل
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-3820-0
ISBN الدورة:
978-2-7451-3820-0

الصفحات: ٦٨٨
الجزء ١ الجزء ٢

بأن المراد بالكناية هنا أن يطلق اللفظ ويراد به لازم معناه كما يقال حاتم ويراد به لازمه الذى اشتهر به وهو الجود ، أو لم يشتهر به ، كما يقال أبو لهب ويراد به لازمه فى الجملة ، وهو كونه جهنميا ، ولا يراد الشخص المسمى بحاتم ، ولا بأبى لهب ففيه نظر ، وذلك أن أهل الفن مثلوا فى هذا المقام بتبت يدا أبى لهب ، ومعلوم قطعا أن المراد به الشخص لا لازمه ، وأيضا لو كان كذلك فإن أراد أنه يطلق على غير مسماه بضرب من المشابهة واعتبار تناسب العلمية ، وجعله كليا كما يطلق حاتم ويراد به جواد فى الجملة بهذا الاعتبار كان استعارة على ما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ لا كناية ، وإن أراد الإطلاق عن الغير باعتبار اللزوم العرفى من باب إطلاق المقيد على المطلق لا باعتبار المشابهة كإطلاق أبى جهل اللازم معناه الذى اشتهر به ، وهو كونه جهنميا كان مجازا مرسلا ، وإن أراد الإطلاق على لازم اتفق حصوله فى الشخص ، ولو لم يشتهر بلزومه حتى يكون تشبيهيا أو إرساليا كان قولنا هذا الرجل مثيرا إلى كافر فعل كذا كناية عن الجهنمى ولم يقله أحد فتأمله.

(أو إيهام استلذاذه) أى : إيهام المتكلم السامع أن العلم وجده لذيذا فأحرى إذا وجده لذيذا بالفعل كقوله :

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا

ليلاى منكن أم ليلى من البشر (١)

كرر ليلى لإيهام الاستلذاذ ، أو لوقوع الاستلذاذ ، وكان يكفيه أم هى وإيهام الاستلذاذ يظهر عند تكرار اسم ما يظن محبوبا (أو التبرك به) كقولنا الله الهادى ومحمد هو الشفيع عند قول الجاهل هل الله الهادى أو هل محمد الشفيع (أو نحو ذلك) كالتفاؤل فى قول القائل سعد فى دارك والتطير فى قولك السفاح فى دار صديقك والتسجيل على السامع أى : التحقيق والتثبيت عليه كما يحقق الشيء بالكناية حتى لا يجد إلى إنكار السماع سبيلا فإذا قيل لأحد هل سببت هذا وأهنته ، فيقول زيد سببته وأهنته بمسمع منه فلا

__________________

(١) البيت لقيس بن الملوح في كتاب التبيان للطيي تحقيق د / عبد الحميد هنداوي ص ١٤٨ ، وشرح المرشدى على عقود الجمان ١ / ٥٧.

٢٠١

يجد السبيل إلى أن يقول ما سكت إلا أنى ظننته يحدث عن غيره وغير ذلك مما يناسب الأعلام كتأتى الإنكار لدى الحاجة حيث يكون العلم مشتركا بين الحاضرين.

تعريف المسند إليه بالموصولية

(وبالموصولية) أى : تعريف المسند إليه بإيراده اسم موصول ، وقدمه على اسم الإشارة مع أن اسم الإشارة أعرف ، لأن فيه شبه الألقاب بإفادته وصف الرفعة وعكسها ، وأما المعرف بأل العهدية فهو مع المعرف بالموصولية فى رتبة واحدة ولذلك صح وصف المعرف بأل بالموصول كما فى قوله تعالى (الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ)(١) ولكن قدم الموصول عليه لما ذكر أيضا والمضاف رتبته رتبة ما يضاف إليه فتأخره عن ذوات الرتب أنسب ومحل التعريف بالموصولية أن يكون السامع عارفا بنسبة جملة إلى مفهوم ذهنا فهذا أصلها ؛ فإذا قيل مثلا من أحسنت إليه بالأمس قد شكرك كان المعنى ذلك المعهود لك بأنك أحسنت إليه قد شكرك ، ولو قلت بدله إنسان أحسنت إليه بالأمس قد شكرك لم يفد هذا العهد فى أصل الوضع كما أفاده الموصول ، ولو كان قد يعرض له التعيين لاختصاص الوصف ، ولهذا إذا أريد التعيين كان استعمال الموصول هو الأصل ؛ لأنه يفيد التعيين بالوضع فترجح عن استعمال النكرة الموصوفة ؛ لأن التعيين بها اتفاقى عرضى (لعدم علم المخاطب بالأحوال المختصة به سوى الصلة كقولك الذى كان معنا أمس رجل عالم) أى : التعريف بالموصولية يكون لعدم علم إلخ ، لا يقال لا يتعين الموصول فيما ذكر لصحة أن يقال مصاحبنا بالأمس أو رجل مصاحب لنا بالأمس لأنا نقول أما ترك التعيين بالنكرة الموصوفة فلأن التعريف بالموصولية فى نحو هذا أرجح لإفادته التعيين بالوضع كما تقدم ، وأما إمكان التعبير بالمضاف لإفادة ما ذكر ؛ لأن الإضافة ـ أيضا ـ أصلها العهد فلا يوجب سقوط الموصول ؛ لأن ما حضر للبليغ مما يحقق نكتة المقام يكفى فى المراعاة ، إذ لا يجب اختصاص النكتة بما استعمل لها تأمله. ولم يتعرض المصنف لما لا يعلم فيه المتكلم فقط ، أو المتكلم والمخاطب معا سوى الصلة كقول القائل الذين فى بلاد المشرق لا أعرفهم إذا كان هو الجاهل بسوى هذه

__________________

(١) الناس : ٤ ، ٥.

٢٠٢

الصلة أو لا نعرفهم إذا كانا معا جاهلين لقلة فائدة هذا الكلام ؛ لأنه إذا لم يعرف إلا الصلة فعند ذلك لا يبقى حال يخبر به إلا عدم المعرفة ونفى المعرفة فى الإخبار لا يفيد غالبا ثم عطف على قوله لعدم قوله (أو لاستهجان) أى : استقباح (التصريح بالاسم) إما من جهة تركيبه من حروف يستقبح اجتماعها ، أو لإشعاره فى أصله بمعنى تقع النفرة منه لاستقذاره عرفا ، كأن يقال ما يضع فلان مثل ما للشاة بدلا عن ذكر اسم ما يوضع (أو لزيادة التقرير) يحتمل ثلاثة أوجه تقرير الغرض المسوق له الكلام ، وليس مسندا إليه ، وتقرير المسند وتقرير المسند إليه والمثال محتمل للكل (نحو) قوله تعالى ((وَراوَدَتْهُ)) (١) أى : يوسف (الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) فالغرض المسوق له الكلام نزاهة يوسف ، وبعده عن مظنة الفحشاء وما ذكر أشد تحقيقا وتقريرا لتلك النزاهة مما لو قيل ، وراودته امرأة العزيز ؛ لأنه إذا امتنع مع كونه فى بيتها متمكنا فى خلوة منها كان غاية فى النزاهة ، ونهاية فى الطهارة باطنا وظاهرا عن الفحشاء ، وفيه ـ أيضا ـ تقرير المراودة التى هى المسند لما يفيده كونه فى بيتها من فرط الألفة والاختلاط فى خلوة فيتمكن منها على أتم وجه ، فقد أفاد تقريرها ووجودها بأتم وجه بما ذكر من الموصول ، وصلته ، وفيه ـ أيضا ـ تقرير المسند إليه ونفى احتمال التشابه ، والاشتراك اللذين يمكن حصولهما لو قيل مثلا امرأة العزيز أو زليخا ومعنى راودته احتالت بما أمكن لها فى التوصل إليه وهو فاعلت من راد يرود ذهب وجاء ، فهو استعارة تمثيلية على حد قولهم ـ فى المتردد فى أمر ـ أراك تقدم رجلا ، وتؤخر أخرى ، كذا قيل ولا يبعد أن يقال نقلت المراودة عرفا إلى طلب التوصل إلى الشيء العزيز على من كان بيده بحث ، وتمحل أى : تخيل ، ثم إن المشهور عندهم أن الآية مثال لزيادة التقرير ، والمفهوم من كلام السكاكى أنها مثال لزيادة التقرير والاستهجان ؛ لأن زليخا من المستقبح فى تركيب الحروف ومن المسترذل فى كراهة اللسان ونفرة السمع (أو التفخيم) أى : ويكون تعريف المسند إليه بالموصولية لما فيها من التفخيم ، أى : التعظيم والتهويل (نحو)

__________________

(١) يوسف : ٢٣.

٢٠٣

قوله تعالى (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ)(١) فإن فى هذا الإبهام الكائن فى ما غشيهم من التفخيم والتهويل ما لا يخفى لما فيه من الإيماء إلى أن تفصيله تقصر عنه العبارة (أو تنبيه المخاطب عن خطأ) أى : التعريف بالموصولية يكون لتنبيه المخاطب على خطأ (نحو قوله) فى وصية بنيه (إن الذين (٢) ترونهم) أى : تظنونهم (إخوانكم يشفى غليل صدورهم) أى : عطش قلوبهم وحقدهم (أن تصرعوا) أى : تصابوا وتهلكوا بالحوادث ، ولا يخفى ما فى هذا من التنبيه على خطئهم فى هذا الظن بخلاف ما لو قال ، (إن القوم الفلانيين يشفى غليل صدورهم أن تصرعوا) لا يقال يمكن التنبيه على الخطأ ـ أيضا ـ بأن يقال إن ناسا تظنونهم إخوانكم وهم بنو فلان يشفى غليل صدورهم ، فليست هذه مخصوصة بالموصول فلا ينبغى ذكرها له ، لأنا نقول لا يجب اختصاص النكتة بمن ذكرت له فإن استهجان التصريح يغنى عنه فيه اسم آخر أيضا ومع ذلك ذكر من نكتة وقد تقدم التنبيه على هذا (أو الإيماء إلى وجه بناء الخبر) أى : يعرف المسند إليه بالموصولية لما فى صلته من الإيماء أى : الإشارة إلى وجه بناء الخبر أى : طريقه ، ونوعه من ثواب ، أو عقاب ، أو مدح ، أو ذم مثلا فقوله بناء على هذا مستدرك ؛ لأن المراد بالوجه نوع الخبر ، فلا فائدة لزيادة النباء ، ويحتمل أن يكون التقدير ، والمعنى الإيماء إلى وجه إيراد الخبر فيراد بالبناء الإتيان به وإيراده ، ويراد بالوجه الطريق الذى يسلك ، ويرتكب فى إيجاد الخبر من مدح وغيره فيظر المعنى لزيادة البناء تأمله. يعنى وذلك الإيماء مناسب للمقام ؛ لأن فيه شبه البيان بعد الإبهام والمقام يقتضى التأكيد ، وإن لم يكن هكذا كان من البديعيات تأمل ، وذلك (نحو) قوله تعالى ((إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)(٣)) ففى مضمون الصلة الذى هو الاستكبار عن عبادة الرب إيماء إلى أن الخبر المبنى على الموصول وصلته أمر من جنس الإذلال ، والعقوبة وهو قوله تعالى (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أى : صاغرين فالمراد بالوجه كما

__________________

(١) طه : ٧٨.

(٢) البيت لعبدة بن الطيب في شعره ص ٤٨ ، شرح المرشدي ١ / ٥٩.

(٣) غافر : ٦٠.

٢٠٤

تقدم طريق الخبر ونوعه الذى يأتى عليه ، وأما تفسيره بالعلة ؛ لأن الاستكبار عن العبادة على شرعية لدخول جهنم ، ففاسد لانتقاضه بقوله :

إن الذى سمك السماء بنى لنا

بيتا ........

على ما يأتى إذ ليس سمك السماء علة لبناء بيت شرفهم ، ومجدهم وبقوله :

إن الذين ترونهم إخوانكم

يشفى غليل صدورهم ...

فإن ظنهم إخوانهم ليس علة لشفاء غليل صدورهم (ثم إنه) أى : الإيماء إلى وجه بناء الخبر لا مجرد جعل المسند إليه موصولا كما قيل ؛ لأن سياق الكلام ينافيه ، ولأنه يفهم أن ما ذكر بعد يوجد من غير الإيماء وهو فاسد كما يظهر (ربما جعل ذريعة) أى : الإيماء ربما جعل ذريعة ، أى وسيلة (إلى التعريض والتعظيم) أى : إلى الإشارة من عرض أى : جانب الكلام إلى التعظيم (لشأنه) أى : لشأن الخبر (نحو قوله) أى : الفرزدق (١) (إن الذى سمك السماء) أى : رفعها (بنى لنا بيتا) أى : بيت الشرف والمجد لا بيت الكعبة ، فإن ما تضمنته القصيدة يبعده (دعائمه) أى : قوائم ذلك البيت (أعز وأطول) من كل بيت ، أو من بيتك يا جرير ، فقوله إن الذى سمك السماء فيه الإشارة إلى أن الخبر المبنى عليه أمر من جنس الرفعة ، والبناء ، والذوق شاهد صدق على ذلك الإيماء فإنه إذا قيل إن الذى صنع هذه الصنعة الغريبة فهم منه عرفا إن ما يبنى عليه أمر من جنس الصنعة ، والإتقان فإذا قيل صنع لى كذا كان التأكيد لما أشار إليه أول الكلام ، ثم فى هذا الإيماء تعريض لتعظيم بناء بيتهم من حيث إنه فعل من رفع السماء ، وصنع من أبدع وأتقن ، فلك القمر الذى لا بناء أغرب ، ولا أرفع منه فى مرأى العين لا يقال إنما فيه التعريض بتعظيم البيت ، وهو مفعول لا بتعظيم البناء الذى هو الخبر ؛ لأنا نقول تعظيم البيت لتعلق بناء من بنى السماء بها ، فلا محيد عن اعتبار البناء فى التعظيم وهو الخبر ، وهذا التقدير يقتضى أن جعل الموصول مع صلته ذريعة لا ينفك عن الإيماء إلى وجه بناء الخبر ، ولو كان كما قيل مجرد جعل المسند إليه موصولا هو المجعول ذريعة لانفك عن الإيماء فى هذا المثال وشبهه وقد تقدم أن الذوق شاهد بوجود الإيماء فى هذا

__________________

(١) البيت للفرزدق فى ديوانه (٢ / ١٥٥) ، والأشباه والنظائر (٦ / ٥٠) ، وخزانة الأدب (٦ / ٥٣٩).

٢٠٥

كما وجد فى كل ما جعل ذريعة ، وهذا ظاهر غير أنه يرد عليه أن الإيماء ليس هو الموجب للتعظيم بدليل وجود التعظيم مع انتفاء الإيماء المذكور بتقديم المسند على المسند إليه ، فإن الإيماء إنما يتحقق عند جعل الموصول مبتدأ ، وأما عند جعله فاعلا فلا إيماء ومع ذلك فالتعظيم موجود ، فإنه لو قيل بنى لنا من سمك السماء بيتا فهم تعظيم بناء البيت من حيث يفهم أن فعل الصانع الواحد متشابه فالإيماء الذى يحصل بتقديم المسند إليه لا مدخل له فى التوصل إلى تعظيم شأن الخبر ، ولا غيره ، والجواب عن هذا بأن المفيد للتعظيم عند التقديم نفس الموصول ، أو صلته لما فيه من الإيماء إلى جنس الخبر الدال على التعظيم ، كما فى تعظيم شعيب فإنه لو بنى عليه غير المومأ إليه بأن يرتب عليه غير الخسران لم يفد تعظيم شعيب ، وعند التأخر نفس الكلام فاستفادة التعظيم من نفس الموصول وصلته تكون بطريق الإيماء ، ولو كان يمكن بغيره ـ أيضا ـ فللإيماء دخل فى الإفادة وما يفيد النكتة تنسب له ، ولو أمكنت بغيره غير مخلص فإن التكذيب لشعيب ، ولو أومأ إلى الخسران لكن تعظيمه مستفاد من نسبة الخسران للمكذب تقدم أو تأخر فكون التقديم يفيد الإيماء إلى الخسران المفيد للتعظيم لا يقتضى أن التعظيم يفيد نفس الإيماء من حيث هو ، وكذا المفيد للتعظيم عند التقديم فى البيت قطعا كحون البناء بناء من سمك السماء وهو المفيد عند التأخر فلا مدخل لخصوص الإيماء من حيث هو فى الإفادة تأمل. (أو) جعل ذريعة لتعظيم (شأن غيره) أى غير الخبر (نحو (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً)) (١) فإن فيه الإيماء إلى أن الخبر المبنى عليه أمر من جنس الخسران والإهلاك ؛ لأن تكذيب شعيب تكذيب معلوم النبوة مشهور الرسالة فلا يترتب عليه إلا الخسران والإهلاك وشبه ذلك ، فلذلك قال (كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) وفيه مع ذلك تعظيم شأن شعيب ، حيث أوجب تكذيبه الخسران فى الدنيا والآخرة ، وربما جعل الإيماء المذكور ذريعة إلى عكس هذا بأن يكون ذريعة إلى الإهانة بشأن الخبر نحو قول القائل إن الذى لا طاقة له على شيء أغاثك تحقيرا لشأن إغاثته وهى الخبر ، وكذا قول القائل إن الذى لا يعرف الفقه قد صنف فيه أو إلى الإهانة بشأن غير الخبر نحو إن الذى

__________________

(١) الأعراف : ٩٢.

٢٠٦

يتبع الشيطان الخاسر تحقيرا لشأن الشيطان ، وقد يجعل الإيماء ذريعة إلى تحقيق الخبر أى : تثبيته فى الخارج ، وبيان تحقيق وقوعه فى نفس الأمر لكون ما كان الإيماء به كالدليل عليه وذلك نحو قوله :

إن التى ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودها غول (١)

أى : إن التى انقطعت بكوفة الجند وهاجرت إليها قد أخذت الغول ودها ، وأهلكته ففى ذكر ضرب البيت بكوفة الجند وسميت كوفة الجند ؛ لأن جند كسرى بها ، وذكر هجرانها بها إيماء إلى أن الخبر المبنى عليه مما يجانس انقطاع المحبة وذهاب الوصل ؛ لأن الانقطاع إليها كالدليل عليه فمع كونه فيه إيماء لما ذكر فيه دلالة على تحققه ، فليس الإيماء لوجه بناء الخبر نفس الإيماء إلى تحققه حتى يستغنى بذكره عنه كما قيل ؛ بل الإيماء أعم لحصوله بلا تحقق فى نحو قوله.

إن الذى سمك السماء بنى لنا

بيتا ...

فإن فيه الإيماء من غير دلالة على تحققه إذ لا يدل سمك السماء على بناء بيتهم لا لحصوله معه فى نحو المثال لكون ما أشير فيه إلى الوجه كالدليل على ذلك الوجه فتحقق بما ذكر أمران.

أحدهما : أن المومأ به لا يجب أن يكون علة للمومأ إليه ، كما فى هذا المثال فإن ضرب البيت بكوفة الجند ليس علة لانقطاع المودة ؛ بل الأمر بالعكس.

والآخر : أن الإيماء قد يحصل بلا تحقق كما فى سمك السماء فهذا تحقيق هذا المحل فليتأمل.

تعريف المسند إليه بالإشارة وأغراضه

(وبالإشارة) أى : وأما تعريف المسند إليه فيكون بالإشارة أى : بإيراده اسم إشارة (لتمييزه) أى : لتميز معنى المسند إليه (أكمل تمييز) لغرض من الأغراض ، كأن يكون فى مقام المدح ، وفى حال إجراء أوصاف الرفعة ونعوت الأثرة ، فيكون تميزه ـ حينئذ ـ أعون على كمال المدح ؛ لأن ذكر الممدوح بما يصاحبه حقا قصور فى الاعتناء

__________________

(١) من البسيط وهو لعبدة بن الطيب العبثمى في ديوانه ص ٥٩ ، وتاج العروس (كوف).

٢٠٧

بأمره (نحو) قوله (هذا أبو الصقر فردا) (١) أى : فى حال كونه فردا ، أو أمدح فردا فهو منصوب إما على الحال أو على تقدير الناصب (فى محاسنه) جمع حسن معنى لا لفظا (من نسل شيبان) خبر بعد خبر (بين الضال والسلم) حال من نسل شيبان أى : حال كون نسل شيبان مستقرا بين الضال وهو السدر ، والسلم هو شجر له شوك ، وهما من شجر البوادى وأشار بذلك إلى ما تتمادح به العرب من سكنى البادية ؛ لأن العز مفقود فى الحضر ، فقوله هذا إشارة إلى تمييز أبى الصقر أكمل تمييز ليكون مدحه فى الأذهان كالنار على علم ، وظهور نعته عند الناس كظهور البدر بلا غيم ولا خسوف ، وإنما أفاد اسم الإشارة أكمل التمييز لتنزله فى المحسوس الذى أصله أن يستعمل فيه منزلة وضع اليد ، ولو كان فى المعارف ما هو أعرف منه فإن ذلك لا ينافى أن تكون فيه خصوصية يفوت بها ما سواه ؛ لأن المراد بكون المعرفة أعرف من غيرها أنها أكثر بعدا من عروض الالتباس ، وذلك لا ينافى أن يكون ما هو دونه أقوى منه فى هذا المعنى الصور ، فإن اسم الإشارة إذا كان المشار إليه حاضرا حسيا مع كون السامع رائيا أو نزل بتلك المنزلة أقوى من العلم المشترك فى الحالة الراهنة فلا يرد أن يقال إن تمييزه أكمل تمييز يتوقف على أعرفيته ، ولم تثبت بعد (أو التعريض بغباوة السامع) وأنه لا يدرك غير المحسوس ؛ لأن اسم الإشارة الأصل فيه أن يستعمل فى المحسوس المشاهد فيقع التعريض به كما يقع بنفس الإشارة الحسية وبنفس وضع اليد على الشيء ، فإنه لو سألك إنسان بحضرة فاعل لفعل ما ، فقال من هو ، وقمت تضع يدك على ذلك الفاعل ، ولو أجبت باسمه لعرفه كان فى ذلك من التعريض بغباوته ما لا يخفى لا سيما عند وجود القرائن الدالة على المسئول عنه ، فاسم الإشارة يفهم التعريض بالغباوة كالإشارة حسا كقوله :

أولئك آبائى فجئنى بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع (٢)

__________________

(١) البيت لابن الرومى فى الإيضاح ص (٤٩) بتحقيق د. عبد الحميد هنداوى ، والمفتاح ص (٩٨) ، والإشارات والتنبيهات ص (٣٨) ، ولطائف التبيان ص (٥١).

(٢) البيت للفرزدق في ديوانه ١١ ، ٤١٨.

٢٠٨

ففى قوله : أولئك آبائى تعريض بغباوة جرير ، وأنه لا يدرك غير المحسوس بخلاف ما لو قال فلان ، وفلان ، وفلان آبائى ، وقوله : فجئنى بمثلهم أمر تعجيز أى : لا تقدر أن تأتى بمثلهم فى مناقبهم إذا جمعتنا مجامع الافتخار والإنشاد يوما ما (أو بيان حاله فى القرب أو البعد أو التوسط) أى : يكون تعريف المسند إليه باسم الإشارة لبيان حال معنى المسند إليه من قرب أو بعد أو توسط ، وأخر ذكر التوسط ؛ لأنه نسبة لا تدرك إلا بعد إدراك طرفى القرب والبعد (كقولك) فى بيان حال القرب (هذا) زيد (أو ذلك) أى : وقولك فى بيان حال البعد ذلك زيد (وذاك) أى : وقولك فى بيان حال التوسط ذاك (زيد) وههنا بحث تقدمت الإشارة إلى مثله ، وهو أن حاصل ما ذكر أن اسم الإشارة يستعمل لمعناه الذى هو المشار إليه القريب ، والمشار إليه البعيد ، والمشار إليه المتوسط ، وهذا أمر معلوم لغة ، وليس من وظائف هذا الفن ، وأجيب بأن اللغوى بين معانى هذه الألفاظ ، والبيانى بين أنه إذا أريد المشار إليه القريب مثلا أتى باللفظ الدال عليه ، وهذا زائد على أصل المراد الذى هو أن يعبر عن المسند إليه ليتصور بأى لفظ محكوما عليه بالمسند ، ورد هذا بأن الزيادة على أصل المراد لا تكفى فى مطابقة الكلام لمقتضى الحال التى هى مراعاة الزيادة على أصل الوضع ، وإنما قلنا ذلك ؛ لأن مطلق الزيادة على أصل المراد مدركة بغير هذا الفن ؛ لأنه إذا عرف معنى اللفظ فقد علم بالضرورة أنه إذا أريد ذلك المعنى أتى باللفظ الدال عليه بالخصوص ، وهذا حاصل الزيادة على أصل المراد ، فقد لزم على هذا اتحاد مقصد النحوى والبيانى ، ولو اختلف التعبير والجواب أن المعنى أنه إذا أريد معنى اللفظ لغرض من الأغراض ، إما كون مدلول ذلك اللفظ لا يناسب المقام غيره ، فيكون الغرض ذاتيا ؛ لأنه الأصل ، ولا مقتضى للعدول عنه ، وإما كونه ينشأ عنه معنى آخر يناسب المقام كالإنباء بالقرب فى اسم الإشارة مثلا عن المحبة ؛ لأن المحبوب قريب أتى بذلك اللفظ ، وعلى هذا يكون ما سيأتى تفصيلا للغرض الناشئ ، ومثل هذا المذكور فى اسم الإشارة يقال فيما كان بيان سر استعماله مثل هذا البيان ، كما تقدم فى العلم والضمير ، وسيأتى فى غيرهما فليتأمل.

٢٠٩

(أو تحقيره) بالقرب أى : يعرف المسند إليه باسم الإشارة الدال على القريب ، ليفيد تحقير معنى المسند إليه بسبب القرب ؛ لأن لفظ القرب يفيد ذلك كما يقال هذا أمر قريب أى : هين التناول سهل الامتهان وكذلك اسم الإشارة الدال على القرب (نحو) قوله تعالى ـ حكاية عن الكفرة ـ ((أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)(١)) فمقصودهم باسم الإشارة المفهم للقرب ـ لعنة الله عليهم ـ تحقير المشار إليه ، كأنهم يقولون أهذا الحقير يذكر آلهتكم المستعظمة بنفى إلهيتها وتحقير شأنها ، ولا غرابة فى انقلاب الحقائق عند الكافر ، لأنه أحقر من أن يعظم من الإقرار بعظمته غنم وإدراك أن اتباع ما يقول حتم ختم الله لنا بالحسنى ، وأوجب لنا بحبه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المقر الأسنى (أو تعظيمه بالبعد) أى : يعرف المسند إليه باسم الإشارة ؛ لقصد تعظيم معناه بسبب دلالته على البعد فينزل بعد درجته وشرف منزلته منزلة بعد المسافة فيستعمل له اسم الإشارة الدال فى الأصل على البعد فإن لفظ البعد بنفسه يفيد التعظيم ، كما يقال هذا أمر بعيد عن فلان أى : عزيز التناول بعيد الإدراك لا مثال فلان ، لشرفه ، ورفعته ، فكذا اسم الإشارة الدال فى الأصل على البعد الحسى وذلك (نحو) قوله تعالى ((الم* ذلِكَ الْكِتابُ)) (٢) أى : ذلك الرفيع المنزلة فى البلاغة العزيز المرتبة فى علومه وأسلوبه هو الكتاب الكامل الذى يستحق أن يسمى كتابا حتى كأنه لا كتاب سواه وهذا فى تعظيم المشار إليه وقد يكون لتعظيم المشير كقول الأمير لبعض الحاضرين من غير قصد حقارته ذلك قال كذا تعظيما لشأنه عن ذكر الألقاب الدالة على التكافؤ فى الخطاب ، والتساوى فى المحاورات والجواب (أو تحقيره) بالبعد كما أن لفظ البعد يفيد ذلك ، فيقال هذا بعيد عن هذه الحضرة ، لتنزهها عن حقارته وذلك (نحو) قوله (ذلك اللعين فعل كذا) أى : ذلك الحقير البعيد لحقارته عن عز الخطاب والحضرة فعل كذا ثم إنه كثيرا يشار بلفظ ذلك إلى الغائب عينا كان ، كقولك : جاءنى رجل فقال لى ذلك الرجل كذا ؛ تحكى أمره بعد غيبته ، أو معنى كقولك : قال لى إنسان كذا فسرنى ذلك

__________________

(١) الأنبياء : ٣٦.

(٢) البقرة : ١ ، ٢.

٢١٠

القول ، واستعمال لفظ هذا فى مثل ما ذكر قليل ويذكر كثيرا لفظ ذلك للمعنى للحاضر ؛ لأن المعنى لعدم إدراكه بحاسة العين كالبعيد ، كقولك : قسما بالله لقد كان كذا وإن ذلك لقسم عظيم. وقد يقال : وإن هذا لقسم عظيم (أو للتنبيه) أى : يكون تعريف المسند إليه باسم الإشارة للتنبيه (عند تعقيب المشار إليه بأوصاف) أى : عند إيراد أوصاف على عقب المشار إليه بمعنى أن الأوصاف ذكرت إثر ذكر المشار إليه فالتعقيب مصدر عقبه فلان إذا جاء على عقبه ، ثم يعدى بالباء إلى مفعول ثان ، فيقال عقبه بالشىء إذا أتى بالشىء على عقبه ، وجعل ذلك الشيء إثره وإذا علم مدلول التعقيب لغة تبين أن تفسيره هنا بجعل اسم الإشارة بعقب أوصاف تفسير لا يطابق المعنى الأصلى ، فهو فاسد لغة ، ولو كان هذا المعنى حاصلا فى المثال ؛ لأن اسم الإشارة أتى به عقب أوصاف قد عقب بها المشار إليه اللهم إلا أن يكون تساهلا بذكر المعنى فى الجملة ، ولو كان غير مطابق لموضوعه لغة (على أنه) هو متعلق بالتنبيه أى : التنبيه عند ما ذكر على أن المشار إليه (جدير) أى : حقيق (بما يرد بعده) أى : بعد اسم الإشارة من الحكم المطلوب (من أجلها) متعلق بجدير أى : حقيق بذلك الحكم من أجل الأوصاف التى ذكرت بعد ذكر المشار إليه (نحو) قوله تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (١) فقد عقب المشار إليه وهو مصدوق المتقين بأوصاف هى الإيمان بالغيب وإقام الصلاة ، والإنفاق مما رزق والإيمان بما أنزل والإيمان بالآخرة ، ثم عرف المسند إليه باسم الإشارة ، وهو أولئك المشار به إلى مصدوق الذين ؛ تنبيها على أن المشار إليه كان جديرا بما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم الذى هو الهدى عاجلا ، والفلاح ، وهو البقاء الأبدى فى النعيم آجلا من أجل تلك الأوصاف ، فإن الذوق شاهد صدق على أنه إذا قيل الذى يحسن للسائل ، ويغيث الملهوف ، ويرحم الضعيف ، ويقيم حق الضيف ، ويعين على النوازل ، ويوجد في الشدائد ذلك هو أهل التعظيم عند الورى ، والأحق أن يتلقى

__________________

(١) البقرة : ٣ : ٥.

٢١١

بالقبول إذا يرى كان ذلك دالا على أن استحقاقه للتعظيم والقبول من أجل تلك الأوصاف ؛ لأن تعليق الحكم بوصف مناسب كما أنبأ عنه هنا اسم الإشارة إلى الموصوف يشعر بعليته ، ثم ينشأ عن ذلك غرض آخر وهو الترغيب فى تحصيل تلك الأوصاف.

تعريف المسند إليه باللام العهدية

(وباللام) أى : تعريف المسند إليه باللام يكون (للإشارة) بها (إلى معهود) أى : إلى شيء من أفراد الحقيقة واحدا كان أو أكثر معهود بين المتكلم والمخاطب ، وأصل العهد الإدراك ، واللقاء حسا فاستعمل فى مطلق الإدراك المتقدم لاستلزام اللقاء للإدراك فى الجملة يقال عهدت فلانا إذا أدركته ، ولقيته ، فالعهد المفاد باللام يكون لتقدم المشار إليه صريحا ، أو تقدمه كناية (نحو) قوله تعالى ((وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى)(١) أى : ليس) الذكر (الذى طلبت) ه امرأة عمران ؛ ليكون من سدنة بيت المقدس (ك) الأنثى (التى وهبت لها) أى : لامرأة عمران ، فالمثال مشتمل على المشار إليه المتقدم فإن اللام فى الأنثى ، ولو كان ليس من باب المسند إليه ؛ لأنه مجرور للإشارة إلى معهود تقدم صريحا فى قوله تعالى : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى)(٢) فهو تنظير مناسب ، واللام فى الذكر وهو المسند إليه للإشارة إلى معهود تقدم كناية فى قوله تعالى حكاية عن امرأة عمران (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً)(٣) فإن لفظ ما ولو كان يستعمل فى عموم الذكور والإناث لكن ذكر التحرير الذى لا يصلح إلا للذكور يدل على أنها أرادت الذكر بما ؛ لأن التحرير ، وهو أن يعتق الولد ، ويترك لخدمة بيت المقدس إنما يكون للذكور دون الإناث ؛ لأنهن عورة لا يناسبهن الانكشاف الحاصل بالخدمة وليس المراد بالكناية هنا الكناية المعلومة ؛ بل المراد استعمال المبهم فى معين بقرينة ، فأشبه الكناية ، وقد يقوم مقام ذكر المشار إليه باللام علم المخاطب به نحو خرج الأمير إذا لم يكن فى

__________________

(١) آل عمران : ٣٦.

(٢) آل عمران : ٣٦.

(٣) آل عمران : ٣٥.

٢١٢

البلد إلا أمير واحد ، وكقولك للداخل أغلق الباب وقد يشار باللام إلى حاضر ؛ لأن حضوره كعهده ، كما فى وصف المنادى ، كيأيها الرجل ، ووصف الإشارة ، كقام هذا الرجل (أو) للإشارة (إلى نفس الحقيقة) أى : تعريف المسند إليه باللام يكون للإشارة بها إلى نفس الحقيقة ، ومفهوم مسمى اللفظ من غير اعتبار لمصدوق ذلك اللفظ ، ولتلك الحقيقة فى الخارج ، وفى الإفراد وذلك (كقولك الرجل خير من المرأة) فإن المراد بلفظ الرجل مفهومه الذهنى ، وهو الذكر الإنسانى لا مصدوق من ما صدقاته ، وكذا المراد بلفظ المرأة ولهذا صح الإخبار بالخيرية على الإطلاق من غير حاجة إلى بيان وجهها ؛ لأن الجنس والحقيقة خير من الجنس ، ولو قصدت الفردية احتيج إلى بيان الوجه والأولى فى التمثيل قولنا ، فى التعريف : الكلمة لفظ مفرد مستعمل والإنسان الحيوان الناطق ؛ لأن الحكم فى التعريف حقيقى مفهومى لا فردى بخلاف الحكم بالخيرية ؛ فإن الفضل بين الذكورية ، والأنوثية إنما يتحقق من خصال الإفراد لا من تصور كل منها ؛ لكن لما كان مآل التصور إلى الأفضلية فى الخارج ثبتت الأفضلية للحقيقة لذاتها لا من جهة التصور فإن الشيء الذى هو فى قوة الحصول يثبت له حكم الحصول ألا ترى إلى تفضيل زيد على عمرو ، فإنه يصح باستعداده للنفع ولو لم ينفع بالفعل ويصح أن يراعى فى الخيرية خيرية مجرد الذكورية الثابتة على نفس الأنوثية من غير رعاية خصالها ؛ فيكون الحكم حقيقيا لا فرديا ، فلا يحتاج إلى التأويل تأمله.

(وقد يأتى) المعرف بلام الحقيقة (ل) فرد (واحد) من أفراد الحقيقة (باعتبار عهديته فى الذهن) وفى هذه العبارة تسامح ؛ لأن ظاهرها أن الفرد الواحد الذى استعمل فيه اللفظ له (عهدية فى الذهن) بنفسه فاستعمل له اللفظ باعتبارها ؛ لكن المراد ظاهر للعلم بأن العهدية الذهنية من حيث هى للحقيقة فنسبتها للمفرد باعتبارها فمعنى الكلام أنه قد تقرر أن الكلى الطبيعى وهو اللفظ الموضوع للطبيعة أى : نفس الحقيقة المشتركة بين الأفراد قد يطلق على فرد من تلك الأفراد لوجودها فيه فيكون استعماله حقيقيا لا مجازيا فإذا صح هذا فى الكلى الغير المعرف ، فالمعرف باللام المشار بها إلى الحقيقة كذلك يصح فيه الإطلاق على فرد توجد فيه تلك الحقيقة ؛ لأن تعينها باللام ذهنا لا

٢١٣

يمنع وجودها فى الإفراد فيتبع وجودها فى الفرد صحة الإطلاق كالكلى الغير المعرف فإذا أطلق اللفظ المحلى بأل الحقيقية على ذلك الفرد كان ذلك الإطلاق باعتبار عهدية جنسه وحقيقته فى الذهن لا باعتبار خصوص الفرد ، ولذلك كان الإطلاق حقيقيا لا مجازيا وإنما يحمل على هذا حيث لا يصح إرادة حصة معينة من الحقيقة ولا إرادة الحقيقة نفسها ، كما فى قولنا : الإنسان نوع ولا إرادتها فى ضمن جميع الإفراد ، كما يأتى بل تراد فى ضمن فرد ما لعدم صحة غير ذلك ، فإذا قيل مثلا : أطعم المسكين زكاة فطرك يوم العيد كان المعنى أطعم فردا من أفراد الحقيقة المسكينية المعهودة لديك المعروفة فى ذهنك ، فالتنكير هنا ولو وجد باعتبار قرينة قصد الفرد فى الجملة ، وهى الإطعام لكن لا ينفك عن الإعلام بعهدية حقيقته ، ولذلك يقال إن هذا النوع من المشار به إلى الحقيقة نكرة باعتبار القرينة مساو للمنكر الذى وضع لفرد غير معين ومعرفة باعتبار نفسه ، لإشارته إلى معهود هو حقيقة ذلك الفرد ، وذلك (كقولك ادخل السوق حيث لا عهد) أى : لا معهود فى الخارج يشار إليه باللام كما إذا رأيت إنسانا لا يحسن القيام بأمور التوكل فتقول له أما أنت فلا يصلح لك هذا ، ولكن ادخل السوق تعنى : للتجارة ، والتسبب ، فالمراد بالسوق بقرينة الدخول المأمور به فرد من أفراد حقيقة السوق ، فلما أن عرفته باللام التى لم يتقدم للفرد المستعملة هى فيه عهد كانت الإشارة إلى تلك الحقيقة فكأنك تقول ادخل فردا من أفراد حقيقة السوق المعهودة لك فقد استعمل المعرف باللام الحقيقية فى فرد باعتبار حقيقته الموجودة فيه الصادق لفظها عليه فالقرينة صيرته فردا مطلقا ، واللام عرفته باعتبار جنسه ، فهو مع المنكر باعتبار القرينة متساويان ، وباعتبار ما تفيده لام الحقيقة من الإشعار بعهديتها ذهنا المصاحب لذلك الإطلاق مختلفان ، ومثل هذا قوله تعالى : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)(١) فليس المراد كل ذئب ، ولا حقيقة الذئب ، ولا ذئب معين ؛ بل فرد من أفراد حقيقة الذئب ، وهذا معنى قوله : «وهذا فى المعنى كالمنكرة» يعنى : باعتبار القرينة لا باعتبار مفاد اللام فإذا ادعيت القرينة الموجبة للتنكير جرت عليه أحكام التنكير ويراعى فيه كثيرا مفاد

__________________

(١) يوسف : ١٣.

٢١٤

اللام فتجرى عليه أحكام المعارف ، فيقع مبتدأ ، وصاحب حال ، ووصفا للمعرفة ، وموصوفا بها ، ونحو ذلك كعطفه بيانا من المعرفة ، والعكس ، وككونه اسم كان ، ومعمولا أولا لظن وشبه ذلك ، ولهذا قال كالنكرة لا نكرة حقيقة ومن معاملته معاملة النكرة وصفه بالجملة التى هى فى معنى المنكر كقوله :

ولقد أمر على اللئيم يسبنى

فمضيت ثمت قلت لا يعنينى (١)

فيسبنى : نعت للئيم ، والمراد به فرد باعتبار عهدية حقيقته المقدرة فيه ، ولم يجعل يسبنى حالا ؛ لأن الغرض أن اللئيم دأبه السب ، ومع ذلك تحمله القائل ، وأعرض عنه لا تقييد السب بوقت المرور فقط الذى هو مقتضى كونها حالية إذ هى مشعرة بالتحول فى أصلها كذا قيل ، ولكن المناسب لقوله : «فمضيت ثمت قلت لا يعنينى» كونها حالية وإنما قلنا المناسب إلخ ؛ لأن التحمل بتأنيس النفس بعدم العناية قد لا يناسبه قصد إظهار دوام السب ؛ ولأن قوله لا يعنينى إنما يتبادر منه أنه قال فى حال سماع السب حال المرور لا أنه قال فيمن دأبه السب ، ولو فى غير حال المرور تأمله.

(وقد يفيد) أى : المعرف باللام المشار بها إلى الحقيقة (الاستغراق) لجميع الأفراد وذلك بأن يشار إلى الحقيقة في ضمن كل فرد وفي أى محل وجدت فيه (نحو) قوله تعالى ((إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)) (٢) فقد أشير فيه إلى الإنسانية في ضمن كل فرد من أفرادها ولم يشر إليها من حيث هى هى ، كما في قولنا : الإنسان خير من البهيمة ولا إليها في ضمن فرد ما ، كما في ادخل السوق ولا إليها في ضمن فرد معين كما في أغلق الباب ؛ بل في ضمن الجميع بدليل الاستثناء الذي هو معيار العموم ؛ لأن شرط دخول المستثنى في المستثنى منه لو لم يذكر وإنما شرط ما ذكر ؛ لأن الحاجة إلى الاستثناء لا تتحقق إلا بتحقق الدخول ، ولا يتحقق هذا الشرط إلا بالعموم ، وإرادة الجميع ؛ لأنه إن أريد البعض مبهما لم يتحقق دخول المستثنى في المستثنى منه فلا تتحقق الحاجة إلى الاستثناء ، وإن أريد بعض معين لم يحتج إلى الاستثناء ؛ لأن غيره لا يدخل واستثناؤه

__________________

(١) البيت لعميرة بن جابر الحنفى ، شرح شواهد الإيضاح ص ٢٢١ وخزانة الأدب ١ / ٣٥٧ ، ٣٥٨.

(٢) العصر : ٢.

٢١٥

يبطل أصل الدلالة وأن أريد نفس الحقيقة لم يصح استثناء الإفراد لعدم تناول اللفظ لها فتعين إرادة الجميع ليصح استثناء غير المراد مما دخل ، وإنما جعلنا الضمير في قوله ، وقد يأتى ، وقد يفيد ، عائدا على المعرف بلام الحقيقة ؛ لأن اللام المفاد بها العهد المذكور ، والاستغراق إنما تستعمل في المقامات التى لا تخلو عن ملاحظة الحقيقة على الوجه المذكور ؛ ولأن قرينة تغيير الأسلوب ، حيث قال ، وقد يأتى ولم يقل وللإشارة إلى كذا مع قرب العهد في معاد الضمير يدل على ذلك ، وأيضا إدخال هذين القسمين في قسم المشار بها إلى الحقيقة ، لإمكانه أولى في تقليل التقسيم من جعلهما قسمين من مطلق المعرف باللام ولو صح أيضا وههنا نكتتان :

إحداهما : أن كلام المصنف يفيد أن أصل أقسام ما يتعرف باللام قسمان : المعرف بلام العهد الخارجى أصل لكل معين خارجى ، والمعرف بلام الحقيقة أصل لما سوى ذلك لاقتصاره عليهما على حسب ما حملنا عليه كلامه باعتبار المقام والقرينة كما بينا.

والأخرى : التنبيه للفرق بين المحلى باللام المشار بها إلى الحقيقة واسم الجنس ، وبين التعريف بالعهد الذهني والخارجي ، أما الأولان فالفرق بينها أن المحلى وضع للحقيقة مع الإشعار بوجودها فى الذهن واسم الجنس موضوع لها من غير اعتبار إشعار بالذهن فالذهن فى اسم الجنس مصاحب للوضع غير معتبر الإشعار به ، وعدم اعتبار الذهن فى اسم الجنس لا يقتضى عدم مصاحبة الوضع للذهن ؛ لأن عدم اعتبار الشيء ليس اعتبارا لعدمه ، فإنك إذا لم تعتبر زيدا ، أى : لم تراعه لم يلزم منه انتفاؤه عنك ، أى : عن صحبتك وإنما انتفت مراعاته وإن اعتبرت عدمه ونفيه لزم انتفاؤه عن صحبتك هذا على القول بأن اسم الجنس وضع للحقيقة ، وأما على القول بأن وضع للوحدة الشائعة فلا يحتاج إلى هذا الفرق لظهوره بإدراك المدلول نعم يحتاج إلى هذا فيما اتفق من أسماء الأجناس على وضعه للحقيقة مثل المصدر كالرجعى ورجعى ، والقربى وقربى ، وأما الفرق بين العهدين فهو أن الخارجى مشار فيه إلى حصة من الحقيقة واحدة أو اثنين أو جماعة تقدم العلم بها والذهنى مشار فيه إلى نفس الحقيقة ، ومفهوم المسمى ، وهذا الفرق

٢١٦

بين العهدين إنما هو باعتبار مفروضها ، وهما الشخص والحقيقة ، وأما الفرق بينهما باعتبار أنفسهما أعنى إفادة كون المشار إليه فى الجملة معهودا ، فهذا لم يتبين بعد ولكنه غير محتاج إليه إلا من جهة المفاد عهديته وهو معروضهما تأمل.

ضربا الاستغراق

(وهو) أى : الاستغراق (ضربان) أحدهما (حقيقى) وهو أن يراد كل فرد مما يتناوله اللفظ لغة (نحو) قوله تعالى ((عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ)) (١) أى : عالم (كل غيب وكل شهادة و) الآخر من الاستغراقى (عرفى) وهو أن يراد باللفظ كل فرد يتناوله ذلك اللفظ بحسب ما يتعاطاه فيه أهل العرف (كقولنا جمع الأمير الصاغة) أى : صاغة بلده ، أو مملكته والحق وهذا أنه عام ـ أيضا ـ ولكنه مخصوص بالعقل كقوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(٢) ثم جعل ذلك استغراقا عرفيا فيه نظر ؛ لأنه يقتضى أن العرف اقتضى عمومه وليس كذلك بل العرف اقتضى تخصيصه ببعض أفراده ، والظاهر أنه يريد بالاستغراق العرفى أن ذلك فى العرف يعد مستغرقا ، وليس بمستغرق لجميع ما يصلح له بل لبعض أنواعه.

(تنبيه) اعلم أن كون الألف واللام للعموم أو لا مسئلة مهمة يحتاج إليها فى علوم المعانى ، وأصول الفقه ، والنحو ولم أر من المصنفين فى شيء من هذه العلوم من حررها على التحقيق ، وها أنا أذكر قواعد يتهذب بها المقصود ويبنى عليها ما بعدها وبالله التوفيق.

الأولى : الألف واللام ، إما أن تكون اسما موصولا ، أو حرفا فإن كانت اسما فليس كلامنا فيه ؛ لأنه حينئذ داخل فى الموصولات فله حكمها فى العموم بجميع أحواله وهذه فائدة جليلة يستفاد منها ، أن غالب ما يستدل به من لا أحصيه عددا من الأئمة فى إثبات العموم أو نفيه من المشتقات المعرفة بالألف واللام مثل (فَاقْتُلُوا

__________________

(١) الأنعام : ٧٣.

(٢) الزمر : ٦٢.

٢١٧

الْمُشْرِكِينَ)(١)(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)(٢)(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)(٣) ليس من محل النزاع فى شيء ، وإنما النزاع فى الألف واللام الحرفية بشروط ستأتى ، وليتنبه لفائدة جليلة ـ أيضا ـ أهملها النحاة ، أو أكثرهم ، وهو أن إطلاق الألف واللام الداخلة على المشتقات موصولة لا يصح ؛ لأنها إنما تكون موصولة حيث أريد بها معنى الفعل من التجدد ، أما إذا أريد بها الثبوت فلا ، فخرج بذلك أسماء الفاعلين ، وأسماء المفعولين إذا قصد بها الثبوت وخرج بذلك أفعل التفضيل ، وخرجت الصفة المشبهة فإنها يقصد بها الثبوت ، ولذلك قال ابن الحاجب فى نحو قوله تعالى : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)(٤) إن الألف واللام هى المعرفة الموصولة فلا حاجة لتقدير عامل ، وبهذا يعلم أن إطلاق أهل المعانى أن الاسم يدل على الثبوت والاستقرار ليس ماشيا على عمومه.

الثانية : ما تدخل عليه الألف واللام الحرفية التى ليست شيئا مما سبق أقسام ، الأول : جمع تصحيح ، أو محلق به غير العدد ، أو جمع تكسير للقلة ، أو الكثرة سواء كان له واحد من لفظه أم لا نحو : «الزيدين ، والعالمين ، والأرجل ، والرجال ، وأبابيل» وكذلك الداخلة على صيغة الأعلام بعد تنكيرها إما لقصد الشركة على رأى الزمخشرى ، حيث قال تدخل «أل» على العلم للشركة ، كما أضاف فى قوله :

(علا زيدنا يوم النقى رأس زيدكم) (٥).

أو لغير ذلك ومدلول كل منها الآحاد المجتمعة دالا عليها دلالة تكرار الواحد ، كما صرح به بدر الدين بن مالك فى أول شرح الألفية ، وهو حق ودلالة الجمع على كل واحد من أفراده بالمطابقة ، ويكفيك فيه إطباق الناس على قولهم الجمع كتكرار الواحد ، ويكفيك ـ أيضا ـ قولهم إنه لا يجوز أن تقول جاء رجل ، ورجل ، ورجل فى القياس قالوا إذ لا فائدة فى هذا التكرار لإغناء لفظ الجمع عنه ، فلو كانت دلالة رجال

__________________

(١) التوبة : ٩.

(٢) النور : ٢.

(٣) المائدة : ٣٨.

(٤) يوسف : ٢٠.

(٥) البيت بلا نسبة فى لسان العرب (٣ / ٢٠٠) (زيد).

٢١٨

على رجل بالتضمن لكان قولنا رجل ، ورجل ، مشتملا على أعظم فائدة ، وهى الانتقال من دلالة التضمن إلى دلالة المطابقة كما يجوز ويحسن الانتقال من الظاهر إلى النص ، ولكان جائزا حسنا ، وتحقيقه أن لفظ رجال فى الحقيقة لفظ رجل إنما تغيرت هيئته فصار دالا على آحاد ينصرف لكل منها وينصب إلى كل منها انصبابا واحدا ولا يكون دالا عليه بالتضمن ؛ لأنه لم يوضع الاستغراق ؛ لأن الموصول مما يدل على الاستغراق نحو (أكرم الذين يأتونك إلا زيدا) فصح التمثيل بها لمطلق العموم ، نعم إن كررنا على مذهب المازنى الذى يرى أن أل مطلقا تعريفية ، لا موصولية ، ولو مع المشتق الصريح صح التمثيل للعموم باللام على كل حال ، فافهم تأمله.

ثم أشار إلى بيان وتحقيق فى الاستغراق باعتبار الأفراد وغيره فقال : (واستغراق المفرد) فى مدلوله المحقق بأداة العموم من حرف التعريف أو غيره كالنفى (أشمل) من استغراق المثنى ، والمجموع فى مدلولهما ، وذلك أن المفرد يتناول كل فرد فرد فيستغرق حكمه آحاد التثنية ، والجمع لتركب كل واحد من آحادهما من جزأين ، أو أجزاء هى آحاد المفرد التى استقل كل واحد منها بالحكم بخلاف التثنية والجمع ، فالتثنية تتناول كل اثنين اثنين ، فلا يتسلط حكمه على جزئهما وهو مدلول المفرد ، والجمع يتناول كل جماعة جماعة فلا يتناول حكمه جزأه الذى هو مدلول المفرد وهذا يتحقق (بدليل صحة لا رجال فى الدار إذا كان فيها رجل أو رجلان) ؛ لأن النفى فيه إنما يتسلط على الجنس المفيد بكونه فى ضمن جماعة من أفراده فالنفى للجنس من حيث الجمعية ، ولا ينافى ذلك بقاؤه من حيث الفردية فيصح النفى المذكور (دون لا رجل) ؛ لأن النفى فيه يتسلط على الجنس فى الجملة ولا يتحقق نفيه ، وفى الدار رجل أو رجلان ، وكذا يصح قولنا لا رجلين إذا كان فيها واحد لمثل ما قرر فى الجمع ، ولا يخفى أن هذا إنما يظهر كل الظهور إن قلنا إن اسم الجنس النكرة موضوع للحقيقة وأما إن قلنا وضع للوحدة الشائعة فيقال فيه ـ أيضا ـ إن النفى متسلط على الجنس فى ضمن الوحدة فلا ينافى ذلك بقاؤه فى ضمن الجمعية ، والاثنينية على حد ما تقرر فى تسلطه على الجنس فى ضمن الجمعية والاثنينية ، فإن توجه النفى إلى الخصوصية فى الكل لم يناف ذلك بقاء

٢١٩

الجنس فى غير الخصوصية وإن توجه إلى الجنس فى الكل لم يبق فى خصوصية ما ، وكلا الاستعمالين موجود فيصح لا رجل بالتنوين أى : واحد إذا كان ثم اثنان ، أو جماعة ولا رجال ولا رجلان أى : لا جماعة ولا اثنين إذا كان ثم واحد ، نعم استعمال المفرد فى نفى الجنس أكثر من استعمال غيره ، ويتمحض المفرد لنفى الجنس عند بقائه مع لا ، ثم إن سلم كون المفرد أكثر استغراقا فيما ذكر ؛ لأن النفى فى غير متسلط على الخصوصية فلا يلزم منه كون المفرد المعرف فى الإثبات أكثر استغراقا من غيره ، فقد نص الأئمة على أن الجمع المحلى يعم الحكم فيه كل فرد ، وهو فى ذلك أقوى من المفرد فإذا قيل : إنى أحب المسلمين إلا زيدا ، فالمراد كل فرد فرد لا كل جمع وإلا قيل فى الاستثناء إلا الجمع الفلانى وليست دلالته فى ذلك أضعف من قولنا إنى أحب المسلم ، وقد صرح بذلك النحويون ، وأهل اللغة ، وصرح به أئمة التفسير فى كل ما وقع فى القرآن العزيز من هذا القبيل نحو (أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(١)(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ)(٢)(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ)(٣)(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٤) وغير ذلك مما لا ينحصر حمل الجمع فى استغراقه على استغراق المفرد ؛ لأنه إن حمل على استغراق آحاد المجموع الذى هو مقتضى أصل دلالته لزم فى مضمونه التكرار ، وأن لا تكون له آحاد متميزة ؛ لأن الثلاثة مثلا من آحاده فإذا زيد عليها واحد كان أربعة وكان المجموع من آحاده فيدخل الأحد الأول فى الثانى وإذا زيد واحد وكان خمسة لزم فيه دخول الأربعة ، فيتكرر فيه كل فرد مع ما بعده إلى النهاية ، بل مجموع الأفراد حينئذ موجب لتكرير جميع ما قبله ؛ لأنه جماعة يدل عليها الجمع ، فحينئذ لا يتحقق للجمع آحاد يجرى فيها العموم كما جرى فى المفرد ، فلذلك جعلت آحاده آحاد المفرد التى لا يدخل بعضها فى بعض فافهمه ويرد ههنا ما أورده القرافى من أن الأعم إما أن يكون موضوعا لجميع الأفراد حقيقة أو مجازا أو لبعضها أو لغيرها ، والقسمة حاضرة فإن وضع للجميع كان كل فرد

__________________

(١) البقرة : ٣٣.

(٢) البقرة : ٣١.

(٣) البقرة : ٣٤.

(٤) آل عمران : ١٤٨.

٢٢٠