البرهان في علوم القرآن - ج ٢

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

النوع التاسع والعشرون (١)

(في آداب تلاوته وتاليه وكيفية تلاوته

ورعاية حق المصحف الكريم) (٢)

اعلم أنه ينبغي لمح مواقع (٣) النعم على من علّمه الله تعالى القرآن العظيم أو بعضه ،

__________________

(١) للتوسع في هذا النوع انظر : مقدمة تفسير الطبري ١ / ٢٨ ، والمنهاج في شعب الإيمان للحليمي ٢ / ٢١٠ ـ ٢٦٣ ، الباب التاسع عشر : في تعظيم القرآن ، وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص : ١٣٠ ، الباب السادس في ذكر تلبيسه على القرّاء ، والمرشد الوجيز لأبي شامة ص ١٩٣ ـ ٢١٣ ، الباب السادس ومقدمة تفسير القرطبي ١ / ١٠ و ١٧ ، تلاوة القرآن والتحذير من الرياء في القرآن وزاد المعاد لابن القيم ١ / ٤٨٢ ، فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قراءة القرآن والإتقان للسيوطي ١ / ٢٩٢ ، النوع الخامس والثلاثون ، ومفتاح السعادة لطاش كبري ٢ / ٣٦٦ ، في الدوحة السادسة ، الشعبة الثامنة ، في المطلب الثالث : في فروع علم التفسير ، وكشف الظنون لحاجى خليفة ١ / ٤٢ ، علم آداب تلاوة القرآن وآداب تاليه ، وأبجد العلوم للقنوجي ٢ / ٤٩٠ ، ** «ومن الكتب المؤلفة في هذا النوع : آداب القراءة» لابن قتيبة عبد الله بن مسلم النحوي ، ت ٢٦٧ ه‍ (كشف الظنون ١ / ٤٣٤) * «أخلاق حملة القرآن» للآجرّي ، أبي بكر محمد بن الحسين بن عبد الله ، ت ٣٦٠ ه‍ (الأعلام ٦ / ٣٢٨).* «التبيان في آداب حملة القرآن» للنووي ، أبي زكريا يحيى بن شرف الدين (ت ٦٧٧ ه‍) وله طبعات كثيرة : طبع بهامش «منار الهدى» للأشموني ، بمط بولاق على الحجر عام ١٢٨٦ ه‍ / ١٨٩٦ م ، وطبع أيضا بهامش «منار الهدى» بالمط العامرة على الحروف عام ١٣٠٧ ه‍ / ١٨٨٩ م وطبع بمكتبة الإحسان بدمشق وطبع بدار الفكر بدمشق عام ١٣٨٥ ه‍ / ١٩٦٥ م في (١٠٦) ص ، وطبع بمط. مصطفى الحلبي بالقاهرة عام ١٣٩٣ ه‍ / ١٩٧٣ م ، وطبع بمكتبة الغزالي بدمشق بالاشتراك مع دار المعرفة ببيروت في (١٢٨) ص ، وطبع بدار الفكر في بيروت عام ١٤٠١ ه‍ / ١٩٨١ م ، وطبع بدار الكتب العلمية ببيروت عام ١٤٠٣ ه‍ / ١٩٨٣ م ، وطبع بتحقيق عبد العزيز السيروان بدار النفائس ببيروت عام ١٤٠٤ ه‍ / ١٩٨٤ م ، وطبع بعناية محيي الدين الشامي بمؤسسة التقويم الإسلامي ببيروت عام ١٤٠٧ ه‍ / ١٩٨٧ م* «التبيان في آداب حملة القرآن» منظومة لابن العماد ، ت ٨٠٨ ه‍ (الأعلام ١ / ١٧٨) * «آداب تلاوة القرآن» للحائري نصر الله بن الحسين الموسوي ، ت ١١٥٨ ه‍ (الأعلام ٨ / ٣٥٣) * «نور الجنان في آداب القرآن» للخاني ، محيي الدين بن أحمد بن محمد الدمشقي ، ت ١٣٥٠ ه‍ (الأعلام ٨ / ٦٨) * «الدرر الحسان في آداب القرآن» لمحمد بن صلاح بن مهدي بن ميداعش (؟) مخطوط بمكتبة كورستي بإيطاليا : ٣٣٦ علوم القرآن ، ومنه صورة ميكروفيلمية بمركز البحث العلمي بمكة : ٢٢٣ (معجم مصنفات القرآن ٣ / ٢٠٤).

(٢) تصحف العنوان في المطبوعة إلى (في آداب تلاوته وكيفيتها).

(٣) في المطبوعة (موقع).

٨١

بكونه أعظم المعجزات ، لبقائه ببقاء دعوة الإسلام ، ولكونه (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم الأنبياء (٢) والمرسلين فالحجة بالقرآن العظيم قائمة على كلّ عصر وزمان لأنه كلام رب العالمين ، وأشرف كتبه جلّ وعلا ، فلير من عنده القرآن أنّ الله [تعالى] (٣) أنعم عليه نعمة عظيمة ، وليستحضر (٤) من أفعاله أن يكون القرآن حجة له لا عليه ؛ لأن القرآن مشتمل على طلب أمور ، والكفّ عن أمور ، وذكر أخبار قوم قامت عليهم الحجة (٥) فصاروا عبرة للمعتبرين حين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم ، وأهلكوا لما عصوا ، وليحذر (٦) من علم حالهم أن يعصي ، فيصير مآله مآلهم ؛ فإذا استحضر صاحب القرآن علوّ شأنه بكونه ظرفا (٧) لكتاب الله تعالى ، وصدره مصحفا له انكفت نفسه عند التوفيق عن الرذائل ، وأقبلت على العمل الصالح الهائل.

وأكبر معين على ذلك حسن ترتيله وتلاوته ، وقال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمّل : ٤) وقال تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (الإسراء : ١٠٦) فحقّ على كل امرئ مسلم قرأ القرآن أن يرتّله ، وكمال ترتيله تفخيم ألفاظه والإبانة عن حروفه ، والإفصاح لجميعه (٨) بالتمديد له (٨) حتى يصل بكلّ ما بعده ، وأن يسكت بين النّفس والنّفس حتى يرجع إليه نفسه ، وألاّ يدغم حرفا في حرف ، لأن أقلّ ما في ذلك أن يسقط من حسناته بعضها ، وينبغي للناس أن يرغبوا في تكثير حسناتهم ؛ فهذا الذي وصفت أقل ما يجب من الترتيل.

(٩) [وقيل : أقلّ الترتيل] (٩) أن يأتي بما يبين ما يقرأ به ، وإن كان مستعجلا في قراءته ، وأكمله أن يتوقف فيها ، ما لم يخرجه إلى التمديد والتمطيط ؛ فمن أراد أن يقرأ القرآن بكمال الترتيل فليقرأه على منازله ، فإن كان يقرأ تهديدا لفظ (١٠) به لفظ المتهدّد (١١) ، وإن كان يقرأ لفظ تعظيم لفظ به على التعظيم.

وينبغي أن يشتغل قلبه في التفكر في معنى ما يلفظ بلسانه ، فيعرف من كل آية معناها ،

__________________

(١) في المخطوطة (لكونه).

(٢) في المخطوطة (النبيين).

(٣) ساقطة من المطبوعة.

(٤) في المخطوطة (ولتستحضر).

(٥) في المخطوطة (الحجة عليهم).

(٦) في المخطوطة (فليحذر).

(٧) تصحف في المطبوعة إلى (طريقا).

(٨) في المطبوعة (بالتدبر).

(٩) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(١٠) في المخطوطة (اللفظ).

(١١) في المخطوطة (المهدد).

٨٢

ولا يجاوزها إلى غيرها حتى يعرف معناها [٦٨ / أ] فإذا مرّ به آية رحمة وقف عندها (١) [وفرح بما وعده الله تعالى منها ، واستبشر إلى ذلك ، وسأل الله برحمته الجنة. وإن قرأ آية عذاب وقف عندها] (١) ، وتأمّل معناها ؛ [فإن] (٢) كانت في الكافرين (٣) اعترف بالإيمان فقال : آمنا بالله وحده ، وعرف موضع التخويف ، ثم سأل الله تعالى أن يعيذه من النار.

وإن هو (٣) مرّ بآية فيها نداء للذين آمنوا فقال : «يأيها الذين آمنوا» وقف عندها وقد كان بعضهم يقول : لبّيك ربّي وسعديك ، ويتأمّل ما بعدها مما أمر به ونهي (٤) عنه ؛ فيعتقد قبول ذلك. فإن كان من الأمر الذي قد قصّر عنه فيما مضى (٥) اعتذر عن فعله في ذلك الوقت (٥) ، واستغفر ربه في تقصيره ، وذلك مثل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) (التحريم : ٦).

وعلى كل أحد (٦) أن ينظر في أمر أهله في صلاتهم وصيامهم وأداء ما يلزمهم في طهاراتهم وجناياتهم ، وحيض النساء ونفاسهنّ. وعلى كلّ أحد أن يتفقد ذلك في (٧) أهله ، ويراعيهم بمسألتهم عن ذلك (٨) ، فمن كان منهم يحسن ذلك كانت مسألته تذكيرا له وتأكيدا لما في قلبه ، وإن كان لا يحسن كان ذلك تعليما له ، ثم هكذا يراعي صغار ولده ويعلّمهم إذا بلغوا سبعا أو ثماني سنين ، ويضربهم إذا بلغوا العشر على ترك ذلك ؛ فمن كان من الناس قد قصّر فيما مضى اعتقد قبوله (٩) والأخذ به فيما يستقبل (١٠) ، وإن كان يفعل ذلك وقد عرفه فإنه إذا مرّ به تأمله وتفهّمه.

وكذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (التحريم : ٨) ، فإذا

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (للكافرين).

(٤) في المخطوطة (فإن مرّ).

(٥) في المخطوطة (أو نهي).

(٦) العبارة في المخطوطة (... اعتقد قبوله وإلا أخذ به ...)

(٧) في المخطوطة (حال).

(٨) في المخطوطة (من).

(٩) في المخطوطة (عنه).

(١٠) عبارة المخطوطة (وإلا أخذ به فيما يستقبله).

٨٣

قرأ هذه الآية تذكّر أفعاله في نفسه وذنوبه فيما بينه وبين غيره من الظّلامات والغيبة وغيرها ، وردّ ظلامته (١) ، واستغفر من كلّ ذنب قصّر في عمله ، ونوى أن يقوم بذلك ويستحلّ كلّ [من] (٢) بينه وبينه شيء من هذه الظّلامات [وغيرها] (٣) ، من كان منهم حاضرا ، وأن يكتب إلى من كان غائبا ، وأن يردّ ما كان يأخذه على من أخذه منه ، فيعتقد هذا في وقت قراءة القرآن حتى يعلم الله تعالى منه أنه قد سمع وأطاع ؛ فإذا فعل الإنسان هذا كان قد قام بكمال ترتيل القرآن ؛ فإذا وقف على آية لم يعرف ، معناها يحفظها حتى يسأل عنها من يعرف معناها ؛ ليكون متعلّما لذلك طالبا للعمل به ، وإن كانت الآية قد اختلف فيها اعتقد من قولهم أقلّ ما يكون ، وإن احتاط (٤) على نفسه بأن يعتقد أوكد ما في ذلك كان أفضل له وأحوط لأمر دينه.

وإن كان ما يقرؤه من الآي فيما قصّ الله على الناس من خبر من مضى من الأمم فلينظر في ذلك ، وإلى ما صرف الله عن هذه الأمة منه (٥) ، فيجدّد لله على [ذلك] (٦) شكرا.

وإن كان ما يقرؤه من الآي مما أمر الله به أو نهى عنه أضمر (٧) قبول الأمر والائتمار ، والانتهاء عن المنهيّ والاجتناب له فإن (٨) [كان ما يقرؤه من ذلك وعيدا وعد الله به المؤمنين فلينظر إلى قلبه ، فإن جنح إلى الرجاء فزّعه بالخوف ، وإن جنح إلى الخوف فسح له في الرجاء ، حتى يكون خوفه ورجاؤه معتدلين ، فإنّ ذلك كمال الإيمان.

وإن] (٨) كان ما يقرؤه (٩) من الآي من المتشابه الذي تفرّد الله بتأويله ، (١٠) [فليعتقد الإيمان به كما أمر الله تعالى فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ)] (١٠) (آل عمران : ٧) يعني عاقبة الأمر منه ، ثم قال تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ) (آل عمران : ٧).

وإن كان موعظة اتّعظ بها ، فإنه إذا فعل هذا فقد نال كمال الترتيل.

__________________

(١) في المخطوطة (ظلامه).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) ساقطة من المطبوعة.

(٤) في المخطوطة (أحاط).

(٥) في المخطوطة (منهم).

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (ضمير).

(٨) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٩) في المخطوطة (الآي).

(١٠) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

٨٤

وقال بعضهم : الناس في تلاوة القرآن ثلاثة مقامات :

* الأول : من يشهد أوصاف المتكلّم في كلامه ومعرفة معاني خطابه ، فينظر إليه من كلامه ، وتكلّمه بخطابه ، وتملّيه بمناجاته ، وتعرّفه من صفاته ، فإنّ كلّ كلمة تنبئ عن معنى اسم ، أو وصف ، أو حكم ، أو إرادة أو فعل ؛ لأن الكلام ينبئ عن معاني الأوصاف ويدل على الموصوف ، وهذا مقام العارفين من المؤمنين ، لأنه لا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ، ولا إلى تعلّق الإنعام به من حيث إنه منعم عليه ، ـ بل هو مقصور الفهم عن المتكلّم ، موقوف الفكر عليه ، مستغرق بمشاهدة المتكلم ؛ ولهذا قال جعفر بن محمد الصادق : «لقد تجلّى الله لخلقه بكلامه ، ولكن لا يبصرون».

ومن كلام الشيخ أبي عبد الله القرشي (١) : «لو طهّرت القلوب لم تشبع من التلاوة للقرآن».

* الثاني : من يشهد بقلبه كأنّه تعالى يخاطبه ويناجيه بألطافه ، ويتملقه بإنعامه وإحسانه ، فمقام هذا الحياء والتعظيم ، وحاله الإصغاء والفهم ، وهذا لعموم المقربين.

* الثالث : من يرى أنه يناجي ربّه سبحانه ، فمقام هذا السؤال والتمكّن [٦٨ / ب] ، وحاله الطلب ؛ وهذا المقام لخصوص أصحاب اليمين ؛ فإذا كان العبد يلقى السمع من بين يدي سميعه مصغيا إلى سر كلامه ، شهيد القلب لمعاني صفاته ، ناظرا إلى قدرته ، تاركا لمعقوله ومعهود علمه ، متبرئا من حوله وقوته ، معظما للمتكلم ، متفرّغا (٢) إلى الفهم ، بحال مستقيم ، وقلب سليم ، وصفاء يقين ، وقوة علم ، وتمكين سمع فصل الخطاب وشهد غيب الجواب (٣) ؛ لأن الترتيل في القرآن ، والتدبّر لمعاني الكلام ، وحسن الاقتصاد إلى المتكلم في الإفهام ، والإيقاف على (٤) المراد ، وصدق الرغبة في الطلب (٥) ، سبب للاطلاع على المطلّع من السر المكنون المستودع.

__________________

(١) هو الزبير بن بكار بن عبد الله ، أبو عبد الله القرشي الأسدي ، كان علاّمة نسابة أخباريا ، أخذ عن سفيان بن عيينة وروى عنه ابن ماجة ، وابن أبي الدنيا وغيرهما ، ولي قضاء مكة ، من تصانيفه : كتاب «أنساب قريش وأخبارها» ت ٢٥٦ ه‍ (ياقوت ، معجم الأدباء ١١ / ١٦١).

(٢) في المخطوطة (مفتقرا).

(٣) في المخطوطة (الحجاب).

(٤) في المخطوطة (عن).

(٥) تصحفت في المخطوطة إلى (في الطلب في).

٨٥

وكلّ كلمة من الخطاب تتوجه عشر جهات ، للعارف من كل جهة مقام ومشاهدات : أولها الإيمان بها ، والتسليم لها ، والتوبة إليها ، والصبر عليها ، والرضا بها ، والخوف منها ، والرجاء إليها ، والشكر عليها ، والمحبة لها ، والتوكل فيها. فهذه المقامات العشر هي مقامات المتقين ، وهي منطوية في كلّ كلمة يشهدها أهل التمكين والمناجاة ، ويعرفها أهل العلم والحياة ، لأن كلام المحبوب حياة للقلوب ، لا ينذر به إلاّ حيّ ، ولا يحيا به إلا مستجيب ، كما قال تعالى : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) (يس : ٧٠). وقال تعالى : (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (الأنفال : ٢٤). ولا يشهد هذه العشر مشاهدات إلاّ من يتنقل في العشر المقامات المذكورة في سورة الأحزاب (الآية : ٣٥) ، أولها مقام المسلمين ، وآخرها مقام الذاكرين وبعد مقام الذكر هذه المشاهدات العشر ، فعندها لا تملّ المناجاة ، لوجود المصافاة (١) ، وعلم كيف تجلّى له تلك الصفات الإلهية في طيّ هذه الأدوات ، ولو لا (٢) استتار كنه جمال كلامه بكسوة (٢) الحروف ، لما ثبت لسماع الكلام عرش ولا ثرى ، ولا تمكّن لفهم عظيم الكلام [إلا] (٣) على حدّ فهم الخلق ، فكلّ أحد يفهم عنه بفهمه الذي قسم له ، حكمة منه.

قال بعض العلماء : في القرآن ميادين وبساتين [مقاصير] (٤) وعرائس ، وديابيج ، ورياض ؛ فالميمات ميادين القرآن ، والراءات بساتين القرآن ، والحاءات مقاصير القرآن ، والمسبّحات عرائس القرآن ، والحواميم ديابيج القرآن ، والمفصّل رياضه ، وما سوى ذلك. فإذا دخل المريد في الميادين ، وقطف من البساتين ، ودخل المقاصير وشهد العرائس ، ولبس الديابيج وتنزه في الرياض ، وسكن غرفات المقامات اقتطعه عما سواه ، وأوقفه ما يراه ، وشغله المشاهدة (٥) له عما عداه ؛ ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعربوا القرآن (٦) والتمسوا غرائبه [وغرائبه] (٧) فروضه وحدوده ، فإن القرآن [نزل] (٨) على خمسة : حلال ، وحرام ، ومحكم ، وأمثال ، ومتشابه ، فخذوا الحلال ، ودعوا الحرام ، واعملوا بالمحكم ، وآمنوا بالمتشابه ، واعتبروا بالأمثال» (٩).

__________________

(١) في المخطوطة (الصفات).

(٢) تصحفت العبارة في المخطوطة : (استثنى ركنه حال كلامه بكثرة).

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) ساقطة من المطبوعة.

(٥) في المطبوعة : (المشاهد).

(٦) تصحفت في المطبوعة إلى (اعرفوا).

(٧) ساقطة من المخطوطة.

(٨) ساقطة من المطبوعة.

(٩) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ١٠ / ٤٥٦ كتاب فضائل القرآن ، باب ما جاء في إعراب القرآن (١٧٥٤) الحديث (٩٩٦١) إلى قوله : «والتمسوا غرائبه» وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه (ذكره السيوطي في جمع الجوامع ص : ١١٩)

٨٦

وقال أبو الدرداء رضي‌الله‌عنه : «لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوها» (١). وقال ابن مسعود رضي‌الله‌عنه : «من أراد علم الأولين والآخرين فليثوّر القرآن» (٢).

قال ابن سبع (٣) في كتاب «شفاء الصدر» : هذا الذي قال أبو الدرداء وابن مسعود لا يحصل بمجرد تفسيره الظاهر ؛ وقد قال بعض العلماء : لكل آية ستون ألف (٤) فهم ، وما بقي من فهمه أكثر. وقال آخرون : القرآن يحتوي على سبعة (٤) وسبعين ألف علم ، إذ لكل كلمة ، علم ، ثم يتضاعف ذلك أربعا ، إذ لكلّ كلمة ظاهر وباطن ، وحدّ ومطلع.

وبالجملة فالعلوم كلّها داخلة في أفعال الله وصفاته وفي القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله.

(مسألة) (٥) تكره قراء القرآن بلا تدبّر ، وعليه محلّ حديث عبد الله بن عمرو : «لا يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث» (٦) ، وقول ابن مسعود لمن أخبره أنه يقوم بالقرآن في ليلة : «أهذّا كهذّ الشعر» (٧)! وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صفة الخوارج : «يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولا

__________________

(١) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ١٠ / ٥٢٧ ، كتاب فضائل القرآن باب من قال اعملوا بالقرآن (١٧٩٣) وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ١ / ٢١١.

(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٩ / ١٤٦ ، الأحاديث (٨٦٦٤ ـ ٨٦٦٦) من طريق مرّة عن ابن مسعود وقوله فليثوّر أي لينقّر ويفكّر في معانيه (ابن الأثير النهاية : ١ / ٢٢٩).

(٣) ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون ٢ / ١٠٥٠ باسم «شفاء الصدور» لابن السبع للإمام الخطيب أبي الربيع سليمان السبتي).

(٤) عبارة المخطوطة : (ستون ألف ستون فهم ، وما بقي من فهمه أكثر وقال آخر القرآن أن يحتوي سبعة ...)

(٥) في المطبوعة (فصل)

(٦) أخرج أصله دون ذكر الشاهد منه البخاري ومسلم فقد أخرجه البخاري في الصحيح ٩ / ٩٤ ـ ٩٥ ، كتاب فضائل القرآن (٦٦) ، باب قول المقرئ للقارئ : حسبك الحديث (٥٠٥٢ ـ ٥٠٥٤). ومسلم في الصحيح ٢ / ٨١٢ ، كتاب الصيام (١٣) ، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به ... (٣٥) ، الاحاديث ١٨١ ـ ١٩٣ ، وأخرجه مع ذكر الشاهد أحمد في المسند ٢ / ١٦٤ ـ ١٦٥ ، والدارمي في السنن ١ / ٣٥٠ ، كتاب الصلاة ، باب في كم يختم القرآن ، وأبو داود في السنن ٢ / ١١٣ ، كتاب الصلاة (٢) ، باب في كم يقرأ القرآن (٣٢٥) ، الحديث (١٣٩٠) ، وباب تحزيب القرآن (٣٢٦) ، الحديث (١٣٩٤) ، وابن ماجة في السنن ١ / ٤٢٧ ، كتاب إقامة الصلاة (٥) ، باب في كم يستحب يختم القرآن (١٧٨) ، الحديث (١٣٤٧) ، والترمذي في السنن ٥ / ١٩٦ ـ ١٩٧ ـ ١٩٨ كتاب القراءات (٤٧) ، باب (١٣) ، الحديث (٢٩٤٩) ، وعزاه للنسائي المري في تحفة الأشراف ٦ / ٣٩٠ الحديث (٨٩٥٠) ، ولفظه في البخاري : «قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقرأ القرآن في شهر ، قلت : إني أجد قوّة ، حتى قال : فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك».

(٧) أخرجه البخاري في الصحيح ٢ / ٢٥٥ ، كتاب الأذان (١٠) ، باب الجمع بين السورتين في الركعة (١٠٦) ،

٨٧

حناجرهم» (١) ذمهم بإحكام ألفاظه ، وترك التفهم لمعانيه.

فصل في تعلم القرآن

ثبت في «صحيح البخاري» من حديث عثمان : «خيركم [٦٩ / أ] من تعلّم القرآن وعلّمه» (٢) ، وفي رواية «أفضلكم» (٣) وعن عبد الله يرفعه : «إن القرآن مأدبة الله فتعلموا [من مأدبة الله] (٤) ما استطعتم» (٥) ، رواه البيهقي.

وروي أيضا عن أبي العالية قال : «تعلّموا القرآن خمس آيات ، [خمس آيات] (٦) ، فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأخذه من جبريل عليه‌السلام خمسا خمسا» ، وفي رواية : «من تعلمه خمسا خمسا لم ينسه».

قال أصحابنا [رحمهم‌الله] (٤) : تعليم القرآن فرض كفاية ، وكذلك حفظه واجب على الأمة ، صرّح به الجرجانيّ (٧) في «الشافي» والعباديّ (٨) وغيرهما. والمعنى فيه كما قاله

__________________

الحديث (٧٧٥) ، ومسلم في الصحيح ١ / ٥٦٣ ، كتاب صلاة المسافرين (٦) ، باب ترتيل القراءة واجتناب الهذّ ... (٤٩) ، الحديث (٢٧٥ / ٧٢٢).

(١) متّفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ١٣ / ٥٣٥ ، كتاب التوحيد (٩٧) ، باب قراءة الفاجر والمنافق (٥٧) ، الحديث (٧٥٦٢). ومسلم في الصحيح ٢ / ٧٤١ كتاب الزكاة (١٢) ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (٤٧) ، الحديث (١٤٨ / ١٠٦٤). وأخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله الحديث (١٤٢ / ١٠٦٣).

(٢) صحيح البخاري ٩ / ٧٤ ، كتاب فضائل القرآن (٦٦) ، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه (٢١) ، الحديث (٥٠٢٧).

(٣) المصدر نفسه الحديث (٥٠٢٨).

(٤) ساقطة من المطبوعة.

(٥) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ق : ٢ / ب. وأخرجه الحاكم في المستدرك ١ / ٥٥٥ ، كتاب فضائل القرآن ، باب أخبار في فضائل القرآن. وأخرجه ابن أبي شيبة ومحمد بن نصر ، وابن الأنباري في «المصاحف» والبيهقي في «شعب الإيمان» (كنز العمال ١ / ٥٢٦).

(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٧) هو أحمد بن محمد أحمد القاضي أبو العباس الجرجاني ، كان إماما في الفقه والأدب قاضيا بالبصرة ومدرسا بها سمع الحديث من القاضيين أبي الطيب والماوردي وغيرهم ، وتفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ، من تصانيفه «الشافي» و «إشارات البلغاء» و «التحرير» ت ٤٨٢ ه‍ (السبكي ، طبقات الشافعية ٣ / ٣١) وكتابه «الشافي في الفقه» مخطوط في مكتبة آيا صوفيا باسطنبول رقم ١٢٠٠ / ١ (بروكلمان تاريخ الأدب ٢ / ٢٨١).

(٨) هو محمد بن أحمد بن محمد أبو عاصم الهروي العبادي القاضي الشافعي كان إماما جليلا حافظا للمذهب ،

٨٨

الجويني (١) ألاّ ينقطع عدد التواتر فيه ، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف ؛ فإن قام بذلك قوم سقط عن الباقين ، وإلا فالكلّ آثم. فإذا لم يكن في البلد أو القرية من يتلو القرآن أثموا بأسرهم ، ولو كان هناك جماعة يصلحون للتعليم وطلب من بعضهم وامتنع لم يأثم (٢) في الأصحّ ؛ كما قاله النوويّ في «التبيان» (٣) ، وهو نظير ما صحّحه في «كتاب السير» (٤) أن المفتي والمدرّس لا يأثمان بالامتناع إذا كان هناك من يصلح غيره. وصورة المسألة فيما إذا كانت المصلحة لا تفوت بالتأخير ؛ فإن كانت تفوت لم يجز الامتناع ، كالمصلّي يريد تعلم الفاتحة ولو رده لخرج الوقت بسبب ذهابه إلى الآخر ، ولضيق الوقت عن التعليم.

وينبغي تعليمه على التأليف المعهود (٥) ؛ فإنه توقيفي ؛ وقد ورد عن ابن مسعود : سئل عن الذي يقرأ القرآن منكوسا قال : «ذاك منكوس القلب» (٦).

قال أبو عبيد : «وجهه (٧) عندي أن يبتدئ (٨) من آخر القرآن من آخر المعوذتين ؛ ثم يرتفع إلى البقرة ؛ كنحو ما تفعل (٩) الصبيان في الكتّاب ، لأن السنّة خلاف هذا ؛ وإنما وردت الرّخصة في تعليم الصبيّ والعجميّ من المفصّل لصعوبة السّور الطوال عليهما».

(مسألة) ويجوز أخذ الأجرة على التعليم ، ففي «صحيح البخاري» : إنّ أحقّ ما أخذتم

__________________

بحرا يتدفق بالعلم ، أخذ العلم عن القاضي أبي منصور محمد الأزدي ، وله من التصانيف «الزيادات» و «المبسوط» و «أدب القضاء» وغيرها ت ٤٥٨ ه‍ (السبكي ، طبقات الشافعية ٣ / ٤٢).

(١) إمام الحرمين تقدم ذكره في ١ / ١١٨.

(٢) في المخطوطة (لم يأثم بأحدهم).

(٣) «التبيان في آداب حملة القرآن» طبع بهامش «منار الهدى» للأشمونيّ في القاهرة بمطبعة بولاق (حجر) عام ١٢٨٦ ه‍ / ١٨٦٩ م وبهامش «منار الهدى» القاهرة المطبعة العامرة الخيرية ١٣٠٧ ه‍ / ١٨٨٩ م ، وفي دمشق دار الفكر ١٣٨٥ ه‍ / ١٩٦٥ م وفي القاهرة مطبعة مصطفى الحلبي ، وفي دار المعرفة ببيروت ومكتبة الغزالي بدمشق بدون تاريخ وانظر قوله فيه ص ٢٠ ، في الباب الرابع فصل : تعليم المتعلمين فرض كفاية.

(٤) كتاب السيرة النبوية للنووي ، طبع في مصر منتزعا من كتابه «تهذيب الأسماء واللغات» وحققه عبد الرءوف علي وبسّام الجابي ، وطبع بدار البصائر بدمشق عام ١٤٠١ ه‍ / ١٩٨٠ م في ٩٦ ص.

(٥) في المخطوطة : (المعهودي).

(٦) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ق ١٢ / أ(مخطوطة توبنجن) ، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٩ / ١٨٩ باب في مناقب ابن مسعود الحديث (٨٨٤٦).

(٧) في المخطوطة (الوجه).

(٨) في المخطوطة (يبدأ).

(٩) في المخطوطة (يفعل).

٨٩

عليه أجرا كتاب الله» (١). وقيل : إن تعيّن عليه لم يجز ، واختاره الحليميّ (٢) ، وقال : استنصر الناس (٣) المعلمين لقصرهم (٣) زمانهم على معاشرة الصبيان ثم النساء حتى أثّر ذلك في عقولهم ، ثم لابتغائهم عليه الأجعال (٤) وطمعهم في أطعمة الصبيان ، فأمّا نفس التعليم فإنه يوجب التشريف والتفضيل.

وقال أبو الليث في كتاب «البستان» (٥) : التعليم على ثلاثة أوجه : (أحدها) للحسبة ولا يأخذ به عوضا. (والثاني) أن يعلّم بالأجرة. (والثالث) أن يعلّم بغير شرط ، فإذا أهدي إليه قبل.

(فالأول) : مأجور عليه ، [وهو] (٦) عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

(والثاني) : مختلف فيه ، قال أصحابنا المتقدمون : لا يجوز ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلّغوا عنّي ولو آية» (٧). وقال جماعة من المتأخّرين : يجوز ؛ مثل عصام بن يوسف (٨) ، ونصر بن يحيى (٩) ، وأبي نصر بن سلام (١٠). وغيرهم قالوا (١١) : والأفضل للمعلّم أن يشارط الأجرة للحفظ وتعليم

__________________

(١) أخرجه في صحيحه ١٠ / ١٩٨ ، عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما ، كتاب الطب (٧٦) ، باب الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب (٣٤) ، الحديث (٥٧٣٧).

(٢) هو الحسين بن الحسن أبو عبد الله الحليمي تقدم ذكره في ١ / ٣٢٢ ، وانظر قوله في «المنهاج في شعب الإيمان» العبارة في المخطوطة (التعليم لقصر ...).

(٣) العبارة في المخطوطة (التعليم لقصر ...).

(٤) في المخطوطة (الآجال).

(٥) تصحفت في المخطوطة إلى (التبيان) ، وقد تقدم التعريف به وبكتابه في ١ / ٣٢٢.

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) من حديث لعبد الله بن عمرو رضي‌الله‌عنهما تتمته «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار» أخرجه البخاري في الصحيح ٦ / ٤٩٦ ، كتاب أحاديث الأنبياء (٦٠) ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (٥٠) ، الحديث (٣٤٦١).

(٨) هو عصام بن يوسف بن ميمون أبو عصمة البلخي الفقيه الحنفي المحدث الثقة روى عن ابن المبارك والثوري ، وشعبة ، وروى عنه أهل بلده ، وكان صاحب حديث ثبتا في الرواية ، كان من ملازمي أبي يوسف ذكره ابن حبان في الثقات ت ٢١٠ ه‍ (اللكنوي ، الفوائد البهية ص : ١١٦).

(٩) هو نصر بن يحيى البلخي الحنفي أخذ الفقه عن أبي سليمان الجوزجاني عن محمد ت ٢٦٨ ه‍ (اللكنوي ، الفوائد البهية ص : ٢٢١).

(١٠) هو أبو نصر محمد بن محمد بن سلام البلخي ، ذكره الموفّق بن أحمد المكي في مناقب أبي حنيفة : ٣٨٥ في الباب السادس والعشرين ، في تقديم مذهبه على سائر المذاهب.

(١١) في المخطوطة (قال).

٩٠

الكتابة ، فإن شارط لتعليم القرآن أرجو أنه لا بأس به ؛ لأنّ المسلمين قد توارثوا ذلك واحتاجوا إليه.

(وأما الثالث) فيجوز في قولهم جميعا ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان معلّما للخلق وكان يقبل الهدية. ولحديث اللّديغ لما رقوه بالفاتحة ، وجعلوا له جعلا وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «واضربوا لي معكم فيها بسهم» (١).

(مسألة) (٢) وليدمن على تلاوته بعد تعلّمه ، قال الله تعالى مثنيا على من كان دأبه تلاوة آيات الله : (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ) (آل عمران : ١١٣) وسمّاه ذكرا ، وتوعّد المعرض عنه ومن تعلّمه ثم نسيه. وفي «الصحيحين» : «تعاهدوا القرآن ؛ فو الّذي نفس محمد بيده لهو أشدّ تفلتا من الإبل في عقالها» (٣). وقال : «بئسما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نسّى استذكروا القرآن فلهو أشدّ تقصّيا في صدور [٦٩ / ب] الرجال من النّعم في عقلها» (٤).

(مسألة) يستحبّ الاستياك وتطهير فمه ، والطهارة للقراءة باستياكه ، وتطهير بدنه بالطيب المستحبّ تكريما لحال التلاوة ، لا بسا من الثياب ما يتجمل به بين الناس ؛ لكونه بالتلاوة بين يدي المنعم المتفضّل بهذا الإيناس ، فإنّ التالي للكلام ، بمنزلة المكالم لذي الكلام ، وهذا غاية التشريف من فضل الكريم العلاّم. ويستحب أن يكون جالسا مستقبل القبلة ؛ سئل سعيد بن المسيّب عن حديث وهو متكئ ؛ فاستوى جالسا وقال : «أكره أن أحدّث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا متكئ» وكلام الله تعالى أولى.

__________________

(١) من حديث لعبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما ، أخرجه البخاري في الصحيح ٤ / ٤٥٣ ، كتاب الإجارة (٣٧) ، باب ما يعطى في الرقية ... (١٦) ، الحديث (٢٢٧٦) ، وانظر الحاشية رقم (١) في ٢ / ٩٠.

(٢) في المطبوعة (فصل).

(٣) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه أخرجه البخاري في الصحيح ٩ / ٧٩ ، في كتاب فضائل القرآن (٦٦) ، باب استذكار القرآن وتعاهده (٢٣) ، الحديث (٥٠٣٣) ، وأخرجه مسلم في الصحيح ١ / ٥٤٥ ، كتاب صلاة المسافرين (٦) ، باب الأمر بتعهد القرآن ... (٣٣) ، الحديث (٢٣١ / ٧٩١) وقوله «تفصيا» أي تفلتا وتخلصا (ابن حجر ، فتح الباري ٩ / ٨١) وفي المخطوطة (عقلها) كما في صحيح البخاري.

(٤) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه أخرجه البخاري في الصحيح ٩ / ٧٩ ، كتاب فضائل القرآن (٦٦) ، باب استذكار القرآن وتعاهده (٢٣) ، الحديث (٥٠٣٢) ، ومسلم في الصحيح ١ / ٥٤٤ ، كتاب صلاة المسافرين (٦) باب الأمر بتعهد القرآن ... (٣٣) ، الحديث (٢٨٨ / ٧٩٠). وفي المخطوطة (عقلها) كما في صحيح البخاري.

٩١

ويستحب أن يكون متوضّئا ، ويجوز للمحدث ، قال إمام الحرمين وغيره : لا يقال إنها مكروهة ، فقد صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ مع الحدث وعلى كل حال سوى الجنابة. وفي معناها الحيض والنفاس. وللشافعيّ قول قديم في الحائض ؛ تقرأ خوف النسيان.

وقال أبو الليث (١) : لا بأس أن يقرأ الجنب والحائض أقلّ من آية واحدة ، قال : وإذا أرادت الحائض التعلّم فينبغي لها أن تلقّن نصف آية ، ثم تسكت ولا تقرأ آية واحدة بدفعة واحدة. وتكره القراءة حال خروج الريح ؛ وأما غيره من النواقض كاللمس والمسّ ونحوه فيحتمل عدم الكراهة ؛ لأنه غير مستقذر عادة ، ولأنه في حال خروج الريح يبعد (٢) بخلاف هذه.

(مسألة) يستحب التعوذ قبل القراءة ، فإن قطعها قطع ترك ، وأراد العود جدّد ، وإن قطعها لعذر عازما على العود كفاه التعوذ الأول ما لم يطل الفصل. ولا بدّ من قراءة البسملة أول كل سورة تحرّزا من مذهب الشافعيّ ؛ وإلا كان قارئا بعض السور لا جميعها ؛ فإن قرأ من أثنائها استحب له البسملة أيضا ، نص عليه الشافعي رحمه‌الله فيما نقله العبادي (٣).

وقال الفاسي (٤) في «شرح القصيدة» : كان بعض شيوخنا يأخذ علينا في الأجزاء القرآنية بترك البسملة ، ويأمرنا بها في حزب : (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ) (البقرة : ٢٥٥) ؛ وفي حزب (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) (فصّلت : ٤٧) لما فيهما بعد الاستعاذة من قبح اللفظ. وينبغي لمن أراد ذلك أن يفعله ، إذا ابتدأ مثل ذلك ، نحو : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) (الروم : ٥٤) ، (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ

__________________

(١) السمرقندي تقدم ١ / ٣٢٢.

(٢) في المخطوطة (بتغيره).

(٣) تقدم التعريف به في ٢ / ٨٨.

(٤) تصحفت في المخطوطة إلى (الفارسي) وهو محمد بن حسن بن محمد المغربي الفاسي المقرئ نزيل حلب قرأ القراءات على أصحاب الشاطبي ، وتفقه على مذهب أبي حنيفة رحمه‌الله وكان إماما متفننا ذكيا ، واسع العلم ، كثير المحفوظ بصيرا بالقراءات وعللها ، وأخذ عنه خلق كثير. وكان يعرف الكلام على طريقة أبي الحسن الأشعري ت ٦٥٦ ه‍ (الذهبي ، معرفة القراء ٢ / ٦٦٨) وكتابه مخطوط بالأزهر رقم ٢٥٨ / ٢٢٢٦٥ ، ورافعي ٢٧٥ / ٢٢٦٦١١ ، وفي آيا صوفيا رقم ٤٩ ، ٥٠ ، وفي التيمورية رقم ٢١٣ ، وفي الاوقاف ببغداد ٢٢٥٣ ، وفي المكتبة المحمدية بالجامع الزيواني بالموصل رقم ٢٣٠ (معجم الدراسات القرآنية : ٥٤٠).

٩٢

جَنَّاتٍ) (الأنعام : ١٤١) ؛ لوجود العلة المذكورة. وقد كان مكّيّ (١) يختار إعادة الآية قبل كلّ حزب من الحزبين المذكورين للعلّة المذكورة.

(مسألة) ولتكن تلاوته بعد أخذه القرآن من أهل الإتقان لهذا الشأن ، الجامعين بين الدراية والرواية ، والصدق والأمانة ، وقد كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجتمع به جبريل في رمضان فيدارسه القرآن (٢).

(مسألة) وهل القراءة في المصحف أفضل ، أم على ظهر القلب ، أم يختلف الحال؟ ثلاثة أقوال :

* أحدها : أنها من المصحف أفضل ؛ لأن النظر فيه عبادة ، فتجتمع القراءة والنظر ، وهذا قاله القاضي الحسين (٣) والغزالي ، قال : وعلّة ذلك أنه لا يزيد على .... (٤) وتأمل المصحف وجمله (٥) ، ويزيد في الأجر بسبب ذلك. وقد قيل : الختمة في المصحف بسبع ؛ وذكر أن الأكثرين من الصحابة كانوا يقرءون في المصحف ، ويكرهون أن يخرج يوم ولم ينظروا في المصحف.

ودخل بعض فقهاء مصر على الشافعيّ رحمه‌الله تعالى المسجد وبين يديه المصحف فقال : «شغلكم الفقه عن القرآن ؛ إني لأصلّي العتمة ، وأضع المصحف في يدي فما أطبقه حتى الصبح» (٦).

وقال عبد الله بن أحمد : كان أبي يقرأ في كل يوم سبعا من القرآن (٧) لا يتركه نظرا (٧) .. وروى الطّبرانيّ من حديث أبي سعيد بن عوذ المكيّ عن عثمان بن عبد الله بن أوس (٨)

__________________

(١) هو مكي بن أبي طالب تقدم في ١ / ٤٠٩.

(٢) حديث مدارسة جبريل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ٣٠ ، كتاب بدء الوحي (١) ، باب (٥) الحديث (٦).

(٣) هو الحسين بن محمد بن أحمد القاضي أبو علي المرورّوذي ، الفقيه الشافعي ، زين العلم ، فقيه النفس الإمام الجليل كان يقال له : «حبر الأمة» تخرّج عليه من الأئمة عدد كبير منهم : إمام الحرمين والمتولي والبغوي من تصانيفه «التعليق الكبير» ت ٤٦٢ ه‍ (السبكي ، طبقات الشافعية ٣ / ١٥٥).

(٤) بياض في الأصل المخطوط مقدار كلمتين.

(٥) في المخطوطة (ونحوه).

(٦) القصة عند البيهقي في مناقب الشافعي ١ / ٢٨١ ، باب ما يستدل على حفظ الشافعي لكتاب الله عزوجل.

(٧) عبارة المخطوطة (لا يدركه نظر).

(٨) تصحف الاسم في المخطوطة إلى (عثمان بن عبيد الله بن أويس) والتصويب من تهذيب التهذيب ٧ / ١٢٩.

٩٣

الثقفي عن جده قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قراءة الرجل في غير المصحف ألف درجة ، وقراءته في المصحف تضاعف على ذلك إلى ألفي درجة (١). وأبو سعيد قال فيه ابن معين : لا بأس به.

وروى البيهقيّ في «شعب الإيمان» من. طريقين إلى عثمان بن عبد الله بن أوس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ القرآن في المصحف [٧٠ / أ] كانت له [ألف ألف] (٢) حسنة ، ومن قرأه في غير المصحف فأظنه قال كألفي حسنة» (٣). وفي الطريق الأخرى قال : «درجة» وجزم بألف إذا لم يقرأ في المصحف.

وروى ابن أبي داود بسنده عن أبي الدرداء مرفوعا : «من قرأ مائتي آية كلّ يوم نظرا شفّع في سبعة قبور حول قبره ، وخفّف العذاب عن والديه وإن كانا مشركين» (٤).

وروى أبو عبيد في «فضائل القرآن» بسنده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضل القرآن نظرا على من قرأ ظاهرا كفضل الفريضة على النافلة». وبسنده عن ابن عباس قال : «كان عمر إذا دخل البيت نشر المصحف يقرأ فيه» (٥).

وروى ابن أبي (٦) داود بسنده عن عائشة مرفوعا : «النظر إلى الكعبة عبادة ، والنظر في وجه الوالدين عبادة ، والنظر في المصحف عبادة».

وعن الأوزاعي : «كان يعجبهم النّظر في المصحف بعد القراءة هنيهة». قال بعضهم : «وينبغي لمن (٧) كان عنده مصحف أن يقرأ فيه كلّ يوم آيات يسيرة ولا يتركه مهجورا».

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١ / ١٩١ ، في مسند أوس بن حذيفة الثقفي الحديث (٦٠١) والبيهقي في شعب الإيمان (ذكره المتقي الهندي في كنز العمال ١ / ٥١٦). وأخرجه ابن عدي في الكامل ٧ / ٢٧٥٤.

(٢) في المطبوعة : (ألفا).

(٣) الحديث أخرجه ابن عدي في الكامل ٧ / ٢٧٥٤ في ترجمة أبي سعيد بن عوذ المكي. وقد وقع تصحيف في مخطوطة البرهان ، واضطراب في عبارته كما وقع تصحيف في المطبوعة وقد صوّبنا النص كما جاء عند ابن عدي في الكامل.

(٤) أخرجه ابن أبي داود في المصاحف (كنز العمال ١ / ٥٣٧) ، وأخرجه الديلمي في الفردوس ٤ / ٣٠ ، الحديث (٥٥٨٧).

(٥) فضائل القرآن ق : ٩ / ب (مخطوطة توبنجن) باب فضل قراءة القرآن نظرا.

(٦) تصحفت في المخطوطة إلى (ابن داود) وفي المطبوعة إلى (أبو داود) والحديث أخرجه ابن أبي داود في المصاحف وأبو الشيخ (كنز العمال ١٢ / ١٩٧ و ٢١٢).

(٧) في المخطوطة (إن).

٩٤

* والقول الثاني : أن القراءة على ظهر القلب أفضل ، واختاره أبو محمد بن عبد السلام ، فقال في «أماليه» (١) : قيل القراءة في المصحف أفضل ؛ لأنه يجمع فعل الجارحتين ؛ وهما اللسان والعين ، والأجر على قدر المشقة ، وهذا باطل ؛ لأن المقصود من القراءة التدبر لقوله تعالى : (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) (ص : ٢٩) ؛ والعادة تشهد أن النظر في المصحف يخلّ بهذا المقصود ، فكان مرجوحا».

* والثالث : واختاره النوويّ في «الأذكار» (٢) : «إن كان القارئ من حفظه يحصل له من التدبّر والتفكر وجمع القلب أكثر مما يحصل له من المصحف فالقراءة من الحفظ أفضل ، وإن استويا فمن المصحف أفضل ، قال : وهو مراد السلف».

(مسألة) يستحب الجهر بالقراءة ؛ صحّ ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستحبّ بعضهم الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها ؛ لأن المسرّ قد يملّ ، فيأنس بالجهر ، والجاهر قد يكلّ فيستريح بالإسرار ؛ إلا أنّ من قرأ بالليل جهر بالأكثر ؛ وإن قرأ بالنهار أسرّ بالأكثر ؛ إلا أن يكون بالنهار في موضع لا لغو فيه ولا صخب ، ولم يكن في صلاة فيرفع صوته بالقرآن ، ثم روى بسنده عن معاذ بن جبل يرفعه : «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصدقة» (٣).

نعم من قرأ والناس يصلّون فليس له أن يجهر جهرا يشغلهم به ؛ فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على أصحابه وهم يصلون في المسجد ، فقال : «يأيها الناس كلّكم يناجي ربه ، فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة» (٤).

__________________

(١) كتاب «الأمالي» للعز بن عبد السلام ، مخطوط يوجد منه خمس نسخ (١) نسخة المتحف البريطاني بعنوان (مسائل وأجوبة في علوم متعددة من القرآن والحديث والفقه) رقم ٧٧١٣ / ٥٧٠ (٢) نسخة المتحف البريطاني بدون عنوان رقم ٩٦٩١Add ، (٣) نسخة دار الكتب المصرية رقم (٧٧ تفسير م) عنوانها فوائد العز بن عبد السلام ، وتسمى أيضا (إعجاز القرآن) ١٦٦ ورقة ، (٤) نسخة الخزانة الألوسية في مكتبة المتحف العراقي وعنوانها (فوائد في علوم القرآن) رقم (٨٧٥٤) ٢٣٤ ص ، (٥) نسخة مكتبة كوبرللي باستنبول رقم (٤٤) ٩٣ ورقة (حياة وآثار العز بن عبد السلام ، للوهيبي ص : ١١٩).

(٢) الأذكار : ١٨٢ ، كتاب تلاوة القرآن (بتحقيق أحمد راتب حموش ، نشر دار الفكر بدمشق) كتاب تلاوة القرآن.

(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك ١ / ٥٥٥ ، كتاب فضائل القرآن ، باب أخبار في فضائل القرآن جملة. وقال «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».

(٤) أخرجه من رواية أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه أحمد في المسند ٣ / ٩٤ ، وأبو داود في السنن ٢ / ٨٣ ، كتاب الصلاة (٢) ، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (٣١٥) ، الحديث (١٣٣١).

٩٥

(مسألة) ويكره قطع القرآن لمكالمة الناس ، وذلك أنه إذا انتهى في القراءة إلى آية وحضره كلام فقد استقبله التي بلغها والكلام ، فلا ينبغي أن يؤثر كلامه على قراءة القرآن ، قاله الحليميّ (١) ، وأيّده البيهقي بما رواه البخاري ، «كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلّم حتى يفرغ منه» (٢).

(مسألة) لا تجوز قراءته بالعجمية سواء أحسن العربية أم لا ، في الصلاة أو خارجها ، لقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (يوسف : ٢) ، وقوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) (فصّلت : ٤٤).

وقيل عن أبي حنيفة : تجوز قراءته بالفارسية مطلقا ، وعن أبي يوسف : إن لم يحسن العربية ؛ لكن صحّ عن أبي حنيفة الرجوع عن ذلك ، حكاه عبد العزيز (٣) في «شرح البزدويّ».

واستقرّ الإجماع على أنه تجب قراءته على هيئته التي يتعلّق بها الإعجاز لنقص الترجمة عنه ، ولنقص غيره من الألسن عن البيان الذي اختص به دون سائر الألسنة. وإذا لم تجز قراءته بالتفسير العربي لمكان التحدي بنظمه ، فأحرى أن لا تجوز الترجمة بلسان غيره ؛ ومن هاهنا قال القفال (٤) من أصحابنا : «عندي أنه لا يقدر أحد أن يأتي بالقرآن بالفارسية ، قيل له : فإذن لا يقدر أحد أن يفسّر القرآن ، قال : [ليس] (٥) كذلك ؛ لأن هناك يجوز أن يأتي ببعض مراد [٧٠ / ب] الله ويعجز عن البعض ؛ أما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد

__________________

(١) تقدم ذكره في ١ / ٣٢٢ ، وانظر كتابه «المنهاج في شعب الإيمان» ٢ / ٢٢٩.

(٢) البخاري ، الصحيح ٨ / ١٨٩ ، كتاب التفسير (٦٥) ، سورة البقرة ، باب نساؤكم حرث لكم (٣٩) الحديث (٤٥٢٦).

(٣) هو عبد العزيز بن أحمد بن محمد ، علاء الدين البخاري الحنفي تفقه على عمه محمد المايمرغني ، وأخذ أيضا عن حافظ الدين الكبير محمد البخاري ، وتفقه عليه قوام الدين محمد الكاكي وجلال الدين عمر بن محمد الجنازي وغيرهما له من التصانيف «شرح أصول البزدوي» المسمّى «كشف الأسرار» ووضع كتابا على الهداية ت ٧٣٠ ه‍ (اللكنوي الفوائد البهية ص : ٩٤) وكتابه طبع في استانبول عام ١٣٠٧ ه‍ / ١٨٨٩ م.

(٤) هو محمد بن علي بن إسماعيل القفال الفقيه أبو بكر الشاشي الشافعي كان إمام عصره بما وراء النهر كان فقيها مفسّرا محدّثا ، أصوليا ، لغويا ، رحل إلى خراسان ، والعراق ، والشام ، وسار ذكره واشتهر اسمه روى عنه الحاكم ، وابن منده ، والحليمي وغيرهم ، من مصنفاته «أصول الفقه» ت ٣٦٥ ه‍ (الذهبي ، سير أعلام النبلاء ١٦ / ٢٨٣).

(٥) ساقطة من المخطوطة.

٩٦

الله ، أيّ فإن الترجمة إبدال لفظة بلفظة تقوم مقامها ، وذلك غير ممكن بخلاف التفسير.

وما أحاله القفال من ترجمة القرآن ذكره أبو الحسين بن فارس في [كتاب] (١) «فقه العربية» أيضا فقال : «لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقل القرآن إلى شيء من الألسن ؛ كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية ، وترجمت التوراة والزبور وسائر كتب الله تعالى بالعربية ؛ لأن العجم لم تتسع في الكلام اتساع العرب ؛ ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) (الأنفال : ٥٨) لم تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ مؤدية عن المعنى الذي أودعته حتى تبسط مجموعها ، وتصل مقطوعها ، وتظهر مستورها ، فتقول : إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد ، فخفت منهم خيانة ونقضا فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطته لهم ، وآذنهم بالحرب ؛ لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء (٢) ، وكذلك قوله تعالى : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (الكهف : ١١)» انتهى.

فظهر من هذا أن الخلاف في جواز قراءته بالفارسية لا يتحقّق لعدم إمكان تصوّره. ورأيت في كلام بعض الأئمة (٣) المتأخرين أن المنع من الترجمة مخصوص بالتلاوة ؛ فأما ترجمته للعمل به فإن ذلك جائز للضرورة ، وينبغي أن يقتصر من ذلك على بيان المحكم (٤) منه ، والغريب المعنى بمقدار الضرورة [اليها] (٥) من التوحيد وأركان العبادات ؛ ولا يتعرض لما سوى ذلك ، ويؤمر من أراد الزيادة على ذلك بتعلم اللّسان العربيّ ؛ وهذا هو الذي يقتضيه الدليل ، ولذلك لم يكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى قيصر إلا بآية واحدة محكمة لمعنى واحد ؛ وهو توحيد الله والتبري من الإشراك ؛ لأن النقل من لسان إلى لسان قد تنقص (٦) الترجمة عنه كما سبق ، فإذا كان معنى المترجم عنده واحدا قلّ وقوع التقصير فيه ؛ بخلاف المعاني إذا كثرت ؛ وإنما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لضرورة التبليغ ؛ أو لأنّ معنى تلك الآية كان عندهم مقرّرا في كتبهم ، وإن خالفوه.

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة وكتاب «الصاحبي في فقه اللغة» تقدم التعريف به في ٢ / ١٢ ، وانظر قوله في الكتاب ص : ١٣.

(٢) في المطبوعة (سواء) والتصويب من كتاب فقه اللغة ومن الأصل المخطوط.

(٣) في المخطوطة (أئمة).

(٤) في المخطوطة (الحكم).

(٥) ساقطة من المطبوعة.

(٦) تصحفت في المخطوطة إلى (ينقض).

٩٧

وقال الكواشي (١) في تفسير سورة الدخان : «أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية بشريطة ؛ وهي أن يؤدّي القارئ المعاني كلّها من غير أن ينقص منها شيئا أصلا. قالوا : وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة ؛ لأن كلام العرب ـ خصوصا القرآن الذي هو معجز فيه ـ من لطائف المعاني والإعراب ما لا يستقل (٢) به لسان من فارسية وغيرها».

وقال الزمخشري (٣) : ما كان أبو حنيفة يحسن الفارسية ؛ فلم يكن ذلك منه عن تحقيق وتبصر ، وروى عليّ بن الجعد (٤) عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل صاحبيه في القراءة بالفارسية.

(مسألة) ولا تجوز قراءته بالشواذ ، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على منعه ؛ فقد سبق في الحديث : «كان يمد مدّا» (٥) ؛ يعني أنه يمكّن الحروف ولا يحذفها ، وهو الذي يسميه (٦) القرّاء (٧) [بالتجويد في القرآن ، والترتيل أفضل من الإسراع ، فقراءة حزب مرتّل مثلا في مقدار من الزمان ، أفضل من قراءة حزبين في مثله بالإسراع.

(مسألة) يستحب قراءته بالتفخيم والإعراب لما يروى : «نزل القرآن] (٧) بالتفخيم» (٨) ، قال الحليمي : «معناه أن يقرأ على قراءة الرجال ، ولا يخضع الصوت فيه ككلام النساء ، قال : ولا يدخل في كراهة الإمالة التي هي اختيار بعض القراء ، وقد يجوز أن يكون القرآن نزل بالتفخيم ، فرخّص مع ذلك في إمالة ما يحسن إمالته على لسان جبريل عليه‌السلام».

__________________

(١) هو أحمد بن يوسف موفق الدين المفسّر تقدم التعريف به في ١ / ٢٧٢.

(٢) في المخطوطة (يشتغل).

(٣) انظر قوله في الكشاف ٣ / ١٢٧ في تفسير قوله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٥] ، وانظر أيضا رءوس المسائل : ١٥٩ ، المسألة (٦٢).

(٤) تصحف الاسم في المخطوطة إلى (أبي الجعدي) وهو علي بن الجعد بن عبيد الجوهري ، أبو الحسن البغدادي ، المحدّث روى عن حريز بن عثمان ، وشعبة والثوري ، ومالك وغيرهم ، وعن البخاري وأبو داود ، وأحمد ، ويحيى بن معين ، وغيرهم. قال ابن معين : «ثقة صدوق» ت ٢٣٠ ه‍ (ابن حجر ، تهذيب التهذيب ٧ / ٢٩٢).

(٥) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ٩ / ٩١ ، كتاب فضائل القرآن (٦٦) ، باب مدّ القراءة (٢٩) الحديث (٥٠٤٥).

(٦) في المخطوطة (تسميه).

(٧) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٨) ذكره الحليمي في المنهاج ٢ / ٢٣٨ ، وأخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ٢٣١ ، كتاب التفسير باب قراءات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما لم يخرجاه وقد صح سنده.

٩٨

وروى البيهقي (١) من حديث ابن عمر : «من قرأ القرآن فأعرب في قراءته كان له بكلّ حرف عشرون حسنة ، ومن قرأ (٢) بغير إعراب كان له بكلّ حرف عشر حسنات».

(مسألة) وأن (٣) يفصل كلّ سورة عما قبلها ، إما بالوقف أو التسمية ، ولا يقرأ من أخرى قبل الفراغ من الأولى ؛ ومنه الوقف على رءوس الآي ، وإن لم يتم المعنى (٤). قال أبو موسى المديني (٥) : «وفيه خلاف بينهم ؛ لوقفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قراءة الفاتحة [على] كلّ آية وإن لم يتم الكلام». قال أبو موسى : «ولأنّ الوقف على آخر السور لا شك في استحبابه ، وقد يتعلق بعضها ببعض ؛ كما في سورة الفيل مع قريش.

وقال البيهقي رحمه‌الله وقد ذكر حديث «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطّع قراءته [٧١ / أ] آية آية» (٦) : ومتابعة السنّة أولى فيما ذهب إليه أهل العلم بالقراءات من تتبع الأغراض والمقاصد.

ومنها أن يعتقد جزيل ما أنعم الله عليه إذ أهّله لحفظ كتابه ويستصغر عرض الدنيا أجمع في جنب ما خوّله الله تعالى ، ويجتهد في شكره. ومنها ترك المباهاة فلا يطلب به الدنيا ؛ بل ما عند الله ؛ وألاّ يقرأ في المواضع القذرة ، وأن يكون ذا سكينة ووقار ، مجانبا للذنب (٧) ، محاسبا نفسه ، يعرف القرآن في سمته وخلقه ؛ لأنه صاحب كتاب الملك والمطلع على وعده ووعيده ، وليتجنب القراءة في الأسواق ، قاله الحليميّ (٨) ، وألحق به الحمام ، وقال النووي : «لا بأس به في الطريق سرّا حيث لا لغو فيها» (٩).

(مسألة) عدّ الحليميّ (١٠) من الآداب ترك خلط سورة بسورة ، وذكر الحديث الآتي ، قال البيهقيّ : وأحسن ما يحتجّ به أن يقال : إن هذا التأليف لكتاب الله مأخوذ من جهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) في شعب الإيمان (كنز العمال ١ / ٥٣٣).

(٢) في المطبوعة (قرأه).

(٣) في المخطوطة (وإنما).

(٤) في المخطوطة (الكلام).

(٥) هو محمد بن عمر بن أحمد الحافظ أبو موسى ابن المديني الأصبهاني الشافعي أوحد وقته ، وشيح زمانه إسنادا وحفظا ، سمع من أبي سعد محمد بن محمد المطرز وله تصانيف هامة منها «اللطائف في المعارف» ت ٥٨١ ه‍ (السبكي ، طبقات الشافعية ٤ / ٩٠).

(٦) تقدم تخريج الحديث في ١ / ٥٠٥.

(٧) في المخطوطة (الكذب).

(٨) الحليمي المنهاج في شعب الإيمان ٢ / ٢١٢ و ٢٥٨.

(٩) النووي التبيان في آداب حملة القرآن : ٤٢ الباب السادس في آداب القرآن.

(١٠) في المنهاج ٢ / ٢٣٨.

٩٩

وأخذه عن جبريل ، فالأولى بالقارئ أن يقرأه على التأليف المنقول المجتمع عليه ، وقد قال ابن سيرين : تأليف الله خير من تأليفكم. ونقل القاضي أبو بكر الإجماع على عدم جواز قراءة آية آية من كل سورة.

وقد روى أبو داود في «سننه» (١) من حديث أبي هريرة : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بأبي بكر وهو يقرأ يخفض صوته ، وبعمر يجهر بصوته ـ وذكر الحديث وفيه ـ فقال : وقد سمعتك يا بلال وأنت تقرأ من هذه السورة ، ومن هذه السورة ، فقال : كلام طيّب يجمعه الله بعضه إلى بعض ؛ فقال : كلكم قد أصاب». وفي رواية لأبي عبيد في «فضائل القرآن» : «قال بلال : أخلط الطّيّب بالطّيّب ، فقال : اقرأ السورة على وجهها» أو قال «على نحوها» وهذه زيادة مليحة ، وفي رواية : «إذا قرأت السورة فأنفذها» (٢).

وروى عن خالد بن الوليد «أنه أمّ الناس فقرأ من سور شتى ، ثم التفت إلى الناس حين انصرف فقال : شغلني الجهاد عن تعلّم القرآن» (٣). وروى المنع عن ابن سيرين. ثم قال أبو عبيد : الأمر عندنا على الكراهة [في قراءة] (٤) القراء هذه الآيات المختلفة ، كما أنكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بلال ، وكما اعتذر خالد عن فعله ، ولكراهة ابن سيرين له. ثم قال : إن بعضهم روى حديث بلال ، وفيه : فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ ذلك حسن» وهو أثبت وأشبه بنقل العلماء» (٥) انتهى.

ورواه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (٦) ؛ وزاد : مثل بلال كمثل نحلة غدت تأكل من الحلو والمرّ ، ثم يصير حلوا كله». قال : وإنما شبّهه بالنحلة في ذلك ؛ لأنها تأكل من الثمرات : حلوها [ومرّها] (٧) وحامضها ، ورطبها ويابسها ، وحارّها وباردها ؛ فتخرج هذا الشفاء ، وليست كغيرها من الطير تقتصر على الحلو فقط لحظّ شهوته فلا جرم أعاضها الله الشفاء فيما تلقيه ؛ كقوله : «عليكم بألبان البقرة ، فإنها ترمّ من كل الشجر فتأكل» (٨) فبلال رضي‌الله‌عنه كان يقصد آيات الرحمة

__________________

(١) سنن أبي داود ٢ / ٨٢ ، كتاب الصلاة (٢) ، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (٣١٥) ، الحديث (١٣٣٠).

(٢) فضائل القرآن ق ٢٢ / أـ ب (مخطوطة توبنجن) باب القارئ يقرأ آي القرآن مواضع مختلفة ...

(٣) أخرجه أبو عبيد في المصدر السابق. وفي المخطوطة (تعليم القرآن).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) فضائل القرآن ق ٢٣ / أ، الباب نفسه.

(٦) ص : ٢٣٠ ، الأصل الثالث والتسعون والمائة في تمثيل بلال رضي‌الله‌عنه بالنحلة.

(٧) ساقطة من المطبوعة.

(٨) نوادر الأصول ص : ٢٣٠.

١٠٠