البرهان في علوم القرآن - ج ٢

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

أربع سنين (١)». وما ألطف ما عاتب [الله به] (٢) خير خلقه بقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (التوبة : ٤٣) ولم يتأدب الزمخشري بأدب الله تعالى في هذه الآية (٣).

(الخامس) : التبكيت ، كقوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) (المائدة : ١١٦) هو تبكيت للنصارى فيما ادّعوه ؛ كذا جعل السكاكيّ (٤) وغيره هذه الآية من نوع التقرير. وفيه نظر لأن ذلك لم يقع منه.

(السادس) : التسوية ، وهي الداخلة على جملة يصح حلول المصدر محلها ، كقوله تعالى : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) (يس : ١٠) أي سواء عليهم الإنذار وعدمه ، مجرّدة (٥) للتسوية ، مضمحلا عنها معنى الاستفهام. ومعنى الاستواء فيه استواؤهما في علم المستفهم ، لأنه قد علم أنه أحد الأمرين كائن ، إما الإنذار وإما عدمه ؛ ولكن لا يعيّنه ، وكلاهما معلوم بعلم غير معيّن.

فإن قيل : الاستواء يعلم من لفظة «سواء» (٦) [لا من الهمزة ، مع أنه لو علم منه لزم التكرار. قيل : هذا الاستواء غير ذلك الاستواء المستفاد من لفظة «سواء»] (٦).

وحاصله أنه كان الاستفهام عن مستويين فجرّد عن الاستفهام ، وبقي الحديث عن المستويين. ولا يكون ضرر في إدخال «سواء» عليه لتغايرهما ، لأن المعنى أن المستويين في العلم يستويان في عدم الإيمان. وهذا ـ أعني حذف مقدّر واستعماله فيما بقي ـ كثير في كلام العرب ، كما في النداء ، فإنه لتخصيص المنادى وطلب إقباله ، فيحذف قيد الطلب ، ويستعمل في مطلق (٧) الاختصاص ، نحو «اللهم اغفر لنا أيتها العصابة» (٨) فإنه ينسلخ عن

__________________

(١) الحديث أخرجه مسلم في الصحيح ٤ / ٢٣١٩ ، كتاب التفسير (٥٤) ، باب في قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ...) ، الحديث (٢٤ / ٣٠٢٧).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) انظر قول الزمخشري في الكشاف ٢ / ١٥٣ وتعليق ابن حجر رحمه‌الله وابن المنير عليه.

(٤) انظر مفتاح العلوم ص ٢٩٠ : فصل في بيان القصر ، وص ٣١٥ : الاستفهام.

(٥) في المخطوطة (فجردت).

(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (بمطلق).

(٨) انظر الكتاب لسيبويه ٣ / ١٧٠ ، باب أم وأو (بتحقيق عبد السلام محمد هارون) قال السيرافي : لأنك لست تناديه وإنما تختصه فتجريه على حرف النداء ، لأن النداء فيه اختصاص فيشبه به للاختصاص لأنه منادى.

٤٤١

معنى الكلمة ؛ لأن معناه مخصوص من بين سائر العصائب.

ومنه قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) (إبراهيم : ٢١). وقوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (المنافقون : ٦). (أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) (الشعراء : ١٣٦). وتارة تكون التسوية مصرّحا بها كما ذكرناه (١) ، وتارة لا تكون ، كقوله تعالى : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ) (الأنبياء : ١٠٩).

(السابع) : التعظيم ، كقوله [تعالى] (٢) : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) (البقرة : ٢٥٥).

(الثامن) : التهويل ، نحو : (الْحَاقَّةُ* مَا الْحَاقَّةُ) (الحاقّة : ١ ـ ٢).

وقوله [تعالى] (٣) : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) (٤) (القارعة : ١٠).

[١٣٠ / أ] وقوله : (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) (يونس : ٥٠) تفخيم للعذاب الذي يستعجلونه.

(التاسع) : التسهيل والتخفيف ، كقوله [تعالى] (٤) (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ) (النساء : ٣٩).

(العاشر) : التفجّع ، نحو : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها) (الكهف : ٤٩).

(الحادي عشر) : التكثير ، نحو : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) (الأعراف : ٤).

(الثاني عشر) : الاسترشاد ، نحو : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) (البقرة : ٣٠) والظاهر أنهم استفهموا مسترشدين ، وإنما فرّق بين العبارتين أدبا. وقيل : هي هنا للتعجب.

***

القسم الثاني (٥) : الاستفهام المراد به الإنشاء ، وهو على ضروب :

__________________

(١) في المخطوطة (ذكرنا).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) الآية في المخطوطة (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ).

(٥) تقدم القسم الأول من أقسام الاستفهام ، وهو الذي بمعنى الخبر ص ٤٣٤.

٤٤٢

(الأول) : مجرد الطلب ، وهو الأمر ، كقوله تعالى : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (يونس : ٣) أي اذكروا. وقوله : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ) (١) أَأَسْلَمْتُمْ (آل عمران : ٢٠) أي أسلموا. وقوله : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) (النور : ٢٢) أي أحبوا. وقوله : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (النساء : ٧٥) أي قاتلوا (٢). وقوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (النساء : ٨٢). وقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة : ٩١) انتهوا ، ولهذا قال عمر رضي‌الله‌عنه : «انتهينا» (٣).

وجعل بعضهم منه [قوله تعالى] (٤) : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة : ١٠٦). وقوله تعالى : (أَتَصْبِرُونَ) (الفرقان : ٢٠) وقال ابن عطية والزمخشريّ (٥) : المعنى أتصبرون أم لا تصبرون؟ والجرجاني (٦) في «النّظم» على حذف مضاف ، أي لنعلم أتصبرون.

(الثاني) : النهي ، كقوله تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (الانفطار : ٦) أي لا يغرك. وقوله في سورة التوبة : (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) (التوبة : ١٣) بدليل قوله : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) (المائدة : ٤٤).

(الثالث) : التحذير ، كقوله : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) (المرسلات : ١٦) أي قدرنا عليهم فنقدر عليكم.

(الرابع) : التذكير ، كقوله [تعالى] (٧) : (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) (يوسف : ٨٩). وجعل بعضهم منه : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) (الضحى : ٦) (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الانشراح : ١).

__________________

(١) في المخطوطة والمطبوعة (والنبيين) وصواب الآية كما في القرآن الكريم ما أثبتناه.

(٢) تصحفت في المخطوطة إلى (قالوا).

(٣) الأثر أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) انظر الكشاف ٣ / ٩٣.

(٦) هو عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني ، تقدم التعريف به في ٢ / ٤٢٠ ، وبكتابه «نظم القرآن» في ٢ / ٢٢٥.

(٧) ليست في المخطوطة.

٤٤٣

(الخامس) : التنبيه ، وهو من أقسام الأمر ، كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) (البقرة : ٢٥٨). (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) (الفرقان : ٤٥).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) (البقرة : ٢٤٣) ، (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) (الفيل : ١). والمعنى في كل ذلك : انظر بفكرك في هذه الأمور وتنبه. وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) (الحج : ٦٣) حكاه صاحب (١) «الكافي» عن الخليل ، ولذلك (٢) رفع الفعل ولم ينصبه.

وجعل منه بعضهم (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (التكوير : ٢٦) للتنبيه على الضلال. وقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) (البقرة : ١٣٠).

(السادس) : الترغيب ، كقوله [تعالى] (٣) : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (الحديث : ١١) (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ (٤) [مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٤)) (الصف : ١٠).

(السابع) : التمني ، كقوله : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) (الأعراف : ٥٣). (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) (البقرة : ٢٥٩) قال العزيزيّ (٥) في «تفسيره» : أي كيف ، وما أعجب معاينة الإحياء!

(الثامن) : الدعاء ، وهو كالنهي ، إلا أنه من الأدنى إلى الأعلى ، كقوله تعالى : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ) (الأعراف : ١٥٥). وقوله : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) (البقرة : ٣٠) وهم لم يستفهموا ، لأن الله قال : (إِنِّي جاعِلٌ (٦) [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] (٦)) (البقرة : ٣٠) ، وقيل : المعنى إنك ستجعل ؛ وشبّهه أبو عبيدة (٧) بقول الرجل لغلامه وهو يضربه : ألست الفاعل كذا!

__________________

(١) لعله أبو جعفر النحاس وكتابه «الكافي في النحو» ذكره ياقوت في معجم الأدباء ٤ / ٢٢٨.

(٢) في المخطوطة (وكذلك).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) تمام الآية ليست في المطبوعة.

(٥) هو محمد بن عزيز أبو بكر العزيزي السجستاني تقدم التعريف به وبكتابه في ١ / ٣٩٣ ، وانظر قوله في نزهة القلوب ص ٦.

(٦) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٧) انظر مجاز القرآن ١ / ٣٦.

٤٤٤

وقيل : بل هو تعجب ، وضعّف. وقال النحاس (١) : الأولى ما قاله ابن مسعود وابن عباس رضي‌الله‌عنهما ، ولا مخالف لهما : أن الله تعالى لما قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة : ٣٠) قالوا : وما ذاك الخليفة! يكون له ذرية يفسدون ، ويقتل بعضهم بعضا! وقيل : المعنى : أتجعلهم فيها أم تجعلنا ، وقيل : المعنى : تجعلهم وحالنا هذه أم يتغير.

(التاسع والعاشر) : العرض والتحضيض ، والفرق بينهما : الأول طلب برفق والثاني بشق ؛ فالأول كقوله تعالى : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) (النور : ٢٢). [والثاني] (٢) (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) (التوبة : ١٣) [١٣٠ / ب] ومن الثاني : (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ) (الشعراء : ١٠ و ١١) المعنى ائتهم وأمرهم بالاتقاء (٣).

(الحادي عشر) : الاستبطاء ، كقوله : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (يس : ٤٨) بدليل : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) (الحج : ٤٧). ومنه ما قال صاحب «الإيضاح» (٤) البيانيّ : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) (البقرة : ٢١٤). وقال الجرجاني : في الآية تقديم وتأخير ؛ أي «حتى يقول الرسول : ألا إنّ نصر الله قريب (٥) [والذين آمنوا : متى نصر الله؟] (٥)» وهو حسن.

(الثاني عشر) : الإياس (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (التكوير : ٢٦).

(الثالث عشر) : الإيناس نحو : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) (طه : ١٧). وقال

__________________

(١) هو أحمد بن محمد بن إسماعيل ، أبو جعفر النحاس ، تقدم في ١ / ٣٥٦.

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) تصحفت في المخطوطة إلى (الاتفاق).

(٤) هو محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد ، أبو المعالي ، جلال الدين القزويني الشافعي العلامة ، قال ابن حجر : ولد سنة ٦٦٦ ه‍ ، واشتغل وتفقه ، حتى ولي قضاء ناحية بالروم وله دون العشرين ، ثم قدم دمشق واشتغل بالفنون ، وأتقن الأصول والعربية والمعاني والبيان. من تصانيفه «تلخيص المفتاح في المعاني والبيان» وهو أجلّ المختصرات فيه ، و «إيضاح التلخيص» ت ٧٣٩ ه‍ (بغية الوعاة ١ / ١٥٦) وكتابه «الإيضاح لمختصر تلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع» طبع في القاهرة بمطبعة محمد علي صبيح عام ١٣٧٣ ه‍ / ١٩٥٤ م. وانظر قوله في الكتاب ص ٨١.

(٥) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

٤٤٥

ابن فارس (١) : «الإفهام ؛ فإن الله [تعالى] (٢) قد علم أن لها أمرا قد خفي على موسى عليه‌السلام فأعلم من حالها ما لم يعلم». وقيل : هو للتقرير ، فيعرف ما في يده حتى لا ينفر إذا انقلبت حية.

(الرابع عشر) : التهكّم والاستهزاء (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) (هود : ٨٧) (أَلا تَأْكُلُونَ* ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) (الصافات : ٩٢).

(الخامس عشر) : التحقير (٣) كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (الفرقان : ٤١) ومنه ما حكى صاحب «الكتاب» (٤) : من أنت زيدا؟ على معنى من أنت تذكر زيدا! (السادس عشر) : التعجب ، نحو : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) (النمل : ٢٠).

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) (البقرة : ٢٨). ومنهم من جعله للتنبيه.

(السابع عشر) : الاستبعاد ، كقوله : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) (الدخان : ١٣) أي يستبعد ذلك منهم بعد أن جاءهم الرسول ثم تولوا [عنه] (٥).

(الثامن عشر) : التوبيخ ، كقوله [تعالى] (٦) : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) (آل عمران : ٨٣). (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (٧) (الصف : ٢).

(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ [أَوْلِياءَ]) (٦) (الكهف : ٥٠) ولا تدخل همزة (٨) التوبيخ إلا على فعل قبيح أو ما يترتب عليه [فعل] (٦) قبيح.

***

الفائدة الرابعة (٩) : قد يجتمع الاستفهام الواحد للانكار والتقرير ، كقوله : (فَأَيُ

__________________

(١) هو أحمد بن فارس بن زكريا ، وانظر قوله في الصاحبي في فقه اللغة ص ١٥٣.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (التحقيق).

(٤) يعني سيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر.

(٥) ساقطة من المطبوعة.

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) تصحفت في المخطوطة إلى (أتقولون على الله ما لا تعلمون) وهذا اللفظ غير موجود في القرآن.

(٨) في المخطوطة (الهمزة).

(٩) تقدم ذكر الفوائد الثلاث من فوائد الاستفهام ص : ٤٣٣ ـ ٤٣٤.

٤٤٦

الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) (الأنعام : ٨١) أي ليس الكفار آمنين ، والذين آمنوا أحقّ بالأمن ؛ ولما كان أكثر مواقع التقرير دون الإنكار ، قال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ [بِظُلْمٍ ...) (الأنعام : ٨٢) الآية] (١).

وقد يحتملهما ، كقوله : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) (الحجرات : ١٢).

ويحتمل أنه استفهام تقرير ، وأنه طلب منهم أن يقروا بما عندهم تقرير ذلك ؛ ولهذا قال مجاهد : التقدير «لا» فإنهم لما استفهموا استفهام تقرير بما لا جواب له إلا أن يقولوا «لا» جعلوا كأنهم قالوا ؛ وهو قول الفارسي والزمخشري (٢). ويحتمل أن يكون استفهام إنكار بمعنى التوبيخ على محبتهم لأكل لحم أخيهم فيكون «ميتة» ، والمراد محبتهم له غيبته على سبيل المجاز ، و (فَكَرِهْتُمُوهُ) بمعنى الأمر ، أي اكرهوه. ويحتمل أن يكون استفهام إنكار بمعنى التكذيب ، أنهم لما كانت حالهم حال من يدّعي محبة أكل لحم أخيه نسب ذلك إليهم ، وكذبوا فيه ، فيكون (فَكَرِهْتُمُوهُ) (٣) [خبرا] (٤).

***

(الخامسة) (٥) : إذا خرج الاستفهام عن حقيقته ؛ فإن أريد التقرير ونحوه لم يحتج إلى معادل ، كما في قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة : ١٠٦) فإن معناه التقرير. وقال ابن عطية : «ظاهره الاستفهام المحض ، والمعادل (٦) [على قول جماعة : (أَمْ تُرِيدُونَ) (البقرة : ١٠٨). وقيل (أَمْ) منقطعة فالمعادل] (٦) عندهم محذوف ، أي «[أم] (٦) علمتم» ، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطبة أمته ، وأما إن كان هو المخاطب وحده فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مرويّ» (٧). انتهى.

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) انظر الكشاف ٤ / ١٥.

(٣) في المخطوطة (كرهتموه).

(٤) ساقطة من المطبوعة.

(٥) أي الفائدة الخامسة من فوائد الاستفهام المبتدأ بها ص ٤٣٣.

(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٧) انظر المحرر الوجيز ١ / ٣٨٥.

٤٤٧

وما قاله غير ظاهر ، والاستفهام هنا للتقرير فيستغنى عن المعادل ، أما إذا كان على حقيقته ، فلا بدّ من تقدير المعادل ، كقوله [تعالى] (١) : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (الزمر : ٢٤) أي ، كمن ينعم في الجنّة؟.

وقوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) (فاطر : ٨). أي كمن هداه الله ، بدليل قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (فاطر : ٨) التقدير : ذهبت نفسك عليهم حسرات ، (٢) [بدليل (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ)] (٢) (فاطر : ٨).

وقد جاء في التنزيل موضع صرّح فيه بهذا الخبر ، وحذف المبتدأ ، على العكس ممّا نحن فيه ، وهو قوله تعالى : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) (٢) [فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ] (٢) (محمد : ١٥) أي أكمن (٣) هو خالد في الجنّة [١٣١ / أ] يسقى من هذه الأنهار ، كمن هو خالد في النار؟ على أحد الأوجه. وجاء مصرحا بهما على الأصل في قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) (الأنعام : ١٢٢). (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) (محمد : ١٤). [فرآه حسنا] (٤).

***

السادسة : استفهام الإنكار لا يكون إلا على ماض ، وخالف في ذلك صاحب «الأقصى القريب» (٥) وقال : «قد يكون عن مستقبل ، كقوله [تعالى] (٦) : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) (المائدة : ٥٠) وقوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) (الزمر : ٣٧)

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (كمن).

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) كتاب «الأقصى القريب في علم البيان» لمحمد بن محمد أبي عبد الله التنوخي طبع في مصر عام ١٣٢٧ ه‍ / ١٩٠٩ م (ذخائر التراث العربي ١ / ٤١٧) ومؤلفه هو محمد بن محمد بن منجى زين الدين التنوخي ، أديب دمشقي استقر ببغداد. ت ٧٤٨ ه‍ (البغدادي ، هدية العارفين ٢ / ١٥٤).

(٦) ليست في المخطوطة.

٤٤٨

قال : أنكر أنّ حكم الجاهلية مما يبغى لحقارته ، وأنكر عليهم سلب العزة عن الله تعالى ، وهو منكر في الماضي والحال والاستقبال».

وهذا الذي قاله مخالف لإجماع البيانيين ، ولا دليل فيما ذكره ، بل الاستفهام في الآيتين عن ماض ودخله الاستقبال ، تغليبا لعدم اختصاص المنكر بزمان. ولا يشهد له قوله تعالى : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (البقرة : ٦١) لأن الاستبدال ـ وهو طلب البدل ـ وقع ماضيا ، ولا : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) (غافر : ٢٨) وإن كانت «أن» تخلّص المضارع للاستقبال ، لأنه كلام ملموح به جانب المعنى. وقد ذكر ابن جني في «التنبيه» (١) أن الإعراب قد يرد على خلاف ما عليه المعنى.

***

السابعة : هذه الأنواع من خروج الاستفهام عن حقيقته في النفي ؛ هل تقول : إن معنى الاستفهام فيه موجود ، وانضمّ إليه معنى آخر؟ أو تجرد عن الاستفهام بالكلية؟ لا ينبغي أن يطلق أحد الأمرين ، بل منه ما تجرد كما في التسوية ، ومنه ما يبقى ، ومنه ما يحتمل ويحتمل ؛ ويعرف ذلك بالتأمل. وكذلك الأنواع المذكورة في الإثبات ؛ وهل المراد بالتقرير الحكم بثبوته ، فيكون خبرا محضا؟ أو أن المراد طلب إقرار المخاطب به مع كون السائل يعلم فهو استفهام تقرير المخاطب ، أي يطلب أن يكون مقررا به؟ وفي كلام النحاة والبيانيين ، كلّ من القولين ، وقد سبق الإشارة إليه.

***

الثامنة : الحروف الموضوعة للاستفهام ثلاثة : الهمزة ، وهل ، وأم ، وأما غيرها مما يستفهم به كمن ، [وما] (٢) ومتى ، [وأما] (٣) ، وأين ، وأنّى ، وكيف ، وكم ، وأيّان ، فأسماء استفهام ، استفهم بها نيابة عن الهمزة. وهي تنقسم إلى ما يختص بطلب التصديق ، باعتبار الواقع ، كهل وأم المنقطعة ، وما يختص بطلب التصوّر كأم المتصلة ، وما لا يختص كالهمزة. ولكون الهمزة أم الباب اختصت بأحكام لفظية ، ومعنوية.

__________________

(١) كتاب «التنبيه على شرح مشكل أبيات الحماسة» لابن جني حققه عبد المحسن خلوصي كرسالة ماجستير بجامعة بغداد (ذخائر التراث العربي ١ / ٧٤) ، وانظر كشف الظنون ١ / ٤٩٣ وبروكلمان (بالعربية) ١ / ٧٩.

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) ساقطة من المطبوعة.

٤٤٩

١ ـ فمنها كون الهمزة لا يستفهم بها حتى يهجس (١) في النفس إثبات ما يستفهم عنه ، بخلاف «هل». فإنه لا ترجح عنده بنفي ولا إثبات. حكاه الشيخ أبو حيان (٢) عن بعضهم.

٢ ـ ومنها اختصاصها باستفهام التقرير ، وقد سبق عن سيبويه وغيره أن التقرير لا يكون بهل (٣) ، والخلاف فيه. وقال الشيخ أبو حيان : إن طلب بالاستفهام تقرير ، أو توبيخ ، أو إنكار ، أو تعجب ، كان بالهمزة دون «هل» ، وإن أريد الجحد كان بهل ، ولا يكون بالهمزة.

٣ ـ ومنها أنها تستعمل لإنكار إثبات ما يقع بعدها ، كقولك : أتضرب زيدا وهو أخوك؟ قال تعالى : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف : ٢٨) ولا تقع «هل» هذا الموقع. وأما قوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ) (الرحمن : ٦٠) فليس منه ، لأن هذا نفي له من أصله ؛ والممنوع من (٤) إنكار إثبات ما وقع بعدها. قاله ابن الحاجب (٥).

٤ ـ ومنها أنها يقع الاسم منصوبا بعدها بتقدير ناصب ، أو مرفوعا بتقدير رافع يفسّره ما بعده ، كقولك : أزيدا ضربت؟ وأزيد قام؟ ولا تقول : «هل زيدا (٦) ضربت؟» ولا «هل زيد قام؟» إلا على ضعف. وإن شئت فقل : ليس في أدوات الاستفهام ما إذا اجتمع بعده الاسم والفعل يليه الاسم في فصيح الكلام إلا الهمزة ، فتقول : أزيد قام؟ ولا تقول : هل زيد قام؟ إلا في ضرورة [١٣١ / ب] بل الفصيح : هل قام زيد؟.

٥ ـ ومنها أنها تقع مع «أم» المتصلة ولا تقع مع «هل» وأما المنقطعة فتقع فيهما جميعا. فإذا قلت : أزيد عندك أم عمرو؟ فهذا الموضع لا تقع (٧) فيه «هل» ما لم تقصد إلى المنقطعة. ذكره ابن الحاجب.

__________________

(١) في المخطوطة (يهجر).

(٢) هو محمد بن يوسف أثير الدين الغرناطي صاحب تفسير «البحر المحيط» تقدم ذكره في ١ / ١٣٠.

(٣) راجع ص ٤٣٧ من هذا النوع.

(٤) في المخطوطة (منه).

(٥) هو عثمان بن عمر بن الحاجب ، تقدمت ترجمته في ١ / ٤٦٦.

(٦) في المخطوطة (زيد).

(٧) في المخطوطة (يقع).

٤٥٠

٦ ـ ومنها أنها تدخل على الشرط ، تقول : أإن (١) أكرمتني أكرمتك. وأ إن (١) تخرج أخرج معك؟ أإن (١) تضرب أضرب؟ ولا تقول : هل إن تخرج أخرج [معك] (٢)؟

٧ ـ ومنها جواز حذفها ، كقوله تعالى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) (الشعراء : ٢٢) وقوله تعالى : (هذا رَبِّي) (الأنعام : ٧٦) في أحد الأقوال ، وقراءة ابن محيصن : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) (٣) (البقرة : ٦).

٨ ـ ومنها زعم ابن الطراوة (٤) أنها لا تكون أبدا إلاّ معادلة أو في حكمها ؛ بخلاف غيرها ، فتقول : أقام زيد أم [قعد] (٥)؟ ويجوز ألا يذكر المعادل ؛ لأنه معلوم من ذكر الضدّ. وردّ عليه الصّفار (٦) وقال : لا فرق بينها و [بين] (٦) غيرها ؛ فإنك إذا قلت : هل قام زيد؟ فالمعنى هل قام أم لم يقم؟ لأن السائل إنما يطلب اليقين ، وذلك مطّرد في جميع أدوات الاستفهام. قال : وأما قوله : إنه عزيز في كلامهم لا يأتون لها بمعادل فخطأ ؛ بل هو أكثر من أن يحصر ، قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) (المؤمنون : ١١٥) (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) (النجم : ٣٣) (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى) (النجم : ١٩) (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) (مريم : ٧٧) وهو كثير جدا.

٩ ـ ومنها تقديمها على الواو وغيرها من حروف العطف ، فتقول : «أفلم أكرمك؟» «أو لم أحسن إليك؟» قال الله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) (البقرة : ٧٥) وقال [تعالى] (٧) (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً) (البقرة : ١٠٠) وقال تعالى : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ [آمَنْتُمْ بِهِ]) (٨) (يونس : ٥١) فتقدم الهمزة على حروف العطف : الواو ، والفاء ، وثمّ.

__________________

(١) تصحفت في المخطوطة إلى (إن).

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) تصحفت في المطبوعة إلى (ء أنذرتهم) ، وانظر المختصر في شواذ القراءات لابن خالويه ص ٢ وإتحاف فضلاء البشر ص ١٢٨.

(٥) هو سليمان بن محمد بن عبد الله المالقي ، تقدمت ترجمته في ٢ / ٤٣٢.

(٦) ساقط من المخطوطة.

(٧) هو القاسم بن علي بن محمد بن سليمان الأنصاري البطليوسيّ الشهير بالصفّار صحب الشلوبين وابن عصفور وشرح «كتاب سيبويه» شرحا حسنا ، يقال إنه من أحسن شروحه. مات بعد ٦٣٠ ه‍ (بغية الوعاة ٢ / ٢٥٦).

(٨) ليست في المخطوطة.

٤٥١

وكان القياس (١) تأخيرها عن العاطف ، فيقال : «فألم أكرمك؟» ، «وأ لم (٢) أحسن إليك؟» كما تقدّم على سائر أدوات الاستفهام ، نحو قوله تعالى : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) (آل عمران : ١٠١) وقوله تعالى : (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) (الرعد : ١٦) وقوله [تعالى] (٣) : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (التكوير : ٢٦) فلا يجوز أن يؤخر العاطف عن شيء من هذه الأدوات ، لأن أدوات الاستفهام جزء من جملة الاستفهام ، والعاطف لا يقدم (٤) عليه جزء من المعطوف ، وإنما خولف هذا في الهمزة ، لأنها أصل أدوات الاستفهام ، فأرادوا تقديمها تنبيها على أنها الأصل في الاستفهام ، لأن الاستفهام له صدر الكلام.

والزمخشريّ اضطرب كلامه ، فتارة يجعل الهمزة في مثل هذا داخلة على محذوف عطف عليه الجملة التي بعدها ، فيقدر بينهما فعلا محذوفا تعطف الفاء عليه ما بعدها ، وتارة يجعلها متقدمة على العاطف كما ذكرناه ، وهو الأولى. وقد ردّ عليه في الأول بأن ثمّ مواضع (٥) لا يمكن فيها تقدير فعل قبلها ، كقوله تعالى : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) (الزخرف : ١٨) (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الْحَقُ]) (٦) (الرعد : ١٩) (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ) (الرعد : ٣٣).

وقال ابن خطيب زملكا (٧) : «الأوجه (٨) أن يقدّر محذوف بعد الهمزة قبل [الفاء

__________________

(١) تصحفت في المخطوطة إلى (القاس).

(٢) في المخطوطة (أو لم).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (يتقدم).

(٥) في المخطوطة (واقع).

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (زملكى) ، وهو عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف الشيخ كمال الدين أبو المكارم ابن خطيب زملكا قال أبو شامة رحمه‌الله : «كان عالما خيّرا متميّزا في علوم عدّة ولي القضاء بصرخد ودرّس ببعلبك» وهو جدّ الشيخ كمال الدين محمد بن علي بن عبد الواحد الزملكاني ، وكانت له معرفة تامة بالمعاني والبيان وله فيه مصنف ، وله شعر حسن ت ٦٥١ ه‍ بدمشق (السبكي ، طبقات الشافعية ٥ / ١٣٣).

(٨) في المخطوطة (لا وجه).

٤٥٢

تكون] (١) الفاء عاطفة عليه ؛ ففي مثل قوله تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ) (آل عمران : ١٤٤) لو صرّح به لقيل : «أتؤمنون به مدة حياته فإن مات ارتددتم فتخالفوا سنن اتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملك أنبيائهم بعد موتهم»؟ وهذا مذهب الزمخشري».

(فائدة) زعم ابن سيده (٢) في كلامه على إثبات الجمل أن كل فعل يستفهم عنه ولا يكون إلا مستقبلا.

وردّ عليه الأعلم (٣) وقال : هذا باطل ، ولم يمنع أحد : «هل قام زيد أمس؟» و «هل أنت قائم أمس؟» وقد قال تعالى : (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) (الأعراف : ٤٤) فهذا كله ماض غير آت.

الثالث (٤) : الشرط

ويتعلق به قواعد :

القاعدة الأولى : المجازاة إنما تنعقد بين جملتين : (أولاهما) فعلية ، لتلائم الشرط ، مثل قوله تعالى (٥) : [(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) (طه : ١١٢) (فَمَنْ]) (٦) يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ (الأنعام : ١٢٥) ([إِنْ]) (٦) كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ (الأعراف : ١٠٦) (اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) (الأعراف : ١٤٣) [١٣٢ / أ](نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) (الرعد : ٤٠) (يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) (البقرة : ٣٨). (وثانيهما) قد تكون اسمية ، وقد تكون فعلية جازمة ، وغير جازمة ، أو ظرفية أو شرطية ، كما يقال : (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) (مريم : ٦٠) (شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (الزمر : ٢٢) (فَأْتِ بِآيَةٍ) (الشعراء : ١٥٤) (فَسَوْفَ تَرانِي) (الأعراف : ١٤٣) (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) (يونس : ٧٠) (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) (البقرة : ٣٨).

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) هو علي بن أحمد بن إسماعيل أبو الحسن الضرير ، تقدمت ترجمته في ١ / ١٥٩.

(٣) هو يوسف بن سليمان بن عيسى ، أبو الحجاج المعروف بالأعلم الشنتمري النحوي ، لقب بالأعلم لأنه كان مشقوق الشفة العليا. كان عالما بالعربية واللغة ومعاني الأشعار ، حافظا لها ، مشهورا بإتقانها. رحل إلى قرطبة وأقام بها مدّة ، وأخذ عن ابن الإفليليّ وطبقته ، وأخذ الناس عنه كثيرا من تصانيفه «شرح الجمل في النحو» ت ٤٧٦ ه‍ (إنباه الرواة ٤ / ٦٥).

(٤) تقدم القسم الأول من أقسام الكلام ، وهو الخبر ص ٤٢٥ ، والقسم الثاني ص ٤٣٣.

(٥) تصحفت في المخطوطة إلى (قول القائل).

(٦) ليست في المطبوعة.

٤٥٣

فإذا جمع بينهما وبين الشرط اتحدتا جملة واحدة ، نحو قوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) (النساء : ١٢٤) وقوله سبحانه : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (الأنعام : ١٢٥) وقوله : (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها) (الأعراف : ١٠٦) وقوله : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) (الأعراف : ١٤٣) وقوله : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) (يونس : ٤٦) وقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) (طه : ١٢٣) فالأولى من جملة (١) المجازاة تسمى (٢) شرطا ، والثانية تسمى جزاء.

ويسمّي المناطقة الأوّل مقدما والثاني تاليا. فإذا انحلّ الرباط الواصل بين طرفي المجازاة عاد الكلام جملتين كما كان. (فإن قيل) : فمن أيّ أنواع الكلام تكون هذه الجملة المنتظمة من الجملتين؟ (قلنا) : قال صاحب (٣) «المستوفى» : العبرة (٤) في هذا بالتالي ؛ إن كان التالي قبل الانتظام جازما كانت هذه الشرطية جازمة ـ أعني خبرا محضا ـ ولذلك (٥) جاز أن توصل (٦) بها الموصلات ؛ كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) (الحج : ٤١).

وإن لم يكن جازما لم تكن جازمة ، بل إن كان التالي أمرا ؛ فهي في عداد الأمر ، كقوله تعالى : (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (الأعراف : ١٠٦) وإن كانت رجاء فهي في عداد الرجاء ، كقوله [تعالى] (٧) : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) (الأعراف : ١٤٣) أي فهذا التسويف بالنسبة إلى المخاطب. فإن جعلت «سوف» بمعنى «أمكن» كان الكلام خبرا صرفا.

فأما الفاء التي تلحق التالي معقّبة فللاحتياج إليها حيث لا يمكن أن يرتبط التالي بذاته

__________________

(١) في المخطوطة (جري).

(٢) في المخطوطة (يسمى).

(٣) هو علي بن مسعود بن محمود أبو سعد القاضي تقدم التعريف به وبكتابه «المستوفى في النحو» في ١ / ٥١٣.

(٤) في المخطوطة (في العبرة).

(٥) في المخطوطة (وكذلك).

(٦) في المخطوطة (يوصل).

(٧) ليست في المخطوطة.

٤٥٤

ارتباطا ؛ وذلك إن كان افتتح بغير الفعل ، كقوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (البقرة : ١١٥) وقوله سبحانه : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (الأنعام : ١٦٠) لأن الاسم لا يدلّ على الزمان فيجازى به.

وكذلك الحرف إن كان مفتتحا (١) بالأمر ، كقوله [تعالى] (٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات : ٦) لأن الأمر لا يناسب معناه الشرط ، [فإن كان] (٢) مفتتحا بفعل ماض أو مستقبل ارتبط بذاته ، نحو قولك : «إن جئتني أكرمتك» ، ونحو قوله تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) (محمد : ٧) وكذا قوله : (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) (الأنعام : ٧٠) لأن هذه كالجزء (٣) من الفعل ، وتخطّاها العامل ؛ وليست (٤) ك «إن» في قوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (الكهف : ٥٧).

(فإن قيل) : فما الوجه في قوله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (التحريم : ٤) (٥) [وقوله : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) (المائدة : ٩٥). (قلنا) : الأظهر أن يكون كلّ واحد منهما محمولا على الاسم ، كما أن التقدير «فأنتما قد صغت قلوبكما» و «فهو ينتقم الله منه» ، يدلّك على هذا أن «صغت» لو جعل نفسه الجزاء للزم أن يكتسب من الشرط معنى الاستقبال ، وهذا غير مسوّغ هنا. ولو جاز لجاز أن تقول : «أنتما إن تتوبا إلى الله صغت ـ أو ـ فصغت قلوبكما» لكن المعنى : «إن تتوبا فبعد صغو من قلوبكما» ليتصور فيه معنى الاستقبال ، مع بقاء دلالة الفعل على الممكن] (٥) وأنّ «ينتقم» لو جعل وحده جزاء لم يدلّ على تكرار الفعل كما هو الآن ، والله أعلم بما أراد.

__________________

(١) في المخطوطة (منفتحا).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) تصحفت في المخطوطة إلى (الحر).

(٤) في المخطوطة (وليس).

(٥) اضطرب النص في المخطوطة كما يلي : (وقوله (فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) يدلّك على هذا أنّ «صغت» لو جعل نفسه الجزاء للزوم أن يكون يكسى من الشرط معنى الاستقبال ، وهذا غير مسوّغ لهما ولو جاز لجاز أن يقول : «أنتما إن تتوبا إلى الله صغت أو فصغت قلوبكما وقوله (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) قلنا الأظهر أن يكون كل واحد منهما محمولا على الاسم ليتصور معنى الاستقبال مع بقاء دلالة الفعل على الممكن).

٤٥٥

الثانية : أصل الشرط والجزاء أن يتوقّف الثاني على الأول ، بمعنى أن الشرط إنما يستحق جوابه بوقوعه هو في نفسه ، كقولك : «إن زرتني أحسنت إليك» ، فالإحسان إنما استحق بالزيارة ، وقولك : «إن شكرتني زرتك» فالزيارة إنما استحقت بالشكر هذا هو القاعدة.

وقد أورد على هذا آيات كريمات (١) : منها قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) (المائدة : ١١٨) [١٣٢ / ب] وهم عباده ، عذّبهم أو رحمهم. وقوله : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة : ١١٨) وهو العزيز الحكيم ، غفر لهم أو لم يغفر لهم. وقوله : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (التحريم : ٤) وصغو القلوب هنا لأمر قد وقع ، فليس بمتوقّف على ثبوته (٢).

والجواب أنّ (٣) هذه في الحقيقة ليست أجوبة ؛ وإنما جاءت عن الأجوبة المحذوفة ، لكونها أسبابا لها. فقوله : (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) (المائدة : ١١٨) الجواب في الحقيقة : فتحكّم فيمن يحق لك التحكّم فيه ، وذكر العبوديّة التي هي سبب القدرة. وقوله : (وَإِنْ تَغْفِرْ) (المائدة : ١١٨) فالجواب : فأنت متفضّل عليهم ، بألاّ تجازيهم بذنوبهم فكمالك غير مفتقر إلى شيء ، فإنك أنت العزيز الحكيم.

وقال صاحب «المستوفى» (٤) : اعلم أن المجازاة لا يجب فيها أن يكون الجزاء موقوفا على الشرط أبدا ، ولا أن يكون الشرط [موقوفا على الجزاء] (٥) أبدا ، بحيث يمكن وجوده ، ولا أن تكون نسبة الشرط دائما إلى الجزاء نسبة السبب إلى المسبّب ؛ بل الواجب فيها أن يكون الشرط بحيث (٦) إذا فرض حاصلا لزم مع حصوله حصول الجزاء ؛ سواء كان الجزاء قد يقع ، لا من جهة وقوع الشرط ، كقول الطبيب : من استحم بالماء البارد احتقنت الحرارة باطن جسده (٧) ، لأن احتقان الحرارة قد يكون لا عن ذلك ، أو لم يكن كذلك ؛ كقولك : إن كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا.

__________________

(١) في المخطوطة (كثيرة).

(٢) في المخطوطة (ثبوتهما).

(٣) في المخطوطة (بأن).

(٤) تقدم آنفا ص ٤٥٤.

(٥) ساقط من المخطوطة.

(٦) تكررت العبارة في المخطوطة.

(٧) تصحفت في المخطوطة إلى (حاره).

٤٥٦

وسواء كان الشرط ممكنا في نفسه كالأمثلة السابقة ، أو مستحيلا ؛ كما في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (الزخرف : ٨١) وسواء كان الشرط سببا في الجزاء ووصلة (١) إليه ؛ كقوله تعالى : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) (محمد : ٣٦) أو كان الأمر بالعكس ، كقوله [تعالى] (٢) (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) (النساء : ٧٩) أو كان لا هذا ولا ذاك ، فلا يقع إلا مجرد الدلالة (٣) على اقتران أحدهما بالآخر ، كقوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (الكهف : ٥٧) إذ لا يجوز أن تكون الدعوة سببا للضلال ومفضية إليه ، ولا أن يكون الضلال مفضيا إلى الدعوة.

وقد يمكن أن يحمل على هذا قوله تعالى : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) (الممتحنة : ٢) وعلى هذا ما يكون من باب قوله [تعالى] (٤) : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) (آل عمران : ١٤٠) فإنّ التأويل «إن يمسسكم قرح فمع اعتبار قرح قد مسّهم قبل». والله أعلم بمراده.

الثالثة : أنه لا يتعلق إلا بمستقبل ؛ فإن كان ماضي اللفظ كان مستقبل المعنى ، كقولك (٥) : «إن متّ على الإسلام دخلت الجنة». (٦) [ثم للنحاة فيه تقديران : (أحدهما) : أن الفعل يغيّر لفظا لا معنى ، فكأن الأصل : «إن تمت مسلما تدخل الجنة»] (٦) فغيّر لفظ المضارع إلى الماضي تنزيلا له منزلة المحقّق. (والثاني) : أنّه تغير (٧) معنى ، وإن حرف الشرط لما دخل عليه قلب معناه إلى الاستقبال ، وبقي لفظه على حاله. والأول أسهل ، لأن تغيير اللفظ أسهل من تغيير المعنى.

وذهب المبرّد إلى أن فعل الشرط إذا كان لفظ «كان» بقي على حاله من المضيّ (٨) ؛ لأن «كان» جرّدت عنده للدلالة على الزّمن الماضي فلم تغيرها أدوات الشرط. وقال : إنّ «كان» مخالفة في هذا الحكم لسائر الأفعال ؛ وجعل منه قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ) (المائدة : ١١٦) (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ) (يوسف : ٢٧).

__________________

(١) في المخطوطة (أو وصلة).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (للدلالة).

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (كقوله).

(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (تغيير).

(٨) في المخطوطة (المعنى).

٤٥٧

والجمهور على المنع ، وتأولوا ذلك ، ثم اختلفوا : فقال ابن عصفور (١) والشلوبين (٢) وغيرهما : إن حرف الشرط دخل على فعل مستقبل محذوف ، أي (أَنْ) أكن (كُنْتُ قُلْتُهُ) ، أي (أَنْ) أكن فيما يستقبل موصوفا بأني (كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) ففعل الشرط محذوف مع هذا ، وليست «كان» المذكورة بعدها هي فعل الشرط. قال ابن الضائع (٣) : وهذا تكلّف لا يحتاج إليه ، بل (كُنْتُ) بعد (أَنْ) مقلوبة المعنى إلى الاستقبال ، ومعنى (إِنْ كُنْتُ) «إن أكن» [١٣٣ / أ] فهذه (٤) التي بعدها هي التي يراد بها الاستقبال ؛ لا أخرى محذوفة ، وأبطلوا مذهب المبرد بأنّ «كان» بعد أداة الشرط في غير هذا الموضع قد جاءت مرادا بها الاستقبال ، كقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (المائدة : ٦).

وقد نبّه في «التسهيل» (٥) في باب الجوازم على أنّ فعل الشرط لا يكون إلا مستقبل المعنى ، (٦) [واختار في «كان» مذهب الجمهور ؛ إذ قال : ولا يكون الشرط غير مستقبل المعنى بلفظ «كان» أو غيرها إلا مؤولا.

واستدرك عليه «لو» «ولمّا» الشرطيتين ؛ فإن الفعل بعدهما لا يكون إلا ماضيا فتعين استثناؤه من قوله : «لا يكون إلا مستقبل المعنى»] (٦).

وأما قوله [تعالى] (٧) : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ) (٨) [أَزْواجَكَ (الأحزاب : ٥٠) إلى (إِنْ وَهَبَتْ) فوقع فيها «أحللنا»] (٩) المنطوق به [أو] (٨) المقدر ، على القولين ، جواب الشرط مع كون الإحلال قديما ، فهو ماض. وجوابه أنّ المراد : «إن وهبت فقد حلّت» ،

__________________

(١) هو علي بن مؤمن أبو الحسن بن عصفور ، تقدمت ترجمته في ١ / ٤٦٦.

(٢) هو عمر بن محمد بن عمر الأزدي تقدمت ترجمته في ٢ / ٣٦٤.

(٣) هو علي بن محمد بن علي الكتامي ، تقدمت ترجمته في ٢ / ٣٦٤.

(٤) في المخطوطة (فليست هذه).

(٥) كتاب «تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد» لابن مالك أبي عبد الله جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني (ت ٦٧٢ ه‍) ، طبع في فاس عام ١٣٢٣ ه‍ / ١٩٠٥ م ، وطبع في القاهرة بتحقيق محمد كامل بركات ونشرته وزارة الثقافة المصرية بدار الكاتب العربي عام ١٣٨٩ ه‍ / ١٩٦٨ م.

(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٧) ليست في المخطوطة.

(٨) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

٤٥٨

فجواب الشرط حقيقة الحلّ المفهوم من [الإحلال لا] (١) الإحلال نفسه ، وهذا كما أن الظرف من قولك : «قم غدا» ليس هو لفعل الأمر ، بل للقيام المفهوم منه.

وقال البيانيون (٢) : يجيء فعل الشرط ماضي اللفظ لأسباب : (منها) إيهام جعل غير الحاصل كالحاصل ، كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً [وَمُلْكاً كَبِيراً]) (٣) (الإنسان : ٢٠). (ومنها) إظهار الرغبة من المتكلم في وقوعه ، كقولهم : «إن ظفرت بحسن العاقبة فذاك» ، وعليه قوله تعالى (٤) : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (النور : ٣٣) أي امتناعا من الزنا ، جيء بلفظ الماضي ولم يقل «يردن» إظهارا لتوفير رضا الله ، ورغبة في إرادتهنّ التحصين. (ومنها) التعريض ، بأن يخاطب واحدا ومراده غيره ، كقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (الزمر : ٦٥) الرابعة : جواب الشرط أصله الفعل المستقبل ، وقد يقع ماضيا ، لا على أنه جواب في الحقيقة ، نحو : «إن أكرمتك فقد أكرمتني» اكتفاء (٥) بالموجود عن المعدوم. ومثله قوله [تعالى] (٦) : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) (آل عمران : ١٤٠) ومسّ القرح قد وقع بهم ، والمعنى : إن يؤلمكم ما نزل بكم فيؤلمهم ما وقع ، فالمقصود ذكر الألم الواقع لجميعهم ، فوقع الشرط والجزاء على الألم.

وأما قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) (المائدة : ١١٦) (٧) [فعلى وقوع الماضي موقع المستقبل فيهما ، دليله قوله تعالى : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) أي : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ) (المائدة : ١١٦) «تكن قد علمته»] (٧) وهو عدول عن (٨) الجواب إلى ما هو أبدع منه كما سبق.

وأما قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (يوسف : ١٧) فالمعنى

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) تصحفت في المخطوطة إلى (البيانوني).

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) تصحفت في المخطوطة إلى (قولك).

(٥) في المخطوطة (اكتفئ).

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٨) في المطبوعة (إلى).

٤٥٩

ـ والله أعلم ـ : «ما أنت بمصدّق لنا ولو ظهرت لك براءتنا ، بتفضيلك إياه علينا» ، وقد أتوه بدلائل كاذبة ولم يصدقهم ، وقرّعوه (١) بقولهم : (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) (يوسف : ٩٥) وإجماعهم على إرادة (٢) قتله ، ثم رميهم له في الجب أكبر من قولهم : (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (يوسف : ١٧) عندك.

الخامسة : أدوات الشرط حروف وهي «إن» ، وأسماء مضمّنة معناها. ثم منها ما ليس بظرف ك : «من» و «ما» و «أي» و «مهما» ، وأسماء هي ظروف : «أين» و «أينما» و «متى» و «حيثما» و «إذ ما». وأقواها دلالة على الشرط دلالة «إن» لبساطتها ، ولهذا كانت أم الباب. وما سواها فمركب من معنى «إن» وزيادة معه ، فمن معناه كلّ (٣) في حكم إن ، وما معناه كلّ شيء إن ، و «أينما» و «حيثما» يدلان على المكان وعلى «إن» و «إذ ما» و «متى» يدلان (٤) على الشرط والزمان.

وقد تدخل «ما» على «إن» وهي أبلغ في الشرط من «إن» ولذلك تتلقى (٥) بالنون المبنيّ عليها المضارع نحو : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ [إِلَيْهِمْ]) (٦) (الأنفال : ٥٨) وقوله [تعالى] (٦) : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) (الإسراء : ٢٣).

ومما ضمّن معنى الشرط «إذا» ، وهي ك «إن» ، ويفترقان في أنّ «إن» تستعمل في المحتمل المشكوك فيه ، ولهذا يقبح : إن احمرّ البسر كان كذا ، وإن انتصف النهار آتك ، وتكون «إذا» للجزم ، فوقوعه إما تحقيقا نحو : إذا اطلعت الشمس كان كذا ، أو اعتبارا كما سنذكره. قال ابن الضائع (٧) : ولذلك (٨) إذا قيل : «إذا احمرّ البسر فأنت طالق» وقع الطلاق في الحال عند مالك ؛ لأنه شيء لا بدّ منه : وإنما يتوقف على السبب الذي قد يكون وقد لا يكون ، وهذا هو الأصل فيهما.

وقد تستعمل «إن» في مقام الجزم لأسباب :

__________________

(١) في المخطوطة (وقد حبوه).

(٢) في المخطوطة (إياد).

(٣) في المخطوطة (كهل).

(٤) في المخطوطة (لا يدلان).

(٥) في المخطوطة (يتلقى).

(٦) ليست في المخطوطة.

(٨) هو علي بن محمد بن علي بن يوسف الكتامي ، تقدمت ترجمته في ٢ / ٣٦٤.

(٩) في المخطوطة (وكذا).

٤٦٠