البرهان في علوم القرآن - ج ٢

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

وقوله [١٢٢ / ب] تعالى : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) (يوسف : ١٨) أي مكذوب فيه ، وإلا لو كان على ظاهره لأشكل ، لأن الكاذب من صفات الأقوال لا الأجسام. وقال الفراء (١) : يجوز في النحو : «بدم كذبا» بالنصب على المصدر ؛ لأن (جاؤُ) فيه معنى «كذبوا كذبا» كما قال تعالى : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) (العاديات : ١) لأن «العاديات» بمعنى «الضّابحات». وعكسه (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ [لِما]) (٢) عَلَّمْناهُ (يوسف : ٦٨).

ومنه «فعيل» بمعنى الجمع ؛ كقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (التحريم : ٤) وقوله : (خَلَصُوا نَجِيًّا) (يوسف : ٨٠). وقوله : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (النساء : ٦٩). وشرط بعضهم أن يكون المخبر عنه جمعا ، وأنه لا يجيء ذلك في المثنّى ؛ ويردّه قوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (ق : ١٧) فإنه نقل الواحدي عن المبرّد ، وابن عطية (٣) عن الفرّاء أن «قعيد» أسند (٤) لهما.

وقد يقع الإخبار بلفظ الفرد عن لفظ الجمع ، وإن أريد معناه لنكتة ، كقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) (القمر : ٤٤) فإنّ سبب النزول وهو قول أبي جهل «نحن ننتصر اليوم» (٥) يقضي بإعراب «منتصر» خبرا.

ومنه إطلاق الخبر وإرادة الأمر ، كقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) (البقرة : ٢٣٣) (٦) [أي ليرضع الوالدات أولادهنّ] (٦). وقوله : (يَتَرَبَّصْنَ) (٧) [بِأَنْفُسِهِنَ (البقرة : ٢٣٤) أي تتربص] (٧) المتوفّى عنها (٨). وقوله : (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) (يوسف : ٤٧) والمعنى «ازرعوا سبع سنين» ، بدليل قوله : (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) (يوسف : ٤٧).

__________________

(١) انظر معاني القرآن ٢ / ٣٨.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) هو عبد الحق بن غالب الغرناطي تقدم في ١ / ١٠١. وانظر معاني القرآن للفراء ٣ / ٧٧.

(٤) في المخطوطة (مستند إليهما).

(٥) سبب النزول ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٤٨. أن أبا جهل ضرب فرسه يوم بدر ، فتقدّم في الصف وقال : «نحن ننتصر من محمد وأصحابه ، فنزلت : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).

(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٧) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٨) في المخطوطة (عنهن) ، وفي المخطوطة زيادة بعد كلمة عنهن هي (وقوله والمطلقات يتربصن).

٤٠١

وقوله : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ) (الصف : ١١) معناه : آمنوا وجاهدوا ، ولذلك (١) أجيب بالجزم في قوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (٢) وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ (الصف : ١٢) ولا يصح أن يكون جوابا للاستفهام في قوله : (هَلْ أَدُلُّكُمْ) (الصف : ١٠) لأن المغفرة وإدخال الجنان لا يترتبان (٣) [على] (٤) مجرد الدلالة ؛ قاله أبو البقاء (٥) والشيخ عز الدين (٦).

والتحقيق ما قاله النيليّ (٧) أنه جعل الدلالة على التجارة سببا لوجودها ، والتجارة هي الإيمان ، ولذلك (٨) فسّرها بقوله : (تُؤْمِنُونَ) (الصف : ١١) فعلم أن التجارة من جهة الدلالة هي الإيمان فالدلالة سبب الإيمان ، والإيمان سبب الغفران ، وسبب السبب سبب. وهذا النوع فيه تأكيد ؛ وهو من مجاز التشبيه ، شبه الطلب في تأكده بخبر الصادق الذي لا بدّ من وقوعه ، وإذا شبهه بالخبر الماضي كان آكد.

ومنه عكسه كقوله تعالى : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) (مريم : ٧٥) والتقدير : مدّه الرحمن مدّا. وقوله : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) (العنكبوت : ١٢) أي نحمل. قال الكواشي (٩) : والأمر بمعنى الخبر أبلغ من الخبر لتضمنه اللزوم ، نحو : إن زرتنا

__________________

(١) في المخطوطة (وكذلك).

(٢) تصحفت في المخطوطة والمطبوعة إلى (من ذنوبكم).

(٣) في المخطوطة (يترتب).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) هو عبد الله بن الحسين ، أبو البقاء العكبري وانظر قوله في كتابه إملاء ما من به الرحمن ٢ / ٢٦٠ (طبعة دار الكتب العلمية).

(٦) هو عبد العزيز بن عبد السلام ، عز الدين أبو محمد ، وانظر قوله في كتابه الإشارة إلى الإيجاز ص ٢٧ ـ ٢٨.

(٧) هو محمد بن الحسن بن أبي سارة أبو جعفر الرؤاسي النيلي ، كان ينزل النيل فقيل له النيلي ، وسمي الرؤاسي لكبر رأسه ، وكان أول من وضع من الكوفيين كتابا في النحو. قال ثعلب : «كان الرؤاسي أستاذ علي بن حمزة الكسائي والفرّاء ، وسئل الفرّاء عن الرؤاسي فأثنى عليه» ، وقال أبو الطيب اللغوي في كتاب «المراتب» : «وممن أخذ عن أبي عمرو بن العلاء من أهل الكوفة : أبو جعفر الرؤاسي عالم أهل الكوفة». من تصانيفه «الفيصل» و «معاني القرآن» و «الوقف والابتداء» توفي في أيام الرشيد قبل سنة ١٩٣ ه‍ (معجم الأدباء ١٨ / ١٢١).

(٨) في المخطوطة (وكذلك).

(٩) هو أحمد بن يوسف بن حسن الكواشي ، صاحب التفسير ، تقدم التعريف به في ١ / ٢٧٢ ، وذكر قوله السيوطي في الإتقان ٣ / ١٢٠.

٤٠٢

فلنكرمك. يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم ، كذا (١) قال الشيخ عز الدين ؛ مقصوده تأكيد (٢) الخبر ؛ لأن الأمر للإيجاب يشبه (٣) الخبر في إيجابه.

وجعل الفارسيّ منه قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا) (٤) لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (النحل : ٤٠) قال : (كُنْ) لفظه أمر والمراد الخبر ، والتقدير : [«يكون] (٥) فيكون» أو على أنه مخبر مبتدأ محذوف ؛ أي فهو يكون ، قال : ولهذا أجمع القراء على رفع (فَيَكُونُ) ورفضوا فيه النصب ؛ إلا ما روي عن ابن عامر (٦) ، وسوّغ النصب لكونه (٧) بصيغة الأمر قال : ولا يجوز أن يكون معطوفا على (نَقُولَ) فيجيء النصب على الفعل المنصوب [بأن] (٨) لأن ذلك لا يطّرد ، بدليل قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران : ٥٩) إذ لا يستقيم هنا العطف المذكور ؛ لأن (قالَ) ماض (فَيَكُونُ) مضارعا ، فلا يحسن عطفه عليه لاختلافهما. (قلت) : وهذا الذي قاله الفارسيّ ضعيف مخالف لقواعد أهل [١٢٣ / أ] السنة.

ومنه إطلاق الخبر وإرادة النهي ، كقوله : (لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ) (البقرة : ٨٣) ، ومعناه : «لا تعبدوا». وقوله : (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة : ٨٤) (٩) [أي لا تسفكوا ولا تخرجوا] (٩). وقوله : (وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) (البقرة :

٢٧٢) أي ولا تنفقوا.

* (الثاني والعشرون) ؛ إطلاق الأمر وإرادة التهديد والتلوين (١٠). وغير ذلك من المعاني الستة عشر وما زيد عليها من أنواع المجاز ؛ ولم يذكروه هنا في أقسامه.

* (الثالث والعشرون) : إضافة الفعل إلى ما ليس بفاعل له في الحقيقة. إما على

__________________

(١) في المخطوطة (وكذا) ، وانظر قول العز بن عبد السلام في كتابه الإشارة إلى الإيجاز ص ٢٨.

(٢) في المخطوطة (توكيد).

(٣) في المخطوطة (كشبه).

(٤) في المطبوعة (إنما أمرنا) والصواب الموافق للقرآن الكريم نص المخطوطة.

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) قرأ ابن عامر والكسائي (فَيَكُونُ) بالنصب والباقون بالرفع (التيسير ص ١٣٧) ..

(٧) في المخطوطة (كونه).

(٨) ساقطة من المطبوعة.

(٩) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(١٠) في المخطوطة (والتكوين).

٤٠٣

التشبيه ، كقوله تعالى : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) (الكهف : ٧٧) فإنه شبّه ميله للوقوع بشبه المريد له.

وإما لأنه وقع فيه ذلك الفعل ، كقوله تعالى : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ) (الروم : ١ و ٢) فالغلبة واقعة بهم من غيرهم ، [ثم قال] (١) : (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (الروم : ٣) فأضاف الغلب إليهم ؛ وإنما كان كذلك ؛ لأنّ الغلب وإن كان لغيرهم فهو متّصل بهم لوقوعه بهم. ومثله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) (البقرة : ١٧٧) (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) (الإنسان : ٨) فالحبّ في الظاهر مضاف إلى الطعام والمال ؛ وهو في الحقيقة لصاحبهما. ومثله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (الرحمن : ٤٦) (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي [وَخافَ وَعِيدِ]) (٢) (إبراهيم : ١٤) أي مقامه بين يديّ.

وإما لوقوعه فيه ، كقوله تعالى : (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) (المزمل : ١٧) وإما لأنه سببه ، كقوله تعالى : (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) (التوبة : ١٢٤) (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) (فصلت : ٢٣) (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) (الأعراف : ٢٧) (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (إبراهيم : ٢٨) كما تقدّم في أمثلة المجاز العقلي. وقد يقال : إن النزع والإحلال يعبّر بهما عن فعل ما أوجبهما فالمجاز إفراديّ لا إسناديّ.

وقوله تعالى : (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) (المزمل : ١٧) أي يجعل هوله : فهو من مجاز الحذف.

(الرابع والعشرون) : إطلاق الفعل والمراد مقاربته ومشارفته لا حقيقته. كقوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَ) (الطلاق : ٢) أي قاربن بلوغ الأجل ، أي انقضاء العدة لأنّ الإمساك لا يكون بعد انقضاء العدة ، فيكون بلوغ الأجل تمامه ؛ كقوله [تعالى] (٣) : (فَبَلَغْنَ) (٤) أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ (البقرة : ٢٣٢) أي أتممن العدّة وأردن مراجعة الأزواج. ولو كانت مقاربته لم يكن للولي حكم في إزالة الرجعة ؛ لأنها بيد الزوج ، ولو كان الطلاق غير رجعيّ لم يكن للوليّ أيضا عليها حكم قبل تمام العدّة ، ولا تسمّى عاضلا حتى يمنعها تمام العدّة من المراجعة.

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) في المطبوعة والمخطوطة (فإذا بلغن) وصواب نص الآية ما أثبتناه.

٤٠٤

ومثله (١) قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ) (النحل : ٦١) المعنى قارب ، وبه يندفع السؤال المشهور فيها ، إن عند (٢) مجيء الأجل لا يتصور تقديم ولا تأخير وقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) (البقرة : ١٨٠) أي قارب حضور الموت.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ* لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ* فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) (الشعراء : ٢٠٠ ـ ٢٠٢) أي حتى يشارفوا الرؤية ويقاربوها. ويحتمل أن تحمل الرؤية على حقيقتها ؛ وذلك على أن يكون : يرونه فلا يظنونه عذابا. (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) (الطور : ٤٤) (٣) [أي يعتقدونه عذابا] (٣) ولا يظنونه واقعا بهم ، [وحينئذ] (٤) فيكون أخذه لهم بغتة بعد رؤيته.

ومن دقيق هذا النوع قوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) (هود : ٤٥) المراد قارب النداء ، لا أوقع النداء ، لدخول الفاء في (فَقالَ) فإنه لو وقع النداء لسقطت ، وكان ما ذكر تفسيرا للنداء ، كقوله تعالى : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ) (آل عمران : ٣٨) [١٢٣ / ب] ، وقوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا* قالَ رَبِ) (مريم : ٣ ـ ٤) لمّا فسّر النداء سقطت الفاء. وذكر النحاة أن هذه الفاء تفسيرية ؛ لأنها عطفت مفسّرا على مجمل ، كقوله : «توضأ فغسل وجهه» وفائدة ذلك أن نوحا عليه‌السلام أراد ذلك ، فرد القصد إليه ولم يقع ، لا عن قصد.

ومنه قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) (النساء : ٩) أي وليخش الذين إن شارفوا أن يتركوا ، وإنما أوّل الترك بمشارفة الترك ؛ لأنّ الخطاب للأوصياء إنما يتوجه إليهم قبل الترك ؛ لأنهم بعده أموات.

وقريب منه إطلاق الفعل وإرادة إرادته ، كقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) (النحل : ٩٨) أي إذا أردت. وقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) (المائدة : ٦) أي

__________________

(١) في المخطوطة (ومنه).

(٢) في المخطوطة (عندي).

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٤) ساقطة من المخطوطة.

٤٠٥

إذا أردتم ، لأن الإرادة سبب القيام. (إِذا قَضى أَمْراً) (مريم : ٣٥) أي [إذا] (١) أراد. (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) (المائدة : ٤٢) أي أردت الحكم.

ومثله : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء : ٥٨).

(إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) (المجادلة : ١٢) أي أردتم مناجاته. (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (الطلاق : ١). وقوله : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) (الأعراف : ١٧٨) قال ابن عباس : من يرد الله هدايته ؛ ولقد أحسن رضي‌الله‌عنه لئلاّ يتحد الشرط والجزاء. وقوله : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام : ١٥٢) أي [إذا] (٢) أردتم القول. (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا [لَمْ يُسْرِفُوا]) (٢) (الفرقان : ٦٧) أي [إذا] (٢) أرادوا الإنفاق.

وقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) (الأعراف : ٤) لأن الإهلاك (٣) إنما [هو] (٤) بعد مجيء البأس ؛ وإنما خصّ هذين الوقتين ـ أعني البيات والقيلولة ـ لأنها وقت الغفلة والدّعة ، فيكون نزول العذاب فيهما أشدّ وأفظع. وقوله تعالى : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) (الأنبياء : ٦) أي أردنا إهلاكها. (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ) (الأعراف : ١٣٦) أي فأردنا الانتقام منهم ؛ وحكمته أنّا إذا أردنا أمرا نقدر (٥) فيه إرادتنا ، وإن كان خارقا للعادة.

وقال الزمخشري (٦) في قوله تعالى : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) (هود : ٣٢) أي أردت جدالنا وشرعت فيه ؛ وكان الموجب لهذا التقرير خوف التكرار ، لأنّ «جادلت» «فاعلت» وهو يعطي التكرار ، أو أن المعنى : لم ترد منّا غير الجدال له لا (٧) النصيحة. (قلت) : وإنما عبروا عن إرادة الفعل بالفعل ؛ لأنّ الفعل يوجد بقدرة الفاعل وإرادته وقصده إليه ، كما عبر بالفعل من (٨) القدرة على الفعل في قولهم : الإنسان لا يطير ، والأعمى لا يبصر ؛ أي لا يقدر على الطيران والأبصار ؛ وإنما حمل على ذلك دون الحمل على ظاهره للدلالة على جواز الصلاة بوضوء

__________________

(١) ساقطة من المطبوعة.

(٢) ساقطة من المطبوعة.

(٣) في المخطوطة (الهلاك).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (تقرر).

(٦) انظر الكشاف ٢ / ٢١٤.

(٧) في المخطوطة (إلى) بدل (له لا).

(٨) في المخطوطة (عن).

٤٠٦

واحد ، والحمل على الظاهر يوجب أن من جلس يتوضأ. ثم قام إلى الصلاة يلزمه وضوء آخر ، فلا يزال مشغولا بالوضوء ولا يتفرغ للصّلاة. وفساده بيّن.

* (الخامس والعشرون) : إطلاق الأمر بالشيء للتلبس به والمراد دوامه. كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) (النساء : ١٣٦) هكذا أجاب به الزمخشريّ وغيره ، وأصل السؤال غير وارد ؛ لأن الأمر لا يتعلّق بالماضي ولا بالحال ، وإنما يتعلق بالمستقبل المعدوم حالة توجه الخطاب ، فليس ذلك تحصيلا للحاصل بل تحصيلا للمعدوم ؛ فلا فرق بين أن يكون المخاطب حالة الخطاب على ذلك الفعل أم [لا] (١) لأنّ الذي هو عليه عند الخطاب مثل المأمور به لا نفس المأمور به. والحاصل أن الكلّ مأمور بالإنشاء ، فالمؤمن ينشئ ما سبق له أمثاله ؛ والكافر ينشئ ما لم يسبق منه أمثاله.

* (السادس والعشرون) : إطلاق اسم البشرى على المبشّر [به] (٢) كقوله تعالى : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) (الحديد : ١٢) قال أبو علي الفارسيّ : التقدير : بشراكم دخول جنات أو خلود جنات ، لأن البشرى مصدر ، والجنّات ذات ؛ فلا يخبر [١٢٤ / أ] بالذات عن المعنى.

ونحوه إطلاق اسم (٣) المقول على القول (٣) ، كقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ) (الإسراء : ٤٢). ومنه : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) (الإسراء : ٤٣) أي عن مدلول قولهم. ومنه : (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) (الأحزاب : ٦٩) أي من مقولهم ؛ وهو الأدرة (٤).

وإطلاق الاسم على المسمى ؛ كقوله [تعالى] (٥) (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) (يوسف : ٤٠) أي مسمّيات. (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (الأعلى : ١) أي ربك.

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (القول على المقول).

(٤) تصحفت في المخطوطة إلى (إله) والأدرة نفخة في الخصية وقيل فتق في الخصية انظر اللسان ٤ / ١٥ مادة (أدر). وانظر الكشاف ٣ / ٢٤٨.

(٥) ليست في المخطوطة.

٤٠٧

وإطلاق اسم الكلمة على المتكلم كقوله تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) (يونس : ٦٤). أي لمقتضى عذاب الله ، و (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) (آل عمران : ٤٥) تجوّز بالكلمة عن المسيح ، لكونه تكوّن بها من غير أب ، بدليل قوله : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (آل عمران : ٤٥) ولا تتّصف الكلمة بذلك. وأما قوله تعالى : (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى) (آل عمران : ٤٥) فإنّ الضمير فيه عائد إلى مدلول الكلمة ، والمراد بالاسم المسمّى ، فالمعنى : المسمّى المبشر به المسيح ابن مريم.

وإطلاق اسم اليمين على المحلوف به ؛ كقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) (البقرة : ٢٢٤) أي لا تجعلوا يمين الله أو قسم الله مانعا لما تحلفون عليه من البر والتقوى بين الناس.

إطلاق (١) الهوى عن (٢) عن المهويّ ، ومنه : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) (النازعات : ٤٠) أي عمّا تهواه من المعاصي ، ولا يصحّ نهيها عن هواها ، وهو ميلها ؛ لأنه (٣) تكليف لما لا يطاق ؛ إلا على حذف مضاف ، أي نهي النفس عن اتباع الهوى.

التجوز عن المجاز بالمجاز

وهو أن تجعل المجاز المأخوذ عن الحقيقة بمثابة الحقيقة بالنسبة إلى مجاز آخر ؛ فتتجوّز بالمجاز الأول عن الثاني لعلاقة بينهما. مثاله قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) (البقرة : ٢٣٥) فإنه مجاز عن مجاز (٤) [فإن الوطء تجوّز عنه بالسرّ ، لأنه لا يقع غالبا إلا في السرّ وتجوّز بالسرّ عن العقد ؛ لأنه مسبب عنه ، فالصحيح للمجاز الأول] (٤) الملازمة ، والثاني السببية ، والمعنى : «لا تواعدوهن عقد نكاح».

وكذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (المائدة : ٥) إن (٥)

__________________

(١) في المخطوطة : (وإطلاق).

(٢) في المخطوطة : (على).

(٣) في المخطوطة : (وهو).

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (أي).

٤٠٨

حمل على ظاهره كان من مجاز المجاز ، لأن قوله (١) : «لا إله إلا الله» مجاز عن تصديق القلب بمدلول هذا اللفظ ، والتعبير بلا إله إلا الله عن الوحدانية من مجاز التعبير بالمقول (٢) عن المقول فيه ؛ والأول من مجاز السببية ؛ لأن توحيد اللسان ، مسبّب عن توحيد الجنان.

(قلت) : وهذا يسميه ابن السيد (٣) مجاز المراتب ؛ وجعل منه قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) (الأعراف : ٢٦) فإن المنزل عليهم ليس هو نفس اللباس ؛ بل الماء المنبت (٤) للزرع ، المتخذ منه الغزل المنسوخ منه اللباس.

__________________

(١) في المخطوطة (قول).

(٢) في المخطوطة (القول).

(٣) هو عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي تقدم التعريف به في ١ / ٣٤٣.

(٤) في المخطوطة (المسبب).

٤٠٩

النوع الرابع والأربعون

في الكنايات والتعريض

في القرآن (١)

اعلم أن العرب تعد الكناية من البراعة والبلاغة ؛ وهي عندهم أبلغ من التصريح. قال الطرطوشي (٢) : وأكثر أمثالهم (٣) الفصيحة على مجاري الكنايات.

__________________

(١) الكناية باب من أبواب البلاغة ، يمكن لمن أراد التوسع فيها الرجوع للمصادر البلاغية ، وللتوسع في كناية القرآن انظر : الإشارة إلى الإيجاز للعز بن عبد السلام ص ٦٣ ، الفصل الثالث والأربعون في باب المجاز ، النوع السادس عشر من مجاز اللزوم : الكنايات ، والفوائد المشوق لابن القيم ص ١٨٧ ، في الكلام على ما يختص بالمعاني ، القسم السابع عشر ، في الكناية ، والإتقان للسيوطي ٣ / ١٤٣ ، النوع الرابع والخمسون ، في كناياته وتعريضه والتحبير له أيضا ص ١٠٦ ، النوعان ٥١ و ٥٢ : الكناية والتعريض ومفتاح السعادة لطاش كبري زاده ٢ / ٤١٤ ، علم معرفة كنايات القرآن وتعريضاته ، وأبجد العلوم للقنوجي ٢ / ٥٠٤ ، علم معرفة كنايات القرآن وتعريضاته ، والفوز الكبير في أصول التفسير للدهلوي ص ٨٣ ، في الباب الثاني ، الفصل الخامس : في المحكم والمتشابه والكناية والتعريض ، ومباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح ص ٣٣٠ ـ ٣٣٣ ، في الباب الرابع ، الفصل الثالث ، مسألة المجاز والكناية في القرآن والمجاز والكناية في القرآن مقال لمحمد محمد البحيري في مجلة الأزهر ، مج ٢٠ ، ع ٧ ، ١٣٦٨ ه‍ / ١٩٤٩ م. «والمجاز والكناية في القرآن» مقال لحامد محسن في مجلة الأزهر مج ٢٠ ، ع ٤ ، ١٣٦٨ ه‍ / ١٩٤٨ م.

ومن الكتب المؤلفة في الكناية : * «الكناية والتعريض» لأبي منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي (ت ٤٣٠ ه‍) طبع مع كتاب «المنتخب من كنايات الأدباء» للجرجاني بمطبعة السعادة في مصر ١٣٢٦ ه‍ / ١٩٠٧ م في (٥٩) ص ، وطبع باسم «النهاية في التعريض والكناية» وعلى هامشه رسالة «الفوائد العجيبة في إعراب الكلمات الغريبة» لمحمد أمين بن عابدين في مكة المكرمة ١٣٠١ ه‍ / ١٩٨٢ م في (٤٨) ص ، وطبع بدار الكتب العلمية في بيروت ١٤٠٥ ه‍ / ١٩٨٤ م في (٨٧) ص ومعه «المنتخب» للجرجاني* «المنتخب من كنايات الأدباء وإرشادات البلغاء» للقاضي أبي العباس أحمد بن محمد الجرجاني الثقفي (ت ٤٨٢ ه‍) طبع مع سالفه* «الكنايات القرآنية» ليونس إبراهيم السامرائي ، طبع في بغداد ، بجامع السامرائي ١٣٩٥ ه‍ / ١٩٧٥ م* «أسلوب الكناية في القرآن» لبسام عبد الغفور القواسمي. رسالة ماجستير بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ١٤٠٥ ه‍ / ١٩٨٥ م (أخبار التراث العربي ٢٣ / ٢٧).

(٢) تصحفت في المطبوعة إلى الطرطوسي ، والتصويب الطرطوشي بالشين وهو محمد بن الوليد بن محمد ، أبو بكر الطرطوشي صاحب «العمد في الأصول» وقد تقدمت ترجمته في ٢ / ١١٣.

(٣) في المخطوطة (أساليبهم).

٤١٠

وقد ألّف أبو عبيد (١) وغيره كتبا في الأمثال.

ومنها قولهم : «فلان عفيف الإزار» و «طاهر (٢) الذيل» ، و «لم يحصن فرجه».

وفي الحديث : «كان (٣) إذا دخل العشر أيقظ أهله ، وشد المئزر (٤)» ، فكنوا عن ترك الوطء بشدّ المئزر ، وكنى عن الجماع بالعسيلة (٥) ، وعن النساء بالقوارير (٦) لضعف قلوب النساء.

ويكنون عن الزوجة بربّة البيت ، وعن الأعمى بالمحجوب والمكفوف ، عن الأبرص بالوضّاح ، وبالأبرش ، وغير ذلك.

__________________

(١) هو القاسم بن سلام الهروي تقدم التعريف به في ١ / ١١٩ ، وكتابه هو «الأمثال السائرة» ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون ١ / ١٦٧ ، وهو مطبوع نشره المستشرق برتو في غوتنجن عام ١٢٥٢ ه‍ / ١٨٣٦ م ، وطبع ضمن مجموعة «التحفة البهية والطرفة الشهية» في الآستانة بمطبعة الجوائب عام ١٣٠٢ ه‍ / ١٨٨٤ م (معجم سركيس : ١٢١) وطبع بتحقيق عبد المجيد قطامش بمكة المكرمة ، ونشره مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى (أخبار التراث ٢ / ٢٦).

(٢) في المطبوعة : (طاهر) بدون واو.

(٣) في المخطوطة (وكان).

(٤) الحديث من رواية عائشة رضي‌الله‌عنها أخرجه البخاري في الصحيح ٤ / ٢٦٩ ، كتاب فضل ليلة القدر (٣٢). باب العمل في العشر الأواخر من رمضان (٥) ، الحديث (٢٠٢٤). ومسلم في الصحيح ٢ / ٤٣٢ ، كتاب الاعتكاف (١٤) ، باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان (٣). الحديث (٧ / ١١٧٤). ولفظ البخاري : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله».

(٥) في حديث أخرجه البخاري في الصحيح ٩ / ٤٦٤ ، كتاب الطلاق (٦٨) ، باب إذا طلقها ثلاثا ثم تزوجت بعد العدة ... (٣٧) ، الحديث (٥٣١٧) ، من حديث عائشة رضي‌الله‌عنها «أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها فتزوجت آخر فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت له أنه لا يأتيها ، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة ، فقال : لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك».

(٦) في حديث أخرجه البخاري في الصحيح ١٠ / ٥٣٨ ، كتاب الأدب (٧٨) ، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه (٩٠) الحديث (٦١٤٩). ومسلم في الصحيح ٤ / ١١٨٠ ، كتاب الفضائل (٤٣) ، باب رحمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للنساء ... (١٨) ، الحديث (٧٠ / ٢٣٢٣) عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه قال : «أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بعض نسائه ومعهن أم شكيم ، فقال : ويحك ، يا أنجشة! رويدك سوقا بالقوارير». قال أبو عبيد الهروي : «شبه النساء بالقوارير لضعف عزائمهنّ والقوارير يسرع إليها الكسر فخشي من سماعهن النشيد الذي يحدو به أن يقع بقلوبهن منه فأمره بالكف فشبه عزائمهن بسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في إسراع الكسر إليها» (ذكره ابن حجر في فتح الباري ١٠ / ٥٤٥) في سياق شرحه للحديث.

٤١١

وهو كثير في القرآن ، قال الله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ) (البقرة : ٢٣٥).

والكناية عن الشيء الدلالة عليه من غير تصريح باسمه. وهي عند أهل البيان أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له من اللغة ؛ ولكن (١) يجيء إلى معنى هو تاليه ورديفه في الوجود ، فيومي به إليه ، ويجعله دليلا عليه ، فيدلّ [١٢٤ / ب] على المراد من طريق أولى ؛ مثاله ، قولهم (٢) : «طويل النّجاد» و «كثير الرّماد» ؛ يعنون طويل القامة وكثير الضّيافة فلم يذكروا المراد بلفظه الخاص به ولكن توصّلوا إليه بذكر معنى آخر ، هو رديفه في الوجود ؛ لأن القامة إذا طالت طال (٣) النّجاد ؛ وإذا كثر القرى كثر الرماد.

وقد اختلف في أنها حقيقة أو مجاز ، فقال الطرطوشي (٤) في «العمد» : «قد اختلف في وجود الكناية في القرآن ، وهو كالخلاف في المجاز ؛ فمن أجاز وجود المجاز فيه أجاز الكناية ؛ وهو قول الجمهور ، ومن أنكر ذلك أنكر هذا.

وقال الشيخ عز الدين (٥) : الظاهر أنّها ليست بمجاز ؛ لأنك استعملت اللفظ فيما وضع له وأردت به الدلالة على غيره ؛ ولم تخرجه عن أن يكون مستعملا فيما وضع له ؛ وهذا شبيه بدليل الخطاب ، في مثل (٦) قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (الإسراء : ٢٣) [انتهى] (٧).

ولها (٨) أسباب :

* (أحدها) : التنبيه على عظم القدرة ، كقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (الأعراف : ١٨٩) كناية عن آدم.

__________________

(١) في المخطوطة زيادة وهي (ولكن قال ...).

(٢) في المخطوطة (قوله).

(٣) تصحفت في المطبوعة إلى (طالت).

(٤) تصحفت في المطبوعة إلى (الطرطوسي في العمدة) والصواب ما أثبتناه وهو أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي تقدمت ترجمته في ٢ / ١١٣. وكتابه «العمد في الأصول» ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء ١٩ / ٤٩٤.

(٥) هو عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام تقدم التعريف به ١ / ١٣٢ ، وانظر قوله في كتابه الإشارة ص ٦٣.

(٦) في المخطوطة زيادة في هذا الموضع لا يقتضيها السياق وهي (مثل بدليل) وليست في «الإشارة».

(٧) ساقطة من المطبوعة.

(٨) في المخطوطة (وله).

٤١٢

* (ثانيها) : فطنة المخاطب ، كقوله تعالى في قصة داود : (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) (ص : ٢٢) فكنى داود بخصم على لسان ملكين تعريضا. وقوله في قصة النبي [محمد] (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزيد : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) (الأحزاب : ٤٠) أي زيد (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) (الأحزاب : ٤٠). وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) (البقرة : ٢٤) فإنه كناية عن ألاّ (٢) تعاندوا عند ظهور المعجزة (٣) فتمسّكم هذه النار العظيمة.

وكذا قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (البقرة : ٢٣). وقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً ...) الآيات (يس : ٨) ، فإن هذه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمعنى : لا تظن أنك مقصّر في إنذارهم ؛ فإنا نحن المانعون لهم من الإيمان (٤) ؛ فقد جعلناهم حطبا للنار ؛ لنقوّي (٥) التذاذ المؤمن بالنعيم ، كما لا تتبين لذة الصحيح إلا عند رؤية المريض.

* (ثالثها) : ترك اللفظ [إلى] (٦) ما هو أجمل منه ؛ كقوله تعالى : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) (ص : ٢٣) فكنى بالمرأة عن النعجة كعادة العرب ، أنها تكني بها عن المرأة. وقوله : (إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) (الأنفال : ١٦) كنى بالتحيز عن الهزيمة.

وقوله [تعالى] (٧) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) (آل عمران : ٩٠) كنى بنفي قبول التوبة عن الموت على الكفر ؛ لأنه يرادفه (٨).

* (رابعها) : أن يفحش ذكره في السمع ، فيكنى عنه بما لا ينبو عنه الطبع ؛ قال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (الفرقان : ٧٢) أي كنوا عن لفظه (٩) ، ولم يوردوه على صيغته. ومنه قوله تعالى في جواب قوم هود : (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) (الأعراف :

__________________

(١) اضطربت عبارة المخطوطة كما يلي (النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

(٢) في المخطوطة (لا).

(٣) في المخطوطة (العجز).

(٤) في المخطوطة (الآيات).

(٥) في المطبوعة (ليقوي).

(٦) ساقطة من المطبوعة.

(٧) ليست في المخطوطة.

(٨) تصحفت في المطبوعة إلى (يردانه).

(٩) في المخطوطة (لفظ).

٤١٣

٦٦) (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (الأعراف : ٦٧) فكنى عن تكذيبهم بأحسن (١).

ومنه قوله [تعالى] (٢) : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) (البقرة : ٢٣٥) فكنى عن الجماع بالسر. وفيه لطيفة أخرى ، لأنه يكون من الآدميين في السر غالبا ، ولا يسرّه ـ ما عدا الآدميين ـ إلا الغراب. فإنه يسّره ؛ ويحكى أن بعض الأدباء أسرّ إلى [أبي] (٣) عليّ الحاتميّ كلاما فقال : «ليكن عندك أخفى [من] (٤) سفاد الغراب ، ومن الرّاء في كلام الألثغ» فقال : نعم يا سيدنا ؛ ومن ليلة القدر ، وعلم الغيب.

ومن عادة القرآن العظيم الكناية عن الجماع باللّمس والملامسة والرّفث ، والدخول ، والنكاح ، ونحوهنّ ، قال تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) (البقرة : ١٨٧) فكنى بالمباشرة عن الجماع لما فيه من التقاء البشرتين. وقوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) (النساء : ٤٣) إذ لا يخلو الجماع عن الملامسة. [١٢٥ / أ] وقوله في الكناية عنهنّ : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) (البقرة : ١٨٧) واللباس من الملابسة ، وهي الاختلاط والجماع.

وكنى عنهن في موضع آخر بقوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (البقرة : ٢٢٣). وقوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) (يوسف : ٢٣) كناية عمّا تطلب المرأة من الرجل. وقوله [تعالى] (٥) : (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) (الأعراف : ١٨٩).

ومنه قوله تعالى في مريم وابنها : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) (المائدة : ٧٥) فكنى بأكل الطعام عن البول والغائط ؛ لأنهما منه مسبّبان (٦) ، إذ لا بدّ للآكل منهما ، لكن استقبح في المخاطب (٧) ذكر الغائط ، فكنى به عنه. (فإن قيل) : فقد صرّح به في قوله [تعالى] (٥) : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) (المائدة : ٦) (قلنا) : لأنه جاء على خطاب العرب وما

__________________

(١) في المخطوطة (وأحسن).

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ساقطة من المخطوطة وأبو علي الحاتمي تقدم التعريف به في ٢ / ٣٧٨.

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) في المخطوطة (بسبب).

(٧) في المخطوطة (المخاطبات).

٤١٤

يألفون ؛ والمراد تعريفهم الأحكام فكان لا بدّ من التصريح به ؛ على أنّ الغائط أيضا كناية عن النّجو (١) ؛ وإنما هو في الأصل اسم للمكان المنخفض من الأرض ؛ وكانوا إذا أرادوا قضاء حاجتهم أبعدوا عن العيون إلى منخفض من الأرض ، فسمّي منه لذلك ؛ ولكنه كثر (٢) استعماله في كلامهم ؛ فصار بمنزلة التصريح (٣).

وما ذكرناه في قوله تعالى : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) (المائدة : ٧٥) هو المشهور ، وأنكره الجاحظ ، وقال : بل الكلام على ظاهره ، ويكفي في الدلالة على عدم الإلهيّة (٤) نفس أكل الطعام ، لأن الإله هو الذي لا يحتاج إلى شيء يأكله ؛ ولأنه كما لا يجوز أن يكون المعبود محدثا ، كذلك لا يجوز أن يكون طاعما ، قال الخفاجيّ (٥) : «وهذا صحيح».

(ويقال لهما) : الكناية عن الغائط (٦) فيه تشنيع وبشاعة على من اتخذهما (٧) آلهة ، فأما قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) (الفرقان : ٢٠) فهو على حقيقته. قال الوزير ابن هبيرة (٨) : وفي هذه الآية فضل العالم المتصدّي للخلق على الزاهد المنقطع ، فإنّ النبيّ كالطبيب ، والطبيب يكون عند المرضى ، فلو انقطع عنهم هلكوا.

ومنه قوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (الفيل : ٥) كنى به عن مصيرهم إلى العذرة ، فإن الورق إذا أكل انتهى حاله إلى ذلك.

__________________

(١) في المخطوطة (التجوز).

(٢) في المخطوطة (أكثر).

(٣) في المخطوطة (الصريح).

(٤) في المخطوطة (إلاهية).

(٥) هو عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان تقدم التعريف به في ١ / ١٥٣ وانظر قوله في كتابه سر الفصاحة ص ١٦٦ (طبعة دار الكتب العلمية).

(٦) في المخطوطة (الغاية).

(٧) في المخطوطة (اتخذ بهما).

(٨) هو يحيى بن محمد بن هبيرة أبو المظفر الشيباني الدوري العراقي الحنبلي. الوزير الكامل والإمام العادل ، دخل بغداد في صباه ، وطلب العلم وجالس الفقهاء ، وسمع الحديث ، وتلا بالسبع ، وشارك في علوم الإسلام ، ومهّد في اللغة ، وكان ديّنا خيّرا متعبدا عاقلا وقورا من مصنفاته «الإفصاح عن معاني الصحاح» و «العبادات» وغيرها. ت ٥٦٠ ه‍ (سير أعلام النبلاء ٢٠ / ٤٢٦).

٤١٥

وقوله تعالى : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) (فصلت : ٢١) أي لفروجهم ، فكنى عنها بالجلود ، على ما ذكره المفسرون. (فإن قيل) : فقد قال الله تعالى : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) (الأنبياء : ٩١) فصرّح بالفرج؟ (قلنا) : أخطأ من توهّم هنا الفرج الحقيقيّ ، وإنما هو من لطيف الكنايات وأحسنها ، وهي كناية عن فرج القميص ، أي لم يعلق ثوبها ريبة ، فهي طاهرة الأثواب ، وفروج القميص أربعة : الكمّان والأعلى والأسفل ، وليس المراد غير هذا ، فإن القرآن أنزه معنى ، وألطف إشارة ، وأملح عبارة من أن يريد ما ذهب إليه وهم الجاهل ، لا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدّوس ، فأضيف القدس إلى القدوس ، ونزّهت القانتة المطهّرة عن الظن الكاذب والحدس. ذكره صاحب «التعريف والإعلام» (١).

ومنه قوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) (النور : ٢٦) يريد الزناة. وقوله تعالى : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) (الممتحنة : ١٢) فإنه كناية عن الزنا. (وقيل) : أراد طرح الولد على زوجها من غيره ؛ لأن بطنها بين يديها ورجليها وقت الحمل (٢). وقوله (٣) تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) (البقرة : ١٩) وإنما يوضع في الأذن السبّابة ، فذكر الإصبع وهو الاسم العامّ أدبا ، لاشتقاقها من السب (٤) ، ألا تراهم كنّوا عنها بالمسبّحة ، والدّعاءة ، وإنما يعبّر بهما عنها لأنها ألفاظ مستحدثة. قاله الزمخشري (٥).

وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في «شرح الإلمام» (٦) : يمكن أن يقال إن ذكر

__________________

(١) هو عبد الرحمن بن عبد الله ، أبو القاسم السهيلي تقدم التعريف به في ١ / ٢٤٢ ، وانظر قوله في الكتاب ص ١١٥ (طبعة دار الكتب العلمية بتحقيق عبد. ا. مهنا).

(٢) تصحفت في المخطوطة إلى (ومنه الجمل).

(٣) في المخطوطة (وهو).

(٤) في المخطوطة (لاستقام السبب).

(٥) انظر الكشاف ١ / ٤٢.

(٦) هو محمد بن علي بن وهب بن مطبع ، ابن دقيق العبد تقدم التعريف به في ٢ / ٣٣٨ ، وكتابه «الإلمام في أحاديث الأحكام» طبع بتحقيق محمد سعيد المولوي بدار الفكر في دمشق عام ١٣٨٣ ه‍ / ١٩٦٣ م وطبع ثانيا بتحقيق غدير محمد غدير المطيري في الكويت عام ١٤٠٥ ه‍ / ١٩٨٥ م ، وشرحه المؤلف ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة ٤ / ٩٢ وذكره السبكي في طبقات الشافعية ٦ / ٤ ، وحاجي خليفة في كشف الظنون ١ / ١٥٨ وقال : «... ثم شرحه وبرع فيه وسمّاه «الإمام» ولكن عبارة حاجي خليفة مباينة للصواب حيث يفهم من عبارتي ابن حجر السبتي ، أنه صنف «الإلمام» ، و «شرحه» فخرّج منه أحاديث يسيرة في مجلدين ولم يكمل شرحه ، وجمع كتاب «الإمام» في عشرين مجلدة ، إذا كتابه «الإمام» غير شرح «الإلمام» والله أعلم.

٤١٦

الإصبع هنا (١) جامع لأمرين : أحدهما [١٢٥ / ب] التنزه عن اللفظ المكروه ، والثاني حطّ منزلة الكفار عن التعبير (٢) [باللفظ المحمود ، والأعمّ يفيد المقصودين معا ، فأتى به وهو لفظ الإصبع ، وقد جاء في الحديث الأمر بالتعبير] (٢) بالأحسن مكان (٣) القبيح كما [جاء] (٤) في حديث : «من سبقه الحدث في الصلاة فليأخذ بأنفه ويخرج (٥)» ، أمر بذلك إرشادا إلى إيهام سبب أحسن من الحدث ، وهو الرّعاف ، وهو أدب حسن من الشرع في (٦) ستر العورة وإخفاء (٦) القبيح. وقد صحّ نهيه عليه‌السلام أن يقال : الكرم ، وقال : «إنما الكرم الرجل المسلم (٧)» ، كره الشارع تسميتها بالكرم لأنها (٨) [تعتصر منها أم الخبائث. وحديث : «كان يصيب من الرأس وهو صائم (٩)» ، قيل هو إشارة إلى القبلة ، وليس لفظ] (٨) القبلة مستهجنا. وقوله : «إياكم وخضراء الدمن» (١٠).

__________________

(١) في المخطوطة (هاهنا).

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (ممّا في).

(٤) ساقطة من المطبوعة.

(٥) الحديث يروى عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي‌الله‌عنها ، أخرجه ابن ماجة في السنن ١ / ٣٨٦ ، كتاب إقامة الصلاة ... (٥) ، باب ما جاء فيمن أحدث في الصلاة كيف ينصرف (١٣٨) ، الحديث (١٢٢٢).

(٦) عبارة المخطوطة (إخفاء العورة وستر).

(٧) الحديث من رواية أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أخرجه البخاري في الصحيح ١٠ / ٥٦٦ ، كتاب الأدب (٧٨) ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما الكرم قلب المؤمن» ... (١٠٢) ، الحديث (٦١٨٣). وأخرجه مسلم في الصحيح ٤ / ١٧٦٣ ، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها (٤٠) ، باب كراهة تسمية العنب كرما (٢) ، الحديث (٦ و ١٠ / ٢٢٤٧) واللفظ له.

(٨) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٩) الحديث من رواية ابن عباس وعائشة رضي‌الله‌عنهما ، أما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد في المسند ١ / ٢٤٩ و ٣٦٠ ، وأخرجه البزار ذكره الهيثمي في كشف الأستار ١ / ٤٨٠ باب القبلة للصائم وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٢ / ١٦٧ كتاب الصيام باب القبلة للصائم). وأما حديث عائشة رضي‌الله‌عنها فأخرجه أحمد في المسند ٦ / ٢٦٥.

(١٠) الحديث من رواية أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه ، أخرجه القضاعي في مسند الشهاب ٢ / ٩٦ ، الحديث (٦٢٢ / ٩٥٧) ، وأخرجه الديلمي في فردوس الأخبار ١ / ٤٦٤ ، فصل في التحذير والوعيد الحديث (١٥٤١) ، وأخرجه الرامهرمزي ، والعسكري في الأمثال ، وابن عدي في الكامل والخطيب في إيضاح الملتبس وذكره أبو عبيد في الغريب ٣ / ٩٩ (التلخيص الحبير ٣ / ١٤٥). والدّمن : البعر

٤١٧

* (خامسها) : تحسين اللفظ ؛ كقوله تعالى : (بَيْضٌ مَكْنُونٌ) (الصافات : ٤٩) فإن العرب كانت [من] (١) عادتهم الكناية عن حرائر النساء بالبيض ، قال امرؤ القيس :

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتّعت من لهو بها غير معجل (٢)

وقوله تعالى (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (المدثر : ٤) ومثله قول عنترة :

فشككت بالرّمح الطويل ثيابه

ليس الكريم على القنا بمحرّم (٣)

* (سادسها) : قصد البلاغة ، كقوله تعالى : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (الزخرف : ١٨) فإنه سبحانه كنى عن النساء بأنهنّ ينشّأن في الترفّه والتّزيّن والتشاغل عن النظر في الأمور ودقيق المعاني ، ولو أتى بلفظ النساء لم يشعر بذلك ؛ والمراد نفي [حمل] (٤) ذلك ـ أعني (٥) الأنوثة ـ عن الملائكة ، وكونهم بنات الله ؛ [تعالى الله] (٦) عن ذلك. وقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (البقرة : ١٧٥) أي هم في التمثيل بمنزلة المتعجّب (٧) منه بهذا التعجب (٨).

* (سابعها) : قصد المبالغة في التشنيع ؛ كقوله تعالى حكاية عن اليهود لعنهم الله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) (المائدة : ٦٤) فإن الغلّ كناية عن البخل ، كقوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) (الإسراء : ٢٩) لأن جماعة كانوا متمولين ، فكذبوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكفّ الله عنهم ما أعطاهم ، وهو سبب نزولها (٩).

وأما قوله تعالى : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) (المائدة : ٦٤) فيحمل على المجاز على وجه الدعاء والمطابقة للّفظ ؛ ولهذا قيل : إنهم أبخل خلق الله ، والحقيقة أنهم تغلّ أيديهم في الدنيا بالإسار ، وفي الآخرة بالعذاب وأغلال النار. وقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (المائدة :

__________________

تجمعه الريح ثم يركبه السافي فإذا أصابه المطر ينبت نبتا ناعما يهتز وتحته الدّمن الخبيث والمعنى : لا تنكحوا المرأة لجمالها وهي خبيثة الأصل لأن عرق السوء لا يجب» انتهى.

(١) ساقطة من المطبوعة.

(٢) البيت من معلقته «قفا نبك ...» انظر ديوانه ص ٣٨ (طبعة دار صادر).

(٣) البيت من معلقته «هل غادر الشعراء من متردم» انظر ديوانه ص ٢٦ (طبعة دار صادر).

(٤) ساقطة من المطبوعة.

(٥) في المخطوطة (على).

(٦) ليست في المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (التعجب).

(٨) في المخطوطة (العجب).

(٩) انظر البحر المحيط ٦ / ٣١.

٤١٨

٦٤) كناية عن كرمه ، وثنّى اليد ـ وإن أفردت في أول الآية ـ ليكون أبلغ في السخاء والجود.

* (ثامنها) : التنبيه على مصيره ، كقوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) (المسد : ١) أي جهنميّ مصيره إلى اللهب. وكقوله : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (المسد : ٤) أي نمّامة ، ومصيرها إلى أن تكون حطبا لجهنّم.

* (تاسعها) : قصد الاختصار (١) ؛ ومنه الكناية عن أفعال متعدّدة بلفظ «فعل» ، كقوله [تعالى] (٢) (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة : ٧٩) (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) (النساء : ٦٦) (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (البقرة : ٢٤) أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا.

* (عاشرها) : أن يعمد إلى جملة ورد معناها على خلاف الظاهر ، فيأخذ الخلاصة منها من غير اعتبار مفرداتها بالحقيقة أو المجاز ، فتعبر بها عن مقصودك (٣) ؛ وهذه الكناية استنبطها الزمخشريّ (٤) ، وخرج عليها قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه :

٥) فإنه كناية عن الملك ؛ لأن الاستواء على السرير لا يحصل إلا مع الملك ، فجعلوه كناية عنه.

وكقوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) الآية (الزمر : ٦٧) إنه كناية عن عظمته وجلالته من غير ذهاب بالقبض واليمين إلى جهتين : حقيقة ومجاز.

وقد اعترض الإمام فخر الدين (٥) [١٢٦ / أ] على ذلك بأنها تفتح باب تأويلات الباطنية ، فلهم أن يقولوا : المراد من قوله : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) (طه : ١٢) الاستغراق في الخدمة من غير الذهاب إلى نعل وخلعه ، وكذا نظائره. انتهى. وهذا مردود لأن [هذه] (٦) الكناية إنما يصار إليها عند عدم إجراء اللفظ على ظاهره ، كما سبق من الأمثلة ، بخلاف خلع النعلين ونحوه.

(تنبيهان)

الأول : في أنه هل يشترط في الكناية قرينة كالمجاز؟. هذا ينبني على الخلاف السابق

__________________

(١) في المخطوطة (الاختصاص).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (مقصوده).

(٤) انظر الكشاف ٢ / ٤٢٧.

(٥) الرازي في تفسيره ٢٢ / ٧.

(٦) ساقطة من المطبوعة.

٤١٩

أنها مجاز أم لا. وقال الزمخشريّ (١) في قوله تعالى : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) (الآية : ٧٧) في سورة آل عمران : إنه مجاز عن الاستهانة بهم ، والسخط عليهم ، تقول : فلان لا ينظر إلى فلان ، تريد [نفي] (٢) اعتداده به وإحسانه إليه ، قال : وأصله فيمن يجوز عليه الكناية ؛ لأنّ من اعتدّ بالإنسان التفت إليه ، وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد (٣) والإحسان (٤) ، وإن لم يكن ثمّ نظر ، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر (٥) [مجردا لمعنى الإحسان ، مجازا عمّا وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر] (٥) انتهى.

وهذا بناء منه على مذهبه الفاسد في نفي الرؤية ؛ وفيه تصريح بأن الكناية مجاز وبه صرّح في قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) (البقرة : ٢٣٥). وصرح الشيخ [عبد القاهر] (٥) الجرجانيّ (٦) في «الدلائل» بأنّ الكناية لا بدّ لها من قرينة.

الثاني : قيل من عادة العرب أنها لا تكني عن الشيء بغيره ؛ إلا إذا كان يقبح ذكره ، وذكروا احتمالين في قوله : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) (النساء : ٢١). (أحدهما) : أنه كنى بالإفضاء عن الإصابة. (والثاني) : أنه كنى عن الخلوة.

__________________

(١) انظر الكشاف ١ / ١٩٧.

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) تصحفت في المطبوعة إلى (الاعتداء).

(٤) في المخطوطة (الاستحسان).

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٦) هو عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني. عالم بالنحو والبلاغة. أخذ النحو بجرجان عن الشيخ أبي الحسن محمد بن الحسن الفارسي ، وقرأه ، ونظر في تصانيف النحاة والأدباء ، ومن تلاميذه المتصدرين ببغداد علي بن زيد. وقد تخرج به جماعة كثيرة من تصانيفه «المقتصد» و «الجمل» و «إعجاز القرآن» وغيرها ت ٤٧١ ه‍. (إنباه الرواة ٢ / ١٨٨) ، وكتابه «دلائل الإعجاز» طبع بتحقيق محمد عبده ومحمد رشيد ومحمد محمود الشنقيطي في القاهرة بمطبعة الترقي والمنار عام ١٣١٩ ـ ١٣٢١ ه‍ / ١٩٠١ ـ ١٩٠٣ م وطبع في القاهرة أيضا عام ١٣٣١ ه‍ / ١٩١٢ م ، وطبع في تطوان بالمطبعة المهدية بتحقيق محمد بن تاويت عام ١٣٧٠ ه‍ / ١٩٥٠ م ، وطبع في دمشق بدار قتيبة بتحقيق د. محمد رضوان الداية ومحمد فائز الداية عام ١٤٠٢ ه‍ / ١٩٨٢ م ، وصوّر في بيروت بدار المعرفة عن طبعة الترقي والمنار عام ١٤٠١ ه‍ / ١٩٨١ م ، وفي الرياض بمكتبة المعارف ، وفي القاهرة بمكتبة القاهرة ، وفي الرياض بدار اللواء.

٤٢٠