البرهان في علوم القرآن - ج ٢

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

على الاستحباب ، لأن قوله : (فَلا جُناحَ) بمنزلة قوله : «لا بأس» وذلك لا يقتضي الوجوب ولكن هذا الظاهر متروك بل هو واجب ، لأن طواف الإفاضة واجب ، ولأنه ذكره بعد التطوع فقال : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) (١) [فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ] (١) فدلّ على أن النهي السابق نهي عن ترك واجب ، لا [نهي عن ترك] (٢) مندوب أو مستحبّ.

وقد يكون الكلام ظاهرا في شيء فيعدل به عن الظاهر بدليل آخر ، كقوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) (البقرة : ١٩٧) والأشهر اسم لثلاثة ، لأنه أقل الجمع. وكقوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) (النساء : ١١) فالظاهر اشتراط ثلاثة من الإخوة لكن قام الدليل من خارج على أن المراد اثنان ، لأنهما يحجبانها [١١٠ / ب] عن الثلث إلى السدس.

فصل

قد يكون اللفظ مشتركا بين حقيقتين أو حقيقة ومجاز ، ويصح حمله عليهما جميعا كقوله تعالى : (لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) (البقرة : ٢٨٢) قيل : المراد «يضارر» (٣) وقيل : (٤) [«يضارر» أي الكاتب والشهيد لا يضارر ، فيكتم الشهادة والخطّ ؛ وهذا أظهر.

ويحتمل أن من دعا الكاتب والشهيد لا] (٤) يضارره فيطلبه في وقت فيه ضرر.

وكذلك قوله : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) (البقرة : ٢٣٣) فعلى هذا يجوز أن يقال : أراد الله [تعالى] (٥) بهذا اللفظ كلا المعنيين على القولين ؛ أما إذا قلنا بجواز (٦) استعمال المشترك في معنييه فظاهر ، وأما إذا قلنا بالمنع ، [فبأن] (٧) يكون اللفظ قد خوطب به مرتين : مرة أريد هذا ومرة هذا ، وقد جاء عن أبي الدرداء رضي‌الله‌عنه : «لا يفقه الرجل

__________________

(١) تمام الآية ليس في المطبوعة.

(٢) ليس في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (يضار).

(٤) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) في المخطوطة (يجوز).

(٧) ساقطة من المخطوطة وما بعدها (فيكون) في المخطوطة.

٣٤١

كل الفقه حتى [يرى] (١) للقرآن وجوها كثيرة» (٢). رواه أحمد. أي [يريد] (٣) اللفظ الواحد يحتمل معاني متعددة ، ولا يقتصر به على ذلك (٤) (العلم أنه يصلح لهذا ولهذا فإذا كانت المعاني ليست متضادة بل كلها حق صلح أن يقال يحتمل من الآية هذا وهذا) (٤).

وقال ابن القشيري في مقدمة (٥) «تفسيره» : ما لا يحتمل إلا معنى واحدا حمل عليه ، وما احتمل معنيين فصاعدا بأن وضع لأشياء متماثلة ، كالسواد حمل على الجنس عند الإطلاق وإن وضع لمعان مختلفة ؛ فإن ظهر أحد المعنيين حمل على الظاهر إلا أن يقوم الدليل ، وإن استويا ، سواء كان الاستعمال فيهما حقيقة أو مجازا ؛ أو في أحدهما حقيقة وفي الآخر (٦) مجازا كلفظ العين والقرء واللمس ، فإن تنافى الجمع بينهما فهو مجمل ، فيطلب البيان من غيره ، وإن لم يتناف ، فقد مال قوم إلى الحمل على المعنيين ، والوجه التوقف فيه ، لأنه ما وضع للجميع ، بل وضع لآحاد مسمّيات على البدل ، وادعاء إشعاره بالجميع بعيد ؛ نعم يجوز أن يريد المتكلم به جميع المحامل ولا يستحيل ذلك عقلا ، وفي مثل هذا يقال : يحتمل أن يكون المراد كذا ، ويحتمل أن يكون كذا».

(فصل)

وقد ينفى الشيء ويثبت باعتبارين كما سبق في قوله [تعالى] (٧) : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (الأنفال : ١٧) ثم أثبته لسرّ غامض ؛ وهو أنّ الرمي الثاني غير الأول ؛ فإن الأول عنى به الرمي بالرعب ، والثاني عنى به بالتراب حين رمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وجوه أعدائه بالتراب والحصى وقال : «شاهت الوجوه» (٨) فانهزموا ، فأنزل الله يخبره أن انهزامهم لم يكن لأجل التراب ، وإنما هو بما أوقع في قلوبهم من الرعب.

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) الحديث تقدم تخريجه في ٢ / ٨٧.

(٣) ساقطة من المطبوعة.

(٤) اضطربت العبارة في المطبوعة كالتالي (المعنى بل يعلم أنه يصلح لهذا وهذا).

(٥) هو عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري تقدم التعريف به وبكتابه في ٢ / ٢٤٨.

(٦) في المخطوطة (الثاني).

(٧) ليست في المخطوطة.

(٨) الحديث من رواية إياس بن سلمة عن أبيه ، أخرجه مسلم في الصحيح ٣ / ١٤٠٢ ، كتاب الجهاد والسير (٣٢) ، باب في غزوة حنين (٢٨) ، الحديث (٨١ / ١٧٧٧).

٣٤٢

(فصل)

وأما ما فيه من الإجمال في الظاهر فكثير ، وله أسباب :

(أحدها) : أن يعرض (١) من ألفاظ (٢) مختلفة مشتركة وقعت في التركيب ، كقوله [تعالى] (٣) : (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) (القلم : ٢٠) قيل : معناه كالنهار مبيضة لا شيء فيها ، وقيل كالليل مظلمة لا شيء فيها. وكقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) (التكوير : ١٧) قيل : أقبل ، وأدبر.

وكالأمّة في قوله تعالى : (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً [مِنَ النَّاسِ]) (٤) (القصص : ٢٣) [بمعنى الجماعة] (٣) ، و [في] (٣) قوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) (النحل : ١٢٠) بمعنى الرجل الجامع للخير المقتدى [به] (٣). وبمعنى الدّين في قوله [تعالى] (٥) : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) (الزخرف : ٢٢ و ٢٣) وبمعنى الزمان في قوله تعالى : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (يوسف : ٤٥).

وكالذرية فإنها في الاستعمال العرفي «الأدنى» ومنه : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) (الأنعام : ٨٤) وقد يطلق على «الأعلى» بدليل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ ...) الآية (آل عمران : ٣٣) ثم قال : (ذُرِّيَّةً) (آل عمران : ٣٤) وبها يجاب عن الإشكال المشهور في قوله تعالى : (حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (يس : ٤١) على بحث فيه (٦).

وقال مكيّ في قوله تعالى : (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (الزخرف : ٨١) أي أول من يعبد الله. ومن قال : «الآنفين» (٧) [١١١ / أ] فقوله (٨) مردود ، لأنه يلزم أن يكون العبدين لأنه إنما يقال : عبد من كذا ، أي أنف.

__________________

(١) في المخطوطة (تعرض).

(٢) في المخطوطة (ألفاظه).

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة.

(٥) ليست في المخطوطة.

(٦) انظر البحر المحيط لأبي حيان ٣ / ٣٣٨. تفسير سورة (يس).

(٧) في المخطوطة (إن لا).

(٨) في المخطوطة (فإنه).

٣٤٣

(الثاني) (١) : من حذف في الكلام (١) ، كقوله [تعالى] (٢) : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) (النساء : ١٢٧) قيل معناه ترغبون في نكاحهنّ لمالهنّ. وقيل معناه : عن نكاحهنّ لزمانتهنّ ، وقلّة مالهنّ : والكلام يحتمل الوجهين ؛ لأن العرب تقول : رغبت عن الشيء إذا زهدت فيه ، ورغبت في الشيء إذا حرصت (٣) عليه ، فلما ركّب الكلام تركيبا حذف معه حرف الجرّ احتمل التأويلين جميعا. وجعل منه بعضهم قوله تعالى في سورة النساء : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً* ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) (الآيتان : ٧٨ و ٧٩) أي يقولون : (ما أَصابَكَ) ، قال : ولو لا هذا التقدير لكان مناقضا لقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (النساء : ٧٨). وقوله : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) (الإسراء : ٥٩) [أي آية مبصرة] (٤) ، فظلموا أنفسهم بقتلها ، وليس المراد أنّ الناقة كانت مبصرة لا عمياء.

(الثالث) : من تعيين الضمير ، كقوله تعالى : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) (البقرة : ٢٣٧) فالضمير في (بِيَدِهِ) يحتمل عوده على الوليّ وعلى الزوج ، ورجّح الثاني لموافقته للقواعد ، فإن الوليّ لا يجوز [له] (٥) أن يعفو عن مال يتيمه بوجه من الوجوه ، وحمل الكلام المحتمل على القواعد الشرعية أولى. (فإن قيل) : لو كان خطابا للأزواج لقال «إلا أن تعفوا» بالخطاب ؛ لأن صدر الآية خطاب [لهم] (٤) بقوله : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَ) (البقرة : ٢٣٧) إلى قوله : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) (البقرة : ٢٣٧) (قلنا) : هو التفات من الخطاب إلى الغيبة ، وهو من أنواع البديع (٦).

ومنه قوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر : ١٠) فيحتمل أن يكون الضمير [الفاعليّ] (٧) الذي في (يَرْفَعُهُ) عائدا على العمل ، والمعنى أن الكلم الطيب ، وهو التوحيد ، يرفع العمل الصالح ؛ لأنه لا تصلح (٨) الأعمال إلا مع الإيمان. ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على الكلم ، ويكون معناه أن العمل الصالح هو

__________________

(١) العبارة في المخطوطة (حذف من الكلام).

(٢) ساقطة من المطبوعة.

(٣) في المخطوطة (صرت).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) ساقطة من المطبوعة.

(٦) في المخطوطة (البعيد).

(٧) ساقطة من المخطوطة.

(٨) في المخطوطة (تصح).

٣٤٤

الذي يرفع الكلم الطيب ؛ وكلاهما صحيح ؛ لأن الإيمان فعل وعمل ونية لا يصح بعضها إلا ببعض.

وقوله تعالى : (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً* فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (العاديات : ٤ و ٥) فالهاء الأولى كناية عن الحوافر وهي موريات ، أي أثرن بالحوافر نقعا ، والثانية كناية عن الإغارة ، أي المغيرات صبحا (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (الآية : ٥) جمع المشركين ، فأغاروا بجمعهم.

وقد صنف ابن الأنباري كتابا في تعيين الضمائر الواقعة في القرآن في مجلدين (١)

(الرابع) : من مواقع الوقف والابتداء (٢) ، كقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران : ٧) فقوله : (الرَّاسِخُونَ) ، [يحتمل أن] (٣) يكون معطوفا على اسم الله تعالى ، ويحتمل أن يكون [ابتداء] (٣) كلام. وهذا الثاني هو الظاهر ويكون حذف «أما» المقابلة (٤) كقوله [تعالى] (٥) : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) (آل عمران : ٧) ويؤيده آية البقرة : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) (الآية : ٢٦).

(الخامس) : من جهة (٦) غرابة اللفظ كقوله تعالى : (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) (البقرة : ٢٣٢) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) (الحج : ١١) (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) (آل عمران : ٣٩) وغير ذلك مما صنّف فيه العلماء من كتب غريب القرآن (٧).

(السادس) : من جهة كثرة استعماله الآن ، كقوله تعالى : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق : ٣٧). [و (يُلْقُونَ السَّمْعَ]) (٨) وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (الشعراء : ٢٢٣)

__________________

(١) وهو «كتاب المذكر والمؤنث» لابن الأنباري ، محمد بن القاسم بن بشار ، أبي بكر (ت ٣٢٨ ه‍) طبع بتحقيق د. طارق عبد عون الجنابي في وزارة الأوقاف العراقية ببغداد ط ١ ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م في ٢ مج ، ٩١١ ص ، وأعيد طبعه بدار الرائد العربي في بيروت ط ٢ ، ١٤٠٦ ه‍ / ١٩٨٦ م.

(٢) راجع النوع الرابع والعشرون من هذا الكتاب ١ / ٣٢٤.

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (قبله).

(٥) ليست في المطبوعة.

(٦) في المخطوطة (وجه).

(٧) راجع النوع الثامن عشر من هذا الكتاب ١ / ٢٩١.

(٨) ليست في المخطوطة.

٣٤٥

بمعنى «يسمعون» ولا يقول أحد الآن (١) : ألقيت سمعي. وكذا قوله [١١١ / ب] : (ثانِيَ عِطْفِهِ) (الحج : ٩) أي متكبرا. وقوله : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) (هود : ٥) أي يسرّون ما في ضمائرهم. وكذا : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) أي نادما (الكهف : ٤٢). وكذا : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) (إبراهيم : ٩) أي لم يتلقوا النعم بشكر.

(السابع) : من جهة التقديم والتأخير ، كقوله تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) (طه : ١٢٩) تقديره : «ولو (٢) كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما» ولو لا هذا التقدير لكان منصوبا كاللزام (٣). وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) (الأعراف : ١٨٧) أي يسألونك عنها كأنك [حفيّ] (٤). وقوله : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ* كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) (الأنفال : ٤ و ٥) فهذا غير متصل وإنما هو عائد على قوله : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) (الأنفال : ١) (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ) (الأنفال : ٥) فصارت أنفال الغنائم لك إذ أنت راض بخروجك وهم كارهون ، فاعترض بين الكلام الأمر بالتقوى وغيره.

وقوله : (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) (الممتحنة : ٤) معناه «قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والّذين معه إذ قالوا لقومهم (٥) [إنا برآء إلا قول إبراهيم لأبيه] (٥)».

(الثامن) : من جهة المنقول المنقلب ، كقوله تعالى : (وَطُورِ سِينِينَ) (التين : ٢) أي طور سينا» (٦). وقوله : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) (الصافات : ١٣٠) أى إلياس (٧) ، وقيل : «إدريس» وفي حرف ابن مسعود : «إدراسين» (٨).

(التاسع) : المكرر القاطع لوصل الكلام في الظاهر ، كقوله تعالى : (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ

__________________

(١) عبارة المخطوطة (أحدهم لأن).

(٢) في المخطوطة (لو لا).

(٣) في المطبوعة (كالإلزام).

(٤) ساقطة من المطبوعة.

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٦) في المخطوطة (بطور سينا).

(٧) في المطبوعة (الناس).

(٨) تصحفت في المخطوطة إلى (إدراس) وفي المطبوعة إلى (إدراس) والتصويب من كتاب المصاحف لابن أبي داود ص ٦٩ ، مصحف عبد الله بن مسعود ، سورة الصافات.

٣٤٦

مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَ) (يونس : ٦٦) معناه يدعون من دون الله شركاء إلا الظن. وقوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) (الأعراف : ٧٥) معناه «الذين استكبروا لمن آمن من الذين استضعفوا».

فصل فيما ورد فيه مبيّنا للإجمال

اعلم أنّ الكتاب هو القرآن المتلوّ ؛ وهو إما نص ، وهو ما لا يحتمل إلا معنى ، كقوله تعالى : (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (البقرة : ١٩٦) وإما ظاهر وهو ما دلّ على معنى مع تجويز غيره.

(١) والرافع لذلك الاحتمال (١) قرائن لفظية ومعنوية ، واللفظية تنقسم إلى متصلة ومنفصلة. أما المتصلة فنوعان : نوع يصرف اللفظ إلى غير الاحتمال الذي لو لا القرينة لحمل عليه ، ويسمى تخصيصا وتأويلا ونوع يظهر به المراد من اللفظ ويسمى بيانا.

(فالأول) كقوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة : ٢٧٥) فإنه دلّ على أن المراد من قوله سبحانه. (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (البقرة : ٢٧٥) البعض دون الكلّ الذي هو ظاهر بأصل الوضع ، وبين أنه ظاهر في (٢) الاحتمال الذي دلت عليه القرينة في سياق الكلام. وللشافعي رحمه‌الله قول بإجمال البيع ؛ لأن الربا مجمل ، وهو في حكم المستثنى من البيع ، واستثناء المجهول من المعلوم يعود بالإجمال (٣) على أصل الكلام. والصحيح الأول ؛ فإن الربا عام في الزيادات كلّها ، وكون البعض غير مراد نوع تخصيص فلا تتغير به دلالة الأوضاع.

(ومثال النوع الثاني) قوله تعالى : (مِنَ الْفَجْرِ) (البقرة : ١٨٧) فإنه فسّر مجمل قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) (البقرة : ١٨٧) إذ لو لا (مِنَ الْفَجْرِ) لبقي الكلام الأول على تردّده وإجماله. وقد ورد أن بعض الصحابة كان يربط في رجله الخيط الأبيض والأسود ، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له لونهما ، فأنزل الله تعالى بعد ذلك : (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنه أراد الليل والنهار (٤).

__________________

(١) العبارة في المخطوطة (والواقع كذلك لاحتمال).

(٢) في المخطوطة (من).

(٣) في المخطوطة (بإجماع).

(٤) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ٤ / ١٣٢ ، كتاب الصوم (٣٠) ، باب قول الله تعالى (وَكُلُوا)

٣٤٧

وأما اللفظية المنفصلة فنوعان أيضا : تأويل وبيان.

(فمثال الأول) قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى) [١١٢ / أ](تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (البقرة : ٢٣٠) فإنه دلّ على أن المراد بقوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) (البقرة : ٢٢٩) الطلاق الرجعيّ ، إذ لو لا هذه القرينة لكان الكلّ منحصرا في الطلقتين ؛ وهذه القرينة وإن كانت مذكورة في سياق ذكر الطلقتين إلا أنها جاءت في آية أخرى ، فلهذا جعلت من قسم المنفصلة.

(ومثال الثاني) قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (القيامة : ٢٢ و ٢٣) فإنه دلّ على جواز الرؤية ، ويفسّر به قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (الأنعام : ١٠٣) حيث كان مترددا بين نفي الرؤية أصلا وبين نفي الإحاطة والحصر دون أصل الرؤية. وأيضا قوله تعالى : (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين : ١٥) فإنه لما حجب الفجار عن رؤيته خزيا لهم دلّ على إثباتها للأبرار ، وارتفع به الإجمال في قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (الأنعام : ١٠٣).

وأما القرائن المعنوية فلا تنحصر ومن مثله قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (البقرة : ٢٢٨) فإن صيغته صيغة الخبر ؛ ولكن لا يمكن حمله على حقيقته ، (١) فإنهنّ قد لا يتربّصن (١) فيقع خبر الله بخلاف مخبره وهو محال ، فوجب اعتبار هذه القرينة حمل الصيغة على معنى الأمر صيانة لكلام الله تعالى عن احتمال المحال. ونظائره كثيرة فيما ورد من صيغة الخبر ؛ والمراد بها الأمر.

__________________

واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ...) الآية (١٦) الحديث (١٩١٧). ومسلم في الصحيح ٢ / ٧٦٧ ، كتاب الصيام (١٣) ، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر ... (٨) ، الحديث (٣٥ / ١٠٩١). ولفظ الحديث كما ذكره البخاري : عن سهل بن سعد ، رضي‌الله‌عنه قال : «أنزلت : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ولم ينزل : (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولم يزل يأكل حتى يتبيّن له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد : (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنّه إنما يعني الليل والنهار».

(١) العبارة في المخطوطة (فإنها قد لا تتربّص).

٣٤٨

النوع الثاني والأربعون (١)

معرفة (٢) وجوه المخاطبات

والخطاب في القرآن

يأتي على نحو من أربعين وجها :

* (الأول) : خطاب العام المراد به العموم : كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة : ٧) وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) (يونس : ٤٤) وقوله : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف : ٤٩) وقوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (الروم : ٤٠) (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) (غافر : ٦٧) (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) (المؤمن : ٦٤) وهو كثير في القرآن. (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (الانفطار : ٦).

* (الثاني) خطاب الخاص والمراد به الخصوص : من [ذلك] (٣) قوله تعالى : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) (آل عمران : ١٠٦) (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) (التوبة : ٣٥) (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان : ٤٩) (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (المائدة : ٦٧) وقوله : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا [يَكُونَ]) (٤) (الأحزاب : ٣٧) وغير ذلك.

* (الثالث) : خطاب الخاص والمراد به العموم : كقوله تعالى : (٥) [(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (الطلاق : ١) فافتتح الخطاب بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد سائر من يملك الطلاق.

ومنه قوله تعالى] (٥) (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ

__________________

(١) هذا بحث أصولي ، للتوسع فيه يمكن الرجوع لكتب أصول الفقه.

(٢) في المطبوعة (في).

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) ليست في المطبوعة.

(٥) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

٣٤٩

يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (الأحزاب : ٥٠) وقال أبو بكر الصيرفي (١) : كان ابتداء الخطاب له ، فلما قال في الموهوبة : (خالِصَةً لَكَ) (الأحزاب : ٥٠) علم أن ما قبلها له ولغيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) (النساء : ١٠٢) وجرى أبو يوسف (٢) على الظاهر فقال : «إن صلاة الخوف من خصائص (٣) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأجاب الجمهور بأنه لم يذكر (فِيهِمْ) على أنه شرط ، بل على أنه صفة حال والأصل في الخطاب أن يكون لمعيّن (٤). وقد يخرج على غير (٥) معيّن ليفيد (٥) العموم ؛ كقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) (البقرة : ٢٥) وفائدته الإيذان بأنه خليق بأن يؤمر به كل أحد ليحصل مقصوده الجميل.

وكقوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) (سبأ : ٥١) أخرج في صورة الخطاب لما أريد العموم ، للقصد إلى تفظيع حالهم ، وأنها تناهت (٦) في الظهور حتى امتنع خفاؤها فلا نخص (٧) بها رؤية راء ، بل [١١٢ / ب] كل من يتأتّى منه الرؤية داخل في هذا الخطاب ، كقوله تعالى : (٨) [وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ] (٨) رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (الإنسان : ٢٠) لم يرد به مخاطب معيّن ، بل عبّر بالخطاب ليحصل لكل واحد فيه مدخل (٩) ، مبالغة فيما قصد الله من وصف ما في ذلك المكان من النعيم والملك ، ولبناء الكلام في الموضعين على العموم لم يجعل ل : (تَرى) ولا ل : (رَأَيْتَ) مفعولا ظاهرا ولا مقدرا ليشيع ويعمّ.

وأما قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (السجدة :

__________________

(١) هو محمد بن عبد الله أبو بكر الصيرفي تقدم ذكره في ١ / ٣٨٠.

(٢) أبو يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة النعمان.

(٣) في المخطوطة (صلاة).

(٤) في المخطوطة (لمعنى).

(٥) في المخطوطة (معنى التقييد).

(٦) في المخطوطة (تنامت).

(٧) في المخطوطة (يختص)

(٨) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة.

(٩) في المخطوطة (مدخلا).

٣٥٠

١٢) فقيل إنه من هذا الباب ، ومنعه قوم وقال : الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو للتمني لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالترجّي في : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (الأنبياء : ٣١) لأنه تجرّع من عداوتهم الغصص ، فجعله الله كأنه تمنى أن يراهم على تلك الحالة الفظيعة ، من نكس الرءوس صما عميا ليشمت بهم. ويجوز أن تكون : [(لَوْ)] (١) امتناعية (٢) ، وجوابها محذوف ؛ أي لرأيت أسوأ حال يرى.

* (الرابع) خطاب العام والمراد الخصوص : وقد اختلف العلماء في وقوع ذلك في القرآن ، فأنكره بعضهم ؛ لأنّ الدلالة الموجبة للخصوص بمنزلة الاستثناء المتصل بالجملة ، كقوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً) (العنكبوت : ١٤) والصحيح أنه واقع.

كقوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) (آل عمران : ١٧٣) وعمومه يقتضي دخول جميع الناس في اللفظين (٣) جميعا ؛ والمراد بعضهم ؛ لأن القائلين غير المقول لهم ، والمراد بالأول نعيم بن سعيد الثقفي (٤) ، والثاني أبو سفيان وأصحابه. قال الفارسي (٥) : «ومما يقوّي أن المراد بالناس في قوله : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) واحد قوله : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) (آل عمران : ١٧٥) فوقعت الإشارة بقوله : (ذلِكُمُ) إلى واحد بعينه ، ولو كان المعنيّ به جمعا لكان «إنما الشياطين الشياطين» (٦) فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ وقيل بل وضع فيه (الَّذِينَ) موضع «الذي».

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (الامتناعية).

(٣) في المخطوطة (اللفظتين).

(٤) كذا في المخطوطة والمطبوعة ، ولعله نعيم بن مسعود الأشجعي كما في الكشاف ١ / ٢٣١ ، عند تفسير الآية ، وهو الصحابي الجليل نعيم بن مسعود بن عامر ، أبو سلمة الأشجعي : صحابي مشهور له ذكر في البخاري أسلم ليالي الخندق ، وهو الذي أوقع الخلاف بين الحيّين قريظة وغطفان في وقعة الخندق ، وله رواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. روى عنه ولداه مسلمة وزينب. قتل نعيم في أول خلافة علي رضي‌الله‌عنه قبل قدومه البصرة في وقعة الجمل وقيل في خلافة عثمان (الإصابة ٣ / ٥٣٨) ، وانظر الصاحبي لابن فارس ص ١٧٨. باب العموم والخصوص.

(٥) هو أبو علي الفارسي ، الحسن بن أحمد بن عبد الغفار ، تقدم التعريف به في ١ / ٣٧٥.

(٦) عبارة المخطوطة. (إنما ذلكم الشيطان).

٣٥١

وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) (البقرة : ١٣) يعني عبد الله بن سلام (١). وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) (الحجرات : ٤) قال الضحاك : «وهو الأقرع بن حابس». وقوله [تعالى] (٢) : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) (النساء : ١) لم يدخل فيه الأطفال والمجانين.

ثم التخصيص يجيء تارة في آخر الآية ، كقوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) (النساء : ٤) فهذا عام في البالغة والصغيرة عاقلة أو مجنونة ، ثم خصّ في آخرها بقوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً ..) الآية (النساء : ٤) فخصها بالعاقلة البالغة ، لأن من عداها عبارتها ملغاة في العفو. ونظيره قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) (البقرة : ٢٢٨) فإنه عام في البائنة والرجعية ثم خصها بالرجعية بقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) (البقرة : ٢٢٨) لأن البائنة لا تراجع.

وتارة في أولها ، كقوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) (البقرة : ٢٢٩) فإن هذا خاص في الذي أعطاها الزوج. ثم قال بعد : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (البقرة : ٢٢٩) فهذا عام فيما أعطاها الزوج أو غيره إذا كان ملكا لها.

وقد يأخذ (٣) التخصيص من آية أخرى كقوله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ...) الآية (الأنفال : ١٦) فهذا عام في المقاتل كثيرا أو قليلا ، ثم قال : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ ...) الآية (الأنفال : ٦٥). ونظيره قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (المائدة : ٣) وهذا عام في جميع الميتات ، ثم خصه بقوله : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) (المائدة : ٤) فأباح الصيد الذي يموت في [فم] (٤) الجارح المعلم.

وخصص (٥) أيضا عمومه في آية أخرى قال : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ [وَلِلسَّيَّارَةِ]) (٦) (المائدة : ٩٦) تقديره : «وإن [١١٣ / أ] كانت ميتة» فخصّ بهذه الآية

__________________

(١) انظر تفسير الآية في الكشاف ١ / ٣٣.

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (يوجد).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (وخص).

(٦) ليست في المطبوعة.

٣٥٢

عموم تلك. ومثله قوله تعالى : (أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) (النور : ٢٩).

ونظيره قوله : (وَالدَّمَ) (البقرة : ١٧٣) وقال في آية أخرى : (إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (الأنعام : ١٤٥) يعني [إلا] (١) الكبد والطحال ؛ فهو حلال. ثم هذه الآية خاصة في سورة الأنعام وهي مكية ، والآية العامة في سورة المائدة (الآية : ٣) وهي مدنية ، وقد تقدّم الخاصّ على العام في هذا الموضع ، كما تقدّم في النزول آية الوضوء ؛ على أنه (٢) التيمّم ، وهذا ماش (٣) على مذهب الشافعي في أن العبرة بالخاص ؛ سواء تقدّم أم تأخر.

ومثله قوله تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ...) الآية (النساء : ٢٠) وهذا عام سواء رضيت المرأة أم لا ، ثم خصّها بقوله : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ) (النساء : ٤) وخصّها بقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (البقرة : ٢٢٩). ومثله قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [بِأَنْفُسِهِنَ]) (٤) ... الآية (البقرة : ٢٢٨) فهذا عام في المدخول بها وغيرها (٥) [ثم خصها فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ...) الآية (الأحزاب : ٤٩) فخصّ الآيسة والصغيرة والحامل ؛ فالآئسة والصغيرة بالأشهر ، والحامل بالوضع.

ونظيره قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ...) الآية (البقرة : ٢٣٤) وهذا عام في الحامل والحائل] (٥) ثم خص بقوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) (الطلاق : ٤). ونظيره قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ...) الآية (النساء : ٣) وهذا عام في ذوات المحارم والأجنبيات ، ثم خص بقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ...) الآية (النساء : ٢٣).

وقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) (النور : ٢) عام في الحرائر والإماء ، ثم خصه (٥) [بقوله : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) (النساء : ٢٥) وقوله : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) (البقرة : ٢٥٤) فإن الخلة عامّة ، ثم خصها] (٥) بقوله :

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) في المخطوطة (آية).

(٣) في المخطوطة (ما نزل).

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

٣٥٣

(الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) (الزخرف : ٦٧) وكذلك قوله : (وَلا شَفاعَةٌ) (البقرة : ٢٥٤) بشفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [والمؤمنون] (١).

(فائدة) قد يكون الكلامان متصلين ، وقد يكون أحدهما خاصا والآخر عامّا ؛ وذلك نحو قولهم لمن أعطى زيدا درهما : أعط عمرا ، فإن لم تفعل فما أعطيت ؛ يريد : إن لم تعط عمرا فأنت لم تعط زيدا أيضا ، وذاك غير محسوب لك. ذكره ابن فارس (٢) ، وخرّج عليه [قوله تعالى] (٣) : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (المائدة : ٦٧) قال : فهذا (٤) خاص به ، يريد هذا الأمر المحدّد (٥) بلّغه (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) (المائدة : ٦٧) [ولم تبلغ] (٦) (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (المائدة : ٦٧) يريد جميع ما أرسلت به. قلت : وهو وجه حسن ؛ وفي الآية وجوه أخر :

(أحدها) : أنّ المعنى أنك إن تركت منها شيئا كنت كمن لا يبلّغ شيئا منها ، فيكون ترك البعض محبطا للباقي. قال الراغب : «وكذلك (٧) أن حكم الأنبياء عليهم [الصلاة و] (٨) السلام في تكليفاتهم أشدّ ؛ وليس حكمهم كحكم الأنبياء عليهم [الصلاة و] (٨) السلام في تكليفاتهم أشدّ ؛ وليس حكمهم كحكم سائر الناس الذين يتجاوز عنهم إذا خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا ؛ وروي (٩) هذا المعنى عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما (١٠).

(والثاني) : قال الإمام فخر الدين : «إنه من باب قوله (١١) :

أنا أبو النجم وشعري شعري (١٢)

__________________

(١) ساقطة من المطبوعة.

(٢) في كتاب الصاحبي ص ١٧٨ باب العموم والخصوص.

(٣) ليست في المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (هذا).

(٥) في المخطوطة : (المجدّد).

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (وذلك). وانظر قول الراغب في المفردات ص : ٦٠.

(٨) ساقطة من المطبوعة.

(٩) في المخطوطة (روي).

(١٠) أخرجه الطبري في التفسير ٦ / ١٩٨.

(١١) في المخطوطة (قال). وانظر قول الرازي في تفسيره ١٢ / ٤٨ و ٤٩.

(١٢) صدر بيت عجزه : لله درّي ما يجن صدري (الأغاني ٢٠ / ١٧) وقائلة هو الفضل بن قدامة بن عبيد أبو النجم العجلي ، كان ينزل بسواد الكوفة في موضع يقال له الفرك أقطعه إياه هشام بن عبد الملك وقد مدح

٣٥٤

معناه : أنّ شعري قد بلغ في المتانة والفصاحة إلى حدّ شيء (١) قيل في نظم إنه شعري فقد انتهى مدحه إلى الغاية فيفيد تكرير [المبالغة] (٢) التامة في المدح من هذا الوجه. وكذا جواب الشرط هاهنا ، يعني به أنه لا يمكن أن يوصف ترك (٣) بعض المبلّغ تهديدا أعظم من أنه ترك التبليغ ، فكان ذلك تنبيها على غاية التهديد والوعيد» وضعّف الوجه الذي قبله بأنّ من أتى بالبعض وترك البعض ، لو قيل إنه ترك الكل كان كذبا ، ولو قيل : إن الخلل في ترك البعض ، كالخلل في [ترك] (٤) الكل ، فإنه أيضا محال».

وفي هذا التضعيف الذي ذكره الإمام نظر ؛ لأنه إذا كان متى أتي به غير معتدّ (٥) به فوجوده كالعدم ، كقول الشاعر :

سئلت فلم تمنع ولم تعط نائلا

فسيّان لا ذمّ عليك ولا حمد (٦)

أي ، ولم تعط ما يعدّ نائلا ؛ وإلا يتكاذب البيت.

(الثالث) : أنه لتعظيم حرمة كتمان البعض جعله ككتمان الكل ، كما [١١٣ / ب] في قوله تعالى : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة : ٣٢).

(الرابع) : أنه وضع السبب موضع المسبّب ، ومعناه : (٧) إن لم تفعل ذلك [فلك] ما يوجبه [كتمان الوحي كله من العذاب] (٧). ذكر هذا والذي قبله صاحب «الكشّاف» (٨).

(تنبيه) : قال الإمام أبو بكر الرازي (٩) : «وفي هذه [الآية] (١٠) دلالة على أن كلّ ما

__________________

هشاما في قصيدة أولها : الحمد لله الوهوب المجزل وهي أجود أرجوزة للعرب (ابن قتيبة الشعر والشعراء ص ٤٠٠).

(١) في المخطوطة (متى) كذا في التفسير.

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) تصحفت في المخطوطة إلى (تلك).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (متعدد).

(٦) البيت في المقرّب لابن عصفور ص ٥٤.

(٧) عبارة المخطوطة : (إن لم تفعل ذلك ما يوجبه لكان) وما بين الحاصرتين زيادة من الكشاف لا يستقيم المعنى بدونها.

(٩) انظر الكشاف ١ / ٣٥٣ ، بتصرف.

(١٠) هو أحمد بن علي المعروف بالجصاص تقدم في ٢ / ١٢٦ ، وانظر قوله في كتابه أحكام القرآن ٢ / ٤٤٩ مطلب في الدليل على صحة نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١١) ساقطة من المخطوطة.

٣٥٥

كان من الأحكام للناس إليه حاجة عامة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بلّغه الكافة ، وإنما وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر ؛ نحو الوضوء من مسّ الفرج ومن مسّ المرأة ، ومما مست النار ونحوها ، لعموم البلوى بها ، فإذا لم نجد ما كان فيها بهذه المنزلة واردا من طريق التواتر ، علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل». انتهى.

وهذه الدلالة ممنوعة ؛ لأن التبليغ مطلق غير مقيّد بصورة التواتر فيما تعمّ به البلوى ، فلا تثبت زيادة ذلك إلا بدليل. ومن المعلوم أن الله سبحانه لم يكلّف رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إشاعة شيء إلى جمع يتحصل بهم القطع غير القرآن ؛ لأنه المعجز الأكبر ، وطريق معرفته القطع ، فأما باقي الأحكام فقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرسل بها إلى الآحاد والقبائل ، وهي مشتملة على ما تعم به البلوى قطعا.

* (الخامس) : خطاب الجنس نحو (يا أَيُّهَا النَّاسُ) (البقرة : ٢١) فإن المراد جنس الناس لا كل فرد ، وإلا فمعلوم أن غير المكلّف لم يدخل تحت هذا الخطاب ، (١) وهذا يغلب في خطاب أهل مكة (١) كما سبق ، ورجّح الأصوليون دخول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخطاب (٢) ب (يا أَيُّهَا النَّاسُ) (٢) وفي القرآن سورتان ، أولهما (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ، إحداهما في النصف الأول ، وهي السورة الرابعة منه ، وهي سورة النساء ، والثانية في النصف الثاني منه. وهي سورة الحج. والأولى تشتمل على شرح المبدأ ، والثانية تشتمل على شرح المعاد ، فتأمل هذا الترتيب ما أوقعه في البلاغة! قال الراغب (٣) : و «(النَّاسُ) قد يذكّر ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم «الناس» تجوّزا ، وذلك إذا اعتبر (٤) معنى الإنسانية ، وهو وجود الفضل (٥) والذّكر وسائر القوى المختصة [به] (٦) فإن كل شيء عدم فعله المختص به لا يكاد يستحق اسمه ، كاليد فإنها إذا عدمت فعلها الخاص بها ، فإطلاق اليد عليها كإطلاقه على يد السرير ، ومثله بقوله تعالى :

__________________

(١) تصحفت العبارة في المخطوطة إلى (وقد نقلت في خطاب مسلمة).

(٢) عبارة المخطوطة : «نحو : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ...)».

(٣) في المفردات ص ٥٠٩ ، مادة نوس.

(٤) في المخطوطة (اعتبرت).

(٥) تصحفت في المخطوطة والمطبوعة إلى (العقل) وما أثبتناه من المفردات.

(٦) ساقطة من المخطوطة.

٣٥٦

(آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) (البقرة : ١٣) أي ، كما يفعل من يوجد فيه معنى الإنسانية ، ولم يقصد بالإنسان عينا واحدا ، بل قصد المعنى ، وكذلك قوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) (النساء : ٥٤) أي من وجد فيهم معنى الإنسانية ، أيّ إنسان [كان] (١). قال : وربما قصد به النوع من حيث هو. كقوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة : ٢٥١).

(السادس) : خطاب النوع. نحو : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) (البقرة : ٤٠) والمراد «بنو يعقوب» ، وإنما لم يصرح (٢) به للطيفة سبقت في النوع السادس وهو علم المبهمات (٣).

(السابع) خطاب العين. نحو (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (البقرة : ٣٥). (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ) (هود : ٤٨). (يا إِبْراهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) (الصافات : ١٠٤ و ١٠٥). (يا مُوسى) (الأعراف : ١٤٤). (يا عِيسى) (آل عمران : ٥٥). ولم يقع في القرآن النداء ب «يا محمد» بل ب (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) (الأنفال : ٦٤) و (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) (المائدة : ٤١) تعظيما له وتبجيلا ، وتخصيصا بذلك عن سواه.

(الثامن) : خطاب المدح. نحو : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (البقرة : ١٠٤) وهذا وقع خطابا لأهل المدينة الذين آمنوا وهاجروا ، تمييزا لهم عن أهل مكة ، وقد سبق أنّ كلّ آية فيها : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) (البقرة : ٢١) لأهل مكة ، وحكمة ذلك [١١٤ / أ] أنه يأتي بعد (يا أَيُّهَا النَّاسُ) الأمر بأصل الإيمان ، ويأتي بعد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الأمر بتفاصيل الشريعة ، وإن جاء بعدها الأمر [بالإيمان] (٤) كان من قبيل الأمر بالاستصحاب. وقوله [تعالى] (٤) (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) (النور : ٣١) قيل : يرد الخطاب بذلك باعتبار الظاهر عند المخاطب ؛ وهم المنافقون ؛ فإنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان ، كما قال سبحانه : (قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) (المائدة : ٤١). وقد جوّز الزمخشري في تفسير سورة المجادلة في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ (٥) [فَقَدِّمُوا

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) تصحفت في المطبوعة إلى (وإنما صرح).

(٣) راجع ١ / ٢٤٢ من هذا الكتاب.

(٤) ليست في المخطوطة.

(٥) ما بين الحاصرتين ليس في المطبوعة ، وقول الزمخشري لم نجده عند تفسير هذه الآية وإنما في قوله

٣٥٧

بين يدي نجواكم]) (الآية : ١٢) أن يكون خطابا للمنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ، وأن يكون للمؤمنين.

ومن هذا النوع الخطاب ب (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) (الأنفال : ٦٤) (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) (المائدة : ٤١) ولهذا تجد الخطاب بالنبيّ في محل لا يليق به الرسول ، وكذا عكسه ، كقوله في مقام الأمر بالتشريع العام : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (المائدة : ٦٧) وفي مقام الخاص : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (التحريم : ١) ومثله : (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (الأحزاب : ٥٠). وتأمّل قوله : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) (الحجرات : ١) في مقام الاقتداء بالكتاب (١) [والسنة] (٢) ثم قال : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) (الحجرات : ٢) فكأنه جمع له المقامين : معنى النبوة والرسالة ؛ تعديدا للنعم في الحالين.

وقريب منه في المضاف إلى الخاص : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) (الأحزاب : ٣٢) ولم يقل : «يا نساء الرسول» لمّا قصد اختصاصهنّ عن بقية الأمة. وقد يعبّر بالنبي في مقام التشريع العام ، لكن مع قرينة إرادة التعميم ، كقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (الطلاق : ١) ولم يقل : «طلّقت».

(التاسع) خطاب الذم. نحو : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) (التحريم : ٧). (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (الكافرون : ١) ولتضمنه الإهانة لم يقع في القرآن في غير هذين الموضعين.

وكثر الخطاب ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (البقرة : ١٠٤) على المواجهة ، وفي جانب الكفار على الغيبة ، إعراضا عنهم ، كقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (الأنفال : ٣٨) [ثم قال] (٣) (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (الأنفال : ٣٩) فواجه بالخطاب المؤمنين ، وأعرض بالخطاب عن الكافرين ؛

__________________

تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ...) الآية ، (المجادلة : ٩) ، انظر الكشاف ٤ / ٧٤.

(١) في المخطوطة (باكتساب).

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) ساقطة من المخطوطة.

٣٥٨

ولهذا كان [النبي] (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا عتب على قوم قال : «ما بال رجال يفعلون كذا!» ، فكنى عنهم تكرّما ، وعبّر عنهم بلفظ الغيبة إعراضا.

(العاشر) خطاب الكرامة. نحو : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (الأعراف : ١٩). وقوله : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) (الحجر : ٤٦).

(الحادي عشر) خطاب الإهانة. نحو قوله لإبليس : (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ* وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) (الحجر : ٣٤ و ٣٥) وقوله : ([قالَ]) (٢) اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (المؤمنون : ١٠٨). وقوله : (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) (الإسراء : ٦٤). قالوا : ليس هذا إباحة لإبليس ، وإنما معناه : أنّ ما يكون منك لا يضرّ عباده كقوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (الإسراء : ٦٥).

(الثاني عشر) خطاب التهكم. وهو الاستهزاء بالمخاطب ، مأخوذ من «تهكّم (٣) البئر» إذا تهدّمت ؛ كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان : ٤٩) وهو خطاب لأبي جهل ؛ لأنه قال : «ما بين جبليها ـ يعني مكة ـ أعز ولا أكرم مني (٤)».

وقال : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (التوبة : ٣٤) جعل العذاب مبشّرا به. وقوله : (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) (الواقعة : ٥٦) وقوله : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) (الواقعة : ٩٢ ـ ٩٤) والنزل لغة : هو الذي (٥) يقدّم للنازل تكرمة له قبل حضور الضيافة.

وقوله تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ* لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ) [١١٤ / ب](مِنْ أَمْرِ اللهِ) (الرعد : ١٠ و ١١) على تفسير (المعقبات) بالحرس حول السلطان ، يحفظونه ـ على زعمه ـ من أمر الله ، وهو تهكم ، فإنه لا يحفظه من أمر الله شيء إذا جاءه.

__________________

(١) ليس في المطبوعة.

(٢) ليس في المخطوطة.

(٣) في المخطوطة (تهكمت).

(٤) الخبر أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص ٢٥٣.

(٥) في المخطوطة (ما).

٣٥٩

وقوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) (الأحزاب : ١٨) وهو تعالى يعلم حقيقتهم و (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (هود : ٥) لا تخفى عليه خافية! وقوله تعالى : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ* لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) (الواقعة : ٤٣ و ٤٤) وذلك لأن الظلّ من شأنه الاسترواح واللطافة ، فنفي هنا ، وذلك أنهم (١) لا يستأهلون الظل الكريم.

(الثالث عشر) : خطاب الجمع بلفظ الواحد. كقوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ) (الانشقاق : ٦). (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (الانفطار : ٦). والمراد الجميع بدليل قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) (العصر : ٢ و ٣) وكان الحجّاج يقول في خطبته : «يأيها الإنسان ، وكلكم ذلك الإنسان».

وكثيرا ما يجيء ذلك في الخبر ، كقوله تعالى : ([إِنَ]) (٢) هؤُلاءِ ضَيْفِي (الحجر : ٦٨) ولم يقل : «ضيوفي» ، لأنه مصدر. وقوله : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) (المنافقون : ٤) ولم يقل الأعداء. وقوله : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (النساء : ٦٩) أي رفقاء. وقوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (البقرة : ٢٨٥) (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (الحاقة : ٤٧).

وفي الوصف كقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (المائدة : ٦). وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (التحريم : ٤) وقوله : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) (يوسف : ٨٠) وجمعه أنجية ، من المناجاة. وقوله : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) (النور : ٣١) فأوقع الطّفل جنسا.

قال ابن جني (٣) : «وهذا باب يغلب عليه الاسم لا الصفة ، نحو الشاة والبعير والإنسان والملك ، قال تعالى : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) (الحاقة : ١٧) (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (الفجر : ٢٢) (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر : ٢) ومن مجيئه في الصفة قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) (الفرقان : ٢٧) وقوله : (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ

__________________

(١) في المخطوطة (ذلك لأنهم).

(٢) ليست في المخطوطة.

(٣) انظر سرّ صناعة الإعراب ١ / ١٥.

٣٦٠