البرهان في علوم القرآن - ج ٢

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

__________________

في الإبدال : * «الإبدال» لابن السكيت ، يعقوب بن إسحاق (ت ٢٤٤ ه‍) طبع بتحقيق المستشرق هفنر بالمطبعة الكاثوليكية في بيروت ١٣٢١ ه‍ / ١٩٠٣ م في (٦٨) ص. وطبع بتحقيق حسين محمد محمد شرف ، ونشره مجمع اللغة العربية في القاهرة ، الهيئة العامة لشئون المطابع ١٣٩٩ ه‍ / ١٩٧٨ م في (٢٠٢) ص* «الإبدال والمعاقبة والنظائر» لأبي القاسم الزجاجي ، عبد الرحمن بن إسحاق (ت ٣٤٠ ه‍) طبع بتحقيق عز الدين التنوخي ، ونشره المجمع العلمي العربي في دمشق ١٣٨١ ه‍ / ١٩٦٢ م في (١٢٧) ص* «الإبدال» لأبي الطيّب اللغوي ، عبد الواحد بن علي (ت ٣٥١ ه‍) طبع بتحقيق المستشرق هفنر ، بالمطبعة الكاثوليكية في بيروت ١٣٢٤ ه‍ / ١٩٠٣ م. وطبع بتحقيق عزّ الدين التنوخي ، ونشره المجمع العلمي العربي بدمشق بمجلته مج ٣٥ ، ص ٤٢١ ـ ٤٦٥ و ٦٠٦ ـ ٦٤٦ عام ١٣٨١ ه‍ / ١٩٦٠ م ثم نشره مستقلاّ في مجلدين عام ١٣٨١ ه‍ / ١٩٦١ م* «الإبدال» لابن مالك جمال الدين محمد بن عبد الله (ت ٦٧٢ ه‍) قام بتحقيقه د. علي حسين البواب (أخبار التراث العربي ٥ / ١٢) * «إبدال الحروف في اللهجات العربية» لسلمان سالم رجاء السحيمي ، وهو رسالة ماجستير قدّمها بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ١٤٠٦ ه‍ / ١٩٨٦ م (أخبار التراث العربي ٢٦ / ٢٠).

في الاستعارة : * «الاستعارة في القرآن الكريم» لأحمد فتحي رمضان ، وهو رسالة ماجستير بجامعة الموصل ١٤٠٨ ه‍ / ١٩٨٨ م (أخبار التراث العربي ٣٣ / ١٨).

في الاستفهام : * «أساليب الاستفهام في القرآن» لعبد العليم السيد فودة. طبع بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في القاهرة ، سلسلة نشر الرسائل الجامعية.

في الأساليب : * «بيان أسلوب الحكيم» لابن كمال باشا ، شمس الدين أحمد بن سليمان (ت ٩٤٠ ه‍) مخطوط في الأوقاف العراقية : ١٠١٠٢ (معجم الدراسات القرآنية : ٢٢٣) * «البيان في ضوء أساليب القرآن» لعبد الفتاح لاشين ، طبع بدار المعارف في القاهرة ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٧ م.

في الإيجاز : * «الإعجاز والإيجاز» لأبي منصور الثعالبي ، عبد الملك بن محمد (ت ٤٢٩ ه‍) طبع في الآستانة بمطبعة الجوائب (ضمن مجموع) ١٣٠١ ه‍ / ١٨٨٣ م ، ونشره اسكندر آصاف بالمطبعة العمومية في القاهرة ١٣١٥ ه‍ / ١٨٩٧ م في (٣٠٤) ص. وطبع بدار الكتب العلمية في النجف ، وصوّر بدار الغصون في بيروت ١٤٠٥ ه‍ / ١٩٨٥ م* «الإيجاز في المجاز» لابن قيم الجوزية ، أبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب (ت ٧٥١ ه‍) (كشف الظنون ١ / ٢٠٦) * «إيجاز البيان في سور القرآن» لمحمد علي الصابوني ، طبع بمكتبة الغزالي في دمشق.

في البلاغة : * «بلاغة القرآن» لمحمد الخضر حسين (ت ١٣٧٧ ه‍) ، طبع بالمطبعة التعاونية في دمشق ١٣٩١ ه‍ / ١٩٧١ م في (٢٢٠) ص* «بلاغة القرآن بين الفن والتاريخ» لفتحي أحمد عامر ، طبع بدار النهضة العربية في القاهرة ١٣٩٦ ه‍ / ١٩٧٥ م في (٤٠٨) ص* «بلاغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار ، وأثرها في الدراسات البلاغية» لعبد الفتاح لاشين. طبع بدار الفكر العربي في القاهرة ١٣٩٧ ه‍ / ١٩٧٦ م في (٨٣١) ص* «البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري ، وأثرها في الدراسات البلاغية» لمحمد حسنين أبو موسى. طبع بدار الفكر العربي في القاهرة ١٤٠٠ ه‍ / ١٩٧٩ م في

٤٨١

__________________

(٦٧١) ص* «بلاغة العطف في القرآن الكريم (دراسة أسلوبية)» لعفّت الشرقاوي طبع بدار نهضة مصر العربية ١٤٠١ ه‍ / ١٩٨١ م ، وبدار النهضة العربية في بيروت ١٤٠٢ ه‍ / ١٩٨٢ م* «البلاغة القرآنية عند الإمام الخطابي» لصباح عبيد دراز. طبع بمطبعة الأمانة في القاهرة ، ١٤٠٦ ه‍ / ١٩٨٦ م في البيان : * «البيان القصصي في القرآن» لإبراهيم عوضين ، طبع في القاهرة ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٧ م* «البيان في ضوء أساليب القرآن» لعبد الفتاح لاشين ، طبع بدار المعارف في القاهرة ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٧ م* «البيان القرآني» لمحمد رجب بيومي ، طبع في القاهرة* «القرآن والصورة البيانية» لعبد القادر حسن ، طبع بدار نهضة مصر.

في التجريد : * «التجريد في المعاني والبيان» لسمرة بن علي البحراني؟ (كشف الظنون ١ / ٣٥١).

في التشبيه : * «الجمان في تشبيهات القرآن» لابن ناقيا البغدادي ، أبي القاسم عبد الله بن محمد بن حسين (ت ٤٨٥ ه‍) طبع بتحقيق عدنان زرزور ، ومحمد رضوان الداية بوزارة الأوقاف الكويتية ١٣٨٨ ه‍ / ١٩٦٨ م في (٤٤٠) ص. وطبع بتحقيق أحمد مطلوب وخديجة الحديثي بوزارة الثقافة العراقية ١٣٨٨ ه‍ / ١٩٦٨ م في (٤٤٨) ص. وطبع بتحقيق مصطفى الصاوي الجويني بمنشأة المعارف في الإسكندرية ١٣٩٦ ه‍ / ١٩٧٦ م.* «تشبيهات القرآن وأمثاله» لابن قيم الجوزية ، شمس الدين محمد بن أبي بكر (ت ٧٥١ ه‍) (ذكره عبد الرحمن التكريتي في مقال «أمثال القرآن» في مجلة الإسلام ، ع (٦٥) ، س ١٣٩٣ ه‍ / ١٩٧٣ م ، ص ٧٤).

* «التشبيهات القرآنية والبيئة العربية» لماجدة مجيد الأطرقجي ، طبع بوزارة الثقافة والفنون في بغداد ١٣٩٩ ه‍ / ١٩٧٨ م في التضمين : (تقدم الكلام عنه في النوع الثلاثين من هذا الكتاب ٢ / ١١٣.

في التقديم والتأخير* «التقديم والتأخير بين المبنى والمعنى في القرآن الكريم» لعلي محمود جعفر ، رسالة ماجستير في كلية الآداب بجامعة اليرموك بإربد ـ الأردن ـ نوقشت عام ١٤٠٦ ه‍ / ١٩٨٦ م.

في التمثيل : تقدم الكلام عن أمثال القرآن في النوع (٣١) من هذا الكتاب ٢ / ١١٦.

في التوسعة : * «التوسعة» لابن السكيت ، أبي يوسف يعقوب بن إسحاق. ت ٢٤٤ ه‍ (كشف الظنون ١ / ٥٠٧).

في التوكيد : * «أساليب التوكيد من خلال القرآن الكريم» لأحمد مختار البزرة ، طبع في دمشق ، ووزعته الوكالة العامة للتوزيع (أخبار التراث العربي ٢١ / ٢٦).

في الحذف : * «الحذف والتقدير في النحو العربي» لعلي أبو المكارم. طبع بالمطبعة الحديثة للطباعة في القاهرة ١٣٩١ ه‍ / ١٩٧٠ م* «الحذف في الجملة العربية» لأحمد فالح مطلق. رسالة ماجستير في كلية الآداب بجامعة اليرموك بإربد ـ الأردن ، نوقشت عام ١٤٠٦ ه‍ / ١٩٨٦ م.

في الشرط : * «أسلوب إذ في ضوء الدراسات القرآنية والنحوية» لعبد العال سالم مكرم ، طبع بجامعة الكويت ١٤٠٣ ه‍ / ١٩٨٣ م* «أسلوب الشرط في العربية مع تحقيق ثلاث رسائل نحوية في باب الشرط» لأحمد محمد الشريف. رسالة دكتوراه بجامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض ١٤٠٥ ه‍ / ١٩٨٥ م* «أسلوب الشرط بين النحويين والبلاغيين» لفتحي بيومي حمودة ، طبع بدار البيان

٤٨٢

وأول الجريدة (١) [وغرّة الكتيبة] (١) ، وواسطة القلادة ، ودرّة التاج ، وإنسان الحدقة ؛ على أنه قد تقدمت (٢) الإشارة للكثير (٣) من ذلك.

اعلم أن هذا علم شريف المحلّ ، عظيم المكان ، قليل الطلاب ، ضعيف الأصحاب ، ليست له عشيرة تحميه ، ولا ذوو (٤) بصيرة تستقصيه ، وهو أرق من الشعر ، وأهول من البحر ، وأعجب من السحر ، وكيف لا يكون! وهو المطلع على (٥) أسرار القرآن العظيم ، الكافل بإبراز إعجاز النظم المبين ما أودع من حسن التأليف ، وبراعة التركيب ، وما تضمنه من (٦) الحلاوة ، وجلّله من (٦) رونق الطلاوة ؛ مع سهولة كلمه وجزالتها ، وعذوبتها وسلاستها. ولا فرق بين ما يرجع الحسن إلى اللفظ أو المعنى (٧).

وشذّ بعضهم فزعم أن موضع صناعة البلاغة فيه إنما هو المعاني ، فلم يعدّ الأساليب

__________________

العربي في جدة ١٤٠٥ ه‍ / ١٩٨٤ م

في العطف : * بلاغة العطف في القرآن الكريم (دراسة أسلوبية) لعفّت الشرقاوي ، طبع بدار نهضة مصر العربية ١٤٠١ ه‍ / ١٩٨١ م ، وبدار النهضة العربية في بيروت ١٤٠٢ ه‍ / ١٩٨٢ م في القصر : * «أساليب القصر في القرآن الكريم وأسرارها البلاغية» لصباح عبيد دراز ، طبع بمطبعة الأمانة في القاهرة ١٤٠٦ ه‍ / ١٩٨٦ م.

في القلب : * «القلب والإبدال» للأصمعي ، عبد الملك بن قريب. ت ٢١٦ ه‍ (كشف الظنون ٢ / ١٣٥٥) * «القلب والإبدال» لابن السكيت ، أبي يوسف يعقوب بن إسحاق (ت ٢٤٤ ه‍) طبع بتحقيق المستشرق أوغست هفنر بمطبعة اليسوعيين في بيروت ١٣٢٢ ه‍ / ١٩٠٣ م في القسم : «القسم بالمخلوقات في القرآن الكريم» لعثمان أبو النصر ، طبع بمطبعة عيسى الحلبي في القاهرة ١٣٦٣ ه‍ / ١٩٤٤ م ، في (٣٢) ص* «أساليب القسم في القرآن الكريم (دراسة في النحو والتفسير) لكاظم فتحي الراوي ، طبع بمطبعة الجامعة في بغداد ، ١٣٩٧ ه‍ / ١٩٧٧ م في الكناية : تقدم الكلام عنها في النوع (٤٤) من الكتاب ٢ / ٤١٠.

في المشاكلة : * «المشاكلة بين (واو) الحال و (واو) المصاحبة في النحو العربي» لعبد الجبار فتحي زيدان. رسالة ماجستير بجامعة الموصل ١٤٠٨ ه‍ / ١٩٨٨ م في النداء : * «نداء المخاطبين في القرآن أسراره وإعجازه» لعلي عبد الواحد وافي (مقال في مجلة الأزهر مج (٢٥) ع (٢) ١٣٨٣ ه‍ / ١٩٦٣ م).

في النفي : «أساليب النفي في القرآن الكريم» لأحمد ماهر البقري. طبع بدار المعارف في القاهرة.

(١) بياض في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (تقدم).

(٣) في المخطوطة (لكثير).

(٤) في المخطوطة (ذوي).

(٥) في المخطوطة (إلى).

(٦) في المطبوعة (في).

(٧) في المخطوطة (والمعنى).

٤٨٣

البليغة ، والمحاسن اللفظية. والصحيح أن الموضوع مجموع المعاني والألفاظ إذ اللفظ مادّة الكلام الذي منه يتألف ، ومتى أخرجت الألفاظ عن أن تكون (١) موضوعا خرجت عن جملة الأقسام المعتبرة ؛ إذ لا يمكن أن توجد إلا بها. وها (٢) أنا ألقي إليك (٣) منه ما يقضي له البليغ عجبا ، ويهتز به الكاتب (٤) طربا :

فمنه التوكيد بأقسامه ، والحذف بأقسامه ، الإيجاز ، التقديم والتأخير ، القلب ، المدرج ، الاقتصاص ، [الترقي] (٥) ، التغليب ، الالتفات ، التضمين ، وضع الخبر موضع الطلب ، وضع الطلب موضع الخبر ، وضع النداء موضع التعجب ، وضع جملة القلة موضع الكثرة ، تذكير المؤنث ، تأنيث المذكر ، التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي ، عكسه ، مشاكلة اللفظ للمعنى ، النحت ، الإبدال ، المحاذاة (٦) ، قواعد في النفي والصفات ، إخراج الكلام مخرج الشك في اللفظ دون الحقيقة ، الإعراض عن صريح الحكم ، الهدم ، التوسع ، الاستدراج ، التشبيه ، الاستعارة ، التورية ، التجريد ، التجنيس ، الطباق ، المقابلة ، إلجام الخصم بالحجة ، التقسيم ، التعديد ، مقابلة الجمع بالجمع ، قاعدة فيما ورد في القرآن مجموعا تارة ومفردا أخرى وحكمة ذلك ، قاعدة أخرى في الضمائر ، قاعدة في السؤال والجواب ، الخطاب بالشيء عن اعتقاد المخاطب ، التأدب في الخطاب ، تقديم ذكر الرحمة على العذاب ، الخطاب بالاسم ، الخطاب بالفعل ، قاعدة في ذكر الموصولات والظرف (٧) تارة وحذفها أخرى ، قاعدة في النهي ودفع التناقض عما يوهم ذلك.

وملاك ذلك الإيجاز والإطناب ، قال صاحب الكشاف : [١٣٧ / ب] «كما أنه يجب على البليغ في مظان الإجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز ؛ فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل أن يفصّل ويشبع ، وأنشد (٨) الجاحظ :

يرمون بالخطب الطّوال وتارة

وحي الملاحظ خيفة الرقباء

__________________

(١) في المخطوطة (يكون).

(٢) في المخطوطة (فها).

(٣) في المخطوطة (عليك).

(٤) في المخطوطة (الكتب).

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) في المخطوطة (المجادلة).

(٧) في المخطوطة (والطرق).

(٨) في المخطوطة (أنشد) ، وانظر البيت في البيان والتبين ١ / ٤٤ ، ١٥٥. ونسبه إلى أبي دؤاد الإيادي ..

٤٨٤

الأسلوب الأول : التأكيد

والقصد منه الحمل على ما لم يقع ، ليصير واقعا ، ولهذا لا يجوز تأكيد الماضي ولا الحاضر ، لئلا يلزم تحصيل الحاصل ؛ وإنما يؤكد المستقبل ، وفيه مسائل :

(الأولى) : جمهور الأمة على وقوعه في القرآن والسنة. وقال قوم : ليس فيهما تأكيد ولا في اللغة ؛ بل لا بد أن يفيد معنى زائدا على الأول. واعترض الملحدون على القرآن والسنّة بما فيهما (١) من التأكيدات ، وأنه لا فائدة في ذكرها ؛ وأن من حق البلاغة في النظم إيجاز اللفظ واستيفاء المعنى ، وخير الكلام ما قلّ ودلّ ولا يملّ ، والإفادة خير من الإعادة ، وظنوا أنه إنما يجيء لقصور النفس عن تأدية المراد بغير تأكيد ؛ ولهذا أنكروا وقوعه في القرآن.

وأجاب الأصحاب بأنّ القرآن نزل على لسان القوم وفي لسانهم التأكيد والتكرار ، وخطابه أكثر ؛ بل هو عندهم معدود في الفصاحة والبراعة ، ومن أنكر وجوده في اللغة فهو [مكابر] (٢) إذ لو لا وجوده لم يكن لتسميته تأكيدا فائدة ، فإن الاسم لا يوضع إلا لمسمى معلوم لا فائدة فيه ، بل فوائد كثيرة كما سنبينه.

(الثانية) : حيث وقع فهو حقيقة ، وزعم قوم أنه مجاز ، لأنه لا يفيد إلا ما أفاده المذكور الأول (٣) ، حكاه الطرطوشي (٤) في «العمد» ثم قال : ومن سمّى التأكيد مجازا؟ فيقال له : إذا كان التأكيد بلفظ الأول ، نحو عجّل عجّل ونحوه ، فإن جاز أن يكون الثاني مجازا جاز في الأول ، لأنهما في لفظ واحد ، وإذا بطل حمل الأول على المجاز بطل حمل الثاني عليه ، لأنه قبل الأول.

(الثالثة) : أنه خلاف الأصل ؛ فلا يحمل اللفظ على التأكيد إلا عند تعذّر حمله على (٥) مدة محددة (٥).

__________________

(١) في المخطوطة (فيه).

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

(٣) في المخطوطة (لأول).

(٤) تصحفت في المطبوعة إلى (الطرطوسي في العمدة) والصواب ما أثبتناه وانظر ٢ / ٤١٢.

(٥) في المخطوطة (فائدة مجددة).

٤٨٥

(الرابعة) : يكتفي في تلك بأيّ معنى كان وشرط. وما قاله ضعيف ، لأن المفهوم من دلالة اللفظ ليس من باب الألفاظ حتى يحذو به حذو الألفاظ.

(الخامسة) : في تقسيمه : وهو صناعي ـ يتعلق باصطلاح النحاة ـ ومعنويّ ، وأقسامه (١) كثيرة ، فلنذكر ما تيسّر منها.

القسم الأول : التوكيد الصناعي

وهو قسمان : لفظيّ ومعنويّ ، فاللفظي تقرير معنى الأول بلفظه أو مرادفه ؛ فمن المرادف (فِجاجاً سُبُلاً) (الأنبياء : ٣١) (ضَيِّقاً حَرَجاً) (الأنعام : ١٢٥) في قراءة كسر الراء (٢).

(وَغَرابِيبُ سُودٌ) (فاطر : ٢٧). وجعل الصّفّار (٣) منه قوله تعالى : (فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) (الأحقاف : ٢٦) على القول بأن كلاهما (٤) للنفي.

واللفظي يكون في الاسم النكرة بالإجماع ، نحو : (قَوارِيرَا* قَوارِيرَا) (الإنسان : ١٥ و ١٦) وجعل ابن مالك وابن عصفور [منه] (٥) : (دَكًّا دَكًّا) (الفجر : ٢١) و (صَفًّا صَفًّا) (الفجر : ٢٢) وهو مردود لأنه جاء في التفسير أن معنى (دَكًّا دَكًّا) [دكّا] (٥) (الفجر : ٢١) بعد دكّ ، وأن الدّك كرّر عليها حتى صار هباء منثورا ، وأن معنى : (صَفًّا صَفًّا) أنه تنزّل ملائكة كل سماء يصطفّون صفّا بعد صف ، محدقين بالإنس والجنّ. وعلى هذا فليس الثاني منهما تكرارا للأول ؛ بل المراد به التكثير ؛ نحو جاء القوم رجلا رجلا ، وعلّمته الحساب بابا بابا.

وقد ذكر ابن جني في قوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (الواقعة : ١) (إِذا رُجَّتِ) (الواقعة : ٤) أن (رُجَّتِ) بدل من (وَقَعَتِ) ، وكررت (إِذا) تأكيدا لشدة امتزاج المضاف بالمضاف إليه.

ويكون في اسم الفعل ، كقوله تعالى : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) [١٣٨ / أ](لِما تُوعَدُونَ) (المؤمنون : ٣٦) وفي الجملة ، نحو : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الانشراح :

__________________

(١) في المخطوطة (وتمكينه وأقسامه).

(٢) وهي قراءة نافع وأبي بكر (التيسير ص ١٠٦) وانظر معاني القرآن للفراء ١ / ٣٥٣.

(٣) هو القاسم بن علي الصفّار ، تقدم ذكره في ١ / ٣٨٦.

(٤) الضمير عائد على (ما) و (إن) في الآية الكريمة.

(٥) زيادة يقتضيها السياق.

٤٨٦

٥ و ٦) ولكون الجملة الثانية للتوكيد سقطت من مصحف ابن مسعود ، ومن قراءته (١) والأكثر فصل الجملتين : ب «ثم» ، كقوله : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ* ثُمَّ ما أَدْراكَ) (الانفطار : ١٧ و ١٨) (كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (التكاثر : ٣ و ٤) ويكون في المجرور ، كقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) (هود : ١٠٨) والأكثر فيه اتصاله بالمذكور.

وزعم الكوفيون أنه لا يجوز الفصل بين التوكيد والمؤكد ، قال الصفّار (٢) في «شرح سيبويه» : والسماع يردّه ، قال تعالى : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (هود : ١٩) فإن «هم» الثانية تأكيد للأولى. وقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) (هود : ١٠٨) وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (البقرة : ٨٩) ألا ترى أن قبله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ) (البقرة : ٨٩) فأكّد (لَمَّا) وبينهما كلام ، وأصله : (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) (البقرة : ٨٩) فكرّر للطول الذي بين «لمّا» وجوابها. وقوله : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) (المؤمنون : ٣٥) في أحد القولين ؛ لأنه أكّد «أنّ» بعد ما فصل.

وقوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الجاثية : ٣) (٣) ............. (٣)

ريب أنهم اجتمعوا في الهلاك وإن قوم موسى اجتمعوا في النجاة.

ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف : (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) (يوسف : ٩٣) فلم يرد بهذا أن يجتمعوا عنده ، وإن جاءوا واحدا بعد واحد ؛ وإنما أراد اجتماعهم في المعنى إليه ، وألاّ يتخلّف منهم أحد ، وهذا يعلم من السياق والقرينة.

ومن القرينة الدالة على ذلك في قصة الملائكة (٤) لفظا [ومعنى] (٥) أن قوله (كُلُّهُمْ)

__________________

(١) ذكرها الزمخشري في الكشاف ٤ / ٢٢١.

(٢) هو القاسم بن علي البطليوسي الصفار ، تقدم ذكره في ٢ / ٤٥١. وكتابه «شرح سيبويه» مخطوط ، يوجد منه قطعة في دار الكتب المصرية برقم (٩٠٠) نحو (انظر مقدمة كتاب سيبويه ١ / ٣٧ لعبد السلام محمد هارون وبروكلمان (بالعربية) ٢ / ١٣٧).

(٣) بياض في المخطوطة. كتب ناسخها على هامشها (هنا نسخة الأصل ، ورقتان بياض).

(٤) في قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر : ٣٠].

(٥) ساقطة من المطبوعة.

٤٨٧

(الحجر : ٣٠) يفيد الشمول والإحاطة ، فلا بد أن يفيد (أَجْمَعُونَ) قدرا زائدا على ذلك وهو اجتماعهم في السجود ؛ وأما المعنى فلأن (١) الملائكة لم تكن (٢) ليتخلّف (٣) أحد منهم عن امتثال الأمر ، ولا يتأخر عنده ، ولا سيما وقد وقّت لهم بوقت وحدّ لهم بحدّ ، وهو التسوية ونفخ الروح ، فلما حصل ذلك سجدوا كلهم عن آخرهم في آن واحد ولم يتخلف منهم أحد ؛ فعلى هذا يخرّج كلام المبرّد الزمخشريّ.

وما نقل عن بعض المتكلمين أن السجود لم يستعمل على الكلّ بدليل قوله : (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) (ص : ٧٥) (٤) [مردود ؛ بل «العالون» المتكبرون ؛ وفي «رسائل إخوان الصفاء» (٥) أن (الْعالِينَ)] هم العقول العاقة التي لم تسجد ، وهذا تحريف ، ولم يقم دليل على إثبات العقول التي تدعيها الفلاسفة.

__________________

(١) تصحفت في المخطوطة إلى (وأما).

(٢) في المخطوطة (فلم يكن).

(٣) في المخطوطة (يتخلف).

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٥) رسائل إخوان الصفاء ، ذكرها حاجي خليفة في كشف الظنون ١ / ٩٠٢ ، وجاء تعريفها في دائرة المعارف الإسلامية ١ / ٥٢٧ ـ ٥٢٩ كالتالي : «إخوان الصفاء» : في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي ٣٧٣ ه‍ ٩٨٣ م) ظهرت جماعة سياسية دينية ذات نزعات شيعية متطرفة ، وربما كانت إسماعيلية على وجه أصح ، أنتجت سلسلة من الرسائل رتبت ترتيبا جامعا لشتات العلوم متمشيا مع الأغراض التي قامت من أجلها الجماعة. ويقال عادة إن هذه الرسائل قد جمعت ونشرت في أواسط القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) تقريبا. وهي تبلغ ٥٢ رسالة ويذكر من مؤلفيها : أبو سليمان محمد بن مشير البستي المشهور بالمقدسي ، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني ، ومحمد بن أحمد النهرجوري ، والعوفي ، وزيد بن رفاعة. كان إخوان الصفاء يميلون إلى التعبير عما يجول في نفوسهم بأسلوب غير صريح. والآراء التي تضمنتها هذه الرسائل مستمدة من مؤلفات القرنين الثامن والتاسع الميلاديين. ونزعتهم الفلسفية هي نزعة قدماء مترجمي الحكمة اليونانية والفارسية والهندية وجامعيها الذين يأخذون من كل مذهب بطرف. وتتردد في هذه الرسائل أسماء هرمس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون أكثر من أرسطوطاليس. وهذا الأخير يعتبرونه منطقيا ومؤلفا لكتاب «أثولوجيا» الأفلاطوني و «كتاب التفاحة». ولا نجد في رسائل إخوان الصفاء أثرا للفلسفة المشائية الحقيقية التي بدأت بظهور الكندي. ومن خصائص نزعتهم الفلسفية أنهم لم يأخذوا شيئا من الكندي ، ولو أنهم أخذوا من أحد تلاميذه الذين انحرفوا عن مذهبه وهو المنجّم البهرج أبو معشر المتوفى عام ٢٧٢ ه‍ (٨٨٥ م).

وقد أخذت هذه الرسائل من كل مذهب فلسفي بطرف. والمحور الذي تدور عليه : فكرة الأصل

٤٨٨

ووقع خلاف في أنّ إبليس من الملائكة أم لا؟ والتحقيق أنه ليس منهم عنصرا ، ففي «صحيح مسلم» (١) : «خلقت الملائكة من نور ، وخلقت (٢) الجانّ من النّار ، وخلق آدم مما وصف (٣) لكم» (٤) وهو منهم حكما لدخوله في الخطاب بالأمر بالسجود معهم ، ولو كان من غيرهم لم يدخل معهم.

وأما قوله : (إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر : ٥٩) فلم يذكر قبله (كُلُّهُمْ) لما لم يكن المراد كلّ واحد واحد من الآية (٥) لم تحسن (٦) الزيادة في التأكيد ، بدليل الاستثناء بعده من قوله : (إِلاَّ امْرَأَتَهُ) (الحجر : ٦٠).

__________________

السماوي للأنفس وعودتها إلى الله ، وقد صدر العالم عن الله ، كما يصدر الكلام عن المتكلم أو الضوء عن الشمس ، ففاض عن وحدة الله بالتدرج : العقل ، ومن العقل النفس ، ثم المادة الأولى ، ثم عالم الطبائع ، ثم الأجسام ، ثم عالم الأفلاك ، ثم العناصر ثم ما يتركب منها وهي المعادن والنبات والحيوان. والمادة في هذا الفيض تبدو أساسا للتشخص ولكل شر ونقص وليست النفوس الفردية إلا أجزاء من النفس الكلية ، تعود إليها مطهرة بعد الموت ، كما ترجع النفس الكلية إلى الله ثانية يوم المعاد. والموت عند إخوان الصفاء يسمى البعث الأصغر ، بينما تسمى عودة النفس الكلية إلى بارئها البعث الأكبر.

ويذهب إخوان الصفاء إلى أن الأديان كلها في جميع العصور وعند جميع الناس يجب أن تتفق وهذه الحكمة. وغرض كل فلسفة وكل دين هو أن تتشبه النفس بالله بقدر ما يستطيعه الانسان. وقد أوّلوا القرآن تأويلا رمزيا لكي يتمشى مع هذا التصور الروحي للأديان ، كما أوّلوا بعض القصص غير الدينية تأويلا رمزيا مثل قصص كتاب «كليلة ودمنة».

وقد كتبت هذه الرسائل الاثنتان والخمسون في أسلوب مسهب فيه تكرار وحض على الفضيلة. وهذه الرسائل تشبه في الظاهر موسوعة في العلوم المختلفة. والجزء الأول من هذه الرسائل يحتوي على أربع عشرة رسالة تعالج مبادئ الرياضيات والمنطق. بينما يعالج الجزء الثاني الذي يحتوي على سبع عشرة رسالة في العلوم الطبيعية بما فيها علم النفس. أما الرسائل العشر التي يتضمنها الجزء الثالث فتبحث فيما بعد الطبيعة. وتتناول الرسائل الإحدى عشرة الأخيرة التصوف والتنجيم والسحر. وقد فصل الكلام في الرسالة الخامسة والأربعين من الجزء الرابع عن نظام هذه الجماعة وطبيعة تكوينها.

(١) في المخطوطة (الصحيح).

(٢) في صحيح مسلم : (وخلق الجانّ من مارج من نار).

(٣) في المخطوطة (وصفت) والصواب ما أثبتناه وهو الموافق للفظ مسلم.

(٤) أخرجه في الصحيح (من حديث عائشة رضي‌الله‌عنها) ٤ / ٢٢٩٤ ، كتاب الزهد والرقائق (٥٣) ، باب في أحاديث متفرقة (١٠) الحديث ٦٠ / ٢٩٩٦.

(٥) في المخطوطة (الآن).

(٦) في المخطوطة (يخش).

٤٨٩

ومنها قصد تحقيق (١) المخبر به كقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ) (البقرة : ٣٠) فأكد بإنّ وباسم الفاعل ؛ مع أنهم ليسوا بشاكين (٢) في الخبر. ومثله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (الزمر : ٣٠) وقال حاكيا عن نوح : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) (نوح : ٢٧).

ومنها قصد إغاظة (٣) السامع بذلك الخبر ؛ كقوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (يس : ٣).

ومنها الترغيب ، كقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة : ٥٤) أكّده بأربع تأكيدات ، وهي : إن ، وضمير الفصل ، والمبالغتان مع الصفتين له ؛ ليدل على ترغيب الله العبد في التوبة ؛ فإنه إذا علم ذلك طمع في عفوه. وقوله : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) (التوبة : ٤٠).

ومنها الإعلام بأن المخبر [به] (٤) كله من عند المتكلم ، كقوله : [١٣٨ / ب](فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) (البقرة : ٣٨) دون الاقتصار على «يأتينكم هدى» ، قال المفسرون : فيه إشارة إلى أن الخير كلّه منه. وعليه قوله : (قَدْ جاءَتْكُمْ (٥) مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ [لِما فِي الصُّدُورِ] (٦)) (يونس : ٥٧) (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (النساء : ١٧٤).

ومنها التعريض بأمر آخر ؛ كقوله تعالى : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) (القصص : ١٦) وقول موسى [عليه‌السلام] (٧) (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص : ٢٤) وقوله تعالى : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) (آل عمران : ٣٦) تعريضا بسؤال قبولها ؛ فإنها كانت تطلب للنذر ذكرا.

تنبيهان

(الأول) : قالوا : إنما يؤتى به للحاجة للتحرّز عن ذكر ما لا فائدة له ، فإن كان المخاطب ساذجا ألقي إليه الكلام خاليا (٨) عن التأكيد ، وإن كان متردّدا فيه حسن تقويته بمؤكد ، وإن كان منكرا وجب تأكيده (٩). ويراعى في القوة والضعف بحسب حال المنكر ؛ كما في قوله تعالى

__________________

(١) في المخطوطة (لقصد التحقيق) بدل (قصد تحقيق).

(٢) في المخطوطة (الشاكين).

(٣) تصحفت في المخطوطة إلى (أغلظة).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) تصحفت في المخطوطة إلى (لقد جاءكم).

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) ليست في المطبوعة.

(٨) في المخطوطة (خال).

(٩) في المخطوطة (توكيده).

٤٩٠

عن رسل عيسى : (رَبُّنا يَعْلَمُ ...) الآية ، (يس : ١٦) وذلك أن الكفار نفوا رسالتهم بثلاثة أشياء. أحدها قولهم : (ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا) (يس : ١٥) والثاني قولهم : (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) (يس : ١٥) والثالث قولهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ) (يس : ١٥) فقوبلوا على نظيره بثلاثة أشياء : أحدها قولهم : (رَبُّنا يَعْلَمُ ...) (يس : ١٦) ووجه التأكيد فيه أنه في معنى قسم (١) ، والثاني قوله : (إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) (يس : ١٦) والثالث قوله [تعالى] (٢) : (وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ [الْمُبِينُ]) (٢) (يس : ١٧).

وقد ينزّل المنكر كغير المنكر وعكسه. وقد اجتمعا في قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ* [(٣) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ] (٣)) (المؤمنون : ١٥ و ١٦) أكّدت (٤) تأكيدين وإن لم ينكروا (٥) ، لتنزيل المخاطبين لتماديهم في الغفلة منزلة من ينكر الموت ، وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا وإن كان أكثر ، لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بألا يتكرر ويتردد فيه ، حثّا لهم على النظر في أدلته الواضحة.

(الثاني) : قال التّنوخي في «الأقصى القريب» (٦) : «إذا قصدوا مجرّد الخبر أتوا بالجملة الفعلية ، وإن أكّدوا فبالاسمية ، ثم ب «إنّ» ، ثم بها وب «اللام». وقد تؤكد الفعلية ب «قد». وإن احتيج بأكثر جيء بالقسم مع كلّ من الجملتين ، وقد تؤكد الاسمية باللام فقط ، نحو : «لزيد قائم» ، وقد تجيء مع الفعلية مضمرة بعد اللام. وحاصله أن الخطاب على درجات : قام زيد ، ثم لقد قام ـ فإنه جعل الفعلية كأنها دون الاسمية ـ ثم إن زيدا قائم ، ولزيد قائم».

ويلتحق بالتأكيد الصناعي أمور :

* (أحدها) : تأكيد الفعل بالمصدر ؛ ومنه قوله تعالى : (جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) (الإسراء : ٦٣) [وقوله تعالى] (٧) : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (النساء : ١٦٤) (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب : ٥٦) [وقوله تعالى] (٧) (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً* وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً)

__________________

(١) في المخطوطة (القسم).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) الآية ليست في المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (أكد).

(٥) في المخطوطة (ينكر).

(٦) في المطبوعة (أقصى القرب) ، وقد تقدم التعريف به في ٢ / ٤٤٨ ، وصاحبه محمد بن محمد ، زين الدين التنوخي.

(٧) ليست في المخطوطة.

٤٩١

(الطور : ٩ و ١٠) (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (النمل : ٨٨) (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) (الحاقة : ١٤) (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (الزلزلة : ١) (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) (يوسف : ٥) وهو كثير.

قالوا : وهو عوض عن تكرار الفعل مرتين ؛ فقولك : «ضربت ضربا» (١) [بمنزلة قولك : «ضربت ، ضربت»] (١) ثم عدلوا عن ذلك واعتاضوا عن الجملة بالمفرد.

وليس منه قوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (٢) (الأحزاب : ١٠) بل هو جمع «ظنّ» ، وجمع لاختلاف أنواعه ؛ قاله ابن الدهان (٣).

ثم اختلفوا في فائدته ، فقيل : إنه يرفع المجاز عن الفاعل ، فإنك تقول. «ضرب الأمير اللصّ» ، ولا يكون باشر بل أمر به ؛ [فإذا قلت] (٤) «ضربا» علم أنه باشر. وممن نص على ذلك ثعلب في «أماليه» (٥) ، وابن عصفور في «شرح الجمل الصغير» (٦). والصواب أنّه إنما يرفع الوهم عن الحديث لا عن المحدّث عنه ؛ فإذا قلت : «ضرب الأمير» احتمل مجازين : أحدهما إطلاق الضرب على مقدماته ، والثاني إطلاق الأمير على أمره ، فإذا أردت رفع الأول أتيت بالمصدر ، فقلت : «ضربا» ، وإن أردت الثاني قلت : «نفسه» أو «عينه».

ومن هذا (٧) [١٣٩ / أ] يعلم ضعف استدلال أصحابنا على المعتزلة في إثبات كلام الله

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) تصحفت في المخطوطة إلى (الظنون).

(٣) هو سعيد بن المبارك بن علي بن الدهان ، أبو محمد البغدادي : عالم فاضل له معرفة كاملة بالنحو ، ويد باسطة في الشعر ، كتب الكثير من كتب الأدب بخطّه ، تصدر بالموصل للإقراء والإفادة والتصنيف له الكثير من المصنفات منها «الفصول في النحو» و «شرح الإيضاح» ت ٥٦٩ ه‍ (إنباه الرواة ٢ / ٤٧).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) كتاب «الأمالي» لثعلب مخطوط في المكتبة العمومية باستنبول (بروكلمان (بالعربية) ٢ / ٢١٣).

(٦) كتاب «الجمل في النحو» عنوان واحد لكتابين (الأول) لعبد القاهر الجرجاني (منظومة) (والثاني) لأبي القاسم الزجاجي ، وابن عصفور شرح الكتابين ، إلا أنه شرح كتاب الزجاجي ثلاثة شروح : كبير وأوسط وصغير ، وهذا الأخير هو المقصود هنا ، غير أن صاحب «كشف الظنون» ذكر أن الشروح الثلاثة هي الكتاب الجرجاني ، ولكن أحد الفضلاء كتب بخطه على هامش الأصل لكتاب «كشف الظنون» أن الشروح الثلاثة هي لجمل الزجاجي (انظر البلغة : ١٦٠ ، كشف الظنون ١ / ٦٠٣ ، وبغية الوعاة ٢ / ٢١٠) ، «وشرح الجمل الصغير» للزجاجي مخطوط بمكتبة ليدن ٤٣ ، والأمبروزيانا ١٥٤ ، والتيمورية (انظر مجلة المجمع العلمي ٣ / ٣٤١).

(٧) في المخطوطة (هنا).

٤٩٢

لموسى ، في قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (النساء : ١٦٤) فإنه لما (١) أريد [إثبات] (٢) كلام الله نفسه قال (تَكْلِيماً) دل (٣) على وقوع الفعل حقيقة ؛ أما تأكيد فاعله فلم يتعرض له. ولقد سخف (٤) عقل من تأوله على أنه كلّمه بأظفار المحن ؛ من الكلم وهو الجرح ؛ لأنّ الآية مسوقة (٥) في بيان الوحي.

ويحكى أنه استدل بعض علماء السّنة على بعض المعتزلة في إثبات التكليم حقيقة بالآية من جهة أن المجاز لا يؤكّد ، فسلم المعتزليّ [له] (٦) هذه القاعدة وأراد دفع الاستدلال من جهة أخرى ، فادّعى أن اللفظ إنما هو (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى) بنصب (٧) لفظ الجلالة ، وجعل موسى فاعلا ب «كلّم» وأنكر القراءة المشهورة وكابر ، فقال [له] (٨) السنيّ : فما ذا (٩) تصنع بقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) (الأعراف : ١٤٣) فانقطع المعتزليّ عند ذلك.

قال ابن الدهان (١٠) : ومما يدل على أن التأكيد لا يرفع المجاز قول الشاعر :

قرعت ظنابيب الهوى يوم عالج

ويوم اللّوى حتى قسرت الهوى قسرا (١١)

[قلت] (١٢) : وكذا قوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً) (النمل : ٥٠) وأما قوله تعالى : (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) (نوح : ٩) فمفعول (أَسْرَرْتُ) محذوف ، أي الدعاء والإنذار ونحوه. فإن قلت : التأكيد ينافي الحذف ، فالجواب من وجهين : (أحدهما) : أن المصدر لم يؤت به هنا للتأكيد وإن كان بصورته (١٣) ؛ لأن المعنى ليس على ذلك ، وإنما أتى به لأجل الفواصل ، ولهذا لم يؤت بمصدر (أَعْلَنْتُ) ، وهو مثله.

__________________

(١) في المخطوطة (لو).

(٢) ساقطة من المطبوعة.

(٣) في المطبوعة (ودلّ).

(٤) في المخطوطة (استخف).

(٥) تصحفت في المخطوطة إلى (مستوقة).

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) وهي قراءة إبراهيم ، ويحيى بن وثاب ؛ ذكرها الزمخشري في الكشاف ١ / ٣١٤.

(٨) ساقطة من المطبوعة.

(٩) في المخطوطة (فما).

(١٠) هو سعيد بن المبارك بن علي تقدم قريبا في ٢ / ٤٩٢.

(١١) في المخطوطة (قشرا). والبيت لابن الأعرابي ذكره ابن منظور في لسان العرب ١ / ٥٧٢ مادة (ظنب) قال : (قرع لذلك الأمر ظنبوبه : تهيأ له ... ، وذلّله ... ، يقول : ذللت الهوى بقرعي ظنبوبه كما تقرع ظنبوب البعير ليتنوّخ لك فتركبه).

(١٢) ساقطة من المخطوطة.

(١٣) في المخطوطة (هذا بصورته).

٤٩٣

(والثاني) : أن «أسرّ» وإن كان متعدّيا في الأصل ، إلا أنه هنا قطع النظر عن مفعوله ، وجعل نسيا ، كما في قولهم : «فلان يعطي ويمنع» ، فصار لذلك كاللازم ، وحينئذ فلا منافاة بين المجيء به بالمصدر لو كان.

ثم التأكيد بالمصدر تارة يجيء من لفظ الفعل كما سبق ، وتارة يجيء من مرادفه ، كقوله (١) تعالى : (إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) (نوح : ٨) [فإن] (٢) الجهار أحد نوعي الدعاء ، وقوله : (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) (النساء : ٤٦) فإنه منصوب بقوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) (النساء : ٤٦) لأن (لَيًّا) نوع من التحريف. ويحتمل أن يكون منه : (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً) (النساء : ٢٠) لأن البهتان ظلم ، والأخذ على نوعين : ظلم وغيره.

وزعم الزمخشريّ [أن] (٣) قوله : (نافِلَةً لَكَ) (الإسراء : ٧٩) وضع موضع «تهجّدا» ؛ لأن التهجد عبادة (٤) زائدة ، فكأنّ التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد.

وقوله : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (النساء : ١٢٢) قيل : كأن الأصل تكرار الصدق بلفظه فاستثقل التكرار للتقارب ، فعدل إلى ما يجاريه خفة ولتجرى المصادر الثلاثة مجرى واحدا ، خفة ووزنا ، إحرازا للتناسب.

وأما قوله : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) (نوح : ١٧ و ١٨) ففائدة (إِخْراجاً) أن المعاد في الأرض هو الذي يخرجكم (٥) منها بعينه ، دفعا لتوهم من يتوهم أن المخرج منها أمثالهم ؛ وأن (٦) المبعوث الأرواح المجرّدة. (فإن قيل) : هذا يبطل بقوله تعالى : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (نوح : ١٧) فإنّه أكّد بالمصدر ، وليس المراد حقيقة النبات. (قلت) : لا جرم حيث لم يرد الحقيقة هنا لم يؤكده بالمصدر الحقيقي القياسيّ ؛ بل عدل به إلى غيره ؛ وذلك لأن مصدر أنبت «الإنبات» والنبات اسمه لا هو ، كما قيل في «الكلام» و «السلام» اسمان للمصدر الأصليّ الذي هو «التكليم» و «التسليم» ، وأما قوله :

__________________

(١) في المخطوطة (بقوله).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) ساقطة من المطبوعة. وانظر قول الزمخشري في الكشاف ٢ / ٣٧٢.

(٤) في المخطوطة (عبارة).

(٥) في المخطوطة (يخرج).

(٦) في المخطوطة (أو أن).

٤٩٤

(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (المزمل : ٨) وإن لم يكن جاريا على «تبتّل» لكنه ضمن (١) [معنى] (٢) بتّل نفسك [١٣٩ / ب] تبتّلا».

ومثله (٣) قوله [تعالى] (٤) ([سُبْحانَهُ] (٤) وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) (الإسراء : ٤٣) قال أبو البقاء (٥) : «هو (٦) موضع «تعاليا» لأنه مصدر قوله (وَتَعالى) ويجوز أن يقع مصدرا (٧) في موضع آخر من معناه» وكذا قال الراغب (٨) ، قال : وإنما عدل عنه لأن لفظ التفاعل من التكلف ، كما يكون من البشر».

وأما قوله : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً* وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) (الطور : ٩ و ١٠) فقال بعضهم : الجملة الفاعلية تحتمل المجاز في مفرديها جميعا وفي كلّ منهما ؛ مثاله هاهنا أنه يحتمل أن المجاز في (تَمُورُ) وأنها ما تمور ، بل تكاد أو يخيّل إلى الناظر أنها تمور. ويحتمل أن المجاز في السماء ، وأن المور الحقيقيّ لسكّانها وأهلها لشدة الأمر. وكذلك الكلام في (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) (الطور : ١٠) فإذا رفع المجاز عن أحد جزأي الجملة نفي احتماله في الآخر ، فلم تحصل فائدة التأكيد. وأجيب بهذه القاعدة : وهي أن (مَوْراً) في تقدير «تمور» فكأنه قال : «تمور السماء ، تمور السماء» ، و «تسير الجبال ، تسير الجبال» ، فأكد كلاّ من الجزءين بنظيره ، وزال الإشكال.

وأما قوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) (الأنعام : ٨٠) فيحتمل أن يكون (شَيْئاً) من تأكيد الفعل بالمصدر ، كقوله : «بعت بيعا» ، ويجوز أن يكون الشيء بمنزلة الأمر والتبيان (٩) ؛

__________________

(١) في المخطوطة (ضمنه).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (ومنه).

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) هو عبد الله بن الحسين العكبري ، وانظر قوله في كتابه إملاء ما من به الرحمن ٢ / ٥١ (طبعة دار الكتب العلمية ببيروت).

(٦) في المخطوطة (في).

(٧) في المخطوطة (مصدر).

(٨) هو الحسين بن محمد ، أبو القاسم المعروف بالراغب الأصفهاني ، وانظر قوله في مفردات القرآن ص ٣٤٥. مادة (علا). بتصرف.

(٩) في المخطوطة (والشأن).

٤٩٥

والمعنى : «إلاّ أن يشاء ربي أمرا» أو وضع (١) موضع المصدر. وانظر كيف ذكر مفعول المشيئة. وقول البيانيّين : إنه يجب حذفه إذا كان عاما. وأما قوله [تعالى] (٢) : (دَكًّا دَكًّا) (الفجر : ٢١) فالمراد به التتابع ، أي دكّا بعد دكّ ، وكذا قوله : (صَفًّا صَفًّا) (الفجر : ٢٢) أي صفّا يتلوه صفّ ، ولو اقتصر على الواحد لا يحتمل صفّا واحدا.

وأما قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (الزلزلة : ١) فإن إضافة الزلزال إليها يفيد (٣) معنى ذاتها وهو زلزالها المختص بها ، المعروف منها المتوقع! كما تقول : غضب زيد غضبه (٤) [وقاتل زيد قتاله ، أي غضبه] (٤) الذي يعرف منه ، وقتاله المختص به ، كقوله :

أنا أبو النّجم وشعري شعري (٥)

واعلم أن القاعدة في المصدر والمؤكد (٦) أن يجيء اتباعا لفعله ، نحو : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (النساء : ١٦٤) وقد يخرج عنها نحو قوله [تعالى] (٧) : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (المزمل : ٨) وقوله تعالى : (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً) (المائدة : ١١٥) وقوله [تعالى] (٧) (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (الحديد : ١١) وقوله [تعالى] (٧) : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (نوح : ١٧) (٨) [ولم يقل «تبتّلا» و «تعذيبا» و «إقراضا» و «إنباتا».

واختلف في ذلك على أقوال :

(أحدها) : أنه وضع الاسم منها موضع المصدر.

(الثاني) : أنه منصوب بفعل مضمر يجري عليه المصدر ؛ ويكون ذلك الفعل الظاهر دليلا على المضمر ، فالمعنى (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (نوح : ١٧) فنبتّم نباتا] (٨) وهو (٩)

__________________

(١) في المخطوطة (وموضوع).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (تقييد).

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٥) تقدم هذا البيت في ٢ / ٣٥٤.

(٦) في المخطوطة (المذكور).

(٧) ليست في المخطوطة.

(٨) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٩) في المخطوطة (وهو).

٤٩٦

قول المبرّد (١) ، واختاره ابن خروف (٢) ، وزعم أنه مذهب سيبويه ، وكذا قال ابن يعيش (٣) ، ونازعه ابن عصفور.

(والثالث) : أنها منصوبة بتلك الأفعال الظاهرة ، وإن لم تكن جارية عليها.

(والرابع) : التفصيل بين أن يكون معنى الفعل غير معبّر بمعنى مصدر (٤) ذلك الفعل الظاهر فهو منصوب بفعل مضمر ، يدلّ عليه ذلك الفعل الظاهر ، كقوله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (نوح : ١٧) أي ونبتّم ، أي وساغ (٥) إضماره لأنهم إذا أنبتوا فقد نبتوا ، ولا يجوز في غير ذلك أن ينصب بالظاهر ، لأن الغرض من المصدر تأكيد الفعل الذي نصبه ، أو تبيين (٦) معناه. وإذا كان المصدر مغايرا لمعنى الفعل الظاهر لم يحصل بذلك الغرض المقصود ؛ لأن «النبات» ليس بمعنى «الإنبات» ، وإذا لم يكن بمعناه فكيف يؤكده أو يبينه! وأما قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) (البقرة : ٢٨٢) فإنما ذكر قوله : (بِدَيْنٍ) مع (تَدايَنْتُمْ) يدلّ عليه لوجوه :

(أحدها) : ليعود الضمير في [(فَاكْتُبُوهُ) عليه] (٧) إذ لو لم يذكره لقال : «فاكتبوا

__________________

(١) هو أبو العباس محمد بن يزيد المبرّد ، وانظر قوله في المقتضب ٣ / ٢٠٤ ، باب ما جرى مجرى الفعل وليس بفعل ولا مصدر.

(٢) هو علي بن محمد بن علي بن محمد الحضرمي ، أبو الحسن المشهور بابن خروف النحوي ـ وهو غير ابن خروف الشاعر علي بن محمد بن يوسف (ت ٦٠٤ ه‍) الذي يشترك معه باسمه وكنيته ، وبلده وعصره وقد وهم ياقوت في معجم الأدباء فجعلهما واحدا وميّز بينهما ابن خلكان أما صاحبنا فكان عالما بالعربية من أهل إشبيلية ، وينتسب لحضرموت ، ولعل أصله منها ، قال ابن الساعي : كان ينتقل في البلاد ولم يتزوج قط ، له مصنّفات في النحو شهدت بفضله وسعة علمه منها : «شرح كتاب سيبويه» و «شرح الجمل» ت ٦٠٩ ه‍ (معجم الأدباء ١٥ / ٧٥ ، ووفيات الأعيان ٣ / ٣٣٥).

(٣) هو يعيش بن علي بن يعيش بن أبي السرايا محمد بن علي بن المفضل موفق الدين الأندلسي الأصل الموصلي ثم الحلبي المولد والمنشأ : سمع بالموصل وحلب ودمشق ، كان خطيب الموصل الماهر ، وصناعته التصريف. له تصانيف مشهورة منها «شرح المفصل» و «شرح الملوكي» لابن جني. ت ٦٤٣ ه‍ (الفيروزآبادي ، البلغة : ٢٤٣).

(٤) في المخطوطة (مصدره).

(٥) تصحفت في المخطوطة إلى (وضاع).

(٦) تصحفت في المخطوطة إلى (ينبت).

(٧) ليست في المخطوطة.

٤٩٧

الدين» ، ذكره الزمخشريّ (١) ؛ وهو ممنوع لأنه كان يمكن أن يعود على المصدر المفهوم من (تَدايَنْتُمْ) لأنه [١٤٠ / أ] يدلّ على الدّين.

(الثاني) : أن (تَدايَنْتُمْ) مفاعلة (٢) من «الدّين» ومن «الدّين» ، فاحتيج إلى قوله : (بِدَيْنٍ) ليبيّن أنه من «الدّين» لا من «الدّين». وهذا أيضا فيه نظر ؛ لأن السياق يرشد إلى إرادة الدّين.

(الثالث) : أن قوله : (بِدَيْنٍ) إشارة إلى امتناع بيع الدّين بالدّين ، كما فسر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بيع الكالئ بالكالئ (٣) ، ذكره الإمام فخر الدين (٤). وبيانه أن قوله [تعالى] (٥) : (تَدايَنْتُمْ) مفاعلة من الطرفين ، وهو يقتضي وجود الدّين من الجهتين ، فلما قال (بِدَيْنٍ) علم أنّه دين واحد من الجهتين.

(الرابع) : أنه أتي به ليفيد أن الإشهاد مطلوب ، سواء كان الدّين صغيرا أو كبيرا ؛ كما سبق نظيره في قوله تعالى : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) (النساء : ١٧٦) ويدلّ على هذا هاهنا قوله بعد ذلك : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) (البقرة : ٢٨٢).

(الخامس) : أن (تَدايَنْتُمْ) مشترك بين الاقتراض والمبايعة والمجازاة ، وذكر (٦) «الدّين» لتمييز (٧) المراد ، قال الحماسي (٨) :

__________________

(١) في الكشاف ١ / ١٦٧.

(٢) في المخطوطة (تفاعلتم).

(٣) وفيه حديث ابن عمر : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» أخرجه الدار قطني في السنن ٣ / ٧١ في كتاب البيوع ، الحديث (٢٦٩ ـ ٢٧٠) وأخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ٥٧ ، كتاب البيوع ، النهي عن بيع الكالئ بالكالئ وأخرجه البيهقي في السنن ٥ / ٢٩٠ ، كتاب البيوع ، باب ما جاء في النهي عن بيع الدين بالدين. وفسّر ابن الأثير معنى الكالئ بالكالئ فقال : أي النسيئة بالنسيئة ، وذلك أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل لم يجد ما يقضي به ، فيقول : بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه منه ، ولا يجري بينهما تقابض (النهاية ٤ / ١٩٤).

(٤) انظر تفسير الرازي ٧ / ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) في المخطوطة (فذكر).

(٧) في المخطوطة (لضمير).

(٨) البيت للفند الزّمّاني ، قاله في حرب البسوس في قصيدة مطلعها : صفحنا عن بني ذهل (ديوان الحماسة بشرح الخطيب التبريزي ١ / ٦).

٤٩٨

ولم يبق سوى العدوا

ن دنّاهم كما دانوا

ونظير هذه الآية في (١) التصريح بالمصدر (١) مع ظهوره فيما قبله قوله تعالى : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) (آل عمران : ٣٧) وقوله [تعالى] (٢) : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) (التوبة : ١١١) وقوله : (سَأَلَ سائِلٌ) (المعارج : ١) فيقال : ما الحكمة في (١) التصريح بالمصدر (١) فيهما ، أو بضميره مع أنه مستفاد مما قبله.

وقد يجيء التأكيد (٣) به لمعنى الجملة ، كقوله [تعالى] (٤) : (صُنْعَ اللهِ (٥) [الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل : ٨٨) فإنه تأكيد لقوله تعالى : (تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (النمل : ٨٨) لأن ذلك صنع الله] (٥) : وقوله [تعالى] (٥) : (وَعْدَ اللهِ) (الروم : (٦) تأكيد لقوله : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ) (الروم : ٤ ، ٥) لأن هذا وعد الله.

وقوله [تعالى] (٥) : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) (آل عمران : ١٤٥) انتصب (كِتاباً) على المصدر بما دلّ عليه السياق ، تقديره «وكتب الله» ، لأن قوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ) (آل عمران : ١٤٥) يدل على «كتب».

وقوله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) (النساء : ٢٤) تأكيد لقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ...) (النساء : ٢٣) الآية ، لأن هذا مكتوب علينا ، وانتصب المصدر بما دلّ عليه سياق الآية ، فكأنه (٦) فعل ، تقديره «كتب [الله] (٧) عليكم». وقال الكسائيّ : انتصب «بعليكم» على الإغراء ، وقدم المنصوب. والجمهور على منع التقدير. وقوله : (صِبْغَةَ اللهِ) (البقرة : ١٣٨) تأكيد لقوله : (٨) (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) (البقرة : ١٣٧) لأنّ (٩) [هذا دين الله ، وقيل منصوبة على الأمر. وقوله تعالى : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (الزمر : ٣) منصوبة على المصدر بما دلّ عليه الكلام ؛ لأن] (٩) الزلفى مصدر كالرّجعى ، ويقربونا يدل على «يزلفونا» فتقديره «يزلفونا زلفى».

__________________

(١) عبارة المخطوطة (بالتصريح في المصدر).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (التوكيد).

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٦) في المخطوطة (كأنه).

(٧) لفظ الجلالة ليس في المخطوطة.

(٨) في المخطوطة (كقوله).

(٩) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

٤٩٩

وقد يجيء التأكيد به مع حذف عامله ، كقوله : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) (محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ٤) والمعنى : «فإما تمنوا منّا ، وإما أن تفادوا فداء» فهما (١) مصدران منصوبان بفعل مضمر.

وجعل سيبويه (٢) من المصدر المؤكّد لنفسه قوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (السجدة : ٧) (٣) [لأنه إذا أحسن كلّ شيء فقد خلقه خلقا حسنا ، فيكون (خَلَقَهُ) على معنى «خلقه خلقا» ، والضمير هو الله تعالى. ويجوز أن يكون بدل اشتمال ، أي أحسن خلق كلّ شيء] (٣). قال الصّفار (٤) : والذي قاله سيبويه أولى لأمرين : أن في هذا إضافة المصدر إلى المفعول وإضافته إلى الفاعل أكثر ، وأن المعنى الذي صار إليه أبلغ في الامتثال ، وذلك أنه إذا قال : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) فهو أبلغ من قولك : «أحسن خلق كلّ شيء» (٥) [لأنه قد يحسن الخلق وهو المحاولة ، ولا يكون الشيء في نفسه حسنا ، وإذا قال : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ)] (٥) اقتضى أنّ كلّ شيء خلقه حسن ، بمعنى أنه وضع كلّ شيء موضعه ، فهو أبلغ في الامتنان.

فائدتان

(الأولى) : هل الأولى التأكيد بالمصدر أو الفعل؟ قال بعضهم : المصدر أولى ؛ لأنه اسم ، وهو أخفّ من الفعل ؛ وأيضا فلأن الفعل يتحمل الضمير فيكون جملة ، فيزداد ثقلا ؛ ويحتمل أن الفعل أولى لدلالته على الاستمرار.

(الثانية) : حيث أكّد المصدر النوعي ، فالأصل فيه أن ينعت بالوصف المراد منه ، نحو «قمت قياما حسنا» ، (وَسَرِّحُوهُنَ) (٦) [١٤٠ / ب](سَراحاً جَمِيلاً) (الأحزاب : ٤٩) وقوله : (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) (الأحزاب : ٤١). وقد يضاف الوصف إلى المصدر فيعطى حكم المصدر ، قال تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (آل عمران : ١٠٢).

***

__________________

(١) في المخطوطة (هما).

(٢) انظر الكتاب ١ / ٣٨١ ، (بتحقيق عبد السلام محمد هارون) باب ما يكون المصدر فيه توكيدا لنفسه نصبا.

(٣) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٤) هو القاسم بن علي البطليوسيّ الصفار ، تقدمت ترجمته في ٢ / ٤٥١.

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٦) تصحفت في المخطوطة إلى (فسرحوهن).

٥٠٠