البرهان في علوم القرآن - ج ٢

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي

البرهان في علوم القرآن - ج ٢

المؤلف:

بدر الدين محمّد بن عبد الله الزّركشي


المحقق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي ، الشيخ جمال حمدي الذهبي ، الشيخ إبراهيم عبد الله الكردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

(الزلزلة : ١) فإن الألف باثنين والذال بسبعمائة. وكذلك استنبط بعض أئمة العرب (١) فتح بيت المقدس وتخليصه من [١٠٦ / أ] أيدي العدوّ في أول سورة الروم بحساب الجمّل ، وغير ذلك.

فصل

وقد يستنبط (٢) الحكم من السكوت عن الشيء ، كقوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ ...) الآية : (النور : ٣١) ولم يذكر الأعمام والأخوال (٣) ، وهم من المحارم ، وحكمهم حكم من سمّي في الآية. وقد سئل الشعبيّ عن ذلك فقال : «لئلا يضعها العم عند ابنه وهو ليس بمحرم لها ، كذا الخال ، فيفضي إلى الفتنة». والمعنى فيه أنّ كلّ من استثني مشترك بابنه (٤) في المحرمية إلا العمّ والخال. وهذا من الدلائل البليغة على وجوب الاحتياط في سترهنّ. ولقائل أن يقول : هذه المفسدة محتملة في أبناء بعولتهنّ ، لاحتمال أن يذرها أبو البعل عند ابنه الآخر (٥) ، وهو ليس بمحرم لها ، وأبو البعل ينقض قولهم : إن [كل] (٦) من استثنى اشترك (٧) هو وابنه في المحرميّة.

ومنه قوله تعالى : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ...) الآية : (النور : (٦١) ولم يذكر الأولاد ، فقيل لدخولهم في قوله : (بُيُوتِكُمْ).

فصل

ينقسم القرآن العظيم إلى : ما هو بيّن بنفسه (٨) ، بلفظ لا يحتاج إلى بيان منه ولا من غيره ، وهو كثير. ومنه قوله تعالى : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ...) الآية (التوبة : ١١٢) وقوله : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ...) الآية (الأحزاب : ٣٥). وقوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون : ١). وقوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) (يس : ١٣). وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً) (النساء : ٤٧).

__________________

(١) عبارة المخطوطة (... العرف في فتح ...).

(٢) اضطربت العبارة في المخطوطة كما يلي (وقد استنبط بعض أهل العرف من السكوت ...).

(٣) في المخطوطة (ولا الأخوال).

(٤) في المخطوطة (يشارك ابنه).

(٥) في المخطوطة (الأجنبي).

(٦) ساقطة من المطبوعة.

(٧) في المخطوطة (يشترك).

(٨) في المخطوطة (من نفسه).

٣٢١

وإلى ما ليس ببيّن (١) بنفسه فيحتاج إلى بيان. وبيانه إما فيه في آية أخرى ، أو في السنّة ، لأنها موضوعة للبيان ، قال تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل : ٤٤).

والثاني ككثير من أحكام الطهارة ، والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحجّ ، والمعاملات ، والأنكحة ، والجنايات ، وغير ذلك ، كقوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) (الأنعام : ١٤١) ولم يذكر كيفية الزكاة ، ولا نصابها ، ولا أوقاصها (٢) ، ولا شروطها ، ولا أحوالها ، ولا من تجب عليه ممّن لا تجب [عليه] (٣) ، وكذا لم يبين عدد الصلاة ولا أوقاتها.

وكقوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة : ١٨٥) (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (آل عمران : ٩٧) ولم يبيّن أركانه ولا شروطه ، ولا ما يحل في الإحرام وما لا يحل ، ولا ما يوجب الدّم ولا ما لا يوجبه ، وغير ذلك والأول قد أرشدنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود «لما نزل : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) (الأنعام : ٨٢) شقّ ذلك على المسلمين فقالوا : يا رسول الله ، وأيّنا لا يظلم نفسه! قال : ليس ذلك ، إنما هو الشرك ، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٤)» (لقمان : ١٣) فحمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظلم هاهنا على الشرك ، لمقابلته بالإيمان. واستأنس عليه بقول لقمان.

وقد يكون بيانه مضمرا فيه ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) (الزمر : ٧٣) فهذا يحتاج إلى بيان ؛ لأن (حَتَّى [إِذا]) (٥) لا بدّ لها من تمام ، وتأويله :

__________________

(١) في المخطوطة (بين).

(٢) الوقص ـ بالتحريك ـ ما بين الفريضتين ، كالزيادة على الخمس من الإبل إلى التسع ، وعلى العشر إلى أربع عشرة والجمع : أوقاص (ابن الجزري ، النهاية ٥ / ٢١٤).

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) الحديث متفق عليه ، أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ٨٧ ، كتاب الإيمان (٢). باب ظلم دون ظلم (٢٣) ، الحديث (٣٢). وأخرجه مسلم في الصحيح ١ / ١١٤ ، كتاب الإيمان (١) ، باب صدق الإيمان وإخلاصه (٥٦) ، الحديث (١٩٧ / ١٢٤).

(٥) ليست في المطبوعة.

٣٢٢

حتى إذا جاءوها [جاءوها] (١) وفتحت أبوابها. ومثله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) (الرعد : ٣١) أي : لكان هذا القرآن على رأي النحويين. قال ابن فارس (٢) : «ويسمّى هذا عند العرب الكفّ».

وقد يومئ إلى المحذوف ، إما متأخر كقوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (الزمر : ٢٢) فإنه لم يجيء له جواب في اللفظ ، لكن أومأ إليه قوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) (الزمر : ٢٢) وتقديره : أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن قسا قلبه! وإما متقدم كقوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) (الزمر : ٩) فإنّه أومأ إلى ما قبله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) (الزمر : ٨) كأنه قال : أهذا الذي هو هكذا خير أم من هو قانت؟ فأضمر المبتدأ.

ونظيره : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) (محمد : ١٥) [١٠٦ / ب] ومن هذه صفته (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) (محمد : ١٥).

وقد يكون بيانه واضحا وهو أقسام :

* أحدها : أن يكون عقبه ، كقوله تعالى : (اللهُ الصَّمَدُ) (الإخلاص : ٢) قال محمد بن كعب القرظيّ : تفسيره : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الإخلاص : ٣ و ٤) وكقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) (المعارج : ١٩) قال أبو العالية : تفسيره : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (المعارج : ٢٠ و ٢١) وقال ثعلب : «سألني محمد بن طاهر : ما الهلع؟ فقلت : قد فسره الله تعالى». وكقوله [تعالى] (٣) (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) (آل عمران : ٩٧) فسّره بقوله : (مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (آل عمران : ٩٧).

وقوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (الأنبياء : ٩٨) [ومعلوم] (٤) أنه لم يرد (٥) به المسيح وعزيرا [والملائكة] (٣) فنزلت الآية مطلقة ، اكتفاء بالدلالة

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) في كتابه الصاحبي في فقه اللغة ص : ٢١٥.

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) في المخطوطة (لا يريد).

٣٢٣

الظاهرة ، على أنه لا يعذبهم (١) الله ، وكان ذلك بمنزلة الاستثناء باللفظ ، فلما قال المشركون : هذا [هو] (٢) المسيح وعزير قد عبدا من دون الله أنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (الأنبياء : ١٠١).

وقوله : (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) (الرعد : ١٢) ففسّر رؤية البرق بأنه ليس في رؤيته [إلا] (٣) الخوف من الصواعق والطمع (٤) في الأمطار. وفيها لطيفة ، وهي تقديم الخوف على الطمع إذ كانت الصواعق تقع من أول برقة ، ولا يحصل المطر إلا بعد تواتر البرقات ، فإن تواترها لا يكاد يكذب ، فقدم الخوف على الطمع ، ناسخا للخوف ، كمجيء (٥) الفرج بعد الشدة.

وكقوله : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ...) الآية (النور : ٤٥) وفيها لطيفة حيث بدأ بالمشي على بطنه ، فإنها سيقت لبيان القدرة ، وهو أعجب من الذي بعده ، وكذا ما يمشي على رجلين أعجب ممن يمشي على أربع.

وكقوله تعالى : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) (النساء : ٢٥) فهذا عام في المسلم والكافر ، ثم بيّن أن المراد «المؤمنات» بقوله (٦) : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) (النساء : ٢٥) فخرج تزوج (٧) الأمة الكافرة.

وقوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) (الإسراء : ٧٢) فإن الأول اسم [منه] (٨) والثاني أفعل تفضيل ، بدليل قوله بعده : (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (الإسراء : ٧٢) ولهذا قرأ أبو عمرو (٩) الأول بالإمالة [لأنه] (٨) اسم ، والثاني بالتصحيح ليفرق بين ما هو اسم ، وما هو «أفعل» [منه] (٨) بالإمالة وتركها. (فإن قلت) : فقد قال النحويون : أفعل [التفضيل] (٨) لا يأتي من الخلق ، فلا يقال : زيد أعمى من عمرو ؛ لأنه لا

__________________

(١) في المطبوعة (يعذبهما).

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (أو الطمع).

(٥) في المخطوطة (ليجيء).

(٦) في المخطوطة (من قوله).

(٧) في المخطوطة (تزويج).

(٨) ساقطة من المخطوطة.

(٩) قراءة أبي بكر وحمزة والكسائي الإمالة في الاثنين ، وأبي عمرو بالإمالة في الأول فقط وورش بين بين على أصله فيهما ، والباقون بالفتح. (الداني ، التيسير ، ص : ١٤٠).

٣٢٤

يتفاوت! (قلت) : إنما جاز في الآية لأنه من عمى القلب ، أي من كان في هذه الدنيا أعمى القلب عما يرى من القدرة الإلهيّة ، ولا يؤمن به فهو عما يغيب عنه من أمر الآخرة أعمى أن يؤمن به ؛ أي أشدّ عمى. ولا شك أن عمى البصيرة متفاوت.

ومنه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة : ١٥٣) قال : البيهقيّ في «شعب الإيمان» (١) : الأشبه أن المراد بالصبر هاهنا الصبر على الشدائد ، لأنّه أتبع مدح الصابرين بقوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) (البقرة : ١٥٤) إلى قوله : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) (١٥٥ و ١٥٦).

* الثاني : أن يكون بيانه منفصلا عنه في السورة معه أو في غيره ، كقوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة : ٤) وبيانه في سورة الانفطار ، بقوله : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ* ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ* يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (الانفطار : ١٧ ـ ١٩).

وقوله في سورتي النمل (الآية : ٨٩) والقصص : (الآية : ٨٤) : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ولم يبيّن في ليل ولا نهار ، وبيّنه في سورة الدخان بقوله : (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) (الآية : ٣) ثم بيّنها في ليلة القدر بقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (الآية : ١) فالمباركة في الزمان ، هي ليلة القدر في هذه السورة ؛ لأنّ الإنزال واحد ، وبذلك يردّ على من زعم أن المباركة ليلة النصف من شعبان [١٠٧ / أ] وعجب كيف غفل عن ذلك. وقد استنبط بعضهم هنا بيانا آخر ، وهو أنّها ليلة سبعة عشر ، من قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) (الأنفال : ٤١) وذلك ليلة سبع عشرة من رمضان ؛ وفي ذلك كلام.

وقوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (المائدة : ٥٤) فسّره في آية الفتح : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (الآية : ٢٩). وقوله تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ* وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) (الحج : ٢٣ و ٢٤) وقد فسره في سورة فاطر : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (الآية : ٣٤) وقوله [تعالى] (٢) (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ

__________________

(١) تقدم في ١ / ٣١٠.

(٢) ليست في المطبوعة.

٣٢٥

مَثَلاً) (الزخرف : ١٧) [بيّن] (١) ذلك بقوله في النحل : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) (الآية : ٥٨).

وذكر الله [تعالى] (٢) الطلاق مجملا ، وفسّره في سورة الطلاق. وقال تعالى : (إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) (المؤمنون : ٦) فاستثنى الأزواج وملك اليمين ، ثم حظر تعالى الجمع بين الأختين ، وبين الأم والابنة والرابّة بالآية الأخرى (النساء : ٣٣).

ومنه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) (الزمر : ٣) فإن ظاهره مشكل ؛ لأن الله سبحانه قد هدى (٣) كفارا [كثيرا] (١) وماتوا مسلمين ، وإنّما المراد : لا يهدي من كان في علمه أنه قد حقّت عليه كلمة العذاب ، وبيانه بقوله تعالى في السورة : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (الزمر : ١٩) وقوله في سورة أخرى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (يونس : ٩٦ و ٩٧).

ومنه قوله تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) (البقرة : ١٨٦) وكثير من الناس يدعون فلا يستجاب لهم ، وبيانه بقوله تعالى : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) (الأنعام : ٤١) فبيّن أنّ الإجابة متعلقة بالمشيئة ؛ على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد فسّر الإجابة بقوله : «ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلاّ أعطاه الله إحدى ثلاث خصال : إمّا أن يعجّل دعوته ، وإما أن يدخّرها له في الآخرة ، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها» (٤).

ومنه قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) (الشورى : ٢٠) وكثير من

__________________

(١) ساقطة من المخطوطة.

(٢) ليست في المطبوعة.

(٣) في المخطوطة (أهدى).

(٤) الحديث أخرجه أحمد في المسند ٣ / ١٨ ، في مسند أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه ، وأبو يعلى في المسند ٢ / ٢٩٦ ، الحديث (٤٦ / ١٠١٩) في مسند أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه. والحاكم في المستدرك ١ / ٤٩٣ ، كتاب الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذكر ، وقال : «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (السيوطي ، جمع الجوامع ص ٧٢٨).

٣٢٦

الناس يريد ذلك فلا يحصل له ، وبيانه في قوله (١) : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) (الإسراء : ١٨) فهو كالذي قبله متعلق بالمشيئة (٢).

ومنه قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) (٣) (الرعد : ٢٨) وقال في آية أخرى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (الأنفال : ٢) فإنه قد يستشكل اجتماعهما ؛ لأن (٤) الوجل خلاف الطمأنينة ؛ وهذا غفلة عن المراد ؛ لأن الاطمئنان إنما يكون (٥) [عن ثلج القلب وشرح الصدر بمعرفة التوحيد والعلم ؛ وما يتبع ذلك من الدرجة الرفيعة والثواب الجزيل ، والوجل إنما يكون] (٥) عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدي ، وما يستحق به الوعيد (٦) [بتوجيل القلوب كذلك. وقد اجتمعا] (٦) في قوله تعالى : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) (الزمر : ٢٣) لأن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ، ووثقوا به ، فانتفى عنهم الشك والارتياب الذي يعرض إن كان (٧) كلامهم فيمن أظهر الإسلام تعوذا ، فجعل لهم حكمة دون العلم الموجب لثلج الصدور وانتفاء الشك ، ونظائره (٨) كثيرة.

ومنه قوله تعالى في قصة لوط : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ [وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ] (٩) وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (الحجر : ٦٥) فلم يستثن امرأته في هذا الموضوع ، وهي مستثناة في المعنى بقوله في الآية الأخرى : (فَأَسْرِ) [١٠٧ / ب](بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ) (هود : ٨١) فأظهر الاستثناء في هذه الآية.

وكقوله تعالى : (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) (الحجر : ٥٢)

__________________

(١) في المخطوطة : (بقوله).

(٢) عبارة المخطوطة : (في تعليق للمشيئة).

(٣) في المخطوطة زيادة : (سبحانه).

(٤) في المخطوطة : (اجتماعهم فإن).

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٦) عبارة المخطوطة : (... بتوحيد القلوب لذلك وقد اجتمع ...).

(٧) في المخطوطة : (عن) بدل (إن كان).

(٨) في المخطوطة : (ونظير برّه).

(٩) سقطت من الأصول والصواب إثباته كما هو نص الآية في المصحف الشريف.

٣٢٧

اختصر جوابه لبيانه في موضع آخر : (فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) (الذاريات : ٢٥) وكقوله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ...) الآية (البقرة : ١٧٨) ؛ فإنها نزلت تفسيرا وبيانا لمجمل قوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (المائدة : ٤٥) لأن هذه لمّا نزلت لم يفهم مرادها. وقوله [تعالى] (١) : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) (النساء : ٢٢) [هي تفسير] (٢) لقوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ...) الآية (النساء : ٢٢). وقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ ...) الآية (النساء : ٧) ، فإنّ هذه الآية مجملة ، لا يعلم منها من يرث من الرجال والنساء بالفرض والتعصيب ، ومن يرث ومن لا يرث ، ثم بيّنه في آية أخرى بقوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ..) الآيات (النساء : ١١).

وكقوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) (المائدة : ١) فهذا الاستثناء مجمل ، بيّنه في آية أخرى بقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) (المائدة : ٣). وكقوله : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ ...) الآية (المائدة : ٩٤) فهذا الابتلاء مجمل لا يعلم أهو (٣) في الحلّ أم في الحرم ؛ بيّنه قوله : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ...) الآية (المائدة : ٩٥).

وكقوله [تعالى] (٤) : (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (الروم : ٣) وهذا المجمل بيّنه في آية أخرى بقوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ ...) الآية (التوبة : ٣٣) وكقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (البقرة : ٤٠) قال العلماء : بيان هذا العهد قوله تعالى : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ...) الآية (المائدة : ١٢) فهذا عهده عزوجل ، وعهدهم تمام الآية في قوله : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ...) (المائدة : ١٢) فإذا وفّوا العهد الأول ما وعدوا.

وقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) (الرعد : ٤٣) يردّ عليهم بقوله : (يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (يس : ١ ـ ٣) وقوله تعالى : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) (الدخان : ١٢) فقيل لهم : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ

__________________

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) ساقطة من المخطوطة.

(٣) في المطبوعة (أحد).

(٤) ليست في المطبوعة.

٣٢٨

مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (المؤمنون : ٧٥) وقيل بل نزل بعده : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) (الدخان : ١٥) والتقدير : [إنّا] (١) إن كشفنا العذاب تعودوا.

وقوله : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف : ٣١) فردّ عليهم بقوله : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (القصص : ٦٨) وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) (الفرقان : ٦٠) بيانه : (الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (الرحمن : ١ و ٢) وقوله : ([قالُوا]) (٢) قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا (الأنفال : ٣١) فقيل لهم : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً]) (٢) (الإسراء : ٨٨). وقوله : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) (ص : ٦) فقيل لهم في الجواب : (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ...) الآية (فصّلت : ٢٤).

ومنه : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) (القمر : ٤٤) فقيل لهم : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) (الصافات : ٢٥). ومنه : (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) (آل عمران : ١٦٨) فرد عليهم بقوله : (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) (آل عمران : ١٥٤).

وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) (الطور : ٣٣) ردّ عليهم بقوله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) (الحاقة : ٤٤ و ٤٥). وقوله : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) (الفرقان : ٧) فقيل لهم : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) (الفرقان : ٢٠) وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) (الفرقان : ٣٢) فقيل في سورة أخرى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) (الإسراء : ١٠٦) وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) (النمل : ٤٥) تفسير هذا الاختصام ما قال في سورة أخرى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا [١٠٨ / أ]

__________________

(١) ساقطة من المطبوعة.

(٢) ليست في المطبوعة.

٣٢٩

مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ...) الآية (الأعراف : ٧٥).

وقوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (يونس : ٦٤) وفسّرها في موضع آخر بقوله : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت : ٣٠). ومنه حكاية عن فرعون [لعنه الله] (١) (وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ) (المؤمن : ٢٩) فردّ عليه في قوله : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (هود : ٩٧).

وقوله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ) (المجادلة : ١٨) وذكر هذا الحلف (٢) في قوله : (قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (الأنعام : ٢٣).

وقوله في [قصة نوح عليه‌السلام] (٣) (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (القمر : ١٠) بيّن في مواضع أخر : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) (الأنبياء : ٧٧). وقوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) (البقرة : ٨٨) أي أوعية للعلم ، فقيل لهم : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ [إِلاَّ]) (٤) قَلِيلاً (الإسراء : ٨٥).

وجعل بعضهم من هذا قوله تعالى : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (الأعراف : ١٤٣) قال : فإن آية البقرة وهي قوله : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) (الآية : ٥٥) تدل على أن قوله : (رَبِّ أَرِنِي) لم يكن عن نفسه ، وإنما أراد به مطالبة قومه ، ولم يثبت في التوراة أنه سأل الرؤية إلا وقت حضور قومه معه ، وسؤالهم ذلك.

ومن ذلك قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة : ٧) بيّنه في آية النساء بقوله : (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) (الآية : ٦٩) فإن قيل : فهلا فسّرها آية مريم : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ...) (الآية : ٥٨) الآية! قيل لا نسلّم أولا أن هذه الآية في النبيين فقط ، لقوله (وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) وقوله : (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) (مريم : ٥٨) وهذا تصريح

__________________

(١) ليست في المخطوطة.

(٢) تصحفت في المخطوطة إلى (الخلاف).

(٣) ما بين الحاصرتين ليس في المخطوطة والعبارة فيها (وقوله في القمر).

(٤) ساقطة من المطبوعة.

٣٣٠

بالأنبياء (١) وغيرهم. كيف وقد ذكرت مريم وهي صدّيقة (٢) على أحد القولين! ولو سلّم أنها في الأنبياء خاصة ، فهم بعض من أنعم الله عليهم ، وجعلهم في آية النساء صنفا من المنعم عليهم ، فكانت آية النساء من حيث هي عامة أولى بتفسير (٣) قوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة : ٧) ولأنّ آية مريم ليس فيها إلاّ الإخبار (٤) بأن الله أنعم عليهم (٤) ، وذلك هو معنى قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة : ٦) والرغبة إلى الله تعالى في الثّبات عليها ، هي نفس الطاعة لله ولرسوله ، فإن العبد إذا هدي إلى الصراط المستقيم ، فقد هدي إلى الطاعة المقتضية أن يكون مع المنعم عليهم. وظهر بهذا أن آية النساء أمسّ (٥) بتفسير سورة الحمد من الآية التي في سورة مريم.

فصل

وقد يكون اللفظ مقتضيا لأمر ويحمل (٦) على غيره ، لأنه أولى بذلك الاسم منه ، وله أمثلة (٧) : منها تفسيرهم السبع (الْمَثانِي) (الحجر : ٨٧) بالفاتحة مع أنّ الله تعالى أخبر أنّ القرآن كله (مَثانِيَ) (الزمر : ٢٣).

ومنها قوله عن أهل الكساء (٨) : «هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا (٩)» ، وسياق القرآن يدلّ على إرادة الأزواج ، وفيهنّ نزلت ، ولا يمكن (١٠) خروجهنّ

__________________

(١) في المخطوطة (للأنبياء).

(٢) في المخطوطة (الصدّيقة).

(٣) في المخطوطة (أولا يفسر) بدل (أولى بتفسير).

(٤) في المخطوطة (لأن الله تعالى أنعم عليه).

(٥) في المخطوطة (ليس له).

(٦) في المخطوطة (ويحتمل).

(٧) في المخطوطة (الشبه).

(٨) تصحفت في المخطوطة إلى (الكتاب).

(٩) حديث أهل الكساء الوارد بهذا اللفظ أخرجه الترمذي من حديث عمر بن أبي سلمة ٥ / ٦٦٣ ، كتاب المناقب (٥٠) ، باب مناقب أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣٢) ، الحديث (٣٧٨٧). وله شاهد في صحيح مسلم عن عائشة رضي‌الله‌عنها ٤ / ١٨٨٣ ، كتاب فضائل الصحابة (٤٤) ، باب فضائل الصحابة (٩) ، الحديث (٦١ / ٢٤٢٤) ، وانظر تفسير القرطبي ١٤ / ١٨٢ ـ ١٨٣.

(١٠) في المخطوطة (يبطل).

٣٣١

عن الآية ، لكن لما أريد دخول غيرهن قيل بلفظ التذكير : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) (الأحزاب : ٣٣) فعلم أن هذه الإرادة شاملة لجميع أهل البيت : الذكور والإناث ، بخلاف قوله (يا نِساءَ النَّبِيِ) (الأحزاب : ٣٢) ودلّ (١) [حديث الكساء] (٢) على أن عليّا وفاطمة أحقّ بهذا الوصف من الأزواج.

ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المسجد الذي أسّس على التقوى : «هو مسجدي هذا (٣)» وهو (٤) يقتضي أنّ ما ذكره أحقّ بهذا الاسم من غيره ، والحصر المذكور حصر الكمال ، كما يقال : هذا هو العالم العدل ، وإلاّ فلا شكّ أن مسجد قباء هو ما أسّس (٥) على التقوى ، وسياق القرآن يدلّ على أنه مراد بالآية.

فصل

وقد يكون اللفظ محتملا لمعنيين (٦) [١٠٨ / ب] وفي موضع آخر ما يعيّنه لأحدهما ، كقوله تعالى في سورة البقرة : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (البقرة : ٧) فيحتمل أن يكون السمع معطوفا على (خَتَمَ) ويحتمل الوقف على [قوله] (٧) (قُلُوبِهِمْ) لأن الختم إنما يكون على القلب ؛ وهذا أولى ، لقوله في الجاثية : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) (الآية : ٢٣).

وقوله تعالى في سورة الحجر : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ

__________________

(١) في المخطوطة (ودخل).

(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.

(٣) يروى هذا الحديث من ثلاث طرق : عن أبي سعيد الخدري ، وأبي بن كعب ، وسهل بن سعد الساعدي رضي‌الله‌عنهم* أما طريق أبي سعيد الخدري فأخرجها بأصلها مسلم في الصحيح ٢ / ١٠١٥ ، كتاب الحج (١٥) ، باب بيان أن المسجد الذي أسس ... (٩٦) ، الحديث (٥١٤ / ١٣٩٨) ولم يذكر الشاهد وأخرجها أحمد في المسند ٣ / ٨ ، والترمذي في السنن ٥ / ٢٨٠ ، كتاب تفسير القرآن (٤٨) ، تفسير سورة (١٠) التوبة ، باب (١٠) الحديث (٣٠٩٩) ، والنسائي في السنن ٢ / ٣٦ ، كتاب المساجد (٨) ، ذكر المسجد الذي أسس على التقوى (٨) ، الحديث (٦٩٧) * وأما طريق أبي بن كعب فأخرجها أحمد في المسند ٥ / ١١٦ ، * وأما طريق سهل بن سعد فأخرجها أحمد في المسند ٥ / ٣٣١ و ٣٣٥.

(٤) في المخطوطة (فإنه).

(٥) في المطبوعة (مؤسس).

(٦) عبارة المخطوطة (يحتمل المعنيين).

(٧) ساقطة من المطبوعة.

٣٣٢

الْغاوِينَ) (الآية : ٤٢) فالاستثناء منقطع لقوله في الإسراء : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (الآية : ٦٥) ولو كان متصلا لاستثناهم ، فلمّا لم يستثنهم دلّ على أنهم لم يدخلوا.

وقوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (الأنبياء : ٣٠) فقد قيل : إن حياة كلّ شيء إنّما هو بالماء ، قال ابن درستويه (١) : وهذا غير جائز في العربية ؛ لأنه لو كان المعنى كذلك لم يكن (حَيٍ) مجرورا ولكان منصوبا ، وإنما (حَيٍ) صفة لشيء. ومعنى الآية : خلق [جميع] (٢) الخلق من الماء ، ويدلّ له قوله في موضع آخر : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) (٣) (النور : ٤٥).

ومما يحتمل قوله تعالى : (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) (طه : ٣٩) فإن (فَلْيُلْقِهِ) يحتمل الأمر والخبر ، كأنه قال : «فاقذفيه في اليم يلقيه اليم» ويحتمل أن يكون أمرا (٤) بإلقائه.

ومنه قوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (المدثر : ١١) فإنه يحتمل أن يكون خلقته وحيدا فريدا من ماله وولده. وفي الآية بحث آخر ، وهو أن أبا (٥) البقاء أجاز فيها ، وفي قوله : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) (المزمل : ١١) [أن] (٦) تكون الواو عاطفة ، وهو فاسد لأنه يلزم منه أن يكون الله قد أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتركه ، وكأنه قال : اتركني واترك من خلقت وحيدا ، وكذلك اتركني واترك المكذّبين ، فيتعين أن يكون المراد : خلّ (٧) بيني وبينهم ، وهي واو «مع» كقوله : «لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها».

وقد يكون للفظ ظاهر وباطن ، كقوله تعالى : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) (البقرة :

__________________

(١) تقدم التعريف به في ١ / ٤١٣.

(٢) ساقطة من المطبوعة.

(٣) الآية في المخطوطة (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٦].

(٤) في المخطوطة (أمر).

(٥) في المخطوطة (أمر). وهو تصحيف وهو أبو البقاء العكبري ، وقد تقدم التعريف به في ١ / ١٥٩. وانظر قوله في كتابه إملاء ما منّ به الرحمن ص ١٤٦.

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (دخل).

٣٣٣

١٢٥) ظاهره الكعبة ، وباطنه القلب ، قال العلماء : ونحن نقطع أن المراد بخطاب إبراهيم الكعبة ؛ لكن العالم يتجاوز (١) إلى القلب بطريق الاعتبار عند قوم ، والأولى عند آخرين ، ومن باطنه إلحاق سائر المساجد به ، ومن ظاهره عند قوم العبور فيه.

فصل

ومما يعين (٢) على المعنى عند الإشكال أمور :

(أحدها) : ردّ الكلمة لضدّها ، كقوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) (الإنسان : ٢٤) [أي «ولا كفورا»] (٣) والطريقة أن يردّ النهي منه إلى الأمر ، فنقول معنى : «أطع هذا أو هذا» : أطع أحدهما ، وعلى هذا معناه في النهي : ولا تطع واحدا منهما.

(الثاني) : ردّها إلى نظيرها ، كما في قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) (النساء : ١١) فهذا عام ، وقوله : (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) (النساء : ١١) قول حدّ (٤) أحد طرفيه وأرخي الطرف الآخر إلى غير نهاية ؛ لأن أول ما فوق الثنتين الثلاث وآخره لا نهاية له. وقوله : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) (النساء : ١١) محدودة الطرفين ، فالثنتان خارجتان من هذا الفصل ، وأمسك الله [تعالى] (٥) عن ذكر الثنتين [وذكر] (٦) الواحدة والثلاث وما فوقها. وأما قوله في الأخوات : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ...) (النساء : ١٧٦) الآية فذكر الواحدة والاثنتين ، وأمسك عن ذكر الثلاث وما (٧) فوقهن ، فضمّن كلّ واحد من الفصلين ما كفّ عن ذكره في الآخر ، فوجب حمل كل واحد منهما فيما أمسك عنه فيه على ما ذكره في غيره.

(الثالث) : ما يتصل بها من خبر أو شرط أو إيضاح في معنى آخر ، كقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) (فاطر : ١٠) يحتمل أن يكون معناها [١٠٩ / أ]

__________________

(١) في المخطوطة (لم يتجاوز).

(٢) في المخطوطة (يتعين).

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (خذ).

(٥) ساقطة من المطبوعة.

(٦) ساقطة من المخطوطة.

(٧) في المخطوطة (وأما).

٣٣٤

من كان يريد أن يعزّ أو تكون العزة (١) له ؛ لكن قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) (فاطر : ١٠) يحتمل أن يكون معناها : من كان يريد أن يعلم لمن العزة ، فإنها لله.

وكذلك قوله : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) (المائدة : ٣٣) فإنه لا دلالة فيها على الحال التي هي شرط في عقوبته المعيّنة ، وأنواع المحاربة والفساد كثيرة ، وإنما استفيدت الحال من الأدلة الدالة على أن القتل على من قتل ولم يأخذ المال ، والصّلب على من جمعهما ، والقطع على من أخذ المال ولم يقتل ، والنّفي على من لم يفعل شيئا من ذلك سوى السعي في الأرض بالفساد.

(الرابع) : دلالة السياق ، فإنها ترشد إلى تبيين المجمل والقطع بعدم احتمال غير المراد ، وتخصيص العام وتقييد المطلق ، وتنوع الدلالة ، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم ، فمن أهمله غلط في نظيره ، وغالط في مناظراته ، وانظر (٢) إلى قوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان : ٤٩) كيف تجد سياقه يدلّ على أنه الذليل الحقير.

(الخامس) : ملاحظة النقل عن المعنى الأصلي ، وذلك أنه قد يستعار الشيء لمشابهه (٣) ثم يستعار من المشابه لمشابه المشابه ، ويتباعد عن المسمّى الحقيقي بدرجات ، فيذهب عن الذهن الجهة المسوّغة لنقله من الأول إلى الآخر ؛ وطريق معرفة ذلك بالتدريج ، كقوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران : ٢٨) وذلك أنّ أصل «دون» للمكان الذي هو أنزل من مكان غيره ، ومنه الشيء الدون للحقير ، ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرتب ، فقيل : زيد دون عمرو في العلم والشرف ، ثم اتسع فيه ، فاستعير في كل ما يتجاوز حدّا إلى حدّ ، وتخطّى حكما إلى [حكم] (٤) آخر ، كما في الآية المذكورة ، والتقدير : لا تتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين.

وكذلك قوله تعالى : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) (البقرة : ٢٣) أي تجاوزوا [الله] (٥) في دعائكم إلى دعاء آلهتكم ، الذين تزعمون أنهم يشهدون لكم يوم القيامة ، أي لا

__________________

(١) في المخطوطة (يكون العز).

(٢) في المخطوطة (فانظر).

(٣) في المخطوطة (للمشابهة).

(٤) ساقطة من المخطوطة.

(٥) لفظ الجلالة ليس في المخطوطة.

٣٣٥

تستشهدوا (١) بالله فإنها حجة يركن إليها العاجز عن البينات من الناس ، بل ائتوا ببيّنة تكون حجة عند الحكام. وهذا يؤذن بأنه لم يبق لهم تشبث سوى قولهم : «الله يشهد لنا عليكم» هذا إذا جعلت (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلقا ب (ادْعُوا) فإن جعلته متعلقا ب (شُهَداءَكُمْ) احتمل معنيين : أحدهما أن يكون المعنى : ادعوا الّذين تجاوزتم في زعمكم شهادة الله ، أي شهادتهم لكم يوم القيامة ، والثاني على أن يراد (٢) بشهدائكم آلهتكم ، أي ادعوا الذين تجاوزتم في اتخاذكم ألوهية الله ، إلى ألوهيتهم.

ويحتمل أن يكون التقدير : (مِنْ دُونِ اللهِ) أي من غير المؤمنين يشهدون (٣) لكم أنكم آمنتم بمثله ؛ وفي هذا إرخاء عنان الاعتماد على أن فصحاءهم تأنف نفوسهم من مساجلة الحق الجليّ بالباطل اللجلجيّ (٤) ، وتعليقه ب (ادْعُوا) على هذا جائز.

ومنه قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) (البقرة : ٢٥٩) فإنه عطفه على قوله : (أَلَمْ تَرَ) (البقرة : ٢٥٨) لأنها بمعنى «هل رأيت».

(السادس) : معرفة النزول ، وهو من أعظم المعين على فهم المعنى ، وسبق منه في أول الكتاب جملة (٥) ، وكانت الصحابة والسلف يعتمدونه ، وكان عروة بن الزبير ، قد فهم من قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (البقرة : ١٥٨) (٦) [أنّ السعي ليس بركن ، فردت عليه عائشة ذلك وقالت : لو كان كما قلت ، لقال : «فلا جناح عليه ألاّ يطوف بهما»] (٦) ، وثبت أنه إنما أتى بهذه الصيغة ؛ لأنه كان وقع فزع في قلوب طائفة من الناس كانوا يطوفون قبل ذلك بين الصفا والمروة للأصنام ، فلما جاء الإسلام ، كرهوا [١٠٩ / ب] الفعل الذي كانوا يشركون به ، فرفع الله ذلك الجناح من قلوبهم ، وأمرهم بالطواف ؛ رواه البخاري في «صحيحه» (٧). فثبت أنها نزلت ردّا على من كان يمتنع من السعي.

__________________

(١) في المخطوطة (لا تشهدوا).

(٢) في المخطوطة (المراد).

(٣) في المخطوطة (يشهدوا).

(٤) في المخطوطة (الجلجي).

(٥) راجع النوع الأول من الكتاب معرفة أسباب النزول في ١ / ١١٥.

(٦) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

(٧) انظر صحيح البخاري ٣ / ٤٩٧ ، كتاب الحج (٢٥) ، باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله

٣٣٦

ومن ذلك قصة مروان بن الحكم [في] (١) سؤاله ابن عباس : «لئن كان كلّ امرئ فرخ بما أوتي وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذّبا لنعذّبنّ أجمعون! فقال ابن عباس : هذه الآيات نزلت في أهل الكتاب ، ثم تلا : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران : ١٨٧) وتلا : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) (آل عمران : ١٨٨) قال ابن عباس : سألهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء فكتموه ، وأخبروه بغيره ، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا (٢) بذلك إليه ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه» (٣). وقد سبق فيه كلام في النوع الأول في معرفة سبب النزول فاستحضره.

ومن هذا ما قاله الشافعي (٤) في قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) (الأنعام : ١٤٥) «أنه لا متمسك فيها لمالك (٥) على العموم ؛ لأنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن

__________________

(٧٩) ، الحديث (١٦٤٣). قال عروة «سألت عائشة رضي‌الله‌عنها فقلت لها أرأيت قول الله تعالى (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) فو الله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصّفا والمروة. قالت : بئس ما قلت يا ابن أختي ، إنّ هذه لو كانت كما أوّلتها عليه كانت لا جناح عليه أن لا يتطوّف بهما ، ولكنّها أنزلت في الأنصار ، كانوا قبل أن يسلموا يهلّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلّل ، فكان من أهلّ يتحرّج أن يطوف بالصّفا والمروة ، فلمّا أسلموا سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك قالوا : يا رسول الله ، إنّا كنّا نتحرّج أن نطوف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) الآية. قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : وقد سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما. ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال : إنّ هذا لعلم ما كنت سمعته ، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أنّ الناس ـ إلاّ من ذكرت عائشة ممن كان يهلّ بمناة ـ كانوا يطوفون كلّهم بالصفا والمروة ، فلمّا ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن ، قالوا : يا رسول الله ، كنّا نطوف بالصفا والمروة ، وإنّ الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا ، فهل علينا من حرج أن تطّوّف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله تعالى (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) الآية. قال أبو بكر : فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما : في الذين كانوا يتحرّجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة ، والذين يطوفون ثم تحرّجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أنّ الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا ، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت».

(١) ليست في المطبوعة.

(٢) في المخطوطة (واستحمدوه).

(٣) تقدم هذا الحديث في ١ / ١٢١.

(٤) تقدم قوله مفصلا في ١ / ١١٧.

(٥) في المخطوطة (الملك).

٣٣٧

أشياء فأجابهم عن المحرمات من تلك الأشياء ، وحكاه غير سعيد بن جبير.

(السابع) : السلامة من التدافع ، كقوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) (التوبة : ١٢٢) فإنه يحتمل أن الطوائف لا تنفر من أماكنها وبواديها جملة ، بل بعضهم لتحصيل التفقّه بوفودهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإذا رجعوا إلى قومهم أعلموهم بما حصل لهم. والفائدة في كونهم لا ينفرون جميعا عن بلادهم حصول المصلحة في حفظ (١) من يتخلف من بعضهم ممّن لا يمكن نفيره (٢).

ويحتمل أن يكون المراد بالفئة النافرة هي من تسير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مغازيه وسراياه ؛ والمعنى حينئذ (٣) : أنه ما كان لهم أن ينفروا أجمعين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مغازيه لتحصيل (٤) المصالح المتعلقة ببقاء من يبقى في المدينة ، والفئة (٥) النافرة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تتفقه في الدين بسبب ما يؤمرون به ويسمعون منه (٦) ؛ فإذا رجعوا إلى من بقي بالمدينة (٧) أعلموهم بما حصل لهم في صحبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العلم. والاحتمالان قولان للمفسرين.

قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد (٨) : والأقرب عندي هو الاحتمال الأول : لأنا لو حملناه على [الاحتمال] (٩) الثاني لخالفه ظاهر قوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) (التوبة : ١٢٠). وقوله تعالى (١٠) : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) (النساء : ٧١) فإن ذلك

__________________

(١) تصحفت في المخطوطة إلى (خفض).

(٢) في المخطوطة (غيرهم).

(٣) في المخطوطة (ح) ، ويرمز بها عند النسّاخ اختصارا لحينئذ.

(٤) في المخطوطة (لتحصل).

(٥) في المخطوطة (فيأتوا).

(٦) في المخطوطة (منهم).

(٧) في المخطوطة (من المدينة).

(٨) هو محمد بن علي بن وهب المنفلوطي المصري المالكي ثم الشافعي المعروف بابن دقيق العيد كان إماما متفننا فقيها أصوليا وافر العقل تام الورع وله اليد الطولى في الفروع والأصول وبصير بعلم المنقول والمعقول قرأ مذهب مالك ثم مذهب الشافعي ودرس بالفاضلية فيهما. من مصنفاته «الاقتراح» في علوم الحديث «وشرح مقدمة المطرزي» في أصول الفقه وغيرهما. ت ٧٠٢ ه‍ (الدرر الكامنة ٤ / ٩١).

(٩) ساقطة من المخطوطة.

(١٠) في المخطوطة (وقال) بدل (وقوله تعالى).

٣٣٨

يقتضي إما طلب الجميع بالنفير ، أو إباحته ؛ وذلك في ظاهره يخالف النهي عن نفر الجميع ، وإذا تعارض محملان (١) يلزم من أحدهما معارضته ولا يلزم من الآخر ، فالثاني أولى (٢).

[ولا] (٣) نعني بلزوم التعارض لزوما لا يجاب (٤) عنه ، ولا يتخرّج على وجه مقبول ؛ بل [ما] (٣) هو أعمّ من ذلك ؛ فإنّ ما أشرنا إليه من الآيتين يجاب عنه (٥) بحمل (أَوِ) في قوله : (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) (النساء : ٧١) على التفصيل دون التخيير ، كما رضيه (٦) بعض المتأخرين من النحاة ، فيكون نفيرهم (ثُباتٍ) مما لا تدعو الحاجة إلى نفيرهم فيه (جَمِيعاً) ونفيرهم (جَمِيعاً) فيما تدعو الحاجة إليه ، ويحمل قوله : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) (التوبة : ١٢٠) على ما إذا كان الرسول هو النافر للجهاد ولم تحصل الكفاية [١١٠ / أ] إلا بنفير الجميع ممّن يصلح للجهاد ، فهذا أولى من قول من يقول بالنسخ أو أن تكون هذه الآية ناسخة لما اقتضى النفير جميعا.

ومن المفسرين من يقول : إن منع النفير جميعا حيث يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، فليس لهم أن ينفروا جميعا ويتركوه وحده. والحمل أيضا على هذا التفسير الذي ذكرناه أولى من هذا ؛ لأن اللفظ يقتضي أن نفيرهم للتفقه في الدين والإنذار ، ونفيرهم مع بقاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [بعدهم] (٧) لا يناسبه التعليل بالتفقه في الدين ؛ إذ التفقه منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعلّم الشرائع من جهته ، فكيف يكون خروجهم عليه معلّلا للتفقه في الدين.

ومنه قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن : ١٦) فإنه يحتمل أن يكون من باب التسهيل والتخفيف ، ويحتمل أن يكون من باب التشديد ؛ بمعنى أنه (٨) ما وجدت الاستطاعة (فَاتَّقُوا) أي لا تبقى من الاستطاعة شيء. وبمعنى (٩) التخفيف يرجع إلى أن المعنى : (فَاتَّقُوا اللهَ) ما تيسر عليكم ، أو ما أمكنكم من غير عسر. قال الشيخ تقي الدين

__________________

(١) في المخطوطة (مجملان).

(٢) في المخطوطة (الأولى).

(٣) ساقطة من المخطوطة.

(٤) في المخطوطة (يجب).

(٥) في المخطوطة (عنهم).

(٦) في المخطوطة (وصفه).

(٧) ساقطة من المخطوطة.

(٨) في المخطوطة (أينما).

(٩) في المخطوطة (فتعين).

٣٣٩

القشيري (١) : «ويصلح معنى التخصيص قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (٢).

فصل

وقد يكون اللفظ محتملا لمعنيين ، وهو في أحدهما أظهر ، فيسمى الراجح ظاهرا ، والمرجوح مؤولا. مثال المؤول قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (الحديد : ٤) فإنه يستحيل حمل المعيّة على القرب بالذات ، فتعيّن صرفه عن ذلك ، وحمله إما على الحفظ والرعاية ، أو على القدرة والعلم والرؤية ، كما قال تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق : ١٦) وكقوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (الإسراء : ٢٤) فإنه يستحيل حمله على الظاهر ، لاستحالة أن يكون آدميّ له أجنحة ، فيحمل على الخضوع وحسن الخلق. وكقوله [تعالى] (٣) : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (الإسراء : ١٣) يستحيل أن يشدّ في القيامة في عنق كلّ طائع وعاص وغيرهما طير من الطيور ، فوجب حمله على التزام الكتاب في الحساب لكلّ واحد منهم بعينه.

ومثال الظاهر قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) (الأنعام : ١٤٥) فإن الباغي يطلق على الجاهل وعلى الظالم وهو فيه أظهر وأغلب ، كقوله تعالى : (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) (الحج : ٦٠). وقوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (البقرة : ٢٢٢) فيقال للانقطاع طهر ، وللوضوء والغسل ؛ غير أن الثاني أظهر. وكقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (البقرة : ١٩٦) فيقال : للابتداء التمام وللفراغ (٤) غير أن الفراغ أظهر.

وقوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق : ٢) فيحتمل أن يكون الخيار في الأجل أو بعده ؛ (٥) [والظاهر الأول ، لكنه يحمل على أنه مفارقة الأجل.

وقوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (البقرة : ١٥٨)] (٥) والظاهر يقتضي حمله

__________________

(١) هو محمد بن علي بن وهب أبو الفتح تقي الدين القشيري تقدم التعريف به في ٢ / ٣٣٨

(٢) الحديث أخرجه عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه مسلم في الصحيح ٢ / ٩٧٥ ، كتاب الحج (١٥) ، باب فرض الحج مرة في العمر (٧٣) ، الحديث (٤١٢ / ١٣٣٧).

(٣) ليست في المطبوعة.

(٤) في المطبوعة (والفراغ).

(٥) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.

٣٤٠