البرهان في علوم القرآن - ج ٢

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

وهم لم يدعوه إلى النار ، إنما دعوه إلى الكفر ؛ بدليل قوله : (تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ) (المؤمن : ٤٢) لكن لما كانت النار مسبّبة عنه أطلقها عليه. وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ) (البقرة : ٢٤) أي العناد المستلزم للنار. وقوله : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) (النساء : ١٠) لاستلزام أموال اليتامى [إياها] (١).

وقوله تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) (النور : ٣٣) إنما أراد ـ والله أعلم ـ الشيء الذي ينكح به ، من مهر ونفقة وما لا بدّ للمتزوج منه. وقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (البقرة : ١٨٨) أي لا تأكلوها بالسبب الباطل الذي هو القمار. وقوله : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (المدثر : ٥) أي عبادة الأصنام ؛ لأن العذاب مسبّب عنها. وقوله : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (التوبة : ١٢٣) أي وأغلظوا (٢) عليهم ، ليجدوا ذلك ، وإنما عدل إلى الأمر بالوجدان تنبيها على أنه المقصود لذاته ، وأما الإغلاظ فلم يقصد لذاته بل لتجدوه.

(الثاني) : عكسه ، وهو إيقاع السبب موقع المسبب (٣). كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (الشورى : ٤٠). وقوله [١١٨ / ب] تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (البقرة : ١٩٤). سمى الجزاء الذي هو السبب سيئة واعتداء ، فسمّى الشيء باسم سببه وإن عبّرت السيئة (٤) عما ساء ـ أي أحزن ـ لم يكن من هذا الباب ، لأن الإساءة تحزن في الحقيقة ، كالجناية (٥).

ومنه : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (آل عمران : ٥٤) تجوّز بلفظ «المكر» عن عقوبته لأنه (٦) سبب لها. ومنه قوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) (البقرة : ٢٨٢) إنما جعلت المرأتان للتذكير إذا وقع الضّلال لا ليقع الضلال ؛ فلما كان الضلال سببا للتذكير أقيم مقامه.

ومنه إطلاق اسم الكتاب على الحفظ ، أي المكتوب فإن الكتابة سبب له ، كقوله

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (واغلظ).

(٣) انظر الإشارة إلى الإيجاز ص ٣٧ ، الفصل الخامس والعشرون من أنواع المجاز.

(٤) في المخطوطة (بالسيئة).

(٥) في المخطوطة (كالخزانة).

(٦) في المخطوطة (لأنها).

٣٨١

تعالى : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) (آل عمران : ١٨١) أي سنحفظه حتى نجازيهم عليه. ومنه إطلاق اسم السمع على القبول ، كقوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) (هود : ٢٠) أي ما كانوا يستطيعون قبول ذلك والعمل به ، لأن قبول الشيء مرتب على سماعه ومسبّب عنه. ويجوز أن يكون نفي السّمع لابتغاء فائدته. ومنه قول الشاعر :

وإن حلفت لا ينقض النّأي عهدها

فليس لمخضوب البنان يمين (١).

أي وفاء يمين.

ومنه إطلاق الإيمان على ما (٢) نشأ عنه من الطاعة ، كقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (البقرة : ١٤٣) (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (البقرة : ٨٥) أي أفتعملون (٣) ببعض التوراة وهو فداء الأسارى ، وتتركون العمل ببعض وهو قتل إخوانهم وإخراجهم من ديارهم.

وجعل الشيخ عز الدين (٤) من الأنواع نسبة الفعل إلى سبب سببه ، كقوله تعالى : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) (البقرة : ٣٦) أي كما أخرج أبويكم فلا يخرجنكما من الجنة : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) (الأعراف : ٢٧). المخرج والنازع في الحقيقة هو الله عزوجل ، وسبب ذلك أكل الشجرة (٥) [وسبب أكل الشجرة] (٥) وسوسة الشيطان ومقاسمته على أنه من الناصحين. وقد مثّل البيانيون بهذه الآية للسبب وإنما هي لسبب السبب. وقوله : (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (إبراهيم : ٢٨) لما أمروهم بالكفر الموجب لحلول النار.

(الثالث) : إطلاق اسم الكل على الجزء. قال تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) (البقرة : ١٩) أي أناملهم ؛ وحكمة التعبير عنها بالأصابع (٦) [الإشارة إلى أنهم يدخلون أناملهم في آذانهم بغير المعتاد ، فرارا من الشدة ، فكأنهم جعلوا الأصابع. وقال تعالى] (٦) (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) (المائدة : ٦) واليد حقيقة إلى المنكب ،

__________________

(١) البيت في الإشارة إلى الإيجاز للعز بن عبد السلام ص ٧٥.

(٢) في المخطوطة (عمّا نشأ).

(٣) في المخطوطة (فيعملون).

(٤) انظر الإشارة إلى الإيجاز ص ٤٥ ، الفصل الثامن والعشرون في نسبة الفعل إلى سبب سببه.

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٧) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

٣٨٢

هذا إن جعلنا (إِلَى) بمعنى «مع» ، ولا يجب غسل جميع الوجه إذا ستره بعض الشعور الكثيفة.

وقوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (المائدة : ٣٨) والمراد هو البعض الذي هو الرسغ. وقال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) (البقرة : ٢٤٩) أي من لم يذق. وقوله : (تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) (المنافقون : ٤) والمراد وجوههم ؛ لأنه لم ير جملتهم.

ومنه قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة : ١٨٥) استشكله الإمام (١) في «تفسيره» من جهة أن الجزاء إنما يكون بعد تمام الشرط والشرط أن يشهد الشهر ، وهو اسم لثلاثين يوما. وحاصل جوابه أنه أوقع الشهر وأراد جزءا منه ، و (٢) إرادة الكل باسم الجزء (٢) مجاز شهير. ونقل عن علي (٣) [رضي‌الله‌عنه أن المعنى : من شهد أول الشهر فليصم جميعه ، وأن الشخص متى كان مقيما أو في البر ثم سافر ، يجب عليه صوم الجميع. والجمهور على] (٣) أن هذا عام ، مخصّص بقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً ...) الآية (البقرة : ١٩٦). ويتفرع على هذا أن من أدرك الجزء الأخير من رمضان : هل يلزمه صوم ما سبق إن كان مجنونا في أوله؟ فيه قولان.

(الرابع) : إطلاق اسم الجزء على الكل. كقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) (القصص : ٨٨) أي ذاته (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) (الرحمن : ٢٧) وقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة : ١٤٤). وقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ* عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) (الغاشية : ٢ و ٣) يريد الأجساد ، لأن العمل والنّصب من صفاتها [١١٩ / أ] وأما قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) (الغاشية : ٨) فيجوز أن يكون من هذا ؛ عبّر بالوجوه عن الرجال. ويجوز أن يكون من وصف البعض بصفة الكلّ لأنّ التنعم منسوب إلى جميع

__________________

(١) عنى به الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير ٥ / ٨٨ ـ ٨٩ بتصرف ، وانظر الإتقان ٣ / ١١١.

(٢) في المخطوطة (وإرادة الجزء باسم الكل).

(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة ، والأثر عن علي رضي‌الله‌عنه ذكره الرازي في التفسير ٥ / ٨٨ وأخرجه عبد بن حميد ، والطبري في التفسير ٢ / ٨٦ ، وابن أبي حاتم (وانظر الدر المنثور ١ / ١٩٠).

٣٨٣

الجسد. ومنه : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) (القيامة : ٢٢) فالوجه المراد به جميع ما تقع به المواجهة لا الوجه وحده.

وقد اختلف في تأويل «الوجه» الذي جاء مضافا إلى الله في مواضع من القرآن ، فنقل ابن عطية عن الحذاق أنه راجع إلى الوجود ، والعبارة عنه بالوجه مجاز ؛ إذ هو (١) أظهر الأعضاء في المشاهدة وأجلّها قدرا. وقيل [وهو الصواب] (٢) : هي صفة ثابتة بالسمع ، زائدة على ما توجبه العقول من صفات الله تعالى ، وضعّفه إمام الحرمين. وأما قوله تعالى : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (البقرة : ١١٥) فالمراد الجهة التي وجّهنا إليها في القبلة.

وقيل : المراد به الجاه ، أي فثمّ جلال الله وعظمته.

وقوله : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٣) (الشورى : ٣٠) (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) (البقرة : ١٩٥) تجوّز بذلك عن الجملة. وقوله : (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (الأنفال : ١٢) البنان الإصبع ؛ تجوّز بها عن الأيدي والأرجل ، عكس قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ) (البقرة : ١٩). وقوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (المجادلة : ٣). وقوله (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (القلم : ١٦) عبّر بالأنف عن الوجه. (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) (الحاقة : ٤٥).

وكقوله تعالى : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (البقرة : ٢٨٣) أضاف الإثم إلى القلب (٤) [وإن كانت الجملة كلها آثمة ؛ من حيث كان محلا لاعتقاد الإثم والبرّ كما نسبت الكتابة إلى اليد من حيث إنها تفعل بها في قوله تعالى : (مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) (البقرة : ٧٩] (٤) وإن كانت الجملة كلها كاتبة ولهذا قال : (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة : ٧٩). وكذا قوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (الأنعام : ١٠٣) وقيل : المعنى على حذف المضاف ؛ لأنّ المدرك هو الجملة دون الحاسّة ، فأسند الإدراك إلى الأبصار ، لأنه بها يكون. وكقوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (آل عمران : ٢٨) أي إياه. (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) (المائدة : ١١٦).

وجعل منه بعضهم قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) (النور : ٣٠)

__________________

(١) في المخطوطة (وهو) بدون (إذ).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) تصحفت الآية في المخطوطة إلى (بما كسبت يداك).

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

٣٨٤

وحكى ابن فارس (١) عن جماعة أن (مِنْ) هنا للتبعيض ؛ لأنهم أمروا بالغضّ عما يحرم النظر إليه. وقوله : (قُمِ اللَّيْلَ) (المزمل : ٢) أي صلّ في الليل ؛ لأن القيام بعض الصلاة. وكقوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) (الإسراء : ٧٨) أي صلاة الفجر. ومنه (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (البقرة : ١٤٤) والمراد جميع الحرم. وقوله : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (البقرة : ٤٣) أي المصلين. (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) (الإسراء : ١٠٧) (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) (الإسراء : ١٠٩) أي الوجوه.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (آل عمران : ٥) فعبّر بالأرض والسماء عن العالم ؛ لأن المقام مقام الوعيد ؛ والوعيد إنما يحصل لو بيّن أن الله لا يخفى عليه أحوال العباد ؛ حتى يجازيهم على كفرهم وإيمانهم ، والعباد وأحوالهم ليست السماء والأرض بل من العالم فيكون المراد بالسماء والأرض العالم ؛ إطلاقا للجزء على الكلّ.

وقوله : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) (التوبة : ٦١) قال الفارسي : جعله على المجاز «أذنا» لأجل إصغائه ؛ قال : ولو صغّرت «أذنا» هذه التي في هذه الآية ، كان في لحاق التاء فيها وتركها نظر.

وجعل الإمام فخر الدين (٢) قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) (البقرة : ١٢٥). المراد به جميع الحرم ، لا صفة الكعبة فقط ، بدليل قوله : (أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) (العنكبوت : ٦٧) وقوله : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) (المائدة : ٩٥) والمراد الحرم كله ، لأنه لا يذبح في الكعبة ، قال : وكذلك «المسجد [الحرام] (٣)» في قوله [تعالى] (٤) : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) (التوبة : ٢٨) والمراد منعهم من الحج وحضور مواضع النسك.

وقيل في قوله تعالى : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (القيامة : ٤) أي نجعلها صفحة مستوية لا شقوق فيها كخف البعير ، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة ، كالكتابة

__________________

(١) أحمد بن فارس بن زكريا تقدم التعريف به ١ / ١٩١.

(٢) انظر تفسيره ٤ / ٤٥ ، عند تفسير الآية.

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) ساقطة من المطبوعة.

٣٨٥

والخياطة ونحوها من الأعمال التي يستعان فيها بالأصابع ، قالوا : وذكرت [١١٩ / ب] البنان لأنه قد ذكرت اليدان ؛ فاختصّ منها ألطفها.

وجوّز أبو عبيدة (١) ورود البعض وإرادة الكلّ ؛ وخرّج عليه قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) (الزخرف : ٦٣) أي كلّه ، وقوله [تعالى] (٢) : (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) (غافر : ٢٨) وأنشد بيت لبيد :

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يعتلق (٣) بعض النفوس حمامها (٤)

قال : والموت لا يعتلق بعض النفوس دون بعض ؛ ويقال للمنيّة : علوق ، وعلاقة. انتهى. وهذا الذي قاله فيه أمران : (أحدهما) : أنه ظنّ أن النبيّ يجب عليه أن يبيّن في شريعته جميع ما اختلفوا فيه ؛ وليس كذلك ؛ بدليل سؤالهم عن الساعة وعن الروح وغيرهما (٥) مما لا يعلمه إلا الله. وأما الآية الأخرى ، فقال ثعلب : إنه كان وعدهم بشيء من العذاب : عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فقال : يصبكم هذا العذاب في الدنيا ، ـ وهو بعض الوعيد ـ من غير نفي عذاب الآخرة. (الثاني) : أنه أخطأ في فهم البيت ؛ وإنما (٦) مراد الشّاعر ببعض النفوس نفسه هو ، لأنها بعض النّفوس حقيقة ؛ ومعنى البيت : أنا إذا لم أرض الأمكنة أتركها إلى أن أموت ؛ أي إذا تركت شيئا لا أعود إليه إلى أن أموت ، كقول الآخر :

إذا انصرفت نفسي عن الشّيء لم تكد

إليه بوجه آخر الدّهر ترجع

وقال الزمخشريّ : إن صحّت الرواية عن أبي عبيدة ، (٧) فيدخل فيه قول (٧) المازني (٨)

__________________

(١) في كتاب مجاز القرآن ٢ / ٢٠٥.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (يتعلق).

(٤) البيت في ديوانه ص ١٧٥ (طبعة دار صادر) من معلقته التي مطلعها :

عفت الدّيار محلّها فمقامها

بمنى تأبّد عولها فرجامها

(٥) في المخطوطة (وغيرها).

(٦) في المخطوطة (وإن).

(٧) العبارة في المخطوطة (فقد حق منه قال ...).

(٨) هو بكر بن محمد بن بقية ، أبو عثمان المازني شيخ نحاة البصرة تقدم في ٢ / ٣٦٥. وقد ذكر القصة كاملة القفطي في إنباه الرواة ١ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩ في ترجمته.

٣٨٦

في مسألة «العلقى» (١) : كان أجفى (٢) من أن يفقه ما أقول (٣) له. وأشار الزمخشري بذلك إلى أن أبا عبيدة قال للمازني : ما أكذب النحويين! يقولون : هاء التأنيث [لا] (٤) تدخل على ألف التأنيث وإن الألف في «علقى» [ملحقة] (٥) ، قال : فقلت له : وما أنكرت من ذلك؟ قال سمعت رؤبة (٦) ينشد

فحطّ في علقى وفي مكور

فلم ينوّنها ، فقلت : ما واحد العلقى؟ فقال : علقاة ، قال المازنيّ : فأسفت ولم أفسّر له لأنه كان أغلظ من أن يفهم مثل هذا.

قلت : ويحتمل قوله : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) (غافر : ٢٨) أن الوعيد مما لا يستنكر ترك جميعه ، فكيف بعضه! ويدلّ قوله في آخر هذه السورة : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٧) (غافر : ٧٧) وفيها تأييد لكلام ثعلب أيضا.

وقد يوصف البعض ، كقوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) (غافر : ١٩) وقوله : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) (العلق : ١٦) الخطأ صفة الكلّ فوصف به الناصية ، وأما الكاذبة فصفة اللسان (٨). وقد يوصف الكلّ بصفة البعض كقوله : (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) (الحجر : ٥٢) والوجل صفة القلب. وقوله ([وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ]) (٩) رُعْباً (الكهف : ١٨) والرعب إنما يكون في القلب.

(الخامس) : إطلاق اسم الملزوم على الملازم. كقوله تعالى : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ

__________________

(١) سيأتي ذكرها بعد أسطر.

(٢) في المخطوطة (أخفى).

(٣) في المخطوطة (بالقول).

(٤) ساقطة من المطبوعة.

(٥) ساقطة من المخطوطة.

(٦) رؤبة بن العجاج الشاعر ، تقدمت ترجمته في ١ / ١٨٠. وتمام البيت* بين تواري الشّمس والذّرور* كما في لسان العرب ١٠ / ٢٦٤ ، و «العلقى» : شجر تدوم خضرته في القيظ ولها أفنان طوال دقاق وورق لطاف.

(٧) تصحفت في المخطوطة إلى (مرجعهم).

(٨) في المخطوطة (للسان).

(٩) ليست في المخطوطة.

٣٨٧

سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) (الروم : ٣٥) أي أنزلنا برهانا يستدلون به ، وهو يدلّهم ، سمّى (١) الدلالة «كلاما» ، لأنّها من لوازم الكلام. وقوله : (صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) (الأنعام : ٣٩) فإن الأصل «عمي» لقوله في موضع آخر : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) (البقرة : ١٨) لكن أتى بالظلمات لأنها من لوازم العمي. فإن قيل : ما الحكمة في دخول الواو هنا وفي التعبير بالظلمات عن العمى بخلافه في الآية الأخرى (٢).

(السادس) : إطلاق اسم اللازم على الملزوم. كقوله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) (الصافات : ١٤٣) أي المصلّين.

(السابع) إطلاق اسم المطلق على المقيد : كقوله : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) (الأعراف : ٧٧) والعاقر لها من قوم صالح قدار (٣) ؛ لكنّهم (٤) لما رضوا الفعل (٥) نزّلوا منزلة الفاعل.

(الثامن) : عكسه. كقوله تعالى [١٢٠ / أ] : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) (آل عمران : ٦٤) والمراد كلمة (٦) الشهادة ، وهي عدة كلمات.

(التاسع) : إطلاق اسم الخاص وإرادة العام. كقوله تعالى : (إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (الزخرف : ٤٦) أي رسله. وقال : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) (المنافقون : ٤) أي الأعداء. (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) (التوبة : ٦٩) أي الذين. وقوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) (التكوير : ١٤) [أي كلّ نفس] (٧). وقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (الشورى : ٤٠) أي كلّ سيئة. وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) (الأحزاب : ١) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد الناس جميعا.

__________________

(١) في المخطوطة (فسمّى).

(٢) كذا في المخطوطة ذكر السؤال ولم يذكر الجواب.

(٣) تصحفت في المخطوطة إلى (قيدار) ، قال القرطبي في التفسير ٧ / ٢٤١ : «وقد اختلف في عاقر الناقة على أقوال : أصحها ما في صحيح مسلم ٤ / ٢١٩١ ، الحديث ٤٩ / ٢٨٥٥ من حديث عبد الله بن زمعة قال «خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة» وذكر الحديث ، وقيل في اسمه : قدار بن سالف ، وحديث مسلم رواه أيضا البخاري في الصحيح ٦ / ٣٧٨ كتاب أحاديث الأنبياء (٦٠) الحديث (٣٣٧٧) وفي التفسير (٦٥) الحديث (٤٩٤٢).

(٤) في المخطوطة (لكن).

(٥) في المخطوطة (بالفعل).

(٦) في المخطوطة (كل).

(٧) ساقطة من المخطوطة.

٣٨٨

(العاشر) إطلاق اسم العام وإرادة الخاص. كقوله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) (الشورى : ٥) (١) [أي للمؤمنين ، بدليل قوله في موضع آخر : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)] (١) (غافر : ٧) ولمّا خفي هذا على بعضهم زعم أنّ الأولى منسوخة بالثانية.

وكقوله تعالى : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (البقرة : ١١٦) أي أهل طاعته ، لا الناس أجمعون ، حكاه الواحديّ عن ابن عباس وغيره ، واختاره الفرّاء (٢). وقوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) (البقرة : ٢١٣) قيل : المراد بالناس هنا نوح ومن معه في السفينة. وقيل آدم وحواء.

وقوله : (وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (آل عمران : ٣٣) أي عالمي زمانه ، ولا يصح العموم ؛ لأنه إذا فضّل أحدهم على العالمين فقد فضّل على سائرهم ؛ لأنه (٣) من العالمين ، فإذا فضّل الآخرين على العالمين فقد فضّلهم أيضا على الأول ؛ لأنه من العالمين ، فيصير الفاضل مفضولا ؛ ولا يصح. وقوله : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (الذاريات : ٤٢) أي شيء يحكم عليه بالذهاب ، بدليل قوله : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ) (الأحقاف : ٢٥). وقوله : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) (الأحقاف : ٢٥) [ولم تجتح هودا والمسلمين معه] (٤). وقوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (النمل : ٢٣) مع أنها لم تؤت لحية ولا ذكرا. وقوله : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام : ٤٤) أي أحبّوه.

وقوله : (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) (النور : ٣٩) أي [شيئا] (٥) مما ظنّه وقدره (٦). وقوله حكاية عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام : ١٦٣) وعن موسى (٧) (وَأَنَا أَوَّلُ (٨) الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف : ١٤٣) ولم يرد الكلّ ؛ لأن الأنبياء

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) معاني القرآن ١ / ٧٤.

(٣) في المخطوطة (لأنهم).

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) ساقطة من المطبوعة.

(٦) في المخطوطة (وقدروه).

(٧) في المخطوطة (عيسى عليه‌السلام).

(٨) تصحفت الآية في المخطوطة إلى (وأنا أول المسلمين المؤمنين).

٣٨٩

قبلهما (١) كانوا مسلمين ومؤمنين (٢). وقال : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) (الشعراء : ٢٢٤) ولم يعن كل الشعراء. وقوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ [إِخْوَةٌ]) (٣) (النساء : ١١) أي أخوان فصاعدا.

وقوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) (الأعراف : ١٦١) أي بابا من أبوابها ، [كذا] (٤) قاله المفسرين.

وقوله : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) (الحجرات : ١٤) وإنما قاله فريق منهم. (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) (الإسراء : ٥٩) وأراد الآيات التي إذا كذّب بها نزل العذاب على المكذّب. وقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) (الشوري : ٥) أي من المؤمنين. وقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (المؤمن : ٧). وقوله : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ) (الأنعام : ٦٦) والمراد بعضهم ، فإنّ منهم أفاضل (٥) المسلمين والصديق وعليا (٥) [رضي‌الله‌عنهما] (٦).

وقوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) (آل عمران : ١٧٣) فإن (النَّاسُ) ، الأولى لو كان المراد به الاستغراق لما انتظم قوله تعالى بعد ذلك : (إِنَّ النَّاسَ) ، ولأنّ (الَّذِينَ) من (النَّاسُ) ؛ فلا يكون الثاني مستغرقا ، ضرورة خروج (الَّذِينَ) منهم ، لأنهم لم يقولوا لأنفسهم. وقوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) (البقرة : ١٩٧) والمراد شهران وبعض الثالث.

(الحادي عشر) إطلاق الجمع وإرادة المثنّى. كقوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (التحريم : ٤) أطلق اسم القلوب على القلبين.

(الثاني عشر) النقصان. ومنه حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (يوسف : ٨٢) أي أهلها. وقوله : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى

__________________

(١) تصحفت في المطبوعة إلى (قبله ما).

(٢) في المطبوعة (ولا مؤمنين) وهو تصحيف قبيح.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ساقطة من المطبوعة.

(٥) العبارة في المخطوطة (المسلمين والصديقين كالصديق وعلي).

(٦) ليست في المخطوطة.

٣٩٠

رُسُلِكَ) (آل عمران : ١٩٤) أي على لسان رسلك. وقالوا : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) (الصف : ١٤) [أي أنصار دين الله] (١). وقال : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) (البقرة : ٩٣) أي حبّه (٢).

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) (الأعراف : ١٥٥) أي من قومه. قالوا : وإنما يحسن الحذف إذا كان فيه زيادة مبالغة ، والمحذوفات في القرآن على هذا النمط ، وسيأتي الإشباع فيه (٣) وفي شروطه [١٢٠ / ب] إن شاء الله تعالى. وذهب (٤) المحققون إلى أنّ حذف المضاف ليس من المجاز ؛ لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له ، ولأن الكلمة المحذوفة ليست كذلك ، وإنما التجوز في أن ينسب إلى المضاف إليه ما كان منسوبا إلى المضاف ، كالأمثلة السابقة (٥).

(الثالث عشر) : الزيادة. كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى : ١١) ذكره الأصوليّون. وللنحويين فيها قولان : (أحدهما) : أن «مثل» زائدة ؛ والتقدير : ليس كهو شيء. (والثاني) ـ وهو المشهور ـ : أنّ الكاف هي الزائدة ، وأن «مثل» خبر ليس. ولا خفاء أنّ القول بزيادة الحرف أسهل من القول بزيادة الاسم. وممن قال به ابن جنّي والسّيرافي (٦) وغيرهما ، فقالوا : المعنى ليس مثله شيء ، والكاف زائدة ، وإلا لاستحال الكلام ، لأنها لو لم تكن زائدة كانت بمعنى «مثل» ، وإن كانت حرفا ، فيكون التقدير : (٧) [ليس مثل مثله شيء ، وإذا قدّر هذا التقدير] (٧) ثبت له مثل ، ونفي الشبه عن مثله ؛ وهذا محال من وجهين : (أحدهما) : أن الله عزوجل لا مثل له. (والثاني) : أن نفس اللفظ به محال في حق كل أحد ، وذلك أنّا لو قلنا : ليس مثل [مثل] (٧) زيد ، لاستحال ذلك ، لأن فيه إثبات أنّ لزيد مثلا ، وذلك يستلزم جعل زيد مثلا له ؛ لأن ما ماثل الشيء فقد ماثله ذلك (٧) [الشيء] (٧). وغير جائز أن يكون زيد مثلا لعمرو ، وعمرو ليس مثلا لزيد ، فإذا نفينا المثل

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (حبّوه).

(٣) في النوع السادس والأربعين ، في أساليب القرآن وفنونه البلاغية في ٢ / ٤٨٠.

(٤) في المخطوطة (ذهب).

(٥) في المخطوطة (التابعة).

(٦) هو الحسن بن عبد الله المرزباني تقدم التعريف به في ١ / ٤١٤.

(٧) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

٣٩١

عن مثل (١) [زيد ، وزيد هو مثل مثله ، فقد اختلفنا. ولأنه يلزم منه التناقض على تقدير إثبات المثل ، لأن مثل] (١) المثل لا يصح نفيه ضرورة كونه مثلا لشيء وهو مثل له.

وأجيب عن الأوّل بأنّا لا نسلّم لزوم إثبات المثل ، غاية ما فيه نفي مثل مثل الله ؛ وذلك يستلزم ألاّ يكون له مثل أصلا ، ضرورة أن مثل كلّ شيء فذلك الشيء مثله ، فإذا انتفى عن شيء أن يكون مثل [مثل] (٢) عمرو انتفى عن عمرو [أن يكون مثله] (٣). وأما الثاني فهو مبنيّ على أنّ هذه العبارات (٤) يلزم منها إثبات المثل ، ونحن قد منعناه ، بل أحلناه من العبارة. وقيل : ليست زائدة ، إما لاعتبار (٥) جواز سلب الشيء عن المعدوم ، كما تسلب الكتابة عن زيد وهو معدوم ، أو بحمل المثل على المثل ، أي الصفة ، كقوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) (الرعد : ٣٥) أي صفتها ، فالتقدير : ليس كصفته شيء.

وبهذين التقديرين يحصل التخلص (٦) عن لزوم إثبات «مثل» وإن لم تكن زائدة. وأما القائلون بأن الزائد «مثل» ، وإلا لزم إثبات المثل ، ففيه نظر ، لاستلزام تقدير دخول الكاف على الضمير ؛ وهو ضعيف لا يجيء إلا في الشعر. وقد ذكرنا ما يخلص (٧) من لزوم إثبات المثل. وقيل : المراد الذات والعين ، كقوله : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) (البقرة : ١٣٧) وقول امرئ القيس :

على مثل ليلى يقتل المرء نفسه (٨)

فالكاف على بابها ، وليس كذاك ، بل المراد حقيقة المثل ليكون نفيا عن الذات بطريق برهانيّ كسائر الكنايات. ثم لا يشترط على هذا أن يكون لتلك الذات الممدوحة مثل في الخارج حصل النفي عنه ؛ بل هو من باب التخييل في الاستعارة التي يتكلم فيها البيانيّ.

فإن قيل : إنما يكون هذا نفيا عن الذات بطريق برهانيّ أن لو كانت المماثلة تستدعي المساواة في الصفات الذاتية وغيرها من الأفعال ، فإن اتفاق الشخصيتين (٩) بالذاتيات لا

__________________

(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٢) ساقطة من المطبوعة.

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (العبارة).

(٥) في المخطوطة (وأما الاعتبار).

(٦) في المخطوطة (التخصيص).

(٧) في المخطوطة (تلخص).

(٨) لم نجده في ديوانه (طبعة دار صادر).

(٩) في المخطوطة (الشخصين).

٣٩٢

يستلزم اتحاد أفعالهما. قيل : ليس المراد بالمثل هنا المصطلح عليه في العلوم العقلية ، بل المراد من هو مثل حاله في الصفات المناسبة لما سيق الكلام له ، وليس المراد من هو مثل في كل شيء لأن لفظة «مثل» لا تستدعي المشابهة من كل وجه.

وقال الكواشيّ (١) : يجوز أن يقال : إن الكاف و «مثل» ليسا زائدتين ، بل يكون التمثيل هنا على سبيل الفرض ، كقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا) (الأنبياء : ٢٢) وتقدير الكلام : لو فرضنا له مثلا لامتنع أن يشبه ذلك المثل المفروض شيء [١٢١ / أ] ؛ وهذا أبلغ في نفي المماثلة.

وأما قوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) (البقرة : ١٣٧) فقيل : إنّ «ما» فيه مصدرية. وهذا فيه نظر (٢) ، لأن «ما» لو كانت مصدرية لم يعد إليها من الصلة (٣) ضمير ، وهو الهاء (٤) في (بِهِ) لأن الضمير لا يعود على الحروف ، ولا يعتبر اسما إلا بالصلة ، والاسم لا يعود عليه [ضمير] (٥) ما هو صفته ؛ إذ لا يحتاج في ذلك إلى ربط. وجوابه أن تكون «ما» موصولة ، صلتها (آمَنْتُمْ بِهِ) (البقرة : ١٣٧) وقيل : مزيدة ، والتقدير : فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، أي بالله وملائكته وكتبه ورسله وجميع ما جاء (٦) به الأنبياء. وقيل : إن «مثلا» صفة لمحذوف تقديره : فإن آمنوا بشيء مثل ما آمنتم به. وفيه نظر ، لأن ما آمنوا به ليس له مثل حتى يؤمنوا بذلك المثل.

وحكى الواحديّ (٧) عن أكثر المفسرين في قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (البقرة : ١١٥) أن «الوجه» صلة ، والمعنى : فثمّ الله يعلم ويرى ، قال : والوجه قد ورد صلة مع اسم الله كثيرا ، كقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) (الرحمن : ٢٧) (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ

__________________

(١) هو أحمد بن يوسف بن حسن بن رافع الكواشي تقدم في ١ / ٢٧٢.

(٢) عبارة المخطوطة (وفيه أيضا نظر) بدون (وهذا).

(٣) في المخطوطة (الضمائر).

(٤) تصحفت في المخطوطة إلى (العاني) بدل (الهاء في).

(٥) ساقطة من المطبوعة.

(٦) في المخطوطة (تجيء).

(٧) هو علي بن أحمد الواحدي ، تقدم التعريف به في ١ / ١٠٥.

٣٩٣

لِوَجْهِ اللهِ) (الدهر : ٩) (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) (القصص : ٨٨). قلت : والأشبه حمله على أن المزاد به الذات ، كما في قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) (البقرة : ١١٢) وهو أولى من دعوى الزيادة.

ومن الزيادة دعوى أبي عبيدة (١) (يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) (الشعراء : ٧٢) أن (إِذْ) زائدة. وقوله : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) (آل عمران : ٥٠). وقوله : (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) (المؤمن : ٢٨) وقد سبق.

* (الرابع عشر) : تسمية الشيء بما يؤول إليه. كقوله تعالى : (وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً) (نوح : ٢٧) أي صائرا إلى الفجور والكفر. وقوله : (إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً) (يوسف : ٣٦) أي لأنّ الّذي تأكل الطير منه إنما هو البرّ لا الخبز. ولم يذكر العلماء هذا من جملة الأمثلة ؛ إنما اقتصروا في التمثيل على قوله : (أَعْصِرُ خَمْراً) (يوسف : ٣٦) أي عنبا ، فعبّر عنه لأنه آيل إلى الخمريّة. وقيل : لا مجاز فيه ، فإن الخمر العنب بعينه ، لغة لأزد عمان ؛ نقله الفارسي (٢) في «التذكرة» عن «غريب القرآن» لابن دريد (٣). وقيل : اكتفى بالمسبّب ، الذي هو الخمر ، عن السبب ، الذي هو العنب قاله ابن جني في «الخصائص» (٤). وقيل : لا مجاز في الاسم بل في الفعل ، وهو (أَعْصِرُ) ؛ فإنه أطلق وأريد به أستخرج (٥) وإليه ذهب ابن عزيز في «غريبه» (٦).

وقوله (٧) : ([حَتَّى] (٨) تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (البقرة : ٢٣٠) سماه زوجا لأنّ العقد

__________________

(١) هو معمر بن المثنى تقدم التعريف به في ١ / ٣٨٣.

(٢) الحسن بن أحمد بن عبد الغفار أبو علي الفارسي تقدم التعريف به في ١ / ٣٧٥ ، وكتابه «التذكرة». ذكره القفطي في إنباه الرواة ١ / ٣٠٩ ، وقال حاجي خليفة في كشف الظنون ١ / ٣٨٤ : «وهو كبير في مجلدات لخّصه أبو الفتح عثمان بن جني النحوي». ومنه نسخة قديمة مخطوطة بمكتبة ميرزا فضل الله في إيران زنجان ، وهي عبارة عن الجزء الثاني فقط ويغلب على الظن أن النسخة من خطوط القرن الخامس ، (انظر مجلة لغة العرب س ٦ ، ج ٢ ، ص ٩٢ وبروكلمان عربي ٢ / ١٩٣).

(٣) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد ، تقدم التعريف به في ١ / ١٥٢ ، وكتابه تقدم التعريف به أول النوع الثامن عشر (معرفة غريب القرآن).

(٤) انظر الخصائص لابن جني ٣ / ١٧٧ ، باب في توجّه اللفظ الواحد إلى معنيين اثنين.

(٥) في المخطوطة (الاستخراج).

(٦) تقدم التعريف به وبكتابه في ١ / ٣٩٣. وانظر قوله في نزهة القلوب ص ٨٠.

(٧) في المخطوطة (وقيل).

(٨) ليست في المخطوطة.

٣٩٤

يؤول إلى زوجية (١) ، لأنها لا تنكح في حال كونه زوجا. وقوله : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (الصافات : ١٠١) (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (الذاريات : ٢٨) وصفه في حال البشارة بما يؤول إليه من العلم والحلم.

[تنبيه] (٢) : ليس هذا من الحال المقدّرة ـ كما يتبادر إلى الذهن ـ لأنّ الذي يقترن بالفاعل ، أو المفعول إنما هو تقدير ذلك وإرادته ، فيكون المعنى في قوله : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) (النمل : ١٩) مقدّرا ضحكه. وكذا قوله : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) (يوسف : ١٠٠) على قول أبي عليّ ، و [على] (٣) هذا حمل منه للخرور على ابتدائه ، وإن حمله على انتهائه كانت الحال الملفوظ بها ناجزة غير مقدرة. وكذلك [قوله] (٤) : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (الزمر : ٧٣) [أي ادخلوها] (٤) مقدرين الخلود [فيها] (٤) فإن من دخل مدخلا كريما مقدرا ألاّ (٥) يخرج منه أبدا كان ذلك أتمّ لسروره ونعيمه ، ولو توهّم انقطاعه لتنغص عليه النعيم الناجز مما يتوهمه من الانقطاع اللاحق.

* (الخامس عشر) : تسمية الشيء بما كان (٦) عليه. كقوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) (النساء : ٢) أي الذين كانوا يتامى ؛ إذ لا يتم (٧) بعد البلوغ. وقيل : بل هم يتامى حقيقة ، وأما حديث : «لا يتم بعد احتلام (٨)» فهو من تعليم الشرع لا اللغة ، وهو غريب. [وقوله] (٨) : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) (النساء : ١٢) وإذا متن لم يكنّ أزواجا ، فسماهنّ بذلك [١٢١ / ب] لأنهنّ كن أزواجا.

وقوله : (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) (البقرة : ٢٣٢) [أي الذين كانوا أزواجهنّ] (٩). وكذلك : (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) (البقرة : ٢٣٤) لانقطاع الزوجية بالموت. وقوله : (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) (طه : ٧٤) سمّاه مجرما باعتبار ما كان عليه في الدنيا من

__________________

(١) في المخطوطة (زوجته).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) ساقطة من المطبوعة.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) في المخطوط (لا).

(٦) في المخطوطة (كانوا).

(٧) في المخطوطة (يتيم).

(٨) أخرجه أبو داود في السنن ٣ / ٢٩٣ ، كتاب الوصايا (١٢) ، باب ما جاء متى ينقطع اليتم؟ (٩) ، الحديث (٢٨٧٣) ، عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه.

(٩) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

٣٩٥

الإجرام. وقوله : (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) (يوسف : ٦٥) ولكن ما ردّ عليهم [ما] (١) لهم ، وإنما كانوا قد اشتروا بها الميرة ، فجعلها يوسف [عليه‌السلام] (٢) في متاعهم ، وهي له دونهم ، فنسبها الله [تعالى] (٢) إليهم ، بمعنى أنها كانت لهم.

* (السادس عشر) : إطلاق اسم المحل على الحال. كقوله : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) (العلق : ١٧). وقوله [تعالى] (٣) : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) (الواقعة : ٣٤) أي نساؤه ، بدليل قوله : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) (الواقعة : ٣٥). وكالتعبير باليد عن القدرة ، كقوله : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) (الملك : ١) ونحوه. والتعبير بالقلب عن الفعل ، كقوله : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) (الأعراف : ١٧٩) أي عقول. وبالأفواه عن الألسن ، كقوله : (الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) (المائدة : ٤١) (٤) [(يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ)] (٤) (آل عمران : ١٦٧).

وإطلاق الألسن على (٥) اللغات ، كقوله : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء : ١٩٥).

والتعبير بالقرية عن ساكنها ، نحو : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (يوسف : ٨٢).

* (السابع عشر) : إطلاق اسم الحال على المحل. كقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (آل عمران : ١٠٧) أي في الجنّة لأنها محلّ الرحمة. وقوله : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (سبأ : ٣٣) أي في الليل. وقال الحسن في قوله [تعالى] (٦) : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ) (الأنفال : ٤٣) أي في عينك ، واستبعده الزمخشريّ (٧) وقدّر : يعني في رؤياك. وقوله : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (إبراهيم : ٣٥) وصف البلد بالأمن ، وهو صفة لأهله. ومثله : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (التين : ٣) (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) (الدخان : ٥١).

وقوله : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) (سبأ : ١٥) وصفها بالطيب وهو صفة لهوائها. وقد اجتمع هذا

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) الآية بين الحاصرتين ليست في المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (عن).

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) الكشاف ٢ / ١٢٨ قال الزمخشري : «... وما أحسب هذه الرواية صحيحة فيه عن الحسن وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته».

٣٩٦

والذي قبله في قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (الأعراف : ٣١) وذلك لأنّ أخذ الزينة غير ممكن ؛ لأنها مصدر فيكون المراد محلّ الزينة ، ولا يجب أخذ الزينة للمسجد نفسه فيكون المراد بالمسجد الصلاة ، فأطلق اسم المحل على الحالّ وفي الزينة بالعكس.

* (الثامن عشر) : إطلاق اسم آلة الشيء عليه. كقوله تعالى : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (الشعراء : ٨٤) أي ذكرا حسنا ، أطلق اللسان وعبّر به عن الذكر ؛ لأن اللسان آلة (١) الذكر. وقال تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (القمر : ١٤) أي بمرأى منّا ، لما كانت العين آلة الرؤية. وقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ) (إبراهيم : ٤) أي بلغة قومه.

* (التاسع عشر) : إطلاق اسم الضدّين على الآخر. كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (الشورى : ٤٠) وهي من المبتدئ سيئة ومن الله حسنة ، فحمل اللفظ على اللفظ. وعكسه : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ) (الرحمن : ٦٠) سمّي الأول إحسانا لأنه مقابل لجزائه وهو الإحسان ، والأول طاعة ، كأنه (٢) قال : هل جزاء الطاعة إلا الثواب! وكذلك : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (آل عمران : ٥٤) حمل اللفظ على اللفظ ، فخرج الانتقام بلفظ الذنب ، لأنّ الله لا يمكر.

وأما قوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (الأعراف : ٩٩) فهو وإن لم يتقدم ذكر مكرهم في اللفظ لكن تقدم في سياق الآية قبله ما يصير إلى مكر ، والمقابلة لا يشترط فيها ذكر المقابل لفظا ، بل هو ، أو ما في معناه. وكذلك قوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (التوبة : ٣٤) لمّا قال : بشّر هؤلاء بالجنّة قال : بشّر هؤلاء بالعذاب ؛ والبشارة ؛ إنما تكون في الخير لا في الشرّ. وقوله : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) (هود : ٣٨) والفعل الثاني ليس بسخرية.

* (العشرون) : تسمية الداعي إلى الشيء باسم الصّارف عنه. لما بينهما من

__________________

(١) تصحفت في المطبوعة إلى (آية).

(٢) في المخطوطة (فكأنه).

٣٩٧

التعلق ، ذكره السكاكيّ (١) ، وخرّج عليه قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ) (الأعراف : ١٢) يعني «ما دعاك ألاّ تسجد»؟ [١٢٢ / أ] واعتصم بذلك في عدم زيادة «لا». وقيل : معناه : ما حماك في ألاّ تسجد ـ أي من العقوبة ـ أي ما جعلك في منعة من عقوبة ترك السجود. وهذا لا يصحّ ؛ أما الأول فلم يثبت في اللّغة وأما الثاني فكأن تركيبه : «ما يمنعك» سؤالا [يتناقض] (٢) عما [يمنعه] (٣) لا بلفظ الماضي ، لأنه لا تخويف بماض.

ويجاب بأن المخالفة تقتضي الأمنة ، كأنه قيل : ما أمنك حتى خالفت! بيانا لاغتراره وعدم رشده ، وأنه إنما خالف وحاله حال من امتنع بقوته من عذاب ربه ، فكنى عنه ب «ما منعك» تهكّما ، لا أنه امتنع حقيقة وإنما جسر جسارة (٤) من هو في منعة. وردّ أيضا بأنه أجاب ب (أَنَا خَيْرٌ) ، وهو لا يصلح جوابا إلا لترك السجود. وأجيب بأنه لم يجب ، ولكن (٥) عدل بذلك جواب ما لا يمكن جوابه.

* (الحادي والعشرون) : إقامة صيغة مقام أخرى. وله صور :

فمنه «فاعل» بمعنى «مفعول» كقوله [تعالى] (٦) : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (هود : ٤٣). [أي] (٧) لا معصوم. وقوله تعالى : (مِنْ [ماءٍ]) (٨) دافِقٍ (الطارق : ٦) أي مدفوق. و ([فِي]) (٩) عِيشَةٍ [راضِيَةٍ] (١٠) أي مرضيّة بها وقيل : على النسب ، أي ذات رضا ، وهو مجاز إفراد لا تركيب (١١). وقوله : (أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) (العنكبوت : ٦٧) أي مأمونا [فيه] (١٢). (١٣) [(وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) (الإسراء : ١٢) أي مبصور

__________________

(١) انظر كتابه مفتاح العلوم ص ٣٦٧ ، (بتصحيح نعيم زرزور) الفصل الثاني : المجاز اللغوي الراجع إلى المعنى المفيد ... ، والسكاكي تقدم التعريف به في ١ / ٣٦٣.

(٢) ساقطة من المطبوعة.

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) عبارة المخطوطة (خسر خسارة).

(٥) في المخطوطة (ولكنه).

(٦) ليست في المطبوعة.

(٧) ساقطة من المخطوطة.

(٨) ليست في المطبوعة.

(٩) ليست في المخطوطة.

(١٠) ليست في المطبوعة.

(١١) في المخطوطة (إذ لا تركيب).

(١٢) ساقطة من المطبوعة.

(١٣) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.

٣٩٨

فيها (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) (إبراهيم : ١٨) لأن المعصوف يكون فيه. وقوله (وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف : ٤٦) أي مأمولا]. وعكسه : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) (مريم : ٦١) [أي آتيا] (١).

وجعل منه بعضهم قوله [تعالى] (١) : (حِجاباً مَسْتُوراً) (الإسراء : ٤٥) أي ساترا ، وحكى الهرويّ (٢) في «الغريب» عن أهل (٣) اللغة ، وتأويل الحجاب الطّبع. وقال السهيلي (٤) : الصحيح أنه على بابه ، أي مستورا عن العيون (٥) ، ولا يحسّ به أحد ، والمعنى «مستور عنك وعنهم» كما قال تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ) (المدثر : ٣١) وقال الجوهري (٦) : «أي حجابا على حجاب ، والأول مستور بالثاني ، يراد بذلك كثافة الحجاب ؛ لأنه جعل على قلوبهم أكنّة وفي آذانهم وقرا».

قال (٧) أبو الفتح (٨) في كتابه (٩) «[هذا] (١٠) القدّ» : وسألته ـ يعني الفارسي ـ إذا جعلت فاعلا بمعنى مفعول (١١) [فعلام ترفع الضمير الذي فيه؟ أعلى حدّ] (١١) ارتفاع (١٢) الضمير في اسم الفاعل (١٣) [أم اسم المفعول؟ فقال : إن كان بمعنى «مفعول» ارتفع الضمير فيه ارتفاع الضمير في اسم الفاعل] (١٤) وإن جاء على لفظ اسم الفاعل.

ومنه «فعيل» بمعنى «مفعول» كقوله (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) (الفرقان :

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) هو حمد بن محمد الهروي تقدم التعريف به في ١ / ٣٧٣ ، وبكتابه في أول النوع الثامن عشر معرفة غريبه ١ / ٢٩.

(٣) في المطبوعة (أصل).

(٤) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي تقدم التعريف به في ١ / ٢٤٢.

(٥) في المخطوطة (العيوب).

(٦) هو إسماعيل بن حماد الجوهري تقدم في ١ / ٣٧٣. وانظر كتابه الصحاح في اللغة مادة «ستر».

(٧) في المخطوطة (وقال).

(٨) هو أبو الفتوح عثمان بن جني.

(٩) في المخطوطة (كتاب). وكتابه ذكره ياقوت في معجم الأدباء ١٢ / ١١٣.

(١٠) ساقطة من المخطوطة.

(١١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(١٢) في المخطوطة (ارتفع).

(١٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

٣٩٩

٥٥) أي مظهورا فيه ، ومنه ظهرت به فلم ألتفت إليه. أما (١) نحو : (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) (البقرة : ١٧٨) فقال بعض النحويين : إنه بمعنى «مؤلم» وردّه النّحاس (٢) ، بأن «مؤلما» يجوز أن يكون [قد] (٣) آلم ثم زال ، و «أليم» أبلغ ، لأنه يدلّ على الملازمة ، قال : ولهذا منع النحويون إلا سيبويه (٤) أن يعدّى «فعيل».

ومنه مجيء المصدر على «فعول» ، كقوله تعالى : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) (الفرقان : ٦٢) وقوله : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) (الإنسان : ٩) فإنه ليس المراد الجمع هنا ، بل المراد : لا نريد منكم شكرا [أي] (٥) أصلا ، وهذا أبلغ في قصد الإخلاص في نفي الأنواع. وزعم السّهيليّ أنه جمع «شكر» ، وليس كذلك لفوات هذا المعنى.

ومنها إقامة الفاعل مقام المصدر ، نحو : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) (الواقعة : ٢) أي تكذيب ، وإقامة المفعول مقام المصدر ، نحو : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) (القلم : ٦) أي الفتنة.

ومنه وصف الشيء بالمصدر ، كقوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) (الشعراء : ٧٧) قالوا : إنما وحّده ، لأنه في معنى المصدر ، كأنه قال : «فإنهم عداوة».

ومجيء المصدر بمعنى المفعول ؛ كقوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) (البقرة : ٢٥٥) أي من معلومه. وقوله : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (النجم : ٣٠) أي من العلوم. وقوله : (صُنْعَ اللهِ) (النمل : ٨٨) أي مصنوعه. وقوله : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) (الكهف : ٩٨) أي مترحم ، قاله الفارسي. وكذا قوله : (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) (الكهف : ٩٥) أي مقوّى به ، ألا ترى أنه أراد منهم زبر الحديد والنفخ عليها!. وقوله : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (طه : ١١١) أي مظلوما فيه.

__________________

(١) في المخطوطة (وأما).

(٢) هو أحمد بن محمد بن إسماعيل أبو جعفر النحاس ، تقدم التعريف به في ١ / ٣٥٦. وانظر قوله في كتابه «القطع والائتناف» ص ١١٩ في الكلام على الآية (١٠) من سورة البقرة.

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) انظر الكتاب لسيبويه ٤ / ١٤ ـ ١٥ ، باب بناء الأفعال التي هي أعمال ... (بتحقيق عبد السلام هارون).

(٥) ساقطة من المطبوعة.

٤٠٠