البرهان في علوم القرآن - ج ٢

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

ورجّحوا الأول ؛ لأن العرب إنما تكني عما يقبح ذكره في اللفظ ، ولا يقبح ذكر الخلوة. وهذا حسن (١) ، لكنه يصلح للترجيح. وأما دعوى كون العرب لا تكني إلا عما يقبح ذكره فغلط ، فكنوا عن القلب بالثوب ، كما في قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (المدثر : ٤) وغير ذلك مما سبق.

وأما التعريض

فقيل : إنه الدلالة على المعنى من طريق المفهوم ، وسمّي تعريضا لأن المعنى باعتباره يفهم من عرض اللفظ ، أي من جانبه ، ويسمى التلويح ؛ لأن المتكلم يلوّح منه للسامع ما يريده ، كقوله تعالى : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (الأنبياء : ٦٣) لأن غرضه بقوله : (فَسْئَلُوهُمْ) على سبيل الاستهزاء وإقامة الحجة عليهم بما عرّض لهم به ، من عجز كبير الأصنام عن الفعل ، مستدلا على ذلك بعدم إجابتهم إذا سئلوا ، ولم يرد بقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) (الأنبياء : ٦٣) نسبة الفعل الصادر عنه (٢) إلى الصنم ، فدلالة هذا الكلام عجز كبير الأصنام عن الفعل بطريق الحقيقة.

ومن أقسامه أن يخاطب الشخص والمراد غيره ، سواء كان الخطاب مع نفسه أو مع غيره ؛ كقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (الزمر : ٦٥) ، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) (البقرة : ١٢٠) ، (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) (البقرة : ٢٠٩) تعريضا بأن قومه أشركوا واتبعوا أهواءهم ، وزلّوا فيما مضى من الزمان ؛ لأنّ الرسول لم يقع منه ذلك ، فأبرز غير الحاصل في معرض الحاصل ادّعاء. وقوله : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) (البقرة : ٢٠٩) [فإن] (٣) الخطاب للمؤمنين والتعريض لأهل الكتاب ؛ لأنّ الزلل (٤) لهم لا للمؤمنين.

فأما الآية الأولى ففيها ثلاثة أمور : مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد غيره ، وإخراج المحال عليه في صورة المشكوك والمراد غيره ، واستعمال المستقبل بصيغة الماضي. وأمر رابع وهو «إن» الشرطية قد لا يراد بها إلا مجرد الملازمة التي هي لازمة الشرط والجزاء ، مع العلم باستحالة الشرط أو وجوبه أو وقوعه.

__________________

(١) في المخطوطة (أحسن).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة : (منه).

(٤) في المخطوطة (الزلة).

٤٢١

وعلى هذا يحمل قول من لم ير من المفسرين حمل الخطاب على غيره ؛ إذ لا يلزم من فرض أمر ـ لا (١) بدّ منه ـ صحة (١) وقوعه ؛ بل يكون في الممكن والواجب والمحال.

[١٢٦ / ب] ومنه قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (الزخرف : ٨١) إذا جعلت شرطية لا نافية. ومنه : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) (الأنبياء : ١٧).

ومنه قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) (يس : ٢٢) المراد : ما لكم لا تعبدون ، بدليل قوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس : ٢٢) ولو لا التعريض لكان المناسب «وإليه أرجع». وكذا قوله [تعالى] (٢) (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) (يس : ٢٣) (٣) [والمراد : أتتخذون من دونه آلهة] (٣) (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ* إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ولذلك (٤) قيل (آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ [فَاسْمَعُونِ]) (٥) (يس : ٢٥) دون «ربي» و «أتبعه» «فاسمعوه» (٦).

ووجه حسنه ظاهر ، لأنه يتضمن إعلام السامع على صورة لا تقتضي مواجهته بالخطاب المنكر ، كأنك لم تعنه ، وهو أعلى في محاسن الأخلاق وأقرب للقبول ، وأدعى للتواضع والكلام ممن هو رب العالمين نزّله بلغتهم ، وتعليما للذين يعقلون. قيل : ومنه قوله تعالى : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (سبأ : ٢٥) فحصل (٧) المقصود في قالب التلطّف ، وكان حق الحال من حيث الظاهر ، لولاه أن يقال : «لا تسألون عما عملنا ولا نسأل عما تجرمون».

وكذا مثله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سبأ : ٢٤) حيث ردّد الضلال بينهم وبين نفسهم ، والمراد : إنا على هدى وأنتم في ضلال ، وإنما لم يصرّح به لئلا تصير هنا نكتة ، هو (٨) أنه خولف في هذا الخطاب بين (٩) «على» و «في» بدخول (١٠) «على» على

__________________

(١) اضطربت عبارة المخطوطة كالتالي (الابداء اللازمة فيتجه).

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (وكذلك).

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) في المخطوطة (فاسمعون).

(٧) في المخطوطة (فوصل).

(٨) في المخطوطة (وهو).

(٩) عبارة المخطوطة (الخطابين).

(١٠) في المخطوطة (الدخول).

٤٢٢

الحق ، و [«في» على] (١) الباطل ، لأن صاحب الحق ، كأنّه على فرس جواد يركض (٢) به ، حيث أراد ، وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام لا يدري أين يتوجّه. قال السكاكيّ (٣) : ويسمى هذا النوع الخطاب المنصف ، أي لأنه يوجب أن ينصف المخاطب (٤) إذا رجع إلى نفسه استدراجا لاستدراجه الخصم إلى الإذعان والتسليم ، وهو شبيه بالجدل ، لأنه تصرف في المغالطات الخطابيّة.

ومنه قوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) (فاطر : ١٨) المقصود التعريض بذمّ من ليست [له] (٥) هذه الخشية ، وأن يعرف أنه لفرط عناده كأنه ليس له أذن تسمع ، ولا قلب يعقل ، وأن الإنذار له كلا إنذار ، وأنه قد أنذر من له هذه الصفة ، وليست له.

وقوله : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (الرعد : ١٩) القصد التعريض ، وأنهم (٦) لغلبة هواهم في حكم من ليس له عقل. وقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان : ٤٩) نزلت في أبي جهل ، لأنه قال : «ما بين أخشبيها ـ أي جبليها يعني مكة (٧) ـ أعزّ مني ولا أكرم» ، وقيل : بل خوطب بذلك استهزاء.

وأما التوجيه

وهو ما احتمل معنيين ، ويؤتى به عند فطنة المخاطب ، كقوله تعالى ـ حكاية عن أخت موسى عليه‌السلام ـ (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) (القصص : ١٢) فإن الضمير في (لَهُ) يحتمل أن يكون لموسى ، وأن يكون لفرعون. قال ابن جريج (٨) :

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (لم يركض).

(٣) هو يوسف بن أبي بكر بن محمد أبو يعقوب الخوارزمي تقدم التعريف به في ١ / ١٦٣ ، وانظر قوله في مفتاح العلوم ص ٢٤٦ (طبعة بيروت بتصحيح زرزور) ، في القسم الثالث : علما المعاني والبيان ، الفن الثالث : في تفصيل اعتبارات المسند. مسألة تقييد الفعل.

(٤) في المخطوطة (الخطاب).

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) في المخطوطة (وأما).

(٧) في المخطوطة زيادة كما يلي (مكة والمدينة). والخبر أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص ٢٥٣.

(٨) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، أبو خالد وأبو الوليد القرشي ، الأموي ، المكي ، صاحب التصانيف ، وأول من دوّن العلم بمكة. حدث عن عطاء بن أبي رباح فأكثر وجوّد ، وعن ابن مليكة ، ونافع ،

٤٢٣

وبهذا تخلصت أخت موسى من قولهم : «إنك عرفته» ، فقالت : أردت : «ناصحون للملك» ، واعترض عليه بأن هذا في لغة العرب لا في كلامها المحكيّ وهذا مردود ، فإن الحكاية مطابقة لما قالته ؛ وإن كانت بلغة أخرى.

ونظيره جواب ابن الجوزي (١) لمن قال له : من كان أفضل عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ أبو بكر أم عليّ؟ فقال : من كانت ابنته تحته.

وجعل السكاكيّ من هذا القسم مشكلات (٢) القرآن.

__________________

وطاوس. وعنه الأوزاعي ، وثور بن يزيد ، والليث ، والسفيانان وغيرهم خلق كثير ت ١٥٠ ه‍ ، ذكره خليفة في الطبقات ص ٢٨٣. والطبقة الرابعة ممن سكن مكة ، وذكره البغدادي في تاريخ بغداد ١٠ / ٤٠٠.

(١) هو عبد الرحمن بن علي ، أبو الفرج ابن الجوزي تقدمت ترجمته في ٢ / ١٥٣ ، وقد نقل هذه القصة الذهبي في سير أعلام النبلاء ٢١ / ٣٧١.

(٢) في المخطوطة (متشابهات).

٤٢٤

النوع الخامس والأربعون

في أقسام معنى الكلام

زعم قوم أن معاني القرآن لا تنحصر ، ولم يتعرضوا لحصرها ، وحكاية ابن السيّد (١) عن أكثر البصريين في زمانه. (وقيل) : قسمان : خبر ، وغير خبر. (وقيل) : عشرة : نداء ، ومسألة ، وأمر ، وتشفّع ، وتعجّب ، وقسم ، وشرط ، ووضع ، وشك ، واستفهام. (وقيل) : تسعة ، وأسقطوا الاستفهام لدخوله في المسألة. (وقيل) : ثمانية [١٢٧ / أ] وأسقطوا التشفع لدخوله في المسألة.

(وقيل) : سبعة ، وأسقطوا الشك لأنه في قسم الخبر.

وكان أبو الحسن الأخفش (٢) يرى أنها ستة أيضا ، وهي عنده : الخبر والاستخبار ، والأمر ، والنهي ، والنداء ، والتمني. (وقيل) : خمسة : الخبر ، والأمر ، والتصريح ، والطلب ، والنداء ، وقيل غير ذلك.

الأول : الخبر

والقصد به إفادة المخاطب وقد يشرب (٣) مع ذلك معاني أخر :

منها التعجب ، قال ابن فارس (٤) : «وهو تفضيل الشيء على أضرابه» وقال ابن الضائع (٥) : «استعظام صفة خرج بها المتعجّب منه عن نظائره ، نحو : ما أحسن زيدا! وأحسن

__________________

(١) هو عبد الله بن محمد البطليوسي تقدم ذكره في ١ / ٣٤٣.

(٢) هو سعيد بن مسعدة ، أبو الحسن الأخفش الأوسط ١ / ١٣٤ ، ولم نعثر على قوله في كتابه «معاني القرآن» بسبب السقط من المخطوطة الواقع في أول الكتاب. وانظر قوله في «أمالي ابن الشجري» ١ / ٢٥٤ المجلس (٣٣).

(٣) في المخطوطة (نشرت).

(٤) هو أحمد بن فارس بن زكريا أبو الحسين ، تقدمت ترجمته في ١ / ١٩١ ، انظر قوله في الصاحبي في فقه اللغة ص ١٥٨.

(٥) هو علي بن محمد بن علي بن يوسف الكتامي ، تقدمت ترجمته في ٢ / ٣٦٤.

٤٢٥

به! استعظمت حسنه على حسن غيره». وقال الزمخشري في تفسير سورة الصفّ (١) : «معنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين ؛ لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله». وقال الرّماني (٢) : «المطلوب في التعجب الإبهام ؛ لأن من شأن الناس أن يتعجبوا مما لا يعرف سببه ، وكلما استبهم السبب كان التعجب أحسن ؛ قال : وأصل التعجّب إنما هو للمعنى الخفيّ سببه ، والصيغة الدالة عليه تسمى تعجّبا ، يعني مجازا. قال : ومن أجل الإبهام لم تعمل «نعم» إلا في الجنس من أجل التفخيم ؛ ليقع التفسير على نحو التفخيم بالإضمار قبل الذكر.

ثم قد وضعوا للتعجب صيغا من لفظه ، وهي : «ما أفعله» و «أفعل به» ، وصيغا من غير لفظه نحو «كبر» (٣) ، نحو [قوله تعالى] (٤) (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) (الكهف : ٥) (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) (الصف : ٣) (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) (البقرة : ٢٨) ، واحتج الثمانيني (٥) على أنه خبر بقوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) (مريم : ٣٨) تقديره : ما أسمعهم وأبصرهم! والله سبحانه لم يتعجب بهم ولكن دلّ المكلّفين على أن هؤلاء قد نزّلوا منزلة من يتعجب منه. وهنا مسألتان :

(الأولى) : قيل لا يتعجب من فعل الله ، فلا يقال : «ما أعظم الله!» لأنه يؤول إلى : «شيء عظم (٦) [الله] (٧)» كما في غيره من صيغ التعجب ، وصفات الله تعالى قديمة. وقيل : بجوازه باعتبار أنه يحب تعظيم الله بشيء من صفاته ، فهو يرجع لاعتقاد العباد عظمته [وقدرته ، وقد] (٨) قال (٩) الشاعر :

__________________

(١) انظر الكشاف ٤ / ٩٢. في تفسير قوله تعالى (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (الآية : ٣).

(٢) هو أبو الحسن علي بن عيسى الرماني ، تقدم ذكره في ١ / ١٥١.

(٣) في المخطوطة (كفر).

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) هو عمر بن ثابت أبو القاسم النحوي الضرير. كان قيّما بعلم النحو عارفا بقوانينه ، وانتفع بالاشتغال عليه جمع كبير. أخذ النحو عن أبي الفتح ابن جني ، وأخذ عنه الشريف أبو المعمر يحيى بن محمد بن طباطبا العلوي الحسيني. شرح كتاب «اللمع» في التصريف لابن جني ت ٤٤٢ ه‍ (وفيات الأعيان ٣ / ٤٤٣).

(٦) في المخطوطة (عظيم).

(٧) لفظ الجلالة ليس في المخطوطة.

(٨) ساقط من المخطوطة.

(٩) في المخطوطة (وقال).

٤٢٦

ما أقدر الله أن يدنى على شحط (١)

من داره الحزن ممّن داره صول (٢)

والأولون قالوا : هذا أعرابي جاهل بصفات الله. وقال بعض المحققين : التعجب إنما يقال لتعظيم الأمر المتعجب منه ، ولا يخطر بالبال أن شيئا صيّره كذلك ، وخفي علينا ، فلا يمتنع حينئذ التعجب من فعل الله.

(والثانية) (٣) : هل يجوز إطلاق التعجب في حق الله [تعالى] (٤)؟ فقيل بالمنع ؛ لأن التعجب استعظام ويصحبه الجهل والله سبحانه منزّه عن ذلك ، وبه جزم ابن عصفور (٥) في «المقرب». قال : «فإن ورد ما (٦) ظاهره ذلك صرف إلى المخاطب ؛ كقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (البقرة ١٧٥) (٧) [أي هؤلاء يجب أن يتعجب منهم» وقيل : بالجواز ، لقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (البقرة ١٧٥)] (٧) إن (٧) [قلنا] (٧) : «ما» تعجبيّة لا استفهامية ، وقوله : (بَلْ عَجِبْتَ) (الصافات : ١٢) في قراءة بعضهم بالضم (٨).

والمختار الأول ، وما وقع منه أوّل بالنظر إلى المخاطب ، أي علمت أسباب ما يتعجب منه العباد ، فسمى العلم بالعجب عجبا.

وأصل الخلاف في هذه المسألة يلتفّ على خلاف آخر ، وهو أن حقيقة التعجب ؛ هل يشترط فيه خفاء سببه فيتحير فيه المتعجب منه أو لا؟ ولم يقع في القرآن صيغة التعجب إلا قوله :

__________________

(١) في المخطوطة (سخط).

(٢) البيت لحندج بن حندج المري وهو من قصيدة لامية مطلعها :

في ليل صول تناهى العرض والطول

كأنما ليله بالليل موصول

ذكره العيني في شرح شواهد الألفية المطبوع بهامش خزانة الأدب ١ / ٢٣٨. وذكره السيوطي في همع الهوامع ٢ / ١٦٧.

(٣) في المخطوطة (والثاني منه).

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) هو علي بن مؤمن بن محمد الإشبيلي ، تقدم التعريف به في ١ / ٤٦٦ ، وكتابه «المقرّب» طبع في بغداد بتحقيق أحمد عبد الستار الجواري وعبد الله الجبوري ، ونشرته رئاسة ديوان الأوقاف عام ١٣٩١ ـ ١٣٩٢ ه‍ / ١٩٧١ ـ ١٩٧٢ م ، وأعاد تحقيقه يعقوب يوسف الغنيم ، كرسالة ماجستير بدار العلوم في جامعة القاهرة (ذخائر التراث العربي ١ / ١٩٠).

(٦) في المخطوطة (مما).

(٧) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٨) قرأ حمزة والكسائي بالضم ، والباقون بالفتح (التيسير ص ١٨٦).

٤٢٧

(فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (البقرة : ١٧٥) وقوله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) (عبس : ١٧) ويأ ايّها الإنسان ما اغرّك (الانفطار : ٦) في (١) قراءة من زاد الهمزة (٢).

ثم قال المحققون : التعجّب مصروف إلى المخاطب ، ولهذا تلطف الزمخشري (٣) فيعبّر عنه بالتعجب ، ومجيء التعجب من الله كمجيء الدعاء منه والترجّي ؛ وإنما هذا بالنظر إلى ما تفهمه العرب ، أي هؤلاء عندكم ممن يجب أن تقولوا لهم هذه. وكذلك تفسير سيبويه [١٢٧ / ب] قوله (٤) تعالى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (طه : ٤٤) قال : المعنى : اذهبا على رجائكما وطمعكما (٥) قال ابن الضائع : «وهو حسن جدا».

(قلت) : «وذكر سيبويه (٦) أيضا قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (المرسلات : ١٥) (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (المطففين : ١) فقال : لا أن تقول دعاء هاهنا ، لأن الكلام بذلك قبيح ، ولكن العباد إنما كلموا بكلامهم ، وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون ؛ فكأنه ـ والله أعلم ـ قيل لهم : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (المطففين : ١) و (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (المرسلات : ١٥) أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم ؛ لأن [هذا] (٧) الكلام إنما يقال لصاحب الشر والهلكة ، فقيل : هؤلاء ممن دخل في الهلكة ، ووجب لهم هذا». انتهى.

ومنها الأمر ، كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) (البقرة : ٢٢٨) (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ) (البقرة : ٢٣٣) فإن السياق يدل على أن الله تعالى أمر بذلك ؛ لا أنه (٨) خبر ، وإلا لزم الخلف في الخبر ، وسبق في المجاز.

ومنها النهي ، كقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة : ٧٩).

ومنها الوعد ، كقوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) (فصلت : ٥٣).

__________________

(١) في المخطوطة (على).

(٢) وهي قراءة الأعمش وسعيد بن جبير (البحر المحيط ٩ / ٤٣٦).

(٣) انظر الكشاف ٤ / ١٩٣.

(٤) في المخطوطة (وقوله). وانظر الكتاب لسيبويه ١ / ٣٣١ (تحقيق عبد السلام محمد هارون) باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والأسماء.

(٥) في المخطوطة (أو طمعكما).

(٦) انظر المصدر السابق.

(٧) ساقطة من المخطوطة.

(٨) في المخطوطة (لأنه).

٤٢٨

ومنها الوعيد ، كقوله [تعالى] (١) : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء : ٢٢٧).

ومنها الإنكار والتبكيت ، نحو : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان : ٤٩).

ومنها الدعاء ، كقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة : ٥) أي أعنّا على عبادتك.

وربما كان اللفظ خبرا والمعنى شرطا وجزاء ؛ كقوله : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) (الدخان : ١٥) فظاهره خبر ، والمعنى : إنّا إن نكشف عنكم العذاب تعودوا. ومنه قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) (البقرة : ٢٢٩) من طلق امرأته مرتين فليمسكها بعدهما بمعروف ، أو (٢) يسرّحها بإحسان.

ومنها التمني ، وكلمته الموضوعة له «ليت» ، وقد يستعمل (٣) فيه (٤) ثلاثة أحرف : (أحدها) : «هل» كقوله (٥) : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) (الأعراف : ٥٣) حملت «هل» على إفادة التمني لعدم التصديق بوجود شفيع في ذلك المقام ، فيتولد التمنّي بمعونة قرينة الحال. (والثاني) : «لو» سواء كانت مع «ودّ» كقوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم : ٩) بالنصب (٦) ، أو لم تكن ، كقوله تعالى : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) (هود : ٨٠) ، وقوله : (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) (البقرة : ١٦٧) (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ) (الزمر : ٥٨). (والثالث) : «لعلّ» ، كقوله تعالى : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ) (غافر : ٣٦ ، ٣٧) في قراءة النصب (٧)

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (و).

(٣) في المطبوعة (تستعمل).

(٤) ساقطة من المطبوعة.

(٥) في هذا الموضع بياض في المخطوطة.

(٦) قال أبو حيّان في البحر المحيط ٨ / ٣٠٩ : «وقال هارون إنه في بعض المصاحف (فَيُدْهِنُونَ) ولنصبه وجهان : أحدهما أنه جواب (وَدُّوا) لتضمنه معنى ليت. والثاني أنه على توهم أنه نطق ب «إن» ، أي : «ودّوا أن تدهن فيدهنوا» فيكون عطفا على التوهم ، ولا يجيء هذا الوجه إلا على قول من جعل «لو» مصدرية بمعنى «أن» انتهى. وانظر الكتاب لسيبويه ٣ / ٣٦.

(٧) قرأ حفص بالنصب ، والباقون برفعها (التيسير ص ١٩١).

٤٢٩

واختلف هل التمني خبر ومعناه النفي ، أو ليس بخبر ، ولهذا لا يدخله التصديق والتكذيب ؛ قولان عن أهل العربية ، حكاهما ابن فارس في كتاب «فقه العربية» (١) والزمخشري (٢) بنى كلامه على أنه ليس بخبر ، واستشكل دخول التكذيب في جوابه ، في قوله تعالى : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ) (الأنعام : ٢٧) إلى قوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (الأنعام : ٢٨) وأجاب بتضمنه معنى العدة فدخله التكذيب.

وقال ابن الضائع (٣) : «التمني حقيقة لا يصح فيه الكذب ؛ وإنما يرد الكذب في التمني الذي يترجّح عند صاحبه وقوعه ؛ فهو إذن وارد على ذلك الاعتقاد الذي هو ظن ، وهو خبر صحيح. قال : وليس المعنى في قوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (الأنعام : ٢٨) أن ما تمنّوا ليس بواقع ، لأنه ورد في معرض الذم لهم ، وليس في ذلك المعنى ذم ، بل التكذيب ورد على إخبارهم عن أنفسهم أنهم لا يكذبون ، وأنهم يؤمنون.

ومنها الترجّي ؛ والفرق بينه وبين التمني أن الترجّي لا يكون إلا في الممكنات ، والتمني يدخل المستحيلات.

ومنها النداء وهو طلب إقبال المدعوّ على الداعي بحرف مخصوص وإنما يصحب في الأكثر الأمر والنهي ، كقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) (البقرة : ٢١) (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) (الأحزاب : ١) (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) (الزمر : ١٦) (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) (هود : ٥٢) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) (الحجرات : ١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) (التحريم : ٧) وربما (٤) تقدمت جملة الأمر جملة النداء : كقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً) [١٢٨ / أ](أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) (النور : ٣١).

وإذا جاءت جملة الخبر بعد النداء تتبعها جملة الأمر ، كما في قوله [تعالى] (٥) : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) (الحج : ٧٣) وقد تجيء معه الجمل الاستفهامية

__________________

(١) انظر الصاحبي ص ١٥٨ ، باب الأمر.

(٢) انظر الكشاف ٢ / ٩.

(٣) هو علي بن محمد بن علي الكتامي ، تقدمت ترجمته في ٢ / ٣٦٤.

(٤) في المخطوطة (لما).

(٥) ليست في المخطوطة.

٤٣٠

والخبرية ؛ كقوله تعالى في الخبر : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ) (الزخرف : ٦٨) (١)(يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) (يوسف : ١٠٠) (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) (هود : ٦٤) (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) (فاطر : ١٥)] (١) وفي (٢) الاستفهام : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ) [ولا يبصر] (٣) (مريم : ٤٢) (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) (غافر : ٤١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (الصف : ٢) (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ]) (٣) (التحريم : ١) وهنا فائدتان : (إحداهما) : قال الزمخشريّ [رحمه‌الله] (٤) كل نداء (٥) في كتاب الله يعقبه فهم في الدين ، إما من ناحية الأوامر والنواهي التي عقدت بها سعادة الدارين ، وإما مواعظ وزواجر وقصص لهذا المعنى ؛ كل ذلك راجع إلى الدين الذي خلق الخلق لأجله ، وقامت السموات والأرض به ، فكان حق هذه أن تدرك بهذه الصيغة البليغة.

(الثانية) : النداء إنما يكون للبعيد حقيقة أو حكما ؛ وفي قوله (٦) تعالى : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) (مريم : ٥٢) لطيفة ؛ فإنه تعالى بيّن (٧) أنه كما ناداه ناجاه أيضا ؛ والنداء مخاطبة الأبعد ، والمناجاة مخاطبة الأقرب ؛ ولأجل هذه اللطيفة أخبر سبحانه عن مخاطبته لآدم وحواء بقوله : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (البقرة : ٣٥) وفي (٨) [موضع : (وَيا آدَمُ] (٩) اسْكُنْ) (الأعراف : ١٩) ثم لما حكى عنهما ملابسة المخالفة ، قال في وصف خطابه (١٢) لهما : (وَناداهُما رَبُّهُما) (الأعراف : ٢٢) فأشعر هذا اللفظ بالبعد لأجل المخالفة ، كما أشعر اللفظ الأول بالقرب عند السلامة منها.

وقد يستعمل النداء في غير معناه مجازا في مواضع :

(الأول) : الإغراء والتحذير ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) (الشمس : ١٣) والإغراء أمر معناه الترغيب والتحريض ، ولهذا خصّوا به المخاطب.

__________________

(١) الآيات بين الحاصرتين ليست في المطبوعة.

(٢) في المخطوطة (ويأتي في).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) عبارة المخطوطة (أي كل هذا).

(٦) في المخطوطة (كقوله).

(٧) في المخطوطة (كما بيّن).

(٨) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٩) في المخطوطة (خطابهما).

٤٣١

(الثاني) : الاختصاص ، وهو كالنداء إلا أنه لا حرف فيه.

(الثالث) : التنبيه ، نحو : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) (مريم : ٢٣) لأن (١) حرف النداء يختص بالأسماء.

وقال النحاس (٢) في قوله تعالى : (يا وَيْلَتى) (الفرقان : ٢٨) نداء مضاف ، والفائدة فيه أن معناه : هذا وقت حضور الويل. وقال الفارسي في قوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) (يس : ٣٠) معناه أنه لو كانت الحسرة مما يصحّ نداه لكان هذا وقتها.

وقد اختلف في أن النداء خبر أم لا ، قال أبو البقاء (٣) في شرح «الإيضاح» : ذهب الجميع [إلى] (٤) أن قولك : «يا زيد» ليس بخبر (٥) [محتمل للتصديق والتكذيب ، إنما هو بمنزلة الإشارة والتصويت ، واختلفوا في قولك : «يا فاسق» فالأكثرون على أنه ليس بخبر] (٥) أيضا ، قال أبو عليّ الفارسي (٦) : خبر ؛ لأنه تضمّن نسبته للفسق.

ومنها الدعاء ، نحو (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) (المسد : ١) وقوله : (قاتَلَهُمُ اللهُ) (المنافقون : ٤) (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) (النساء : ٩٠) (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (المطففين : ١).

قال سيبويه (٧) : هذا دعاء ، وأنكره ابن الطراوة (٨) لاستحالته هنا ، وجوابه أنه مصروف

__________________

(١) في المخطوطة (إلا أنّ).

(٢) هو أحمد بن محمد بن إسماعيل أبو جعفر النحاس ، تقدمت ترجمته في ١ / ٣٥٦.

(٣) هو عبد الله بن الحسين ، أبو البقاء العكبري ، تقدمت ترجمته في ١ / ١٥٩ ، وكتابه «شرح الإيضاح» طبع بتحقيق يحيى مير علم في جامعة دمشق قسم اللغة العربية بكلية الآداب (أخبار التراث العربي ١٩ / ١٨).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٦) هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار ، أبو علي الفارسي صاحب كتاب «الإيضاح» المتقدم.

(٧) انظر الكتاب : ١ / ٣٣١ (بتحقيق عبد السلام محمد هارون) باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والأسماء.

(٨) هو سليمان بن محمد بن عبد الله أبو الحسن ابن الطراوة المالقي ، المدعو بالشيخ الأستاذ. كان نحويا ماهرا أدبيا بارعا يقرض الشعر وينشئ الرسائل ، سمع على الأعلم «كتاب سيبويه» وعلى عبد الملك بن سراج وعنه روى السهيلي ، والقاضي عياض. من تصانيفه «الترشيح في النحو» و «المقدمات على كتاب سيبويه» وغيرها ت ٥٢٨ ه‍ (بغية الوعاة ١ / ٦٠٢).

٤٣٢

للخلق وإعلامهم بأنّهم أهل لأن (١) يدعى عليهم ، كما في الرجاء وغيره مما سبق.

(فائدة) ذكر الزمخشري أن الاستعطاف ، نحو «تالله هل قام زيد» قسم ، والصحيح أنه ليس بقسم ، لكونه خبرا.

الثاني الاستخبار

وهو طلب خبر ما ليس عندك ، وهو بمعنى الاستفهام [في القرآن] (٢) ؛ أي طلب الفهم ؛ ومنهم من فرّق بينهما بأن الاستخبار ما سبق أولا ولم يفهم حق الفهم ؛ فإذا سألت عنه ثانيا كان استفهاما ؛ حكاه ابن فارس (٣) في «فقه العربية» ولكون الاستفهام طلب ما في الخارج أو تحصيله في الذهن لزم ألاّ يكون حقيقة إلا إذا صدر من شاكّ مصدّق بإمكان الإعلام ؛ فإن غير الشاكّ إذا استفهم يلزم تحصيل الحاصل ، وإذا لم يصدّق بإمكان الإعلام انتفت فائدة الاستفهام.

***

وفي الاستفهام فوائد :

(الأولى) : قال [١٢٨ / ب] بعض الأئمة : ما جاء على لفظ الاستفهام في القرآن فإنما يقع في خطاب الله تعالى (٤) على معنى أن المخاطب عنده علم ذلك (٤) الإثبات أو النفي حاصل ، فيستفهم عنه نفسه تخبره (٥) به ، إذ قد وضعه الله عندها ، فالإثبات كقوله تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) (النساء : ٨٧) والنفي كقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (الإنسان : ١) (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (هود : ١٤) ومعنى ذلك أنه قد حصل لكم العلم بذلك (٦) تجدونه عندكم إذا استفهمتم أنفسكم عنه ، فإن الرب تعالى لا يستفهم خلقه عن شيء ، وإنما يستفهمهم (٧) ليقرّرهم (٨) ويذكّرهم أنهم قد علموا حق ذلك الشيء ؛ فهذا أسلوب بديع انفرد به خطاب القرآن ، وهو في كلام البشر مختلف.

__________________

(١) في المخطوطة (بأن).

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) هو أحمد بن فارس بن زكريا ، وانظر قوله في الصاحبي في فقه اللغة ص ١٥١ ـ ١٥٢.

(٤) تكررت العبارة في المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (يخبره).

(٦) في المخطوطة (ذلك) بدل (العلم بذلك).

(٧) في المخطوطة (يستفهم).

(٨) في المخطوطة (ليقدرهم).

٤٣٣

(الثانية) : الاستفهام إذا بني عليه أمر قبل ذكر الجواب فهم ترتب ذلك الأمر على جوابه ، أيّ جواب كان ؛ لأن سبقه على الجواب يشعر بأن ذلك حال من يذكر في الجواب ؛ لئلا يكون إيراده قبله عبثا ، فيفيد حينئذ تعميما ، نحو «من جاءك فأكرمه» بالنصب ؛ فإنه لما قال قبل ذكر جواب الاستفهام «أكرمه» علم (١) أنه يكرم من يقول المجيب : إنّه جاء ، أي جاء كان ، وكذا حكم «من ذا جاءك أكرمه» ، بالجزم.

(الثالثة) : قد يخرج الاستفهام عن حقيقته ؛ بأن يقع ممن يعلم ويستغنى عن طلب الإفهام

***

وهو قسمان : بمعنى الخبر ، وبمعنى (٢) الإنشاء :

(الأول) (٣) : بمعنى الخبر ، وهو ضربان : أحدهما نفي [والثاني] (٤) إثبات ، فالوارد للنفي يسمى استفهام إنكار ، والوارد للإثبات يسمى استفهام تقرير ؛ لأنه يطلب بالأول إنكار المخاطب ، وبالثاني إقراره به.

فالأول : المعنى فيه (٥) على أنّ ما بعد الأداة منفيّ. ولذلك نصحبه «إلاّ» كقوله تعالى : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (الأحقاف : ٣٥).

وقوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ) (سبأ : ١٧).

ويعطف عليه المنفيّ ، كقوله [تعالى] (٦) : (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (الروم : ٢٩) أي لا يهدي ؛ وهو كثير ومنه (٧) (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (الزمر : ١٩) أي لست تنقذ من في النار. (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس : ٩٩) (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) (الأنعام : ١١٤) وكقوله [تعالى] (٨) : (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (الشعراء : ١١١) (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) (المؤمنون : ٤٧) أي لا نؤمن. [وقوله] (٨) : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) (الطور : ٣٩) أي لا يكون هذا وقوله [تعالى] (٨) : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) (ص :

__________________

(١) في المخطوطة (على).

(٢) في المخطوطة (بمعنى).

(٣) يأتي القسم الثاني ص ٢ / ٤٤٢.

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (به).

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (كقوله).

(٨) ليست في المخطوطة.

٤٣٤

٨) أي ما أنزل. وقوله [تعالى] (١) : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) (الزخرف : ١٩) أي ما شهدوا ذلك وقوله [تعالى] (١) : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) (الزخرف : ٤٠) أي ليس ذلك إليك ؛ كما قال تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) (النمل : ٨٠) وقوله [تعالى] (١) : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) (ق : ١٥) أي لم نعي به.

وهنا أمران :

أحدهما : أنّ الإنكار قد يجيء لتعريف (٢) المخاطب أنّ ذلك المدّعي ممتنع عليه ؛ وليس من قدرته ؛ كقوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) (الزخرف : ٤٠) لأنّ إسماع الصّم لا يدّعيه أحد ؛ بل المعنى أن إسماعهم لا يمكن ؛ لأنهم بمنزلة الصم والعمي ؛ وإنما قدم الاسم في الآية ؛ ولم يقل : «أتسمع الصمّ»؟ إشارة إلى إنكار موجه (٣) عن تقدير ظنّ منه عليه‌السلام أنه يختصّ بإسماع من به صمم ، وأنّه ادعى القدرة على ذلك ، وهذا أبلغ من إنكار الفعل. وفيه دخول الاستفهام على المضارع ، فإذا قلت (٤) : أتفعل؟ أو أأنت تفعل؟ احتمل وجهين :

(أحدهما) : إنكار وجود الفعل ؛ كقوله تعالى : (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) (هود : ٢٨) والمعنى لسنا بمثابة من يقع منه هذا الإلزام ، وإن عبّرنا بفعل (٥) ذلك ؛ جلّ الله تعالى عن ذلك ، بل المعنى إنكار أصل الإلزام.

(والثاني) : قولك لمن يركب الخطر : أتذهب في غير طريق؟ انظر لنفسك واستبصر.

فإذا قدمت المفعول توجّه الإنكار [١٢٩ / أ] إلى كونه بمثابة أن يوقع به مثل ذلك الفعل ، كقوله : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) (الأنعام : ١٤) وقوله : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) (الأنعام : ٤٠) المعنى : أغير الله بمثابة من يتخذ وليّا! ومنه : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) (القمر : ٢٤) لأنهم بنوا كفرهم على أنه ليس بمثابة من يتبع صيغة المستقبل ، إما أن يكون للحال ، نحو : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا [مُؤْمِنِينَ]) (٦) (يونس : ٩٩) أو للاستقبال (٧) ، نحو : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) (الزخرف : ٣٢).

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (لتعريض).

(٣) في المخطوطة (توجّه).

(٤) في المخطوطة (إذا قلنا).

(٥) في المخطوطة (بالفعل).

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) في المخطوطة (للاستفهام).

٤٣٥

الثاني : قد يصحب الإنكار التكذيب للتعريض بأن المخاطب ادعاه وقصد تكذيبه ، كقوله تعالى : (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) (الصافات : ١٥٣) (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) (النجم : ٢١) (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) (النمل : ٦٠).

وسواء كان زعمهم له صريحا ، مثل : (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) (الطور : ١٥) أو التزاما ، مثل : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) (الزخرف : ١٩) فإنهم لمّا جزموا بذلك جزم من يشاهد خلق الملائكة كانوا كمن (١) زعم أنه شهد خلقهم.

وتسمية هذا استفهام إنكار ؛ من أنكر إذا جحد ، وهو إما بمعنى «لم يكن» كقوله تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ) (الإسراء : ٤٠) أو بمعنى «لا يكون» نحو : (أَنُلْزِمُكُمُوها) (هود : ٢٨).

والحاصل أن الإنكار قسمان : إبطاليّ وحقيقيّ فالإبطاليّ أن يكون ما بعدها غير واقع ، ومدّعيه كاذب (٢) كما ذكرنا ، والحقيقيّ يكون ما بعدها واقع وأن فاعله ملوم ؛ نحو : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) (الصافات : ٩٥) (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) (الأنعام : ٤٠) (أَإِفْكاً آلِهَةً) (الصافات : ٨٦) (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ) (الشعراء : ١٦٥) (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً) (النساء : ٢٠).

وأما الثاني (٣) : فهو استفهام التقرير ، والتقرير حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقرّ عنده ، قال أبو الفتح في «الخاطريات» (٤) : ولا يستعمل ذلك ب «هل» (٥) وقال في قوله :

جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قطّ (٦)

__________________

(١) في المخطوطة (لمن).

(٢) في المخطوطة (غير كاذب).

(٣) تقدم النوع الأول من أنواع الاستفهام وهو النفي ص ٤٣٤.

(٤) كتاب «الخاطريات» لأبي الفتح عثمان بن جني ذكره ياقوت في معجم الأدباء ١٢ / ١١١ ضمن الكتب التي أجاز روايتها ابن جني للحسين بن أحمد بن نصر فقال : «... وكتاب ما أحضرنيه الخاطر من المسائل المنثورة مما أمللته أو حصل في آخر تعاليقي عن نفسي وغير ذلك مما هذه حاله وصورته ...» وذكره حاجي خليفة في كشف الظنون ١ / ٦٩٩ باسم «الخاطرات» وذكره صاحب الخزانة في ٢ / ٤٧٠.

(٥) في المخطوطة (بها).

(٦) عجز البيت قيل إنه للعجاج انظر ملحق ديوانه ق ٤٦ / ١ ، وهو من شواهد المبرّد في الكامل ٢ / ١٠٥٤ ،

٤٣٦

و «هل» لا تقع تقريرا كما يقع (١) غيرها [مما هو] (٢) للاستفهام (٣). [انتهى] (٤) وقال الكنديّ (٥) : ذهب كثير من العلماء في قوله تعالى : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) (الشعراء : ٧٢) إلى أن «هل» تشارك الهمزة في معنى التقرير والتوبيخ ، إلا أني رأيت أبا عليّ (٦) أبى ذلك ، وهو معذور ، فإن ذلك من قبيل الإنكار [انتهى] (٧).

ونقل الشيخ أبو حيان (٨) عن سيبويه (٩) أن استفهام التقرير لا يكون ب «هل» إنما تستعمل فيه الهمزة. ثم نقل عن بعضهم أن «هل» تأتي تقريرا [كما] (١٠) في قوله تعالى : (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) (الفجر : ٥) والكلام مع التقرير موجب ، ولذلك يعطف عليه صريح الموجب ، ويعطف على صريح الموجب.

فالأول كقوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (الضحى : ٦ ، ٧) وقوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) (الانشراح : ١ ، ٢) (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ [وَأَرْسَلَ]) (١١) (الفيل : ٢ ـ ٣).

__________________

والبغدادي في الخزانة ٢ / ٤٨٢ وصدر البيت حتّى إذا كاد الظّلام يختلط ورواية ابن عقيل ٢ / ١٥٨ : حتّى إذا جنّ الظلام واختلط وقال العيني في شرح الشواهد المطبوع بهامش خزانة الأدب ٤ / ٦١ و ٦٢ : «ذكره المبرد ونسبه إلى راجز ولم يعين اسمه وقيل هو العجاج» ، وانظر كتاب الانتصاف من الإنصاف ١ / ١١٥ لمحمد محيي الدين عبد الحميد المطبوع مع كتاب الإنصاف لأبي البركات الأنباري.

(١) في المخطوطة (يفتح).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (الاستفهام).

(٤) ساقطة من المطبوعة.

(٥) هو زيد بن الحسن بن زيد الكندي ، تقدمت ترجمته في ١ / ٤٠٢. وقد ذكر قوله السيوطي في الإتقان ٣ / ٢٣٦.

(٦) هو أبو علي الفارسي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار ، تقدم.

(٧) ساقطة من المطبوعة.

(٨) هو محمد بن يوسف ، أثير الدين أبو حيان النحوي الأندلسي ، تقدمت ترجمته في ١ / ١٣٠.

(٩) انظر الكتاب لسيبويه ٣ / ١٧٥ (بتحقيق عبد السلام محمد هارون) باب «أو».

(١٠) ساقطة من المطبوعة.

(١١) ليست في المطبوعة.

٤٣٧

والثاني : كقوله : (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) (النمل : ٨٤) على ما قرّره (١) الجرجانيّ (٢) في «النظم» ؛ حيث جعلها مثل قوله : [تعالى] (٣) : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (النمل : ١٤).

ويجب أن يلي الأداة الشيء الذي تقرر بها ، فتقول في تقرير الفعل : «أضربت زيدا؟» ، والفاعل نحو : «أأنت ضربت؟» ، أو المفعول «أزيدا (٤) ضربت» ، كما يجب في الاستفهام الحقيقي.

وقوله [تعالى] (٥) : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا) (الأنبياء : ٦٢) يحتمل الاستفهام الحقيقي ، بأن يكونوا لم يعلموا أنه (٦) الفاعل ، والتقريريّ بأن يكونوا علموا ، ولا يكون استفهاما عن الفعل ، ولا تقريرا له ، لأنه لم يله ، ولأنه أجاب بالفاعل بقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) (الأنبياء : ٦٣).

وجعل الزمخشريّ منه : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة : ١٠٦).

وقيل : أراد التقرير (٧) [بما بعد النفي لا التقرير بالنفي ، والأولى أن يجعل على الإنكار ، أي ، ألم تعلم أيّها المنكر للنسخ! وحقيقة استفهام التقرير أنه استفهام إنكار ، والإنكار نفي ، وقد دخل على المنفيّ ونفي المنفيّ إثبات. والذي يقرّر عندك أن معنى التقرير] (٧) الإثبات قول (٨) ابن السراج (٩) : فإذا

__________________

(١) في المخطوطة (قدّره).

(٢) هو عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني. تقدمت ترجمته في ٢ / ٤٢٠ ، وكتابه «نظم القرآن» تقدم في ٢ / ٢٢٥.

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) تصحفت في المخطوطة إلى (كان زيدا ضربت).

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) في المخطوطة (بأنه).

(٧) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٨) في المخطوطة (كقول).

(٩) هو محمد بن السري أبو بكر المعروف بابن السّراج النحوي كان أحد العلماء المذكورين بالأدب وعلم العربية ، صحب المبرّد وأخذ عنه العلم ، روى عنه الزجاجي ، والسيرافي ، والرماني ، وله تصانيف هامة منها : «الأصول» و «الاشتقاق» و «الموجز» وغيرها ت ٣١٦ ه‍ (القفطي ، إنباه الرواة ٣ / ١٤٥).

٤٣٨

أدخلت على «ليس» ألف الاستفهام كانت (١) تقريرا ودخلها معنى الإيجاب فلم يحسن معها «أحد» ؛ لأن «أحدا» إنما يجوز مع حقيقة النفي ؛ لا تقول : أليس أحد في الدار ؛ لأن المعنى يؤول إلى قولك : أحد في الدار ، وأحد لا تستعمل في الواجب. [انتهى] (٢).

وأمثلته كثيرة ، كقوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (الأعراف : ١٧٢) أي [إني] (٢) أنا ربكم. وقوله (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (القيامة : ٤٠). (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (يس : ٨١) (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) (الزمر : ٣٦).

(أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) (الزمر : ٣٧) (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) (الزمر : ٣٢). (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى) [١٢٩ / ب](عَلَيْهِمْ) (العنكبوت : ٥١) ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أينقص الرّطب إذا جف (٣)» ، وقول جرير :

ألستم خير من ركب المطايا (٤)

واعلم أن في جعلهم الآية الأولى من هذا النوع إشكالا ، لأنه لو خرج الكلام عن النفي لجاز أن يجاب بنعم ، وقد قيل : إنهم لو قالوا : «نعم» كفروا ، ولما حسن دخول [الباء] (٥)

__________________

(١) في المخطوطة (كان).

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) الحديث من رواية سعد بن أبي وقاص رضي‌الله‌عنه ، أخرجه مالك في الموطأ ٢ / ٦٢٤ ، كتاب البيوع (٣١) ، باب ما يكره من بيع التمر (١٢) ، الحديث (٢٢) ، والشافعي في الأم ٣ / ١٩ كتاب البيوع ، باب الربا الحديث (٥٥١) ، وأبو داود في السنن ٣ / ٦٥٤ ـ ٦٥٧ كتاب البيوع (١٧) ، باب في التمر بالتمر (١٨) ، الحديث (٢٣٥٩) والترمذي في السنن ٣ / ٥٢٨ ، كتاب البيوع (١٢) ، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة (١٤) ، الحديث (١٢٢٥) ، وقال : «حسن صحيح» والنسائي في المجتبى من السنن ٧ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ، كتاب البيوع (٤٤) ، باب. اشتراء التمر بالرطب (٣٦) ، وابن ماجة في السنن ٢ / ٧٦١ ، كتاب التجارات (١٢) ، باب بيع الرطب بالتمر (٥٣) ، الحديث (٢٢٦٤) ، وابن حبّان ذكره ابن بلبان في الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٧ / ٢٣٤ ، باب البيع المنهي عنه ، ذكر العلة التي من أجلها زجر عن بيع الثمر بالثمر ، الحديث (٤٩٨٢). والحاكم في المستدرك ٢ / ٣٨ ـ ٣٩ ، كتاب البيوع ، باب النهي عن بيع الرطب بالتمر ، والبيهقي في السنن ٥ / ٢٩٤ ـ ٢٩٥ كتاب البيوع ، باب ما جاء في النهي عن بيع الرطب بالتمر.

(٤) هذا صدر بيت وعجزه : وأندى العالمين بطون راح من قصيدة له يمدح بها عبد الملك مروان ، وهو في ديوانه ص ٧٧ (طبعة دار صادر).

(٥) ساقطة من المخطوطة.

٤٣٩

في الخبر ، ولو لم تفد (١) لفظة الهمزة استفهاما لما استحق الجواب ، إذ لا سؤال حينئذ.

والجواب يتوقف على مقدّمة ، وهي أن الاستفهام إذا دخل على النفي ، يدخل بأحد وجهين : إما أن يكون الاستفهام عن النفي : هل وجد أم لا؟ فيبقى النفي على ما كان عليه ، أو للتقرير كقوله (٢) : ألم أحسن إليك! وقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الانشراح : ١) (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً) (الضحى : ٦).

فإن كان بالمعنى الأول لم يجز (٣) دخول «نعم» في جوابه إذا أردت إيجابه ، بل تدخل عليه «بلى». وإن كان بالمعنى الثاني ـ وهو التقرير ـ فللكلام (٤) حينئذ لفظ ومعنى ، فلفظه نفي داخل عليه الاستفهام ، ومعناه الإثبات ؛ فبالنظر إلى لفظه تجيبه ببلى ، وبالنظر إلى معناه ، وهو كونه إثباتا تجيبه بنعم.

وقد أنكر عبد القاهر (٥) كون الهمزة للإيجاب ؛ لأن الاستفهام يخالف الواجب ، وقال : إنها إذا دخلت على «ما» أو «ليس» يكون تقريرا وتحقيقا ، فالتقرير كقوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) (المائدة : ١١٦) (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) (الأنبياء : ٦٢).

واعلم أن هذا النوع يأتي على وجوه :

(الأول) : مجرد الإثبات ، كما ذكرنا.

(الثاني) : الإثبات (٦) مع الافتخار ؛ كقوله تعالى عن فرعون : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) (الزخرف : ٥١).

(الثالث) : الإثبات (٦) مع التوبيخ ، كقوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً) (النساء : ٩٧) أي هي واسعة ، فهلاّ هاجرتم فيها!

(الرابع) : مع العتاب ، كقوله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) (الحديد : ١٦) قال ابن مسعود : «ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا

__________________

(١) في المخطوطة (يعد).

(٢) في المخطوطة (كقولك).

(٣) في المخطوطة (يحسن).

(٤) في المخطوطة (فله كلام).

(٥) هو عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني وانظر دلائل الإعجاز : ٨٨ و ٨٩.

(٦) في المخطوطة (للإثبات).

٤٤٠